ثم قال بعد كلام : وخرج إلى برجة ودلاية وهما منظران (١) لم يجل في مثلهما ناظر ، ولم تدع حسنهما الخدود النواضر ، غصون تثنّيها الرياح ، ومياه لها انسياح ، وحدائق تهدي الأرج والعرف ، ومنازه (٢) تبهج النفس وتمتع الطرف ، فأقام فيها أياما يتدرج في مسارحها ، ويتصرف في منازهها ، وكانت نزهة أربت على نزهة هشام بدير الرّصافة ، وأنافت عليها أي إنافة.
وقال في ترجمة ابن رزين ، ما ملخصه : أخبرني الوزير أبو عامر بن سنون (٣) أنه اصطبح يوما والجوّ سماكي العوارف (٤) ، لا زورديّ المطارف ، والروض أنيقة لبّاته ، رقيقة هبّاته ، والنور مبتلّ ، والنسيم معتلّ ، ومعه قومه ، وقد راقهم يومه ، وصلاته تصافح معتفيهم ، ومبرّاته تشافه موافيهم ، والراح تشعشع ، وماء الأماني ينشع ، فكتب إلى ابن عمار وهو ضيفه : [الطويل]
ضمان على الأيّام أن أبلغ المنى |
|
إذا كنت في ودّي مسرا ومعلنا |
فلو تسأل الأيّام : من هو مفرد |
|
بودّ ابن عمّار؟ لقلت لها : أنا |
فإن حالت الأيّام بيني وبينه |
|
فكيف يطيب العيش أو يحصل المنى (٥) |
فلما وصلت الرقعة إليه تأخر عن الوصول ، واعتذر بعذر مختلّ المعاني والفصول ، فقال أحد الحاضرين : إني لأعجب من قعود ابن عمار ، عن هذا المضمار ، مع ميله إلى السّماع ، وكلفه بمثل هذا الاجتماع ، فقال ذو الرياستين : إن الجواب تعذر ، فلذا اعتذر ، لأنه يعاني قوله ويعلّله ، ويروّيه ولا يرتجله ، ويقوله في المدة ، والساعات الممتدة (٦) ، فرأى أن الوصول بلا جواب إخجال لأدبه ، وإخلال لمنازله في الشعر ورتبه ، فلما كان من الغد ورد ابن عمار ومعه الجواب ، وهو : [الطويل]
هصرت لي الآمال طيّبة الجنى |
|
وسوّغتني الأحوال مقبلة الدّنى |
وألبستني النّعمى أغضّ من النّدى |
|
وأجمل من وشي الرّبيع وأحسنا |
وكم ليلة أحظيتني بحضورها |
|
فبتّ سميرا للسّناء وللسّنا (٧) |
أعلّل نفسي بالمكارم والعلا |
|
وأذني وكفّي بالغناء وبالغنى |
__________________
(١) في ب : نظران.
(٢) في ب : منازل.
(٣) بن سنون : زيادة من القلائد.
(٤) في ه : مسكي العوارف.
(٥) في ب : أو يحسن الغنا.
(٦) في ب : ويقوله في المدة الممتدة ، فرأى ..
(٧) السناء : العلو والرفعة. والسنا : الضوء الشديد.