وحكي عنه أنه كان في قصره بالزاهرة ، فتأمل محاسنه ، ونظر إلى مياهه المطردة ، وأنصت لأطياره المغردة ، وملأ عينه من الذي حواه من حسن وجمال ، والتفت في الزاهرة من اليمين إلى الشمال ، فانحدرت دموعه ، وتجهم وقال : ويها (١) لك يا زاهرة ، فليت شعري من الخائن الذي يكون خرابك على يديه عن قريب؟ فقال له بعض خاصته : ما هذا الكلام الذي ما سمعناه من مولانا قط؟ وما هذا الفكر الرديء الذي لا يليق بمثله شغل البال به؟ فقال : والله لترون ما قلت ، وكأني بمحاسن الزاهرة قد محيت ، وبرسومها قد غيرت ، وبمبانيها قد هدمت ونحّيت ، وبخزائنها قد نهبت ، وبساحاتها قد أضرمت بنار الفتنة وألهبت ، قال الحاكي : فلم يكن إلا أن توفي المنصور وتولى المظفر ولم تطل مدته ، فقام بالأمر أخوه عبد الرحمن الملقب بشنجول ، فقام عليه المهدي والعامة ، وكانت منهم عليه وعلى قومه الطامة ، وانقرضت دولة آل عامر ، ولم يبق منهم آمر : [الطويل]
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا |
|
أنيس ولم يسمر بمكّة سامر |
بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا |
|
صروف اللّيالي والجدود العواثر |
وخربت الزاهرة ، ومضت كأمس الدابر (٢) ، وخلت منها الدسوت الملوكية زاهرة والدساكر (٣) ، واستولى النهب على ما فيها من العدة والذخائر ، والسلاح ، وتلاشى أمرها فلم يرج لفسادها صلاح ، وصارت قاعا صفصفا (٤) ، وأبدلت بأيام الترح عن أيام الفرح والصفا.
ويروى أن بعض أولياء ذلك الزمان مر بها ، ونظر إلى مصانعها السامية الفائقة ، ومبانيها العالية الرائقة ، فقال : يا دار فيك من كل دار ، فجعل الله منك في كل دار.
قال الحاكي : فلم تكن بعد دعوة ذلك الرجل الصالح إلا أيام يسيرة حتى نهبت ذخائرها ، وعمّ بالخراب سائرها ، فلم تبق دار في الأندلس إلا ودخلها من فيئها حصة كثيرة أو قليلة ، وحقق الله تعالى دعاء ذلك الرجل الذي همته مع ربه جليلة.
ولقد حكي أن بعض ما نهب منها بيع ببغداد وغيرها من البلاد المشرقية ، فسبحان من لا يزول سلطانه ولا ينقضي ملكه! لا إله إلا هو.
__________________
(١) في ج : ويل لك يا زاهرة.
(٢) في ب ، ه : وذهبت كأمس الدابر.
(٣) في ب : المنابر.
(٤) وصارت قاعا صفصفا : أخذها من قوله تعالى : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً) والقاع : الأرض السهلة المنخفضة من المرتفعات المحيطة بها. والصفصف : المستوي الذي لا نبات فيه.