فسكر أحد الحاضرين سكرا مثل له ميدان الحرب ، وسهل عليه مستوعر الطعن والضرب ، فقلب مجلس الأنس حربا وقتالا ، وطلب الطعن وحده والنزالا (١) ، فقال ذو الرياستين :
نفس الذّليل تعزّ بالجريال |
|
فيقاتل الأقران دون قتال(٢) |
كم من جبان ذي افتخار باطل |
|
بالرّاح تحسبه من الأبطال |
كبش النّديّ تخمّطا وعرامة |
|
وإذا تشبّ الحرب شاة نزال |
وقال في ترجمة ابن طاهر ، ما صورته : وجئته يوما وقد وقفت بباب الحنش ، فقال لي : من أين؟ فأعلمته ، ووصفت له ما عاينته من حسنه وتأملته ، فقال لي : كنت أخرج إليه في أكثر الليالي مع الوزير الأجل أبي بكر ـ يعني ابن عبد العزيز ـ إلى روضته التي ودت الشمس أن يكون منها طلوعها ، وتمنى المسك أن تنضم عليه ضلوعها ، والزمان غلام ، والعيش أحلام ، والدنيا تحية وسلام ، والناس قد انتشروا في جوانبه ، وقعدوا على مذانبه (٣) ، وفي ساقيته الكبرى دولاب يئن كناقة إثر حوار ، أو كثكلى من حر الأوار ، وكل مغرم يجعل فيه ارتياحه ، بكرته ورواحه ، ويغازل عليه حبيبه ، ويصرف إليه تشبيبه ، فخرجت عليه ليلة والمتنبي الجزيري واقف وأمامه ظبي آنس ، تهيم به المكانس ، وفي أذنيه قرطان ، كأنهما كوكبان ، وهو يتأود تأود غصن البان ، والمتنبي يقول : [الرمل]
معشر النّاس بباب الحنش |
|
بدر تمّ طالع في غبش |
علّق القرط على مسمعه |
|
من عليه آفة العين خشي |
فلما رآني أمسك ، وسبح كأنه قد تنسك (٤).
وقال في ترجمة ابن عمار ، ما صورته : وتنزه بالدمشق بقرطبة ، وهو قصر شيده بنو أمية بالصّفّاح والعمد ، وجروا من إتقانه إلى غاية وأمد ، (٥) وأبدع بناؤه ، ونمقت ساحته وفناؤه ، واتخذوه ميدان مراحهم ، ومضمارا لانشراحهم ، وحكوا به قصرهم بالمشرق ، وأطلعوه كالكوكب الثاقب المشرق ، فحله أبو بكر بن عمار على أثر بوسه ، وابتسم له دهره بعد عبوسه ، والدنيا قد أعطته عفوها ، وسقته صفوها ، وبات فيه مع لمّة (٦) من أتباعه ، ومتفيئي
__________________
(١) أخذه من قول المتنبي :
وإذا ما خلا الجبان بأرض |
|
طلب الطعن وحده والنزالا |
(٢) الجريال : الخمر.
(٣) المذانب : جمع مذنب ، وهو مجرى الماء من الروضة إلى غيرها.
(٤) في ب : كأنه قد تنسك.
(٥) في ب : إلى غير أمد.
(٦) اللّمة : الجماعة.