أي في جميع ما ذكر من المحسّنات اللّفظيّة [أن تكون الألفاظ تابعة للمعاني دون العكس] أي لا أن تكون المعاني توابع للألفاظ ، بأن يؤتى بالألفاظ متكلّفة (١) مصنوعة فيتبعها المعنى كيفما كانت ، كما فعله بعض المتأخّرين الّذين لهم شغف بإيراد المحسّنات اللّفظيّة ، فيجعلون الكلام كأنّه غير مسبوق لإفادة المعنى ، ولا يبالون بخفاء الدّلالات (٢) وركاكة المعنى (٣) ، فيصير كغمد من ذهب على سيف من خشب ، بل الوجه أن تترك المعاني على سجيّتها (٤) ، فتطلب لأنفسها ألفاظا تليق بها ، وعند هذا تظهر البلاغة والبراعة ، ويتميّز الكامل من القاصر.
وحين رتّب الحريري مع كمال فضله في ديوان الإنشاء عجز ، فقال ابن الخشّاب : هو رجل مقاماتيّ ، وذلك لأنّ كتابه (٥) حكاية تجري على حسب إرادته ، ومعاينه تتبّع ما اختاره من الألفاظ المصنوعة ، فأين هذا من كتاب من أمر به في قضيّة ، وما أحسن ما قيل في التّرجيح بين الصّاحب (٦) والصّابي (٧) أنّ الصّاحب كان يكتب كما يريد ، والصّابيّ كان يكتب كما يؤمر ، وبين الحالّتين بون بعيد ، ولهذا قال قاضي قم ـ حين كتب إليه الصّاحب : أيّها القاضي بقم ، قد عزلناك فقم ـ : والله ما عزلتني إلّا هذه السّجعة.
________________________________________________________
قوله : «وأصل الحسن» هو الشّرط ، وإطلاق الأصل على الشّرط جائز ، لتوقّف المشروط على الشّرط ، كتوقّف الفرع على الأصل ، فقال : «وأصل الحسن في ذلك كلّه» ، يعني في الضّرب اللّفظي من المحسّنات ، «أن تكون الألفاظ تابعة للمعاني» ، وذلك بأن تكون المعاني هي المقصودة بالذّات ، والألفاظ تابعة لها ، «دون العكس» ، أي لا أن تكون المعاني توابع الألفاظ ، وذلك لأنّ المعاني إذا تركت على طبيعتها طلبت لأنفسها ألفاظا تليق بها ، فيحسن اللّفظ والمعنى جميعا.
(١) أي متكلّفة فيها غير متروكة على سجيّتها ، أي طبيعتها.
(٢) إذا كانت الألفاظ مجازات أو كنايات.
(٣) إذا كانت الألفاظ حقائق فلا بدّ للمتكلّم أن يجعل مراعاة المعاني أصلا ، ومراعاة الألفاظ فرعا حتّى يتميّز الكامل من القاصر ، والفاضل من الجاهل.
(٤) أي طبيعتها.
(٥) يعني به مقاماته المشهورة وهو اسم الكتاب.
(٦) الصّاحب هو إسماعيل بن عباد وزير آل بويه.
(٧) الصّابي هو اسم إبراهيم بن هلال صاحب ديوان الرّسائل زمن عزّ الدّولة بن بويه ،