وذكر أبو حيان في الجوازم من تذييله وتكميله ، أنه لم يصحب من له البراعة في علم اللسان ، ولذا تضعف استنباطاته وتعقّباته على أهل هذا الشأن ، وينفر من المنازعة ، والمباحثة والمراجعة ، قال : وهذا شأن من يقرأ بنفسه ، ويأخذ العلم من الصحف بفهمه ، ولقد طال فحصي وتنقيري عمن قرأ عليه ، واستند في العلم إليه ، فلم أجد من يذكر لي شيئا من ذلك ، ولقد جرى يوما مع صاحبنا تلميذه علم الدين سليمان بن أبي حرب الفارقي الحنفي فقال : ذكر لنا أنه قرأ على ثابت بن خيار من أهل بلده جيان ، وأنه جلس في حلقة الأستاذ أبي علي الشلوبين نحوا من ثلاثة عشر يوما ، وثابت بن خيار ليس من أهل الجلالة والشهرة في هذا الشأن ، وإنما جلالته وشهرته في إقراء القرآن ، هذا حاصل ما ذكره أبو حيان.
قال بعض المحققين ، وهو العلامة يحيى العجيسي : وليس ذلك منه بإنصاف ، ولا يحمل على مثله إلا هوى النفس وسرعة الانحراف ، فنفيه المسند عنه والمتبع ، شهادة نفي فلا تنفع ولا تسمع ، ويكفي ما سطر في حقه قوله في أثنائه : نظم في هذا العلم كثيرا ونثر ، وجمع باعتكاف على الاشتغال به ومراجعة الكتب ومطالعة الدواوين العربية وطول السن من هذا العلم غرائب ، وحوت مصنفاته منها نوادر وعجائب ، وإن منها كثيرا استخرجه من أشعار العرب وكتب اللغة ، إذ هي مرتبة الأكابر النقاد ، وأرباب النظر والاجتهاد ، وقوله في موضع آخر من تذييله «لا يكون تحت السماء أنحى ممن عرف ما في تسهيله» وقرنه في بحره بمصنف سيبويه فما ينبغي له أن يغمصه (١) ، ولا أن يحط عليه ، ولا أن يقع فيما وقع فيه ، فإنه مما يجرّيء على أمثاله الغبي والنبيه ، والحليم والسفيه ، وما هذا جزاء السلف من الخلف ، والدرر من الصدف ، والجيد من الحشف ، أو ما ينظر إلى شيخه أبي عبد الله بن النحاس ، فإنه لا يذكره إلا بأحسن ذكر كما هو دأب خيار الناس ، ومن كلامه في نقله عنه ، وهو الثقة فيما ينقل والفاضل حين يقول ، وإلى تلميذه أبي البقاء الحافظ (٢) المصري حيث يقول فيه ، أعني في أبي حيان : [الطويل]
هو الأوحد الفرد الّذي تمّ علمه |
|
وسار مسير الشّمس في الشّرق والغرب |
ومن غاية الإحسان مبدأ فضله |
|
فلا غرو أن يسمو على العجم والعرب |
ومن غاية الإحسان ، في هذا الشان ، التصانيف التي سارت بها الركبان ، في جميع الأوطان ، واعترف بحسنها الحاضر والبادي ، والداني والقاصي ، والصديق والعدو ، فتلقاها بالقبول والإذعان ، فسامح الله تعالى أبا حيان! فإن كلامه يحقق قول القائل : كما تدين تدان ،
__________________
(١) غمصه : احتقره ، وتهاون بحقه.
(٢) الحافظ : ساقطة من ب.