وهو إمام ، ورع ، صالح ، زاهد ، كان بقية السلف ، وقدوة الخلف ، وقد زهد في الدنيا وتخلى عنها ، وأقام في تفسير الفاتحة نحوا من ستة أشهر يلقي في التعليل قوانين تتنزل في علم التفسير منزلة أصول الفقه من الأحكام ، حتى من الله تعالى ببركات ومواهب لا تحصى ، وعلى أحكام تلك القوانين وضع كتابه «مفتاح اللب المقفل ، على فهم القرآن المنزل» وهو ممن جمع العلم والعمل ، وصنف في كثير من الفنون كالأصول والمنطق والطبيعيات والإلهيات ، وكان يقرئ «النجاة» لابن سينا فينقضه عروة عروة ، وكان من أعلم الناس بمذهب مالك ، ولما ظن فقهاء عصره أنه لا يحسن المذهب لاشتغاله بالمعقولات قرأ «التهذيب» (١) وأبدى فيه الغرائب ، وبين مخالفته للمدونة في بعض المواضع ، ووقع بينه وبين الشيخ عز الدين بن عبد السلام شيء ، وطلب عز الدين أن يقف على تفسيره ، فلما وقف عليه قال. أين قول مجاهد؟ أي قول فلان وفلان؟ وكثر القول في هذا المعنى ، ثم قال : يخرج من بلادنا إلى وطنه ، يعني الشام ، فلما بلغ كلامه الشيخ قال : هو يخرج وأقيم أنا ، فكان كذلك ، وله عدة مؤلفات في الفنون ، وقال رحمه الله تعالى : أقمت ملازما لمجاهدة النفس سبعة أعوام ، حتى استوى عندي من يعطيني دينارا ومن يزدريني ، وأصبح ـ رحمه الله تعالى! ـ ذات يوم ولا شيء لأهله يقيمون به أودهم ، وكانت أم ولده جارية تسمى كريمة ، وكانت سيئة الخلق ، فاشتدّت عليه في الطلب ، وقالت له : إن الأصاغر لا شيء لهم ، فقال لها (٢) ؛ الآن يأتي من قبل الوكيل ما نتقوّت به ، فبينما هم كذلك وإذا بالحمّال يضرب الباب ومعه قمح ، فقال لها : يا كريمة ، ما أعجلك! هذا الوكيل بعث بالقمح ، فقالت : ومن يصنعه؟ فأمر فتصدق به ، ثم قال لها : يأتيك ما هو أحسن منه ، فانتظرت يسيرا ، وبدا لها فتكلمت بما لا يليق ، فبينما هم كذلك ، وإذا بحمال سميذ ، فقال لها : هذا السميذ أيسر وأسهل من القمح ، فلم يقنعها ذلك ، فأمر أيضا بصدقته ، فلما تصدق به زادت في المقال ، وإذا برجل على رأسه طعام ، فقال لها : يا كريمة ، قد كفيت المؤنة ، هذا الوكيل قد لطف بحالك (٣).
ومن كراماته أن بعض طلبته اجتمعوا في نزهة ، وأخذوا حليا من زينة النساء ، فزينوا به بعض أصحابهم ، فلما انقضى ذلك واجتمعوا بمجلس الشيخ صار الذي كان في يده الحلي يتحدث ويشير بيده ، فقال الشيخ : يد يجعل فيها الحلي لا يشار بها في الميعاد.
ومنها أنه أصاب الناس جدب ببجاية ، فأرسل إلى داره من يسوق ماء إلى الفقراء ، فامتنعت كريمة ، ونهرت رسله ، فسمع كلامها ، فقال للرسول : قل لها يا كريمة ، والله لأشربنّ
__________________
(١) في ب ، ه : أقرأ التهذيب.
(٢) لها : غير موجودة في ب.
(٣) في ب ، ه : قد علم بحالك.