الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ((١)) أي غير مقطوع بل ممتدّ لا إلى نهاية (١) ومعنى (٢) الاستثناء في الأوّل أنّ بعض الأشقياء لا يخلدون في النّار كالعصاة من المؤمنين الّذين شقوا بالعصيان.
وفي الثّاني أن بعض السّعداء لا يخلدون في الجنّة ، بل يفارقونها ابتداء يعني أيّام عذابهم كالفسّاق من المؤمنين الّذين سعدوا بالإيمان ، والتّأبيد من مبدأ معيّن ، كما ينتقض باعتبار الانتهاء فكذلك باعتبار الابتداء ، فقد جمع الأنفس (٣) بقوله : (لا تَكَلَّمُ
________________________________________________________
(١) يعني إلى الأبد.
(٢) دفع للإشكال فلا بدّ أوّلا من توضيح الإشكال حتّى يعلم توضيح الدّفع وأمّا توضيح الإشكال فيقال : ما معنى الاستثناء في قوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) مع أنّ أهل الجنّة لا يخرجون منها أصلا وكذا أهل النّار لا يخرجون منها والاستثناء يفيد خروجهم.
وأمّا توضيح الدّفع فيقال إنّ الاستثناء هو الاستثناء من الخلود في عذاب النّار ومن الخلود في نعيم الجنّة يعني : أهل النّار لا يخلدون في عذاب النّار وحده بل يعذّبون في الزّمهرير ونحوه من أنواع العذاب سوى عذاب النّار ، وبما هو أغلظ منها كلّها وهو سخط الله عليهم ، وإهانته إيّاهم ، بقوله : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ)(٢). وكذا أهل الجنّة لهم سوى الجنّة ما هو أكبر منها وأجلّ موقعا منهم وهو رضوان الله كما قال : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٣) ولهم ما يتفضّل به الله عليهم سوى ثواب الجنّة ممّا لا يعرف كنهه إلّا الله.
وظاهر كلام الماثن هو تفسير آخر للاستثناء ، وهو أنّ فساق المؤمنين لا يخلدون في النّار ، وذلك بالشّفاعة ، وهذا كاف في صحّة الاستثناء.
(٣) أي إشارة إلى محلّ الشّاهد وهو أنّه قد جمع الأنفس في عدم التّكلّم بقوله : لا تكلّم نفس ، لأنّ النّكرة الواقعة في سياق النّفي كنفس في الآية تعمّ يعني تفيد العموم وضعا ، ثمّ فرق بأن أوقع التّباين بينها بأنّ بعضها شقي وبعضها سعيد بقوله : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) ، ثمّ قسّم وأضاف إلى السّعداء ما لهم من نعيم الجنّة وإلى الأشقياء ما لهم من عذاب النّار بقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا).
__________________
(١) سورة هود : ١٠٨.
(٢) سورة المؤمنون : ١٠٨.
(٣) سورة التّوبة : ٧٢.