كما في قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً)(١) (١) [وأدخل الأعناق في السّير (٢)] لأنّ السّرعة (٣) والبطء في سير الإبل يظهران غالبا في الأعناق
________________________________________________________
(١) حيث نسب الاشتعال إلى الرّأس لا إلى الشّيب الّذي فيه إشعارا بأنّ الشّيب قد ملأ الرّأس ، فترى الرّأس كلّه بياضا ، ولا يقال : اشتعل الرّأس شيبا إلّا إذا انتشر شيب الرّأس ، وظهر ظهورا تامّا ، ففيه إسناد الاشتعال الّذي هو وصف للشّعر الحالّ في الرّأس إلى محلّه وهو الرّأس ، لإفادة استغراق الحالّ وشيوعه ، حتّى صار كأنّه المحلّ.
وكان الكلام من قبيل الاستعارة بالكناية أو التّخييليّة ، حيث شبّه المشيب شواظ النّار تشبيها مضمرا في النّفس ، وجعل إثبات الاشتعال للمشيب قرينة للتّشبيه المضمر ، وإثبات الاشتعال استعارة تخييليّة.
(٢) أي أراد بإدخالها في السّير جرّها بباء الملابسة المقتضية لملابسة الفعل لها ، وإنها سائرة ، لأنّ مرجع الملابسة إلى الإسناد مجاز عقليّ ، وحينئذ فيكون السّيل مسندا للأعناق تقديرا ، وذلك الإسناد مجاز عقليّ.
وحينئذ ففي الكلام مجازان عقليّان : لفظيّ وهو إسناد السّيل إلى الأباطح ، وتقديريّ وهو إسناده إلى الأعناق.
فالبيت مشتمل على ثلاثة مجازات : أحدها مجاز بالاستعارة ، والآخران مجازان عقليّان ، فلمّا أضاف إلى الاستعارة هذين مجازين صارت الاستعارة غريبة.
(٣) أي قوله : «لأنّ السّرعة والبطء ...» علّة لمحذوف ، أي وإنّما أدخل الأعناق في السّير ، وأسنده لها تقديرا ، لأنّ سرعة السّير وبطأه يظهران غالبا فيها ، لأنّ الإبل إذا سرحت أعناقها ولم تتجاوز جهة الأمام في النّظر ، فهي قد جدّت في سيرها ، وإذا كانت ميّلتها إلى اليمين واليسار ، فقد تباطأت في سيرها ، ولم تعزم عليه.
وكيف كان فأعناقها هي سبب في فهم سرعة السّير وبطئه ، فصارت كأنّها سبب لوجود السّير ، وحينئذ فإسناد السّير تقديرا إلى الأعناق من باب إسناد الشّيء إلى ما ـ هو كالسّبب فيه.
والحاصل : إنّ الشّاعر استعار سيل الماء لسير الإبل في المحلّ الّذي فيه دقيق الحصى
__________________
(١) سورة مريم : ٤.