بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

شغلا يستفرغ عليه أحزانه ، ويذهله عن دنياه ، ويكثر نصبه لطلب الخلاص منه ، فكيف وهو بعد ذلك مرتهن باكتسابه ، مستوقف على حسابه ، لا وزير له يمنعه ، ولا ظهير عنه يدفعه ، ويومئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ، قل انتظروا إنا منتظرون.

اوصيكم بتقوى الله فإن الله قد ضمن لمن اتقاه أن يحوله عما يكره إلى ما يحب ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ، فإياك أن تكون ممن يخاف على العباد من ذنوبهم ، ويأمن العقوبة من ذنبه ، فإن الله تبارك وتعالى لا يخدع عن جنته ولا ينال ما عنده إلا بطاعته إن شاءالله.

٤ ـ كشف (١) : خطب الحسين عليه‌السلام فقال : أيها الناس نافسوا في المكارم ، وسارعوا في المغانم ، ولا تحتسبوا بمعروف لم تعجلوا ، واكسبوا الحمد بالنجح ، ولا تكتسبوا بالمطل ذما ، فمهما يكن لاحد عند أحد صنيعة له رأى أنه لا يقوم بشكرها فالله له بمكافأته ، فإنه أجزل عطاء وأعظم أجرا ، واعلموا أن حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم فلا تملوا النعم فتحور نقما (٢) ، واعلموا أن المعروف مكسب حمدا ، ومعقب أجرا ، فلو رأيتم المعروف رجلا رأيتموه حسنا جميلا تسر الناظرين ، ولو رأيتم اللؤم رأيتموه سمجا (٣) مشوها تنفر منه القلوب وتغض دونه الابصار.

أيها الناس من جاد ساد ، ومن بخل رذل ، وإن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه ، وإن أعفى الناس من عفا عن قدرة ، وإن أوصل الناس من وصل من

____________________

بدهشة. اى لو كانت الدنيا آخر أمركم وليس وراءها شئ لجدير بأن الانسان يجد ويتعب ويسعى لطلب الخلاص من الموت وتبعاته ويشغل عن غيره.

(١) كشف النعمة ج ٢ ص ٢٤١.

(٢) حار يحور حورا : رجع.

(٣) السمج : القبيح.

١٢١

قطعه ، والاصول على مغارسها بفروعها تسموا ، فمن تعجل لاخيه خيرا وجده إذا قدم عليه غدا ، ومن أراد الله تبارك وتعالى بالصنيعة إلى أخيه كافأه بها في وقت حاجته ، وصرف عنه من بلاء الدنيا ما هو أكثر منه ، ومن نفس كربة مؤمن فرج الله عنه كرب الدنيا والاخرة ، ومن أحسن أحسن الله إليه ، والله يحب المحسنين.

٥ ـ وخطب عليه‌السلام (١) فقال : إن الحلم زينة ، والوفاء مروة ، والصلة نعمة ، والاستكبار صلف (٢) والعجلة سفه ، والسفه ضعف ، والغلو ورطة ، ومجالسة أهل الدناءة شر ، ومجالسة أهل الفسق ريبة.

٦ ـ كشف (٣) : وأما شعر الحسين عليه‌السلام فقد ذكر الرواة له شعرا ووقع إلي شعره عليه‌السلام بخط الشيخ عبدالله بن أحمد بن الخشاب النحوى (ره) وفيه قال أبومخنف لوط بن يحيى : أكثر ما يرويه الناس من شعر سيدنا أبي عبدالله الحسين عليهما‌السلام إنما هو ما تمثل به وقد أخذت شعره من مواضعه واستخرجته من مظانه وأماكنه ، ورويته عن ثقات الرجال منهم عبدالرحمن بن نجبة الخزاعي وكان عارفا بأمر أهل البيت عليهم‌السلام ومنهم : المسيب بن رافع المخزومي وغيره رجال كثير ولقد أنشدني يوما رجل من ساكني سلع (٤) هذه الابيات فقلت له اكتبنيها فقال لي : ما أحسن رداءك هذا ، وكنت قد اشتريته يومي ذاك بعشرة دنانير فطرحته عليه فاكتبنيها وهي :

قال أبوعبدالله الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصى عليه‌السلام :

ذهب الذين احبهم

وبقيت فيمن لا احبه

في من أراه يسبني

ظهر المغيب ولا اسبه

____________________

(١) المصدر ج ٢ ص ٢٤٢.

(٢) الصلف مجاوزة القدر في الظرف والبراعة والادعاء فوق ذلك تكبرا.

(٣) المصدر ج ٢ ص ٢٤٥.

(٤) بفتح السين موضع بقرب المدينة.

١٢٢

يبغى فسادي ما استطاع

وأمره مما أربه

حنقا يدب إلى الضراء

وذاك مما لا أدبه

ويرى ذباب الشر من

حولي يطن ولا يذبه

وإذا خبا وغر الصدور

فلا يزال به يشبه (١)

أفلا يعيج بعقله

أفلا يتوب إليه لبه (٢)

أفلا يرى أن فعله

مما يسور إليه غبه

حسبي بربي كافيا

ما أختشى والبغي حسبه

ولقل من يبغى عليه

فما كفاه الله ربه (٣)

وقال عليه‌السلام :

إذا ما عضك الدهر فلا تجنح إلى خلق

ولا تسأل سوى الله تعالى قاسم الرزق

فلو عشت وطوفت من الغرب إلى الشرق

لما صادفت من يقدر أن يسعد أو يشقى

وقال عليه‌السلام :

الله يعلم أن ما يبدي يزيد لغيره

وبأنه لم يكتسبه بغيره وبميره (٤)

لو أنصف النفس الخؤن لقصرت من سيره

ولكان ذلك منه أدنى شره من خيره

كذا بخط ابن الخشاب «شره» بالاضافة ، وأظنه وهما منه لانه لا معنى له على الاضافة ، والمعنى أنه لو أنصف نفسه أدنى الانصاف شره على المفعولية.

من خيره أي صار ذا خير.

قال عليه‌السلام :

إذا استنصر المرء امرءا لا يدي له

فناصره والخاذلون سواء

____________________

(١) خبا أى سكن. ووغر الصدور : حرها. ويشبه اى يشعله ويوقده.

(٢) يعيج أى يقيم ويرجع. ويثوب أى يرجع ، واللب : العقل.

(٣) في بعض النسخ «الاكفاه الله ربه».

(٤) غار الرجل. وغار لهم. ومارلهم ، ومار بهم وهى الغيرة والميرة.

١٢٣

أنا ابن الذي قد تعلمون مكانه

وليس على الحق المبين طخاء (١)

أليس رسول الله جدي ووالدي

أنا البدران خلا النجوم خفاء

ألم ينزل القرآن خلف بيوتنا

صباحا ومن بعد الصباح مساء

ينازعني والله بيني وبينه

يزيد وليس الامر حيث يشاء

فيا نصحاء الله أنتم ولاته

وأنتم على أديانه امناء

بأي كتاب أم بأية سنة

تناولها عن أهلها البعداء

وهي طويلة ، وقال عليه‌السلام : (٢)

أنا الحسين بن علي بن أبي

طالب البدر بأرض العرب

ألم تروا وتعلموا أن أبي

قاتل عمرو ومبير مرحب

ولم يزل قبل كشوف الكرب

مجليا ذلك عن وجه النبي

أليس من أعجب عجب العجب

أن يطلب الا بعد ميراث النبي

«والله قد أوصى بحفظ الاقرب»

وقال عليه‌السلام : (٣)

ما يحفظ الله يصن ما يضع الله يهن

من يسعد الله يلن له الزمان إن خشن

أخي اعتبر لا تغترر كيف ترى صرف الزمن

يجزى بما اوتي من فعل قبيح أو حسن

أفلح عبد كشف الغطاء عنه ففطن

وقر عينا من رأى إن البلاء في اللسن

فماز من ألفاظه في كل وقت ووزن

____________________

(١) الطخاء : السحاب المرتفع ، وما في السماء طخية ـ بالضم ـ أى شئ من السحاب. والطخياء : الليلة المظلمة وظلام طاخ.

(٢) الكشف : ج ٢ ص ٢٤٨.

(٣) المصدر : ج ٢ ص ٢٤٨.

١٢٤

وخاف من لسانه عزبا حديدا فخزن

ومن يكن معتصما بالله ذي العرش فلن

يضره شئ ومن يعدى على الله ومن

من يأمن الله يخف وخائف الله أمن

وما لما يثمره الخوف من الله ثمن

يا عالم السر كما يعلم حقا ما علن

صلى على جدي أبي القاسم ذي النور المنن

أكرم من حي ومن لفف ميتا في كفن

وامنن علينا بالرضى فأنت أهل للمنن

وأعفنا في ديننا من كل خسر وغبن

ما خاب من خاب كمن يوما إلى الدنيا ركن

طوبى لعبد كشفت عنه غبابات الوسن

والموعد الله وما يقض به الله يكن

وهي طويلة ، وقال عليه‌السلام (١) :

أبي علي وجدي خاتم الرسل

والمرتضون لدين الله من قبلي

والله يعلم والقرآن ينطقه

إن الذي بيدي من ليس يملك لي

ما يرتجى بامرء لا قائل عذلا

ولا يزيغ إلى قول ولا عمل

ولا يرى خائفا في سره وجلا

ولا يحاذر من هفو ولا زلل

يا ويح نفسي ممن ليس يرحمها

أما له في كتاب الله من مثل

أماله في حديث الناس معتبر

من العمالقة العادية الاول

يا أيها الرجل المغبون شيمته

إني ورثت رسول الله عن رسل

أأنت أولى به من آله فبما

ترى اعتللت وما في الدين من علل

وفيها أبيات اخر.

____________________

(١) الكشف : ج ٢ ص ٢٤٩.

١٢٥

وقال عليه‌السلام :

يا نكبات الدهر دولي دولي

وأقصري إن شئت أو أطيلي (١)

منها :

رميتني رمية لا مقيل

بكل خطب فادح جليل

وكل عبء أيد ثقيل

أول ما رزئت بالرسول

وبعد بالطاهرة البتول

والوالد البر بنا الوصول

وبالشقيق الحسن الجليل

والبيت ذي التأويل والتنزيل

وزورنا المعروف من جبريل

فما له في الزرء من عديل

ما لك عني اليوم من عدول

وحسبي الرحمن من منيل

قال : تم شعر مولينا الشهيد أبي عبدالله الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما‌السلام وهو عزيز الوجود.

٧ ـ جع (٢) : روي أن الحسين بن علي عليهما‌السلام جاءه رجل وقال : أنا رجل عاص ولا أصبر عن المعصية فعظني بموعظة فقال عليه‌السلام : افعل خمسة أشياء واذنب ما شئت ، فأول ذلك : لا تأكل زرق الله واذنب ما شئت ، والثاني : اخرج من ولاية الله واذنب ماشئت ، والثالث : اطلب موضعا لا يراك الله واذنب ما شئت ، والرابع : إذا جاء ملك الموت ليقبض روحك فادفعه عن نفسك واذنب ماشئت ، والخامس : إذا أدخلك مالك في النار فلا تدخل في النار واذنب ماشئت.

٨ ـ ختص (٣) : قال الصادق عليه‌السلام : حدثني أبي ، عن أبيه عليهما‌السلام أن رجلا من أهل الكوفة كتب إلى الحسين بن علي عليهما‌السلام : يا سيدي أخبرني بخير الدنيا والاخرة فكتب عليه‌السلام : بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن من طلب رضى الله بسخط الناس كفاه الله امور الناس ، ومن طلب رضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس والسلام.

٩ ـ الدرة الباهرة (٤) : قال الحسين بن علي عليهما‌السلام : إن حوائج الناس إليكم

____________________

(١) دال الايام : دارت. ودال الزمان : انقلب من حال إلى حال.

(٢) جامع الاخبار الفصل ٨٩ وفيه عن علي بن الحسين.

(٣) الاختصاص ص ٢٢٥.

(٤) مخطوط.

١٢٦

من نعم الله عليكم فلا تملوا النعم.

وقال عليه‌السلام : اللهم لا تستدرجني بالاحسان ، ولا تؤدبني بالبلاء.

وقال عليه‌السلام : من قبل عطاءك فقد أعانك على الكرم.

وقال عليه‌السلام : مالك إن لم يكن لك كنت له ، فلا تبق عليه فإنه لا يبقى عليك وكله قبل أن يأكلك.

١٠ ـ كنز الكراجكى (١) : قال الحسين بن علي عليهما‌السلام يوما لابن عباس :

لا تتكلمن فيما لا يعنيك فإني أخاف عليك الوزر ، ولا تتكلمن فيما يعنيك حتى ترى للكلام موضعا ، فرب متكلم قد تكلم بالحق فعيب ، ولا تمارين حليما ولا سفيها ، فان الحليم يقليك ، والسفيه يؤذيك ، ولا تقولن في أخيك المؤمن إذا توارى عنك إلا ما تحب أن يقول فيك إذا تواريت عنه ، واعمل عمل رجل يعلم أنه مأخوذ بالاجرام ، مجزي بالاحسان ، والسلام.

وبغله عليه‌السلام كلام نافع بن جبير (٢) في معاوية وقوله : «إنه كان يسكته الحلم وينطقه العلم» ، فقال : بل كان ينطقه البطر ويسكته الحصر.

١١ ـ أعلام الدين (٣) قال الحسين بن علي عليهما‌السلام : اعلموا أن حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم فلا تملوا النعم فتتحول إلى غيركم ، واعلموا أن المعروف مكسب حمدا ومعقب أجرا ، فلو رأيتم المعروف رجلا لرأيتموه حسنا جميلا يسر الناظرين ، ويفوق العالمين ، ولو رأيتم اللؤم رأيتموه سمجا قبيحا مشوها تنفر منه القلوب وتغض دونه الابصار ، ومن نفس كربة مؤمن فرج الله تعالى عنه كرب الدنيا والاخرة ، من أحسن أحسن الله إليه ، والله يحب المحسنين.

وتذاكروا العقل عند معاوية فقال الحسين عليه‌السلام : لا يكمل العقل إلا باتباع الحق ، فقال معاوية : ما في صدوركم إلا شي ء واحد.

وقال عليه‌السلام : لا تصفن لملك دواء فإن نفعه لم يحمدك وإن ضره اتهمك.

____________________

* (الحامش) * (١) المصدر : ص ١٩٤. (٢) ابن مطعم يكنى أبا محمد أو أبا عبدالله مات سنة ٩٩.

(٣) مخطوط.

١٢٧

وقال عليه‌السلام : رب ذنب أحسن من الاعتذار منه.

وقال عليه‌السلام : مالك إن لم يكن لك كنت له منفقا ، فلا تنفقه بعدك فيكن ذخيرة لغيرك وتكون أنت المطالب به المأخوذ بحسابه ، اعلم. أنك لا تبقى له ، ولا يبقى عليك ، فكله قبل أن يأكلك.

وكان عليه‌السلام يرتجز يوم قتل ويقول :

الموت خير من ركوب العار

والعار خير من دخول النار

والله من هذا وهذا جار

وقال عليه‌السلام : دراسة العلم لقاح المعرفة ، وطول التجارب زيادة في العقل ، والشرف التقوى ، والقنوع راحة الابدان ، ومن أحبك نهاك ، ومن أبغضك أغراك.

وقال عليه‌السلام : من أحجم عن الرأي وعييت به الحيل كان الرفق مفتاحه (١).

٢١

* ( باب ) *

* «( وصايا على بن الحسين عليهما‌السلام ومواعظه وحكمه )» *

١ ـ ف (٢) : من كلامه عليه‌السلام في الزاهدين :

إن علامة الزاهدين في الدنيا الراغبين في الاخرة تركهم كل خليط وخليل ، ورفضهم كل صاحب لا يريد ما يريدون. ألا وإن العامل لثواب الاخرة هو الزاهد في عاجل زهرة الدنيا ، الاخذ للموت أهبته (٣) الحاث على العمل قبل فناء الاجل ، ونزول ما لابد من لقائه ، وتقديم الحذر قبل الحين (٤) فإن الله عزوجل يقول : « حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا

____________________

(١) أحجم عن الشئ : كف أو نكص هيبة.

(٢) التحف ص ٢٧٢.

(٣) الاهبة : العدة والاسباب.

(٤) الحين ـ بالفتح ـ : الهلاك.

١٢٨

فيما تركت (١) » فلينزلن أحدكم اليوم نفسه في هذه الدنيا كمنزلة المكرور إلى الدنيا ، النادم على ما فرط فيها من العمل الصالح ليوم فاقته.

واعلموا عباد الله! أنه من خاف البيات تجافى عن الوساد ، وامتنع من الرقاد (٢) وأمسك عن بعض الطعام والشراب من خوف سلطان أهل الدنيا ، فكيف ـ ويحك ـ يا ابن آدم من خوف بيات سلطان رب العزة؟ وأخذه الاليم وبياته لاهل المعاصي والذنوب مع طوارق المنايا (٣) بالليل والنهار ، فذلك البيات الذي ليس منه منجى ، ولا دونه ملتجأ ، ولا منه مهرب. فخافوا الله أيها المؤمنون من البيات خوف أهل التقوى ، فإن الله يقول : «ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد (٤)». فاحذروا زهرة الحياة الدنيا وغرورها وشرورها ، وتذكروا ضرر عاقبة الميل إليها ، فإن زينتها فتنة وحبها خطيئة.

واعلم ـ ويحك ـ يا ابن آدم أن قسوة البطنة ، وفترة الميلة ، وسكر الشبع ، وغرة الملك (٥) مما يثبط ويبطئ عن العمل وينسي الذكر ، ويلهي عن اقتراب الاجل ، حتى كأن المبتلى بحب الدنيا به خبل من سكر الشراب (٦) وأن العاقل عن الله ، الخائف منه ، العامل له ليمرن نفسه ويعودها الجوع ، حتى ما تشتاق إلى الشبع ، وكذلك تضمر الخيل لسبق الرهان (٧).

____________________

(١) المؤمنون : ١٠٠.

(٢) البيات : الهجوم على الاعداء ليلا. وتجافي : تنحى ، والوسادة ـ بالتثليث :

المخدة والمتكاء. والرقاد : النوم.

(٣) المنايا : جمع المنية أى الموت. وطوارق المنية : دواهى الموت.

(٤) سورة ابراهيم : ١٨.

(٥) البطنة ـ بالكسر ـ : الامتلاء الشديد من الاكل. وفى بعض النسخ «نشوة البطنة وفطرة الميلة» والميلة : الرغبة. وفى بعض النسخ «عزة الملك» والعزة : الحمية والغلبة.

(٦) الخبل ـ بالتحريك ـ : اصابة الجنون وفساد في العقل.

(٧) تضمير الفرس أن تعلفه حتى يسمن ثم ترده عن القوت وذلك في أربعين يوما.

١٢٩

فاتقوا الله عباد الله تقوى مؤمل ثوابه ، وخاف عقابه (١) ، فقدلله أنتم أعذرو أنذر وشوق وخوف ، فلا أنتم إلى ما شوقكم إليه من كريم ثوابه تشتاقون فتعملون ، ولا أنتم مما خوفكم به من شديد عقابه وأليم عذابه ترهبون فتنكلون (٢) وقد نبأكم الله في كتابه أنه : «من يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون (٣)». ثم ضرب لكم الامثال في كتابه وصرف الايات لتحذروا عاجل زهرة الحياة الدنيا فقال : «إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم (٤)» فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا ، فاتقوا الله واتعظوا بمواعظ الله. وما أعلم إلا كثيرا منكم قد نهكته (٥) عواقب المعاصي فما حذرها ، وأضرت بدينه فما مقتها. أما تسمعون النداء من الله بعيبها وتصغيرها حيث قال : «اعلموا أنما الحيوة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الاموال والاولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الاخرة عذاب شديد. ومغفرة من الله ورضوان وما الحيوة الدنيا إلا متاع الغرور * سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والارض اعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذوالفضل العظيم (٦)». وقال : «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنسيهم أنفسهم اولئك هم الفاسقون (٧)».

____________________

(١) الخاف : الشديد الخوف. (٢) تنكلون : تنكصون وتخافون.

(٣) سورة الانبياء : ٩٤.

(٤) سورة التغابن : ١٥.

(٥) نهكه : بالغ في عقوبته. ونهك العمى فلانا : هزلته وأضنته. وفى بعض النسخ «لقد هلكته».

(٦) سورة الحديد : ٢٠ ـ ٢١.

(٧) سورة الحشر : ١٨ ـ ١٩.

١٣٠

فاتقوا الله عباد الله وتفكروا واعملوا لما خلقتم له ، فإن الله لم يخلقكم عبثا ولم يترككم سدى ، قد عرفكم نفسه ، وبعث إليكم رسوله ، وأنزل عليكم كتابه ، فيه حلاله وحرامه ، وحججه وأمثاله ، فاتقوا الله فقد احتج عليكم ربكم فقال : ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين (١) : فهذه حجة عليكم فاتقوا الله ما استطعتم فإنه لا قوة إلا بالله ولا تكلان إلا عليه وصلى الله على محمد [ نبيه ] وآله.

٢ ـ ف (٢) : كتابه عليه‌السلام إلى محمد بن مسلم الزهري يعظه (٣).

____________________

(١) سورة البلد : ٨ ـ ١٠.

(٢) التحف ص. ٢٧٤

(٣) محمدبن مسلم بن عبيدالله بن عبدالله بن شهاب الزهرى على ما يظهر من كتب التراجم من المنحرفين عن أميرالمؤمنين وأبنائه عليهم‌السلام كان أبوه مسلم مع مصعب بن الزبير وجده عبيدالله مع المشركين يوم بدر ، وكان هو أكثر عمره عاملا لبنى مروان ويتقلب في دنياهم ، جعله هشام بن عبدالملك معلم أولاده وأمره أن يملى على أولاده أحاديث فأملى عليهم أربعمائة حديث. وأنت خبير بأن الذى خدم بنى امية منذ خمسين سنة ما مبلغ علمه وماذا حديثه ومعلوم أن كل ما أملى من هذه الاحاديث هو ما يروق هؤلاء ولا يكون فيه شئ من فضل على عليه‌السلام وولده. ومن هنا أطراه علماؤهم ورفعوه فوق منزلته بحيث تعجب ابن حجر من كثرة ما نشره من العلم. روى ابن أبى الحديد في شرح النهج على ما حكاه صاحب تنقيح ـ المقال (ره) ـ عن جرير بن عبدالحميد عن محمد بن شيبة قال : شهدت الزهرى وعروة بن الزبير في مسجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله جالسان يذكران عليا عليه‌السلام ونالا منه فبلغ ذلك على بن الحسين عليهما‌السلام فجاء حتى وقف عليهما فقال : أما أنت يا عروة فان أبي حاكم أباك إلى الله فحكم لابى على أبيك ، وأما أنت يا زهرى فلو كنت بمكة لاريتك كرامتك.

وفى رجال الشيخ الطوسى والعلامة وابن داود والتفرشى أنه عدو ، وفى المحكى عن السيد بن طاووس في التحرير الطاووسى أن سفيان بن سعيد والزهرى عدوان متهمان. وبالتأمل في رسالة الامام عليه‌السلام يعلم صدق ما قلناه.

١٣١

كفانا الله وإياك من الفتن ورحمك من النار ، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك ، فقد أثقلتك نعم الله بما أصح من بدنك ، وأطال من عمرك ، وقامت عليك حجج الله بما حملك من كتابه ، وفقهك فيه من دينه ، وعرفك من سنة نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فرض لك في كل نعمة أنعم بما عليك وفي كل حجة احتج بها عليك الفرض فما قضى إلا ابتلى شكرك في ذلك ، وأبدى فيه فضله عليك (١) فقال : «لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد (٢)».

فانظر أي رجل تكون غدا إذا وقفت بين يدي الله فسألك عن نعمه عليك كيف رعيتها ، وعن حججه عليك كيف قضيتها ، ولا تحسبن الله قابلا منك بالتعذير ولا راضيا منك بالتقصير ، هيهات هيهات ليس كذلك ، أخذ على العلماء في كتابه إذ قال : «لتبيننه للناس ولا تكتمونه (٣)» واعلم أن أدنى ما كتمت وأخف ما احتملت أن آنست وحشة الظالم ، وسهلت له طريق الغي بدنوك منه حين دنوت ، وإجابتك له حين دعيت ، فما أخوفني أن تكون تبوء بإثمك غدا مع الخونة ، وأن تسأل عما أخذت بإعانتك على ظلم الظلمة ، إنك أخذت ما ليس لك ممن أعطاك ، ودنوت ممن لم يرد على أحد حقا ، ولم ترد باطلا حين أدناك ، وأحببت من حاد الله (٤) أو ليس بدعائه إياك حين دعاك جعلوك قطبا أداروا بك رحى مظالمهم ، وجسرا يعبرون عليك إلى بلاياهم وسلما إلى ضلالتهم ، داعيا إلى غيهم ، سالكا سبيلهم ، يدخلون بك الشك على العلماء ، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم ، فلم يبلغ أخص وزرائهم ، ولا أقوى أعوانهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم ،

____________________

(١) في بعض النسخ «فرضى لك في كل نعمة أنعم بها عليك وفى كل حجة أحتج بها عليك الفرض بما قضى الا ابتلى شكرك. الخ».

(٢) سورة ابراهيم : ٧.

(٣) سورة آل عمران : ١٨٧.

(٤) في بعض النسخ «وأجبت من حاد الله».

١٣٢

واختلاف الخاصة والعامة إليهم. فما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك ، وما أيسر ما عمروا لك ، فيكف ما خربوا عليك. فانظر لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرك وحاسبها حساب رجل مسؤول.

وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيرا وكبيرا ، فما أخوفني أن تكون كما قال الله في كتابه : «فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الادنى ويقولون سيغفر لنا (١)» إنك لست في دار مقام. أنت في دار قد آذنت برحيل ، فما بقاء المرء بعد قرنائه. طوبى لمن كان في الدنيا على وجل ، يابؤس لمن يموت وتبقى ذنوبه من بعده.

احذر فقد نبئت ، وبادر فقد اجلت ، إنك تعامل من لا يجهل ، وإن الذي يحفظ عليك لا يغفل ، تجهز فقد دنا منك سفر بعيد ، وداو ذنبك فقد دخله سقم شديد.

ولا تحسب أني أردت توبيخك وتعنيفك وتعييرك (٢) لكني أردت أن ينعش الله ما [ قد ] فات من رأيك ، ويرد إليك ما عزب من دينك (٣) وذكرت قول الله تعالى في كتابه : «وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين (٤)».

أغفلت ذكر من مضى من أسنانك وأقرانك وبقيت بعدهم كقرن أعضب (٥).

أنظر هل ابتلوا بمثل ما ابتليت ، أم هل وقعوا في مثل ما وقعت فيه ، أم هل تراهم

____________________

(١) سورة الاعراف : ١٦٨.

(٢) عنفه : لامه وعتب عليه ولم يرفق به. وينعش الله مافات أى يجبر ويتدارك.

(٣) عزب ـ بالعين المهملة والزاى المعجمة ـ : بعد.

(٤) سورة الذاريات : ٥٥.

(٥) الاعضب : المسكور القرن. ولعل المراد : بقيت كاحد قرنى الاعضب. والعضباء : الشاة المكسورة القرن.

١٣٣

ذكرت خيرا علموه (١) وعلمت شيئا جهلوه ، بل حظيت (٢) بما حل من حالك في صدور العامة وكلفهم بك ، إذ صاروا يقتدون برأيك ، ويعملون بأمرك. إن أحللت أحلوا وإن حرمت حرموا ، وليس ذلك عندك ، ولكن أظهرهم عليك رغبتهم فيما لديك ذهاب علمائهم وغلبة الجهل عليك وعليهم ، وحب الرئاسة وطلب الدنيا منك ومنهم. أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرة ، وما الناس فيه من البلاء والفتنة ، قد ابتليتهم وفتنتهم بالشغل عن مكاسبهم مما رأوا ، فتاقت نفوسهم (٣) إلى أن يبلغوا من العلم ما بلغت ، أو يدركوا به مثل الذي أدركت ، فوقعوا منك في بحر لا يدرك عمقه ، وفي بلاء لا يقدر قدره. فالله لنا ولك وهو المستعان.

أما بعد فأعرض عن كل ما أنت فيه حتى تلحق بالصالحين الذين دفنوا في أسمالهم (٤) لاصقة بطونهم بظهورهم ، ليس بينهم وبين الله حجاب ، ولا تفتنهم الدنيا ولا يفتنون بها ، رغبوا فطلبوا ، فما لبثوا أن لحقوا ، فإذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا المبلغ مع كبر سنك ورسوخ علمك وحضور أجلك ، فكيف يسلم الحدث في سنه ، الجاهل في علمه ، المأفون في رأيه (٥) ، المدخول في عقله. إنا لله وإنا إليه راجعون. على من المعول؟ وعند من المستعتب؟ نشكو إلى الله بثنا (٦) وما نرى فيك ، ونحتسب عندالله مصيبتنا بك.

فانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيرا وكبيرا ، وكيف إعظامك لمن

____________________

(١) في بعض النسخ «أم هل ترى ذكرت خيرا علموه وعملت شيئا جهلوه». وفى بعضها «أم هل تراه ذكرا خيرا عملوه وعملت شيئا جهلوه».

(٢) من الحظ. رجل حظى اذا كان ذا منزلة.

(٣) تافت : اشتافت. (٤) الاسمال : جمع سمل ـ بالتحريك ـ : الثوب الخلق البالى.

(٥) المأفون : الذى ضعف رأيه. والمدخول في عقله : الذى دخل في عقله الفساد.

(٦) المعول : المعتمد والمستغاث. واستعتبه : استرضاه. والبث : الحال ، الشتات ، أشد الحزن.

١٣٤

جعلك بدينه في الناس جميلا ، وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته في الناس ستيرا ، وكيف قربك أو بعدك ممن أمرك أن تكون منه قريبا ذليلا. مالك لا تنتبه من نعستك ، وتستقيل من عثرتك ، فتقول : والله ماقمت لله واحدا أحييت به له دينا أو أمت له فيه باطلا ، فهذا شكرك من استحملك (١) ما أخوفني أن تكون كمن قال الله تعالى في كتابه : «أضاعوا الصلوة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا (٢)» استحملك كتابه ، واستودعك علمه فأضعتها ، فنحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك به ، والسلام.

٣ ـ ف (٣) : وروى عنه عليه‌السلام في قصار هذه المعاني :

١ ـ وقال عليه‌السلام : الرضى بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين.

٢ ـ وقال عليه‌السلام : من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا.

٣ ـ وقيل له : من أعظم الناس خطرا (٤)؟ فقال عليه‌السلام : من لم ير الدنيا خطرا لنفسه.

٤ ـ وقال بحضرته رجل : اللهم أغنني عن خلقك (٥). فقال عليه‌السلام : ليس هكذا : إنما الناس بالناس ، ولكن قل : اللهم أغنني عن شرار خلقك.

٥ ـ وقال عليه‌السلام : من قنع بما قسم الله له فهو من أغنى الناس (٦).

٦ ـ وقال عليه‌السلام : لا يقل عمل مع تقوى ، وكيف يقل ما يتقبل.

٧ ـ وقال عليه‌السلام : اتقوا الكذب الصغير منه والكبير في كل جد وهزل ،

____________________

(١) استحملك : سألك أن يحمل. وفى بعض النسخ «من استعملك». أى سألك أن يعمل.

(٢) سورة مريم : ٥٩.

(٣) التحف ص ٢٧٨.

(٤) الخطر ـ بالتحريك ـ : الخطير أى ذو قدر ومقام.

(٥) في بعض النسخ «من خلقك».

(٦) في بعض النسخ «كان» موضع «فهو».

١٣٥

فان الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير (١).

٨ ـ وقال عليه‌السلام : كفى بنصرالله لك أن ترى عدوك يعمل بمعاصي الله فيك.

٩ ـ وقال عليه‌السلام : الخير كله صيانة الانسان نفسه.

١٠ ـ وقال عليه‌السلام لبعض بنيه : يا بني إن الله رضيني لك ولم يرضك لي ، فأوصاك بي ولم يوصني بك ، عليك بالبر تحفة يسيرة.

١١ ـ وقال له رجل : ما الزهد؟ فقال عليه‌السلام : الزهد عشرة أجزاء (٢) :

فأعلى درجات الزهد أدنى درجات الورع ، وأعلى درجات الورع أدنى درجات اليقين ، وأعلى درجات اليقين أدنى درجات الرضى. وإن الزهد في آية من كتاب الله : «لكيلا تأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما آتيكم (٣)».

١٢ ـ وقال عليه‌السلام : طلب الحوائج إلى الناس مذلة للحياة ، ومذهبة للحياء ، واستخفاف بالوقار وهو الفقر الحاضر. وقلة طلب الحوائج من الناس هو الغنى الحاضر.

١٣ ـ وقال عليه‌السلام : إن أحبكم إلى الله أحسنكم عملا ، وإن أعظمكم عندالله عملا أعظمكم فيما عندالله رغبة ، وإن أنجاكم من عذاب الله أشدكم خشية لله ، وإن أقربكم من الله أوسعكم خلقا ، وإن أرضاكم عندالله أسبغكم على عياله (٤) ، وإن أكرمكم على الله أتقاكم لله.

____________________

(١) رواه الكلينى في الكافى ج ٢ ص ٣٣٨ وفيه بعد قوله : «على الكبير» : «أما علمتم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ما يزال العبد يصدق حتى يكتبه الله صديقا ، وما يزال العبد يكذب حتى يكتبه الله كذابا».

(٢) رواه الكلينى في الكافى ج ٢ ص ١٢٩ باسناده عن هاشم بن بريد عن أبيه أن رجلا سأل على بن الحسين عليهما‌السلام عن الزهد فقال : عشرة أشياء. الحديث. وفى ص ٦٢ : عنه عليه‌السلام أيضا وفيه عشرة أجزاء وهكذا رواه الصدوق في الخصال.

(٣) سورة الحديد : ٢٣.

(٤) وكذا في الكافى والفقيه. وفى بعض النسخ «أسعاكم على عياله».

١٣٦

١٤ ـ وقال عليه‌السلام لبعض بنيه : يا بني انظر خمسة فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق ، فقال : يا أبه من هم (١)؟ قال عليه‌السلام : إياك ومصاحبة الكذاب ، فإنه بمنزلة السراب يقرب لك البعيد ، ويبعد لك القريب. وإياك ومصاحبة الفاسق فإنه بايعك باكلة (٢) أو أقل من ذلك ، وإياك ومصاحبة البخيل فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه. وإياك ومصاحبة الاحمق ، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك ، وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه ، فإني وجدته ملعونا في كتاب الله (٣).

١٥ ـ وقال عليه‌السلام : إن المعرفة وكمال دين المسلم تركه الكلام فيما لا يعنيه وقلة مرائه وحلمه وصبره وحسن خلقه (٤).

١٦ ـ وقال عليه‌السلام ابن آدم! إنك لا تزال بخير ما كان واعظ من نفسك ، وما كانت المحاسبة من همك ، وما كان الخوف لك شعارا ، والحذر لك دثارا (٥).

ابن آدم! إنك ميت ومبعوث وموقوف بين يدي الله عزوجل ، فأعد له جوابا (٦).

____________________

(١) في الكافى ج ٢ ص ٦٤١ «يا أبه من هم عرفنيهم».

(٢) الاكلة ـ بضم الهمزة ـ : اللقمة.

(٣) رواه الكلينى (ره) في الكافى ج ٢ ص ٦٤١ وفيه : فانى وجدته ملعونا في كتاب الله عزوجل في ثلاثة مواضع : قال الله عزوجل : «فهل عستيم ان توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الذين لعنهم الله فاصمهم وأعمى أبصارهم». وقال عزوجل :

«الذين ينقضون عهدالله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمرالله به أن يوصل ويفسدون في الارض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار». وقال في البقرة : «الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض اولئك هم الخاسرون».

(٤) رواه الصدوق (ره) في الخصال والكلينى (ره) في الكافى ج ٢ ص ٢٤٠ وفيهما «ان المعرفة بكمال دين المسلم».

(٥) ورواه المفيد (ره) في أماليه وفيه «والحزن دثارا». وهكذا في أمالى الشيخ.

(٦) في الامالى « ابن آدم انك ميت ومبعوث بين يدى الله. الخ.

١٣٧

١٧ ـ وقال عليه‌السلام : لا حسب لقرشي ولا لعربي إلا بتواضع ، ولا كرم إلا بتقوى ، ولا عمل إلا بنية ، ولا عبادة إلا بالتفقه. ألا وإن أبغض الناس إلى الله من يقتدي بسنة إمام ولا يقتدي بأعماله.

١٨ ـ وقال عليه‌السلام : المؤمن من دعائه على ثلاث : إما أن يدخر له ، وإما إن يعجل له ، وإما أن يدفع عنه بلاء يريد أن يصيبه.

١٩ ـ وقال عليه‌السلام : إن المنافق ينهى ولا ينتهي ، ويأمر ولا يأتي ، إذا قام إلى الصلاة اعترض ، وإذا ركع ربض ، وإذا سجد نقر (١) يمسي وهمه العشاء ولم يصم (٢) ويصبح وهمه النوم ولم يسهر ، والمؤمن خلط عمله بحمله ، يجلس ليعلم (٣) وينصت ليسلم ، لا يحدث بالامانة الاصدقاء ، ولا يكتم الشهادة للبعداء ، ولا يعمل شيئا من الحق رئاء ، ولا يتركه حياء. إن زكي خاف مما يقولون ، ويستغفر الله لما لا يعلمون ، ولا يضره جهل من جهله.

٢٠ ـ ورأى عليه‌السلام عليلا قد برئ فقال عليه‌السلام له : يهنئك الطهور من الذنوب إن الله قد ذكرك فاذكره ، وأقالك فاشكره.

____________________

(١) رواه الكلينى في الكافى ج ٢ ص ٣٩٦ عن أبى حمزة عنه عليه‌السلام وفيه «يأمر بما لا يأتى واذا قام إلى الصلاة اعترض ، قلت : يا ابن رسول الله وما الاعتراض؟ قال : الالتفات.

واذا ركع ربض ـ الخ». والربوض استقرار الغنم وشبهه على الارض وكأن المراد انه يسقط نفسه على الارض من قبل أن يرفع رأسه من الركوع كاسقاط الغنم عند ربوضه. والنقر التقاط الطائر الحب بمنقاره. أى خف السجود. ورواه الصدوق رحمه‌الله في الامالى المجلس ٧٤ بتقديم وتأخير مع زيادة.

(٢) العشاء ـ بالفتح : الطعام الذى يتعشى به.

(٣) رواه الكلينى في الكافى ج ٢ ص ٢٣١ وفيه «يصمت ليسلم وينطق ليغنم ، لا يحدث أمانته الاصدقاء ولا يكتم شهادته من البعداء ـ إلى أن قال ـ : لا يغره قول من جهله ويخاف أحصاء ما عمله».

١٣٨

٢١ ـ وقال عليه‌السلام : خمس لو رحلتم فيهن لانضيتموهن (١) وما قدرتم على مثلهن : لايخاف عبد إلا ذنبه ، ولا يرجو إلا ربه ، ولا يستحي الجاهل إذا سئل عما لا يعلم أن يتعلم. والصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ولا إيمان لمن لا صبر له.

٢٢ ـ وقال عليه‌السلام : يقول الله : يا ابن آدم ارض بما آتيتك تكن من أزهد الناس. ابن آدم! إعمل بما افترضت عليك تكن من أعبد الناس. ابن آدم! اجتنب مما حرمت عليك تكن من أورع الناس.

٢٣ ـ وقال عليه‌السلام : كم من مفتون بحسن القول فيه ، وكم من مغرور بحسن الستر عليه ، وكم من مستدرج بالاحسان إليه.

٢٤ ـ وقال عليه‌السلام : يا سوأتاه لمن غلبت إحداته عشراته. ـ يريد أن السيئة بواحدة ، والحسنة بعشرة ـ.

٢٥ ـ وقال عليه‌السلام : إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة. وإن الاخرة قد ترحلت مقبلة ، ولكل واحد منهما بنون ، فكونوا من أبناء الاخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فكونوا من الزاهدين في الدنيا ، والراغبين في الاخرة ، لان الزاهدين اتخذوا أرض الله بساطا ، والتراب فراشا ، والمدر وسادا ، والماء طيبا ، وقرضوا المعاش من الدنيا تقريضا.

اعلموا أنه من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الحسنات وسلا عن الشهوات (٢) ومن أشفق من النار بادر بالتوبة إلى الله من ذنوبه ، وراجع عن المحارم. ومن زهد

____________________

(١) أنضت الدابة : هزلتها الاسفار. والظاهر أن الضمير راجع إلى المطية التى تفهم من فحوى الكلام ، وقد مضى هذا الكلام أيضا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام كرارا ، وفى بعض النسخ «لو دخلتم فيهن لا بعتموهن». ورواه الصدوق في الخصال عن أمير المؤمنين عليه‌السلام بدون قوله «لا نضيتموهن».

(٢) سلا عن الشئ : نسيه وهجره. واشفق : خاف وحذر. ورواه الكلينى في الكافى ج ٢ ص ١٣٢ بادنى تفاوت.

١٣٩

في الدنيا هانت عليه مصائبها ولم يكرهها.

وإن لله عزوجل لعبادا قلوبهم معلقة بالاخرة وثوابها ، وهم كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين منعمين ، وكمن رأى أهل النار في النار معذبين ، فاولئك شرورهم وبوائقهم عن الناس مأمونة ، وذلك أن قلوبهم عن الناس مشغولة بخوف الله فطرفهم عن الحرام مغضوض ، وحوائجهم إلى الناس خفيفة ، قبلوا اليسير من الله في المعاش وهو القوت ، فصبروا أياما قصارى لطول الحسرة يوم القيامة.

٢٦ ـ وقال له رجل : إني لاحبك في الله حبا شديدا ، فنكس عليه‌السلام رأسه (١) ثم قال : اللهم إني أعوذبك أن احب فيك وأنت لي مبغض. ثم قال له :

احبك للذي تحبني فيه.

٢٧ ـ وقال عليه‌السلام : إن الله ليبغض البخيل السائل الملحف.

٢٨ ـ وقال عليه‌السلام : رب مغرور مفتون يصبح لاهيا ضاحكا ، يأكل ويشرب وهو لا يدري لعله قد سبقت له من الله سخطة يصلى بها نار جهنم (٢).

٢٩ ـ وقال عليه‌السلام : إن من أخلاق المؤمن الانفاق على قدر الاقتار (٣).

والتوسع على قدر التوسع ، وإنصاف الناس من نفسه ، وابتداؤه إياهم بالسلام.

٣٠ ـ وقال عليه‌السلام : ثلاث منجيات للمؤمن : كف لسانه عن الناس واغتيابهم ، وإشغاله نفسه بما ينفعه لاخرته ودنياه ، وطول البكاء على خطيئته.

٣١ ـ وقال عليه‌السلام : نظر المؤمن في وجه أخيه المؤمن للمودة والمحبة له عبادة.

٣٢ ـ وقال عليه‌السلام : ثلاث من كن فيه من المؤمنين كان في كنف الله (٤) وأظله الله يوم القيامة في ظل عرشه ، وآمنه من فزع اليوم الاكبر : من أعطى من نفسه

____________________

(١) نكس رأسه : طأطأه وخفضه.

(٢) في بعض النسخ «يصله بها في نار جهنم».

(٣) الاقتار : القلة والتضيق في الرزق.

(٤) كنف الله ـ بالتحريك ـ : ظله وحضنه.

١٤٠