بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

على ما فاتك من الدنيا حزينا ، وما أصابك منها فلا تنعم به سرورا ، واجعل همك لما بعد الموت فإن ماتوعدون لات.

٨١ ـ وقال عليه‌السلام (١) : انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها فانها والله عن قليل تشقي المترف ، وتحرك الساكن ، وتزيل الثاوي (٢) صفوها مشوب بالكدر ، وسرورها منسوج بالحزن ، وآخر حياتها مقترن بالضعف ، فلا يعجبنكم ما يغركم منها ، فعن كثب تنقلون عنها (٣) وكلما هو آت قريب ، و «هناك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله موليهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون» (٤).

٨٢ ـ وقال عليه‌السلام : احذركم الدنيا فإنها ليست بدار غبطة ، قد تزينت بغرورها ، وغرت بزينتها لمن كان ينظر إليها ، فاعرفوها كنه معرفتها فإنها دار هانت على ربها ، قد اختلط حلالها بحرامها ، وحلوها بمرها ، وخيرها بشرها ، ولم يذكر الله شيئا اختصه منها لاحد من أوليائه ولا أنبيائه ، ولم يصرفها من أعدائه ، فخيرها زهيد ، وشرها عتيد (٥) وجمعها ينفد ، وملكها يسلب ، وعزها يبيد.

فالمتمتعون من الدنيا تبكي قلوبهم وإن فرحوا ، ويشتد مقتهم لانفسهم وإن اغتبطوا ببعض مارزقوا ، الدنيا فانية لا بقاء لها ، والاخرة باقية لا فناء لها ، الدنيا مقبلة ، والاخرة ملجأ الدنيا ، وليس للاخرة منتقل ولا منتهى ، من كانت الدنيا همه اشتد لذلك غمه ، ومن آثر الدنيا على الاخرة حلت به الفاقرة (٦).

____________________

(١) مطالب السؤول ص ٥٢.

(٢) الثاوى هو الذى قام في مكان.

(٣) الكثب : القرب ، يقال : رماه من كثب أو عن كثب أى رماه اذكان قريبا منه.

(٤) أى في ذلك المقام تختبر كل نفس ما قدمت من عمل. وقوله تعالى : «ردوا إلى الله» أى إلى جزائه ، وقوله «ضل عنهم» أى بطل وهلك عنهم ما كانوا يدعونه افتراء على الله سبحانه.

(٥) العتيد : الحاضر المهيأ.

(٦) الفاقرة : الداهية الشديدة.

٢١

٨٣ ـ وقال عليه‌السلام : إنما الدنيا دار فناء وعناء وغير وعبر ، فمن فنائها أنك ترى الدهر موتر قوسه ، مفوق نبله ، يرمي الصحيح بالسقيم ، والحي بالميت و البرئ بالمتهم ، ومن عنائها أنك ترى المرء يجمع مالا يأكل ، ويبني مالا يسكن ويأمل مالا يدرك ، ومن غيرها أنك ترى المرحوم مغبوطا والمغبوط مرحوما ، ليس بينهم إلا نعيم زال أو مثلة حلت أو موت نزل ، ومن عبرها أن المرء يشرف عليه أمله حتى يختطفه دونه أجله.

٨٤ ـ وقال عليه‌السلام : اجعل الدنيا شوكا وانظر أين تضع قدمك منها فإن من ركن إليها خذلته ، ومن أنس فيها أوحشته ، ومن يرغب فيها أوهنته ، ومن انقطع إليها قتلته ، ومن طلبها أرهقته ، ومن فرح بها أترحته (١) ومن طمع فيها صرعته ، ومن قدمها أخرته ، ومن ألزمها هانته ، ومن آثرها باعدته من الاخرة ومن بعد من الاخرة قرب إلي النار ، فهي دار عقوبة وزوال وفناء وبلاء ، نورها ظلمة وعيشها كدر ، وغنيها فقير ، وصحيحها سقيم ، وعزيزها ذليل ، فكل منعم برغدها شقي ، وكل مغرور بزينتها مفتون ، وعند كشف الغطاء يعظم الندم ، ويحمد الصدر أو يذم.

٨٥ ـ وقال عليه‌السلام يأتي على الناس زمان لا يعرف فيه إلا الماحل ولا يظرف فيه إلا الفاجر (٢) ولا يؤتمن فيه إلا الخائن ، ولا يخون إلا المؤتمن ، يتخذون الفئ مغنما ، والصدقة مغرما ، وصلة الرحم منا ، والعبادة استطالة على الناس وتعديا وذلك يكون عند سلطان النساء ، ومشاورة الاماء ، وإمارة الصبيان.

٨٦ ـ وقال عليه‌السلام : احذروا الدنيا إذا أمات الناس الصلاة ، وأضاعوا الامانات ، واتبعوا الشهوات ، واستحلوا الكذب ، وأكلوا الربا ، وأخذوا الرشى وشيدوا البناء ، واتبعوا الهوى ، وباعوا الدين بالدنيا ، واستخفوا بالدماء وركنوا إلى الرياء ، وتقاطعت الارحام ، وكان الحلم ضعفا ، والظلم فخرا

____________________

(١) الارهاق أن يحمل الانسان على مالا يطيقه. وأترحه أى أحزنه.

(٢) الماحل : الساعى إلى السلطان. ولا يظرف أى لا ينسب إلى الظرافة.

٢٢

والامراء فجرة ، والوزراء كذبة ، والامناء خونة ، والاعوان ظلمة ، و القراء فسقة ، وظهر الجور ، وكثر الطلاق وموت الفجأة ، وحليت المصاحف ، وزخرفت المساجد ، وطولت المنابر ، ونقضت العهود ، وخربت القلوب ، و استحلوا المعازف ، وشربت الخمور ، وركبت الذكور ، واشتغل النساء وشار كن أزواجهن في التجارة حرصا على الدنيا ، وعلت الفروج السروج ، ويشبهن بالرجال ، فحينئذ عدوا أنفسكم في الموتى ، ولا تغرنكم الحياة الدنيا فإن الناس اثنان بر تقي وآخر شقي ، والدار داران لا ثالث لهما ، والكتاب واحد لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ألا وإن حب الدنيا رأس كل خطيئة ، وباب كل بلية ومجمع كل فتنة ، وداعية كل ريبة ، الويل لمن جمع الدنيا وأورثها من لا يحمده ، وقدم على من لا يعذره ، الدنيا دار المنافقين ، وليست بدار المتقين ، فلتكن حظك من الدنيا قوام صلبك ، وإمساك نفسك ، وتزود لمعادك.

٨٧ ـ وقال عليه‌السلام : يا دنيا يا دنيا أبي تعرضت ، أم إلي تشوقت ، هيهات هيهات غري غيري قد بتتك ثلاثة ، لا رجعة لي فيك ، فعمرك قصير ، وعيشك حقير وخطرك كبير ، آه من قلة الزاد ، ووحشة الطريق.

٨٨ ـ وقال عليه‌السلام : احذروا الدنيا فإن في حلالها حساب وفي حرامها عقاب وأولها عناء وآخرها فناء ، من صح فيها هرم ، ومن مرض فيها ندم ، ومن استغنى فيها فتن ، ومن افتقر فيها حزن ، ومن أتاها فاتته ، ومن بعد عنها أتته ، ومن نظر إليها أعمته ، ومن بصر بها بصرته ، إن أقبلت غرت ، وإن أدبرت ضرت.

٨٩ ـ في وصفه المؤمنين (١) قال عليه‌السلام ، المؤمنون هم أهل الفضائل هديهم السكوت ، وهيئتهم الخشوع ، وسمتهم التواضع (٢) خاشعين ، غاضين أبصارهم عما حرم الله عليهم ، رافعين أسماعهم إلى العلم ، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كما نزلت في الرخاء ، لولا الاجال التي كتبت عليهم لم تستقر أرواحهم في أبدانهم طرفة

____________________

(١) مطالب السؤول ص ٥٣.

(٢) الهدى ـ بالفتح ـ : الطريقة والسيرة. والسمت : هيئه أهل الخير.

٢٣

عين ، شوقا إلى الثواب وخوفا من العقاب ، عظم الخالق في أنفسهم وصغر مادونه في أعينهم ، فهم كأنهم قد رأوا الجنة ونعيمها والنار وعذابها ، فقلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة ، وحوائجهم خفيفة ، وأنفسهم ضعيفة ، ومعونتهم لاخوانهم عظيمة اتخذوا الارض بساطا ، وماءها طيبا ، ورفضوا الدنيا رفضا ، وصبروا أياما قليلة فصارت عاقبتهم راحة طويلة ، تجارتهم مربحة ، يبشرهم بها رب كريم ، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها ، وطلبتهم فهربوا منها.

أما الليل فأقدامهم مصطفة (١) يتلون القرآن يرتلونه ترتيلا ، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطلعت أنفسهم تشوقأ (٢) فيصيرونها نصيب أعينهم وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها بقلوبهم وأبصارهم ، فاقشعرت منها جلودهم ووجلت قلوبهم خوفا وفرقا (٣) نحلت لها أبدانهم ، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها وصلصلة حديدها في آذانهم ، مكبين على وجوههم وأكفهم ، تجري دموعهم على خدودهم. يجأرون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم.

وأما النهار فعلماء أبرار أتقياء ، قد براهم الخوف فهم أمثال القداح (٤) إذا نظر إليهم الناظر يقول بهم مرض ، وما بهم مرض ، ويقول قد خولطوا وماخولطوا (٥) إذا ذكروا عظمة الله وشدة سلطانه وذكروا الموت وأهوال القيامة وجفت قلوبهم

____________________

(١) اصطف القوم : قاموا صفوفا.

(٢) التطلع إلى الشئ : الاستشراف له والانتظار لوروده.

(٣) الفرق ـ بالتحريك ـ : الخوف. ونحلت أى هزلت وضعفت.

(٤) برى السهم نحته. والقداح جمع قدح بالكسر فيهما وهو السهم قبل أن يراش وينصل وهو كناية عن نحاقة البدن وضعف الجسد.

(٥) خولط فلان في عقله اذا اختل عقله وصار مجنونا. وخالطه اذا مازجه والمعنى كما قاله بعض شراح النهج يظن الناظر بهم الجنون وما بهم من جنة بل مازج قلوبهم أمر عظيم وهو الخوف فتولهوا لاحله.

٢٤

وطاشت حلومهم وذهلت عقولهم (١) فاذا استفاقوا من ذلك بادروا إلى الله بالاعمال الزاكية ، لا يرضون بالقليل ، ولا يستكثرون الكثير ، فهم لانفسهم متهمون ، ومن أعمالهم مشفقون ، إن زكي أحدهم خاف الله وغايلة التزكية (٢) قال : وأنا أعلم بنفسي من غيري وربي أعلم بي مني ، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون ، واجعلني كما يظنون ، واغفرلي مالا يعلمون.

ومن علامات أحدهم أن يكون له حزم في لين ، وإيمان في يقين ، وحرص في تقوى ، وفهم في فقه ، وحلم في علم ، وكيس في رفق ، وقصد في غنى ، وخشوع في عبادة وتحمل في فاقة ، وصبر في شدة وإعطاء في حق ، وطلب لحلال ، ونشاط في هدى ، وتحرج عن طمع ، وتنزه عن طبع ، وبر في استقامة ، واعتصام بالله من متابعة الشهوات ، واستعاذة به من الشيطان الرجيم ، يمسي وهمه الشكر ، ويصبح وشغله الفكر (٣) اولئك الامنون المطمئنون الذين يسقون من كأس لا لغو فيها ولا تأثيم (٤)

٩٠ ـ وقال عليه‌السلام : المؤمنون هم الذين عرفوا أمامهم ، فذبلت شفاههم وغشيت عيونهم ، وشحبت ألوانهم (٥) حتى عرفت في وجوههم غبرة الخاشعين. فهم عبادالله الذين مشوا على الارض هونا ، واتخذوها بساطا ، وترابها فراشا ، فرفضوا الدنيا وأقبلوا على الاخرة على منهاج المسيح بن مريم ، إن شهدوا لم يعرفوا ، وإن غابوا لم يفتقدوا ، وإن مرضوا لم يعادوا ، صوام الهواجر ، قوام الدياجر (٦)

____________________

(١) وجف الشئ اضطرب ، والقلب : خفق. وطاش أى ذهب عقله. والحلوم جمع حلم وهو العقل. والذهول. النيسان والغيبة.

(٢) الغائلة الداهية والفساد والمهلكة. وغائلة التزكية عطف على «الله» يعنى خاف الله أولا وغائلة التزكية ثانيا.

(٣) في بعض النسخ «يمسى وهمته الشكر ويصبح وشغله الذكر».

(٤) أثمه من باب التفعيل نسبه إلى الاثم.

(٥) شحبت لونه : تغير من جوع أو مرض ونحوهما.

(٦) الهواجر جمع الهاجرة وهى شدة حرارة النهار. والديجور : الظلام.

٢٥

يضمحل عندهم كل فتنة ، وينجلي عنهم كل شبهة ، اولئك أصحابي فاطلبوهم في أطراف الارضين ، فإن لقيتم منهم أحدا فاسألوه أن يستغفر لكم.

٩١ ـ وقال عليه‌السلام (١) : شيعتنا المتباذلون في ولايتنا ، المتحابون في مودتنا المتوازرون في أمرنا ، الذين إن غضبوا لم يظلموا ، وإن رضوا لم يسرفوا ، بركة على من جاوروه ، سلم لمن خالطوه ، اولئك هم السائحون الناحلون ، الزابلون ، ذابلة شفاههم ، خميصة بطونهم (٢) متغيرة ألوانهم ، مصفرة وجوههم كثير بكاؤهم جارية دموعهم. يفرح الناس ويحزنون ، وينام الناس ويسهرون ، إذا شهدوا لم يعرفوا ، وإذا غابوا لم يفتقدوا ، وإذا خطبوا الابكار لم يزوجوا ، قلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة ، وأنفسهم عفيفة ، وحوائجهم خفيفة ، ذبل الشفاه من العطش خمص البطون من الجوع ، عمش العيون من السهر ، الرهبانية عليهم لايحة ، والخشية لهم لازمة ، كلما ذهب منهم سلف خلف في موضعه خلف ، اولئك الذين يردون القيامة وجوههم كالقمر ليلة البدر. تغبطهم الاولون والاخرون ، ولا خوف عليهم ولا يحزنون.

٩٢ ـ وقال عليه‌السلام : المؤمن يرغب فيما يبقى ويزهذ فيما يفنى ، يمزج الحلم بالعلم ، والعلم بالعمل ، بعيد كسله ، دائم نشاطه ، قريب أمله ، حي قلبه ، ذاكر لسانه ، لا يحدث بما لا يؤتمن عليه الاصدقاء ، ولا يكتم شهادة الاعداء ، لا يعمل شيئا من الخير رياء ولا يتركه حياء ، الخير منه مأمول ، والشر منه مأمون ، إن كان في الذاكرين لم يكتب في الغافلين ، وإن كان في الغافلين كتب في الذاكرين ، ويعفو عمن ظلمه ، ويعطي من حرمه ، ويصل من قطعه ، ويحسن إلى من أساء إليه ، لا يعزب حلمه ، ولا يعجل فيما يريبه ، بعيد جهله ، لين قوله ، قريب معروفه ، غائب منكره صادق كلامه ، حسن فعله مقبل خيره ، مدبر شره ، في الزلازل وقور ، وفي المكاره

____________________

(١) مطالب السؤول ص ٥٣.

(٢) نحل جسمه أى سقم ، والناحل الرقيق الجسم من مرض أو تعب. وذبل النبات : قل ماؤه وذهبت نضارته. والذبل : اليابسة الشفه. والخميصة أى الضامرة.

٢٦

صبور ، وفي الرخاء شكور ، لا يحيف على من يبغض ، ولا يأثم فيمن يحب ، ولا يدعي ما ليس له ، ولا يجحد حقا عليه ، يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه ، ولا يضيع ما استحفظ ، ولا يرغب فيما لا تدعوه الضرورة إليه ، لا يتنابز بالالقاب ، ولا يبغي على أحد ، ولا يهزء بمخلوق ، ولا يضار بالجار ، ولا يشمت بالمصائب ، مؤدب بأداء الامانات ، مسارع إلى الطاعات ، محافظ على الصلوات ، بطئ في المنكرات.

لا يدخل على الامور بجهل ، ولا يخرج ، عن الحق بعجز ، إن صمت فلا يغمه الصمت ، وإن نطق لا يقول الخطأ ، وإن ضحك فلا تعلو صوتع سمعه ، ولا يجمح به الغضب (١) ولا تغلبه الهوى ، ولا يقهره الشح ، ولا تملكه الشهوة ، يخالط الناس ليعلم ، ويصمت ليسلم ، ويسأل ليفهم ، ينصت إلى الخير ليعمل به ، ولا يتكلم به ليفخر على ماسواه ، نفسه منه في عناء والناس منه في راحة ، يتعب نفسه لاخرته ويعصي هواه لطاعة ربه ، بعده عمن تباعد منه نزاهة ، ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة ، ليس بعده بكبر ، والاقربه خديعة ، مقتدبمن كان قبله من أهل الايمان ، إمام لمن بعده من البررة المتقين.

٩٣ ـ وقال عليه‌السلام : طوبى للزاهدين في الدنيا ، الراغبين في الاخرة ، اولئك قوم اتخذوا أرض الله مهادا ، وترابها وسادا ، وماءها طيبا ، وجعلوا الكتاب شعارا والدعاء دثارا ، وإن الله أوحى إلى عبده المسيح عليه‌السلام أن قل لبني إسرائيل لا تدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب طاهرة ، وأبصار خاشعة ، وأكف نقية ، وأعلمهم أني لا اجيب لاحد منهم دعوة ، ولاحد من خلقي قبله مظلمة.

٩٤ ـ وقال عليه‌السلام : المؤمن وقور عند الهزاهز ، ثبوت عند المكاره ، صبور عند البلاء ، شكور عند الرخاء ، قانع بما رزقه الله ، لا يظلم الاعداء ، ولا يتحامل للاصدقاء (٢) ، الناس منه راحة ونفسه منه في تعب ، العلم خليله ، والعقل قرينه

____________________

(١) جمح الفرس : تغلب على راكبه ولا ينقاد له.

(٢) أى لا يحتمل الوزر لاجلهم ، أو يتحمل عنهم مالا يطيق الاتيان به من الامور المشاقة فيعجز عنها.

٢٧

والحلم وزيره ، والصبر أميره ، والرفق أخوه ، واللين والده.

٩٥ ـ وقوله عليه‌السلام لنوف البكالي : أتدري يانوف من شيعتي؟ قال : لا والله ، قال :

شيعتي الذبل الشفاه ، الخمص البطون ، الذين تعرف الرهبانية في وجوههم ، رهبان بالليل ، أسد بالنهار ، الذين إذا جنهم الليل ائتزروا على أو ساطهم ، وارتدوا على أطرافهم (١) وصفوا أقدامهم ، وافترشوا جباههم ، تجري دموعهم على خدودهم يجأرون إلى الله في فكاك أعناقهم (٢) وأما النهار فحلماء علماء كرام نجباء أبرار أتقياء ، يا نوف شيعتي من لم يهر هرير الكلب ، ولم يطمع طمع الغراب ، ولم يسأل الناس ولو مات جوعا ، إن رأى مؤمنا أكرمه ، وإن رأى فاسقأهجره ، هؤلاء والله شيعتي.

٩٦ ـ قال نوف : عرضت لي حاجة إلى أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام فاستتبعت إليه جندب بن زهير والربيع بن خثيم وابن أخيه همام بن عبادة بن خثيم وكان من أصحاب البرانس المتعبدين فأقبلنا إليه فألفيناه حين خرج يؤم المسجد فأفضى ونحن معه إلى نفر متدينين قد أفاضوا في الاحدوثات تفكها وهم يلهى بعضهم بعضا ، فأسرعوا إليه قياما وسلموا عليه ، فرد التحية ، ثم قال : من القوم؟ فقالوا اناس من شيعتك يا أميرالمؤمنين ، فقال لهم : خيرا ، ثم قال : يا هؤلاء مالي لا أرى فيكم سمة شيعتنا ، وحلية أحبتنا؟! فأمسك القوم حياء ، فأقبل عليه جندب والربيع فقالا له : ماسمة شيعتك يا أمير المؤمنين؟ فسكت فقال همام ـ كان عابدا مجتهدا ـ أسألك بالذي أكرمكم أهل البيت وخصكم وحباكم لما أنبأتنا بصفة شيعتك؟ فقال : لا تقسم فسأنبئكم جميعا ووضع يده على منكب همام وقال :

____________________

(١) أى يشدون المئزر على وسطهم احتياطا لستر العورة فانهم كانوا لا يلبسون السراويل أو المراد شد الوسط بالازار كالمنطقة ليجمع الثياب. وقيل هو كناية عن الاهتمام في العبادة. (قاله المؤلف) وقوله «وارتدوا على أطرافهم» أى يلبسون الرداءة أو يشدونها على أطرافهم ويشتملون بها.

(٢) جأر إلى الله : تضرع ورفع صوته بالبكاء.

٢٨

شيعتناهم العارفون بالله ، العاملون بأمر الله ، أهل الفضائل ، الناطقون بالصواب مأكولهم القوت ، وملبسهم الاقتصاد ، ومشيهم التواضع ، بخعوا لله تعالى بطاعته (١) وخضعوا له بعبادته ، فمضوا غاضين أبصارهم عما حرم الله عليهم ، واقفين أسماعهم على العلم بدينهم ، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالذي نزلت منهم في الرخاء ، رضوا عن الله تعالى بالقضاء ، فلولا الاجال التي كتب الله تعالى لهم لم تستقر أرواحهم في أبدانهم طرفة عين ، شوقا إلى لقاءالله والثواب ، وخوفا من أليم العقاب ، عظم الخالق في أنفسهم وصغر مادونه في أعينهم ، فهم والجنة كمن رآها فهم على أرائكها متكئون.

وهم والنار كمن رآها فهم فيها معذبون ، صبروا أياما قليلة ، فأعقبتهم راحة طويلة ، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها ، وطلبتهم فأعجزوها ، أما الليل فصافون أقدامهم تالون لاجزاء القرآن يرتلونه ترتيلا ، يعظون أنفسهم بأمثاله ، ويستشفون لدائهم بدوائه تارة ، وتارة يفترشون جباههم وأنفسهم وركبهم وأطراف أقدامهم تجري دموعهم على خدودهم ، يمجدون جبارا عظيما ويجأرون إليه في فكاك أعناقهم ، هذا ليلهم ، وأما نهارهم فحلماء علماء بررة أتقياء ، براهم خوف باريهم (٢) فهم كالقداح تحسبهم مرضى وقد خولطوا وما هم بذلك ، بل خامرهم من عظمة ربهم ، وشدة سلطانه ماطاشت له قلوبهم ، وذهلت منه عقولهم ، فإذا اشتاقوا من ذلك بادروا إلى الله تعالى بالاعمال الزكية ، لا يرضون له بالقليل ، ولا يستكثرون له الجزيل فهم لانفسهم متهمون ، ومن أعمالهم مشفقون.

يرى لاحدهم قوة في دين ، وحزما في لين (٣) وإيمانا في يقين ، وحرصا على

____________________

(١) بخع نفسه ـ بتقديم الباء على الخاء المعجمة المفتوحة ـ : أنهكها وكاد يهلكها من غم أو غضب. وبخع ـ بكسر الخاء ـ بالحق : أقر وأذعن.

(٢) أى نحتهم خوف ربهم ، فانما يخشى الله من عباده العلماء. والقداح جمع القدح بالكسر فيهما : السهم.

(٣) الحزم في اللين أن يكون لبنه حزما وفى موضعه ، لا عن مهانة وذلة.

٢٩

علم ، وفهما في فقه ، وعلما في حلم ، وكيسا في قصد ، وقصدا في غنى ، وتجملا في فاقة ، وصبرا في شدة ، وخشوعا في عبادة ، ورحمة في مجهود ، وإعطاء في حق ورفقا في كسب ، وطلبا من حلال وتعففا في طمع ، وطمعا في غير طبع ، ونشاطا في هدى ، واعتصاما في شهوة ، وبرا في استقامة ، لا يغره ما جهله ، ولا يدع إحصاء ما عمله ، يستبطئ نفسه في العمل وهو من صالح عمله على وجل ، يصبح وشغله الذكر ويمسي وهمه الشكر ، يبيت حذرا من سنة الغفلة ، ويصبح فرحا بما أصاب من الفضل والرحمة.

وإن استصعب عليه نفسه فيما تكره لم يطعها سؤلها مما إليه تسره ، رغبته فيما يبقى ، وزهادته فيما يفنى ، قد قرن العلم بالعمل والعمل بالحلم ، ويظل دائما نشاطه ، بعيدا كسله ، قريبا أمله ، قليلا زلله ، متوقعا أجله ، خاشعا قلبه ، ذاكرا ربه ، قانعة نفسه ، عازبا جهله ، محرزا دينه ، ميتا داؤه ، كاظما غيظه ، صافيا خلقه آمنا منه جاره ، سهلا أمره ، معدوما كبره ، متينا صبره ، كثيرا ذكره.

لا يعمل شيئا من الخير رياء ، ولا يتركه حياء. اولئك شيعتنا وأحبتنا ومنا ومعنا ، آها وشوقا إليهم.

فصاح همام صيحة ووقع مغشيا عليه ، فحركوه فإذا هو قد فارق الدنيا ـ رحمه الله تعالى ـ فغسل وصلى عليه أمير المؤمنين عليه‌السلام ونحن معه. فشيعته عليه‌السلام هذه صفتهم وهي صفة المؤمنين. وتقدم بعضها.

٩٧ ـ وقال عليه‌السلام : الجنة التي أعدها الله تعالى للمؤمنين خطافة لابصار الناظرين فيها درجات متفاضلات ، ومنازل متعاليات ، لا يبيد نعيمها ولا يضمحل حبورها ولا ينقطع سرورها ولا يظعن مقيمها ولا يهرم خالدها ولا يبؤس ساكنها ، آمن سكانها من الموت فلا يخافون ، صفالهم العيش ، ودامت لهم النعمة في أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم. على فرش موزونة وأزواج مطهرة وحورعين كأنهن اللؤلؤ المكنون ، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة

٣٠

«والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار».

أقول : قد مضى في كتاب الايمان والكفر في باب المؤمن وصفاته خبر همام وطلبه عنه عليه‌السلام ذكر صفات المؤمن وأنه عليه‌السلام قال الخطبة بمسجد الكوفة بعدة طرق من كتب عديدة ولكن بينها أنواع من الاختلافات ، وكذلك بينها وبين هذا الخبر فلا تغفل ، ثم قد سبق في ذلك الباب كلام ابن أبي الحديد من كون همام هذا هو همام بن شريح بن يزيد بن مرة ، والمذكور هنا ينافيه كما لا يخفى.

٩٨ ـ جع ، (١) جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : جئتك لاسأل عن أربعة مسائل ، فقال عليه‌السلام : سل وإن كان أربعين. فقال : أخبرني ما الصعب وما الاصعب؟ وما القريب وما الاقرب؟ وما العجب وما الاعجب؟ وما الواجب وما الاوجب؟.

فقال عليه‌السلام : الصعب المعصية ، والاصعب فوت ثوابها ، والقريب كل ما هو آت والاقرب هو الموت ، والعجب هو الدنيا وغفلتنا فيها أعجب ، والواجب هو التوبة ، وترك الذنوب هو الاوجب.

٩٩ ـ قيل : جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال : جئتك من سبعمائة فرسخ لاسألك عن سبع كلمات فقال عليه‌السلام : سل ما شئت ، فقال الرجال : أي شئ أعظم من السماء؟ وأي شئ أوسع من الارض؟ وأي شئ أضعف من اليتيم؟ وأي شي ه أحر من النار؟ وأي شئ أبرد من الزمهرير؟ وأي شئ أغنى من البحر؟ وأي شئ أقسى من الحجر؟ قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : البهتان على البرئ أعظم من السماء والحق أوسع من الارض ، ونمائم الوشاة أضعف من اليتيم (٢) والحرص أحر من النار ، وحاجتك إلى البخيل أبرد من الزمهرير ، والبدن القانع أغنى من البحر ، وقلب الكافر أقسى من الحجر.

١٠٠ ـ ختص (٣) روى عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام أنه قال : المفتخر بنفسه أشرف

____________________

(١) جامع الاخبار ص ١٦١. الفصل السادس والتسعون.

(٢) الواشى هو النمام عند الامير أو الحاكم او السلطان وجمعه الوشاة.

(٣) الاختصاص : ١٨٨.

٣١

من المفتخر بأبيه لاني أشرف من أبي والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أشرف من أبيه ، وإبراهيم أشرف من تارخ.

١٠١ ـ قيل : وبم الافتخار؟ قال : بإحدى ثلاث : مال ظاهر ، أو أدب بارع أو صناعة لا يستحي المرء منها.

١٠٢ ـ قيل : لامير المؤمنين عليه‌السلام : كيف أصحبت يا أمير المؤمنين؟ قال : أصبحت آكل وأنتظر أجلي.

١٠٣ ـ قيل له عليه‌السلام : فما تقول في الدنيا؟ قال : فما أقول في دار أولها غم ، وآخرها الموت ، من استغنى فيها افتقر ، ومن افتقر فيها حزن ، في حلالها حساب وفي حرامها النار.

١٠٤ ـ قيل : فمن أغبط الناس؟ قال : جسد تحت التراب قد أمن من العقاب ويرجو الثواب.

١٠٥ ـ وقال عليه‌السلام : من زار أخاه المسلم في الله ناداه الله أيها الزائر طبت وطابت لك الجنة.

١٠٦ ـ وقال عليه‌السلام : ماقضى مسلم لمسلم حاجة إلا ناداه الله علي ثوابك ولا أرضى لك بدون الجنة.

١٠٧ ـ وقال عليه‌السلام : ثلاثة يضحك الله إليهم يوم القيامة : رجل يكون على فراشه مع زوجته وهو يحبها فيتوضأ ويدخل المسجد فيصلي ويناجي ربه ، ورجل أصابته جنابة ولم يصب ماء فقام إلى الثلج فكسره ثم دخل فيه واغتسل ، ورجل لقى عدوا وهو مع أصحابه وجاءهم مقاتل فقاتل حتى قتل.

١٠٨ ـ وقال عليه‌السلام : التعزية تورث الجنة.

١٠٩ ـ وقال عليه‌السلام : إذا حملت بجوانب سرير الميت خرجت من الذنوب كما ولدتك أمك.

١١٠ ـ وقال عليه‌السلام : من اشترى لعياله لحما بدرهم كان كمن أعتق نسمة من ولد إسماعيل.

٣٢

١١١ ـ وقال عليه‌السلام : من شرب من سؤر أخيه تبركا به خلق الله بينهما ملكا يستغفر لهما حتى تقوم الساعة.

١١٢ ـ وقال عليه‌السلام : في سؤر المؤمن شفاء من سبعين داء.

١١٣ ـ ختص : (١) محمد بن الحسين ، عن محمد بن سنان ، عن بعض رجاله عن أبي الجارود يرفعه قال : قال أميرالمؤمنين عليه‌السلام : من أوقف نفسه موقف التهمة فلا يلومن من أساء به الظن ، ومن كتم سره كانت الخيرة في يده ، وكل حديث جاوز اثنين فشى ، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك ، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجدلها في الخير محملا ، وعليك بإخوان الصدق فكثر في اكتسابهم عدة عند الرخاء ، وجندا عند البلاء ، وشاور حديثك الذين يخافون الله ، وأحبب الاخوان على قدر التقوى ، واتقوا شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر ، إن أمرنكم بالمعروف فخالفوهن حتى لا يطمعن في المنكر.

١١٤ ـ ما (٢) عن جماعة ، عن أبي المفضل ، عن محمد بن جعفر الرزاز ، عن أيوب بن نوح ، عن الشارب بن ذراع (٣) عن أخيه يسار ، عن حمران ، عن أبي عبدالله عن أبيه عليهما‌السلام ، عن جابر بن عبدالله قال : بينا أميرالمؤمنين عليه‌السلام في جماعة من أصحابه أنا فيهم إذ ذكروا الدنيا وتصرفها بأهلها فذمها رجل فذهب في ذمها كل مذهب فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : أيها الذام للدنيا ، أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك؟ فقال : بل أنا المتجرم عليها يا أميرالمؤمنين ، قال : فبم تذمها؟ أليست منزل صدق لمن صدقها ، ودار غنى لمن تزود منها ، ودار عافية لمن فهم عنها ، ومساجد أنبياء الله ، ومهبط وحيه ، ومصلى ملائكته ، ومتجر أوليائه ، اكتسبوا فيها الرحمة ، ورجوا فيها الجنة ، فمن ذا يذمها؟ وقد آذنت ببينها ، ونادت بانقطاءها ، ونعت نفسها وأهلها

____________________

(١) المصدر ص ٢٢٦ وفيه محمد بن الحسن.

(٢) الامالى ج ٢ ص ٢٠٧.

(٣) في المصدر «بشار بن ذراع».

٣٣

فمثلت ببلائها البلى ، وشوقت بسرورها إلى السرور ، تخويفا وترغيبا فابتكرت بعافية ، وراحت بفجيعة ، فذمها رجال فرطوا غداة الندامة ، وحمدها آخرون اكتسبوا فيه الخير ، فيا أيها الذام للدنيا ، المغتر بغرورها! متى استذمت إليك أو متى غرتك؟ أم بمضاجع آبائك من البلى ، أم بمصارع امهاتك تحت الثرى ، كم مرضت بيديك ، وعالجت بكفيك ، تلتمس لهم الشفاء ، وتستوصف لهم الاطباء ، لم تنفعهم بشفاعتك ، ولم تسعفهم في طلبتك ، مثلت لك ـ ويحك ـ الدنيا بمصرعهم مصرعك ، و بمضجعهم مضجعك ، حين لا يغني بكاؤك ، ولا ينفعك أحباؤك.

ثم التفت إلى أهل المقابر فقال : يا أهل التربة ، ويا أهل القربة أما المنازل فقد سكنت ، وأما الاموال فقد قسمت ، وأما الازواج فقد نكحت ، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟ ثم أقبل على أصحابه فقال : والله لو أذن لهم في الكلام لاخبروكم أن خير الزاد التقوى.

١١٥ ـ ما (١) عن جماعة ، عن أبي المفضل ، عن عبيد الله بن الحسين العلوي ، عن محمد بن علي بن حمزة العلوي ، عن أبيه ، عن الرضا ، عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال أميرالمؤمنين عليه‌السلام : الهيبة خيبة (٢) والفرصة خلسته ، والحكمة ضالة المؤمن فاطلبوها ولو عند المشرك تكونوا أحق بها وأهلها.

١١٦ ـ ما (٣) عن أحمد بن محمد بن الصلت ، عن ابن عقدة ، عن محمد بن عيسى الضرير ، عن محمد بن زكريا المكي ، عن كثير بن طارق ، عن زيد ، عن أبيه علي ابن الحسين عليهما‌السلام قال : خطب علي بن أبي طالب عليه‌السلام بهذه الخطبة في يوم الجمعة فقال : الحمد لله المتوحد بالقدم والازلية الذي ليس له غاية في دوامه ، ولا له أولية ، أنشأ صنوف البرية لا عن اصول كانت بدية (٤) وارتفع من مشاركة الانداد

____________________

(١) الامالى ج ٢ ص ٢٣٧ و ٢٣٨.

(٢) يعنى من تهيب أمرا خاب من ادراكه. والخلسة ـ بضم الخاء ـ : الفرصة المناسبة وفى المثل «الخلسة سريعة الفوت بطيئة العود» ويأتى نظيره عن قريب.

(٣) الامالى ج ٢ ص ٣١٥. (٤) البدء والبديئة : اول الحال والنشأة.

٣٤

وتعالى عن اتخاذ صاحبة وأولاد ، هوالباقي بغير مدة ، والمنشئ لا بأعوان ، لا بآلة فطر ، ولا بجوارح صرف ماخلق ، لا يحتاج إلى محاولة التفكير ، ولا مزاولة مثال ولا تقدير ، أحدثهم على صنوف من التخطيط والتصوير ، لا بروية ولا ضمير ، سبق علمه في كل الامور ، ونفذت مشيته في كل ما يريد في الازمنة والدهور ، وانفرد بصنعة الاشياء فأتقنها بلطائف التدبير ، سبحانه من لطيف خبير ، ليس كمثله شئ وهو السميع البصير.

١١٧ ـ كتاب الغارات (١) لابراهيم بن محمد الثقفي ، عن عبدالرحمن بن نعيم عن أشياخ من قومه إن عليا عليه‌السلام كان كثيرا ما يقول في خطبته : أيها الناس إن الدنيا قد أدبرت وآذنت أهلها بوداع ، وإن الاخرة قد أقبلت وآذنت باطلاع ، ألا وإن المضمار اليوم والسباق غدا ، ألا وإن السبق الجنة ، والغاية النار ، ألا وإنكم في إيام مهل من ورائه أجل يحثه عجل ، فمن عمل في أيام مهله قبل حضور أجله نفعه عمله ، ولم يضره أمله ، ألا وإن الامل يسهي القلب ويكذب الوعد ويكثر الغفلة ويورث الحسرة ، فاعزبوا عن الدنيا (٢) كاشد ما أنتم عن شئ تعزبون ، فإنها من ورود صاحبها منها في غطاء معنى ، وافزعوا إلى قوام دينكم بإقامة الصلاة لوقتها و أداء الزكاة لاهلها (٣) والتضرع إلى الله والخشوع له ، وصلة الرحم ، وخوف المعاد وإعطاء السائل ، وإكرام الضيف ، وتعلموا القرآن واعملوا به ، واصدقوا الحديث وآثروه ، وأوفوا بالعهد إذا عاهدتم وأدوا الامانة إذا ائتمنتم ، وارغبوا في ثواب الله وخافوا عقابه فاني لم أر كالجنة نام طالبها ، ولا كالنار نام هاربها ، فتزودوا من الدنيا ما تحوزوا به أنفسكم غدا من النار ، واعملوا بالخير تجزوا بالخير يوم يفوز أهل الخير بالخير.

____________________

(١) مخلوط.

(٢) عزب : بعد وغاب وخفى.

(٣) في بعض النسخ «أداء الزكاة لمحلها».

٣٥

١٦

* ( باب ) *

* «( ما جمع من جوامع كلم )» *

أمير المؤمنين صلى الله عليه وعلى ذريته

أقول : وقد جمع الجاحظ من علماء العامة مائة كلمة من مفردات كلامه عليه‌السلام ، وهي رسالة معروفة شايعة ، وقد جمع بعض علمائنا أيضا كلماته عليه‌السلام في كتاب نثر اللالي ، والسيد الرضي ـ رحمه‌الله ـ قد أورد كلماته عليه‌السلام في مطاوي نهج البلاغة ، ولا سيما في أواخره ، وكذا في كتاب خصائص الائمة عليهم‌السلام ، ثم جمع بعده الامدي من أصحابنا أيضا كثيرا من ذلك في كتاب الغرر والدرر ، وهو كتاب مشهور متداول.

ثم قد أوردها مع كلمات النبي وسائر الائمة عليهم‌السلام جماعة اخرى من العامة والخاصة أيضا في مؤلفاتهم ومنهم الحسن بن علي بن شعبة في كتاب تحف العقول ، والحسين بن محمد بن الحسن في كتاب النزهة الناظر ، والشهيد في كتاب الدرة الباهرة من الاصداف الطاهرة ، وكذا الشيخ علي بن محمد الليثي الواسطي في كتاب عيون الحكم والمواعظ وخيرة المتعظ والواعظ ، الذي قد سمينا بكتاب العيون والمجاسن ، وهو يشتمل على كثير من كلماته ، وكلمات باقي الائمة عليهم‌السلام.

وقد جمع الشيخ سعد بن عبد القاهر أيضا من علمائنا بين كلمات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المذكور في كتاب الشهاب للقاضي القضاعي من العامة وبين كلماته عليه‌السلام المذكورة في النهج في كتاب مجمع البحرين ونحن قد أوردنا كل كلام له عليه‌السلام وله خبر في باب يناسبه في مطاوي هذا الكتاب أعني كتابنا بحار الانوار بقدر الامكان والان لنذكر شطرا صالحا من ذلك إن شاء الله تعالى.

١ ـ ف (١) : قال عليه‌السلام : من كنوز الجنة البر وإخفاء العمل والصبر على

____________________

(١) التحف ص ٢٠٠.

٣٦

الرزايا (١) وكتمان المصائب.

٢ ـ وقال عليه‌السلام : حسن الخلق خير قرين ، وعنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه.

٣ ـ وقال عليه‌السلام : الزاهد في الدنيا من لم يغلب الحرام صبره ، ولم يشغل الحلال شكره.

٤ ـ وكتب عليه‌السلام : إلى عبدالله بن عباس (٢) : أما بعد فإن المرء يسره درك مالم يكن ليفوته ، ويسوؤه فوت مالم يكن ليدركه ، فليكن سرورك بمانلته من آخرتك ، وليكن أسفك على مافاتك منها. ومانلته من الدنيا فلا تكثرن به فرحا ، ومافاتك منها فلا تأسفن عليه حزنا ، وليكن همك فيما بعد الموت.

٥ ـ وقال عليه‌السلام : في ذم الدنيا : أولها عناء وآخرها فناء (٣) ، في حلالها حساب وفي حرامها عقاب. من صح فيها أمن ، ومن مرض فيها ندم ، من استغنى فيها فتن ، ومن افتقر فيها حزن ، من ساعاها فاتته (٤) ومن قعد عنها أتته ، ومن نظر إليها أعمته ، ومن نظر بها بصرته (٥).

٦ ـ وقال عليه‌السلام : احبب حبيبك هوناما عسى أن يعصيك يوما ما (٦) وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما.

٧ ـ وقال عليه‌السلام : لاغنى مثل العقل ، ولا فقر أشد من الجهل.

٨ ـ وقال عليه‌السلام : قيمة كل امرء ما يحسن.

____________________

* (الحامش) * (١) الرزايا : جمع الرزية : المصيبة العظيمة.

(٢) منقول في النهج بادنى اختلاف.

(٣) العناء : النصب والتعب.

(٤) «ساعاها» أى غالبها في السعى ، وفى كنز الفوائد «فاتنه».

(٥) أى نظرها بعين الحقيقة نظر تأمل وتفكر. وفى كنز الفوائد «ومن نظر اليها ألهته ومن تهاون بها نصرته».

(٦) الهون : الرفق ، السهل ، السكينة والمراد احببه حبا مقتصدا لا افراط فيه. وأبغضه بغضا مقتصدا.

٣٧

٩ ـ وقال عليه‌السلام : قرنت الهيبة بالخيبة (١). والحياء بالحرمان. والحكمة ضالة المؤمن فليطلبها ولو في أيدي أهل الشر.

١٠ ـ وقال عليه‌السلام : لو أن حملة العلم حملوه بحقه لاحبهم الله وملائكته وأهل طاعته من خلقه ، ولكنهم حملوه لطلب الدنيا ، فمقتهم الله وهانوا على الناس.

١١ ـ وقال عليه‌السلام : أفضل العبادة الصبر ، والصمت ، وانتظار الفرج.

١٢ ـ وقال عليه‌السلام : إن للنكبات غايات لابد أن تنتهي إليها ، فإذا حكم على أحدكم بها فليطأ طألها ويصبر حتى تجوز (٢) فإن إعمال الحيلة فيها عند إقبالها زائد في مكروهها.

١٣ ـ وقال عليه‌السلام للاشتر : يا مالك احفظ عني هذا الكلام وعه. يا مالك بخس مروته من ضعف يقينه. وأزرى بنفسه من استشعر الطمع (٣) ورضي [ ب ] الذل من كشف [ عن ] ضره. وهانت عليه نفسه من اطلع على سره. وأهلكها من أمر عليه لسانه (٤). الشره جزار الخطر ، من أهوى إلى متفاوت خذلته الرغبة (٥) البخل عار ، والجبن منقصة ، والورع جنة ، والشكر ثروة ، والصبر شجاعة والمقل غريب في بلده (٦) ، والفقر يخرس الفطن عن حجته (٧) ، ونعم القرين

____________________

(١) الهيبة. المخافة. والخيبة : عدم الظفر بالمطلوب. وقد مر آنفا.

(٢) طأطأ : خفض وخضع.

(٣) أى احتقرها. يقال : أزرى به أى عابه ووضع من حقه.

(٤) أمر لسانه أى جعله أميرا على نفسه.

(٥) ـ الشره : اشد الحرص وطلب المال مع القناعة. والجزار : الذباح. والمتفاوت :

المتباعد وفى كنز الفوائد «إلى متفاوت الامور» وفى النهج «من أومأ إلى متفاوت خذلته الحيل» أى من طلب تحصيل المتباعدات وضم بعضها إلى بعض لم ينجح فيها فخذلته الحيل والرغبة فيما يريد.

(٦) المقل : الفقير. وفى النهج «في بلدته».

(٧) الفطن. ـ بفتح فكسر ـ : الفاطن أى صاحب الفطنة والحذاقة.

٣٨

الرضى ، الادب حلل جدد (١) ، ومرتبة الرجل عقله ، وصدره خزانة سره والتثبت حزم ، والفكر مرآه صافية ، والحلم سجية فاضلة ، والصدقة دواء منجح (٢) ، وأعمال القوم في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم ، والاعتبار تدبر صلح (٣) ، والبشاشة فخ المودة.

١٤ ـ وقال عليه‌السلام : الصبر من الايمان كمنزلة الرأس من الجسد ، فمن لا صبر له لا إيمان له.

١٥ ـ وقال عليه‌السلام : أنتم في مهل ، من ورائه أجل ، ومعكم أمل يعترض دون العمل ، فاغتنموا المهل ، وبادروا الاجل ، وكذبوا الامل ، وتزودوا من العمل ، هل من خلاص؟ أو مناص؟ أو فرار؟ أو مجاز؟ أو معاذ؟ أو ملاذ؟ أولا؟ فأنى تؤفكون.

١٦ ـ وقال عليه‌السلام : اوصيكم بتقوى الله فإنها غبطة للطالب الراجي ، وثقة للهارب اللاجي ، استشعروا التقوى شعارا باطنا ، واذكروا الله ذكرا خالصا تحيوا به أفضل الحياة ، وتسلكوا به طرق النجاة ، وانظروا إلى الدنيا نظر الزاهد المفارق ، فإنها تزيل الثاوي الساكن (٤). وتفجع المترف الامن ، لا يرجى منها ماولى فأدبر ، ولا يدرى ما هو آت منها فيستنظر وصل الرخاء منها بالبلاء ، والبقاء منها إلى الفناء ، سرورها مشوب بالحزن ، والبقاء منها إلى الضعف والوهن.

١٧ ـ وقال عليه‌السلام : إن الخيلاء من التجبر ، والتجبر من النخوة ، والنخوة من التكبر ، وإن الشيطان عدو حاضر يعدكم الباطل ، إن المسلم أخ المسلم

____________________

(١) الحلل : جمع الحلة ـ بالضم ـ : كل ثوب جديد. والجدد : جمع جديد.

(٢) انجحت حاجته : قضيت ، والرجل : فاز وظفر بها.

(٣) كذا والصحيح «والاعتبار منذر صالح» كما في النهج. والفخ. المصيدة أى آلة يصادبها. وفى النهج «والبشاشة حبالة المودة» والحبالة ـ بالضم ـ شبكة الصيد.

(٤) الثاوى : القائم. يعنى أن الدنيا تزيل من اقام بها واتخذها وطنا.

٣٩

فلا تخاذلوا ولا تنابزوا فإن شرايع الدين واحدة ، وسبله قاصدة ، فمن أخذ بها لحق ، ومن فارقها محق ، ومن تركها مرق (١). ليس المسلم بالكذوب إذا نطق ولا بالمخلف إذا وعد ، ولا بالخائن إذا ائتمن.

١٨ ـ وقال عليه‌السلام : العقل خليل المؤمن ، والحلم وزيره ، والرفق والده ، واللين أخوه. ولا بد للعاقل من ثلاث : أن ينظر في شأنه ، ويحفظ لسانه ، ويعرف زمانه ، ألا وإن من البلاء الفاقة ، وأشد من الفافة مرض البدن وأشد من مرض البدن مرض القلب ، ألا وإن من النعم سعة المال ، وأفضل من سعة المال صحة البدن ، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب.

١٩ ـ وقال عليه‌السلام : إن للمؤمن ثلاث ساعات : فساعة يناجي فيها ربه ، و ساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل. و ليس للعاقل أن يكون شاخصا إلا في ثلاث : مرمة لمعاشه (٢) وخطوة لمعاده أو لذة في غير محرم.

٢٠ ـ وقال عليه‌السلام : كم مستدرج بالاحسان إليه (٣) وكم من مغرور بالستر عليه ، وكم من مفتون بحسن القول فيه ، وما ابتلى الله عبدا بمثل الاملاء له (٤).

قال الله عزوجل : «إنما نملي لهم ليزدادوا إثما» (٥).

٢١ ـ وقال عليه‌السلام : ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس والاستغناء عنهم يكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن بشرك (٦) ويكون استغناؤك عنهم في

____________________

(١) محق : هلك. ومرق : خرج من الدين بضلالة أو بدعة.

(٢) رممت الشئ ـ بالتئقيل ـ : اصلحته. والمرمة : الاصلاح.

(٣) استدرجه الله من حيث لا يعلم بالانعام والاحسان اليه ، وهو يعصى الله ولا يعلم أن ذلك بلاغا للحجة عليه واقامة للمعذرة في أخذه.

(٤) الاملاء : الامهال.

(٥) سورة آل عمران : ١٧٨.

(٦) البشر ـ بالكسر ـ : بشاشة الوجه. والنزاهة : العفة والبعد عن المكروه.

٤٠