بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

بسم الله الرحمن الرحيم

٤٩ ـ كتاب الغارات : (١) لابراهيم بن محمد الثقفي ، عن أبي زكريا الجريري عن بعض أصحابه قال : خطبة لاميرالمؤمنين عليه‌السلام الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعملنا. من يهدي الله فلامضل له ، ومن يضلل الله فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده و رسوله انتجبه بالولاية ، واختصه بالاكرام ، وبعثه بالرسالة ، أحب خلقه إليه.

وأكرمهم عليه ، فبلغ رسالات ربه ، ونصح لامته ، وقضى الذي عليه.

وصيكم بتقوى الله ، فان تقوى الله خير ما تواصت به العباد ، وأقربه من رضون الله ، وخيره في عواقب الامور. فبتقوى الله امرتم ، ولها خلقتم ، فاخشوا الله خشية ليست بسمعة ولا تعذير (٢) فانه لم يخلقكم عبثا ، وليس بتارككم سدى (٣) قد أحصى أعمالكم ، وسمى آجالكم ، وكتب آثاركم ، فلا تعرنكم الدنيا فإنها غرارة ،. مغرور من اغتر بها ، وإلى فناء ما هي.

نسأل الله ربنا وربكم أن يرزقنا وإياكم خشية السعداء ، ومنازل الشهداء ومرافقة الانبياء ، فإنما نحن به وله.

____________________

(١) مخطوط.

(٢) عذر في الامر تعذيرا : قصر فيه بعد جهد.

(٣) أي لا يترككم مهملا باطلا.

١

٥٠ ـ وبهذا الاسناد خطبة له عليه‌السلام : الحمد لله نحمدة تسبيحا ، ونمجده تمجيدا نكبر عظمته لعز جلاله ، ونهلله تهليلا ، موحدا مخلصا ، ونشكره في مصانعة الحسنى ، أهل الحمد والثناء الاعلى ، ونستغفره للحت من الخطايا ، ونستعفيه من متح ذنوب البلايا (١) ونؤمن بالله يقينا في أمره ، ونستهدي بالهدى العاصم المنقذ العازم بعزمات خير قدر ( ؟ ) موجب فضل عدل قضاء نافذ بفوز سابق بسعادة في كتاب كريم مكنون ، ونعوذ بالله من مضيق مضائق السبل على أهلها بعد اتساع مناهج الحق لطمس آيات منير الهدى بلبس ثياب مضلات الفتن ، ونشهد غير ارتياب ، حال دون يقين مخلص بأن الله واحد موحد ، وفي وعده ، وثيق عقده ، صادق قوله ، لا شريك له في الامر ، ولا ولي له من الذل ، نكبره تكبيرا ، لا إله إلا الله هو العزيز الحكيم.

ونشهد أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله عبده بعيث الله لوحيه ، ونبيه بعينه ، ورسوله بنوره ، مجيبا مذكرا مؤديا ، مبقيا مصابيح شهب ضياء مبصر. وماحيا ماحقا مزهقا رسوم أباطيل خوض الخائضين ، بدار اشتباك ظلمة كفر دامس ، فجلا غواشي أظلام لجي راكد (٢) بتفصيل آياته من بعد توصيل قوله وفصل فيه القول للذاكرين بمحكمات منه بينات ، ومشتبهات يتبعها الزايغ قلبه ابتغاء التأويل تعرضا للفتن. والفتن محيطة بأهلها. والحق نهج مستنير ، من يطع الرسول يطع الله ومن يطع الله يستحق الشكر من الله بحسن الجزاء ، ومن يعص الله ورسوله يعاين عسر الحساب لدى اللقاء ، قضاء بالعدل عند القصاص بالحق يوم إفضاء الخلق إلى الخالق.

أما بعد فمنصت سامع لواعظ نفعه إنصاته وصامت ذولب شغل قلبه بالفكر في أمرالله حتى أبصر فعرف فضل طاعته على معصيته ، وشرف نهج ثوابه على احتلال من عقابه ، ومخبر النائل رضاه عند المستوجبين غضبه عند تزايل الحساب. وشتى بين الخصلتين وبعيد تقارب ما بينهما ، اوصيكم بتقوى الله بارئ الازواح وفالق الاصباح.

____________________

(١) الحت بتشديد التاء السقوط ، والمتح استقاء الماء بالدلو ، والذنوب بفتح الذال المعجمة : الدلو.

(٢) اللج : معظم الماء.

٢

٥١ ـ من كتاب مطالب السؤول (١) لمحمد بن طلحة من كلام أميرالمؤمنين عليه‌السلام : ذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم إن من صرحت (٢) له العبر عما بين يديه من المثلات حجزه التقوى عن تقحم الشبهات ، ألا وإن الخطايا خيل شمس (٣) حمل عليها أهلها وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار ، ألا وإن التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها واعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة. حق وباطل ولكل أهل ، فلئن أمر الباطل (٤) لقديما فعل ، ولئن قل الحق فلربما ولعل ولقلما أدبر شئ فأقبل.

لقد شغل من الجنة والنار أمامه. ساع سريع نجا ، وطالب بطئ رجا ، ومقصر في النار هوى ، اليمين والشمال مضلة (٥) والطريق الوسطى هي الجادة ، عليها باقي الكتاب (٦) وآثار النبوة ، ومنها منفذ السنة ، وإليها مصير العاقبة ، هلك من ادعى ، وخاب من افترى ، وخسر من باع الاخرة بالاولى ، ولكل نبأمستقر وكل ما هو آت قريب.

٥٢ ـ ومنه : (٧) لقد جاهرتكم العبر ، وزجرتم بمافيه مزدجر ، وما يبلغ عن الله بعد رسل الله إلا البشر ، ألا وإن الغاية أمامكم ، وإن وراءكم الساعة ، تحدوكم تخففوا تلحقوا ، فانما ينتظر بأولكم آخركم (٨).

____________________

(١) المصدر ص ٢٨.

(٢) الزعيم : الضامن. والتصريح : كشف الامر وانكشافه.

(٣) الشموس : معرب جموش.

(٤) أمر يأمر ـ من باب تعب ـ : كثر.

(٥) أى طرفى الافراط والتفريط.

(٦) هو مايبقى من أثر مشيه وموضع قدمه كانه مشى على الطريق الوسطى. وقيل باقى الكتاب هو مالم ينسخ منه لكن الاول هو الصواب.

(٧) مطالب السؤول ص ٣٣.

(٨) تحدوكم أى تسوقكم. وقوله «تخففوا تلحقوا» أى تخففوا بالقناعة وترك الحرص أو كناية عن عدم الركون الي الدنيا واتخاذها دارممر لادار مقر. والانتظار بالاول كناية

٣

٥٣ ـ وقال عليه‌السلام يوما وقد أحدق الناس به : احذركم الدنيا فانها منزل قلعة وليست بدار نجعة (١) هانت على ربها فخلط خيرها بشرها ، وحلوها بمرها ، لم يضعها لاوليائه ، ولا يضنن بها علي أعدائه ، وهي دارممر لا دار مستقر ، والناس فيها رجلان رجل باع نفسه فأوبقها (٢) ورجل ابتاع نفسه فأعتقها ، إن اعذوذب منها جانب فحلا ، أمر منها جانب فأوبى (٣) أولها عناء ، وآخرها فناء ، من استغنى فيها فتن ومن اقتفر فيها حزن ، من ساعاها فاتته ، ومن قعد عنها أتته ، ومن أبصر فيها بصرته ومن أبصر إليها أعمته ، فالانسان فيها غرض المنايا ، مع كل جرعة شرق ، ومع كل اكلة غصص ، لا تنال منها نعمة إلا بفراق اخرى.

٥٤ ـ وقال يوما في مسجد الكوفة وعنده وجوه الناس : أيها الناس إنا قد أصبحنا في دهر عنود ، وزمن شديد ، يعد فيه المحسن مسيئا ، ويزداد الظالم فيه عتوا ، لا للتفع بما علمنا ، ولا نسأل عما جهلنا ، ولا نتخوف قارعة حتى تحل بنا ، والناس على أربعة أصناف منهم من لا يمنعه الفساد في الارض إلا مهانة نفسه وكلالة حده ونضيض وفره.

ومنهم المصلت بسيفه ، المعلن بشره (٤) والمجلب بخيله ورجله ، قد أهلك نفسه ، وأوبق دينه لحطام ينتهزه أو مقنب يقوده ، أو منبر يفرعه (٥) ولبئس المتجر أن ترى ـ

____________________

عن كونهم كمن سبق من الرفقة إلى بلدة لا يؤذن لهم في دخولها الا بالاجتماع ولحوق الاخرين أى لابد لكم من ترك هذه الدار ونزول دار القرار والاجتماع.

(١) القلعة ـ بضم القاف ـ المال العارية أو مالا يدوم. والنجعة ـ بالضم ـ طلب الكلاء وقوله «هانت» من المهانة.

(٢) أوبقها أى أهلكها وأذلها.

(٣) أى يبتلى بالوباء.

(٤) القارعة : الداهية. ونض الماء نضيضا : سال قليلا قليلا ، واصلات السيف هو اعلان الشر والفساد.

(٥) الانتهاز : الانتظار. والمقنب : جماعة من الخيل تجتمع للغارة جمع مقانب. وفرع الجبل : صعده.

٤

الدنيا لنفسك ثمنا ، ومما لك عندالله عوضا.

ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الاخرة ولا يطلب الاخرة بعمل الدنيا ، قد طأمن من شخصه ، وقارب من خطوه ، وشمر من ثوبه (١) وزخرف من نفسه الامانة واتخذ سر الله تعالى ذريعة إلى المعصية.

ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه (٢) وانقطاع سببه ، فقصرته الحال على حاله ، فتحلى باسم القناعة ، وتزين بلباس أهل الزهادة ، وليس من ذلك في مراح ، ولا مغدى (٣)

وبقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع ، وأراق دموعهم خوف المحشر ، فهم بين شريد ناء ، وخائف مقموع ، وساكت مكعوم (٤) وداع مخلص ، وثكلان موجع قد أخملتهم التقية ، وشملتهم الذلة فهم في بحر اجاج ، أفواههم خامرة (٥) وقلوبهم قرحة ، قد وعظوا حتى ملوا ، وقهروا حتى ذلوا ، وقتلوا حتى قلوا ، فلتكن الدنيا عندكم أصغر من حثالة القرظ ، وقراضة الجلم (٦).

واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتعظ بكم من بعدكم ، وارفضوها ذميمة فانها رفضت من كان أشغف بها منكم ، فياما أغر خداعها مرضعة ، وياما أضر نكالها فاطمة.

٥٥ ـ وقد نقل عنه عليه‌السلام أنه قال وقد اجتمع حوله خلق كثير : اتقوا الله فما

____________________

(١) طأمن مقلوب طمأن أى سكن ، وطأمن منه أى سكنه ، وشمر ثوبه أى رفعه عن ساقيه للتنزه والحتراز من النجاسة والقذارة.

(٢) الضؤولة ـ بالضم ـ : الحقارة. ورجل ضئيل أى ضعيف نحيف.

(٣) المراح موضع يروح القوم منه أواليه. والمغدى اسم مكان من الغدو.

(٤) المقموع : المقهور. والمكعوم : الملحم.

(٥) خمر ـ كضرب ونصر ـ : سكت ولم يتكلم.

(٦) الحثالة ـ بالضم ـ ما يسقط من قشر الشعير والارز. والقرظ ـ بالتحريك ـ ورق السلم يدبغ به الاديم. وقراضة الجلم يعنى ريزه دم قيجى.

٥

خلق امرء عبثا فيلهو ، ولا ترك سدى فيلغو ، وما دنياه التي تحسنت له بخلف من الاخرة التي قبحها سوء ظنه عنده ، وما المغرور بزخرفها الذي بناج من عذاب ربه عند مرده إليه.

٥٦ ـ وقال عليه‌السلام : عليكم بالعلم فانه صلة بين الاخوان ، ودال على المروة وتحفة في المجالس ، وصاحب في السفر ، ومونس في الغربة ، وإن الله تعالى يحب المؤمن العالم الفقيه ، الزاهد الخاشع ، الحيي العليم ، الحسن الخلق ، المقتصد المنصف.

٥٧ ـ وقال عليه‌السلام : من تواضع للمتعلمين وذل للعلماء ساد بعلمه ، فالعلم يرفع الوضيع ، وتركه يضع الرفيع ، ورأس العلم التواضع ، وبصره البراءة من الحسد وسمعه الفهم ، ولسانه الصدق ، وقلبه حسن النية ، وعقله معرفة أسباب الامور ، و من ثمراته التقوى ، واجتناب الهوى ، واتباع الهدى ، ومجانبة الذنوب ، ومودة الاخوان والاستماع من العلماء ، والقبول منهم ، ومن ثمراته ترك الانتقام عند القدرة واستقباح مقارفة الباطل ، واستحسان متابعة الحق. وقول الصدق ، والتجافي عن سرور في غفلة ، وعن فعل ما يعقب ندامة ، والعلم يزيد العاقل عقلا ، ويورث متعلمه صفات حمد ، فيجعل الحليم أميرا ، وذا المشورة وزيرا ، ويقمع الحرص ، ويخلع المكر ، ويميت البخل ، ويجعل مطلق الوحش مأسورا (١) وبعيد السداد قريبا.

٥٨ ـ وقال عليه‌السلام (٢) العقل عقلان عقل الطبع وعقل التجربة وكلاهما يؤدي إلى المنفعة ، والموثوق به صاحب العقل والدين ، ومن فاته العقل والمروة فرأس ماله المعصية ، وصديق كل امرء عقله ، وعدوه جهله ، وليس العاقل من يعرف الخير من الشر ، ولكن العاقل من يعرف خير الشرين ، ومجالسة العقلاء تزيد في الشرف ، والعقل الكامل قاهر الطبع السوء ، وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساويها في الدين والرأي والاخلاق والادب فيجمع ذلك في صدره أو في كتاب

____________________

(١) المأسور : الاسير.

(٢) مطالب السؤول ص ٤٩.

٦

ويعمل في إزالتها.

٥٩ ـ وقال عليه‌السلام : الانسان (١) عقل وصورة فمن أخطأه العقل ولزمته الصورة لم يكن كاملا ، وكان بمنزلة من لا روح فيه ، ومن طلب العقل المتعارف فليعرف صورة الاصول والفضول ، فإن كثيرا من الناس يطلبون الفضول ويضعون الاصول ، فمن أحرز الاصل اكتفى به عن الفضل ، وأصل الامور في الانفاق طلب الحلال لما ينفق والرفق في الطلب ، وأصل الامور في الدين أن يعتمد على الصلوات ويجتنب الكبائر وألزم ذلك لزوم مالا غنى عنه طرفة عين ، وإن حرمته هلك ، فان جاوزته إلى الفقه والعبادة فهو الحظ ، وإن أصل العقل العفاف وثمرته البراءة من الاثام ، وأصل العفاف القناعة وثمرتها قلة الاحزان. وأصل النجدة القوة وثمرتها الظفر ، وأصل العقل (٢) القدرة وثمرتها السرور ، ولا يستعان على الدهر إلا بالعقل ، ولا على الادب إلا بالبحث ، ولا على الحسب إلا بالوفاء ، ولا على الوقار إلا بالمهابة ، ولا على السرور إلا باللين ، ولا على اللب إلا بالسخاء ، ولا على البذل إلا بالتماس المكافأة ، ولا على التواضع إلا بسلامة الصدر ، وكل نجدة يحتاج إلى العقل ، وكل معونة تحتاج إلى التجارب ، وكل رفعة يحتاج إلى حسن احدوثة ، وكل سرور يحتاج إلى أمن ، وكل قرابة يحتاج إلى مودة ، وكل علم يحتاج إلى قدرة ، وكل مقدرة تحتاج إلى بذل ، ولا تعرض لما لا يعنيك بترك ما يعنيك. فرب متكلم في غير موضعه قد أعطبه ذلك.

٦٠ ـ وقال عليه‌السلام : لا تسترشد إلى الحزم بغير دليل العقل فتخطئ منهاج الرأي فان أفضل العقل معرفة الحق بنفسه ، وأفضل العلم وقوف الرجل عند علمه ، و أفضل المروة استبقاء الرجل ماء وجهه ، وأفضل المال ما وقي به العرض ، وقضيت به الحقوق.

٦١ ـ وعن عبدالله بن عباس قال : ما انتفعت بكلام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كانتفاعي

____________________

(١) المصدر ص ٤٩. (٢) كذا وفي بعض النسخ «أصل الفعل».

٧

بكتاب كتبه إلي علي بن أبي طالب عليه‌السلام فإنه كتب إلي :

أما بعد (١) فان المرء قد يسره درك مالم يكن ليفوته ، ويسوؤه فوت مالم يكن ليدركه ، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك ، وليكن أسفك على ما فاتك منها ، وما نلت من دنياك فلا تكثرن به فرحا ، وما فاتك منه فلا تأس عليه جزعا ، وليكن همك فيما بعد الموت. والسلام.

٦٢ ـ وقال عليه‌السلام لجماعة : خذوا عني هذه الكلمات فلور كبتم المطي حتى تنضوها ما صبتم مثلها (٢) : لا يرجون عبد إلا ربه ، ولا يخافن إلا ذنبه ، ولا يستحي إذا لم يعلم أن يتعلم ، ولا يستحي إذا سئل عما لا يعلم أن يقول : لا أعلم ، واعلموا أن الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ولا خير في جسد لا رأس له ، فاصبروا على ما كلفتموه رجاء ما وعدتموه.

٦٣ ـ وقال عليه‌السلام : الشئ شيئان شئ قصر عني لم ارزقه فيما مضى ولا أرجوه فيما بقي ، وشئ لا أناله دون وقته ولو استعنت عليه بقوة أهل السماوات والارض ، فما أعجب أمر هذا الانسان يسره درك ما لم يكن ليدركه ، ولو أنه فكر لابصر ولعلم أنه مدبر ، واقتصر على ما تيسر ، ولم يتعرض لما تعسر ، واستراح قلبه مما استوعر ، فبأي هذين أفنى عمري ، فكونوا أقل ما يكونون في الباطن أموالا ، أحسن ما يكونون في الظاهر أحوالا ، فان الله تعالى أدب عباده المؤمنين العارفين أدبا حسنا فقال : جل من قائل : «يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسئلون الناس إلحافا» (٣).

٦٤ ـ وقال عليه‌السلام : لا يكون غنيا حتى يكون عفيفا ، ولا يكون زاهدا حتى يكون متواضعا ، ولا يكون حليما حتى يكون وقورا ، ولا يسلم لك قلبك حتى تحب للمؤمنين ما تحب لنفسك ، وكفى بالمرء جهلا أن يرتكب ما نهي عنه ، وكفى به عقلا

____________________

(١) المصدر ص ٥٥. وفى النهج مثله.

(٢) أنضى البعير : هزله.

(٣) البقرة : ٢٧٣.

٨

أن يسلم عن شره ، فأعرض عن الجهل وأهله ، واكفف عن الناس ما تحب أن يكف عنك ، وأكرم من صافاك وأحسن مجاورة من جاورك ، وألن جانبك واكفف عن الاذى ، واصفح عن سواء الاخلاق ، ولتكن يدك العليا إن استطعت ، ووطن نفسك على الصبر على ما أصابك ، وألهم نفسك القنوع ، واتهم الرجاء ، وأكثر الدعاء تسلم من سورة الشيطان ولا تناقس على الدنيا ، ولا تتبع الهوى ، وتوسط في الهمة تسلم ممن يتبع عثراتك ، ولاتك صادقا حتى تكتم بعض ما تعلم ، احلم عن السفيه يكثر أنصارك عليه ، عليك بالشيم العالية تقهر من يعاديك ، قل الحق ، وقرب المتقين ، واهجر الفاسقين ، وجانب المنافقين ، ولا تصاحب الخائنين.

٦٥ ـ وقال عليه‌السلام : قل عند كل شدة «لا حول ولا قوة إلا بالله» تكف بها وقل عند كل نعمة «الحمد لله» تزدد منها ، وقل إذا أبطأت عليك الارزاق «أستغفر الله» يوسع عليك. عليك بالمحجة الواضحة التي لا تخرجك إلى عوج ، و لا تردك عن منهج. الناس ثلاث : عالم رباني ، ومتعلم على سبيل النجاة ، وهمج رعاع. مفتاح. الجنة الصبر ، مفتاح الشرف التواضع ، مفتاح الغنى اليقين ، مفتاح الكرم التقوى. من أراد أن يكون شريفا فيلزم التواضع ، عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله ، الطمأنينة قبل الحزم ضد الحزم ، المغتبط من حسن يقينه.

٦٦ ـ وقال عليه‌السلام : اللهو يسخط الرحمن ويرضي الشيطان وينسى القرآن ، عليكم بالصدق فان الله مع الصادقين ، المغبون من غبن دينه. جانبوا الكذب فانه مجانب الايمان ، والصادق على سبيل نجاة وكرامة ، والكاذب على شفا هلك وهون.

قولوا الحق تعرفوا به ، واعملوا الحق تكونوا من أهله ، وأدوا الامانة إلى من ائتمنكم ، ولا تخونوا من خانكم ، وصلوا أرحام من قطعكم ، وعودوا بالفضل على من حرمكم ، أوفوا إذا عاهدتم ، واعدلوا إذا حكمتم ، لا تفاخروا بالاباء ، و لا تنابزوا بالالقاب ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تقاطعوا ، وافشوا السلام ، و ردوا التحية بأحسن منها ، وارحموا الارملة واليتيم ، وأعينوا الضعيف والمظلوم وأطيبوا المكسب ، وأجملوا في الطلب.

٩

٦٧ ـ وقال عليه‌السلام : لا راحة لحسود ، ولا مودة لملول ، ولا مروة لكذوب ، ولا شرف لبخيل ، ولا همة لمهين ، ولا سلامة لمن أكثر مخالطة الناس ، الوحدة راحة والعزلة عبادة ، والقناعة غنية ، والاقتصاد بلغة (١) وعدل السلطان خير من خصب الزمان ، والعزيز بغير الله ذليل ، والغني الشره فقير (٢) لا يعرف الناس إلا بالاختبار ، فاختبر أهلك وولدك في غيبتك ، وصديقك في مصيبتك ، وذا القرابة عند فاقتك ، وذا التودد والملق عند عطلتك (٣) لتعلم بذلك منزلتك عندهم ، واحذر ممن إذا حدثته ملك ، وإذا حدثك غمك ، وإن سررته أو ضررته سلك فيه معك سبيلك ، وإن فارقك ساءك مغيبه بذكر سوأتك ، وإن مانعته بهتك وافترى ، وإن وافقته حسدك واعتدى ، وإن خالفته مقتك ومارى (٤) يعجز عن مكافأة من أحسن إليه ، ويفرط على من بغى عليه ، يصبح صاحبه في أجر ، ويصبح هو في وزر ، لسانه عليه لاله ، ولا يضبط قلبه قوله ، يتعلم للمراء ، ويتفقه للرياء ، يبادر الدنيا ، ويواكل التقوى ، فهو بعيد من الايمان ، قريب من النفاق ، مجانب للرشد ، موافق للغي فهو باغ غاو ، لا يذكر المهتدين.

٦٨ ـ وقال عليه‌السلام : (٥) لا تحدث من غير ثقة فتكون كذابا ، ولا تصاحب همازا فتعد مرتابا ، ولا تخالط ذافجور فترى متهما ، ولا تجادل عن الخائنين فتصبح ملوما وقارن أهل الخير تكن منهم ، وباين أهل الشرتبن عنهم ، واعلم أن من الحزم العزم واحذر اللجاج تنج من كبوته (٦) ولا تخن من ائتمنك وإن خانك في أمانته ، ولا

____________________

(١) الغنية ـ بالضم ـ اليسار والكفاية. والبلغة ـ بالضم أيضا ـ : ما يكفى من العيش ولا يفضل.

(٢) الشره : الحريص.

(٣) العطلة ـ بالضم ـ : البقاء بلا عمل. والمراد الفقر.

(٤) المماراة : المنازعة والمجادلة

(٥) مطالب السؤول ص ٥٦.

(٦) الكبوة السقوط على الوجه.

١٠

تذع سر من أذاع سرك ، ولا تخاطر بشئ رجاء ما هو أكثر منه ، وخذ الفضل ، و أحسن البذل ، وقل للناس حسنا ، ولا تتخذ عدو صديقك صديقا فتعادى صديقك ، وساعد أخاك وإن جفاك ، وإن قطعته فاستبق له بقية من نفسك ، ولا تضيعن حق أخيك فتعدم إخوته ، ولا يكن أشقى الناس بك أهلك ، ولا ترغبن فيمن زهد فيك وليس جزاء من سرك أن تسوءه ، واعلم أن عاقبة الكذب الذم ، وعاقبة الصدق النجاة.

٦٩ ـ ونقل عنه عليه‌السلام : أنه رأى جابر بن عبدالله ـ رضي‌الله‌عنه ـ وقد تنفس الصعداء (١) فقال عليه‌السلام : يا جبار على م تنفسك أعلى الدنيا؟ فقال جابر : نعم فقال له : يا جابر ملاد الدنيا سبعة : المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح و المركوب والمشموم والمسموع ، فألذ المأكولات العسل وهو بصق من ذبابة ، وأحلى المشروبات الماء ، وكفى بإباحته وسباحته على وجه الارض ، وأعلى الملبوسات الديباج وهو من لعاب دودة ، وأعلى المنكوحات النساء وهو مبال في مبال ، ومثال لمثال ، وإنما يراد أحسن ما في المرأة لاقبح ما فيها ، وأعلى المركوبات الخيل وهو قواتل ، وأجل المشمومات المسك وهو دم من سرة دابة ، وأجل المسموعات الغناء والترنم وهو إثم ، فما هذه صفته لم يتنفس عليه عاقل.

قال جابر بن عبدالله : فوالله ما خطرت الدنيا بعدها على قلبي.

٧٠ ـ وقال عليه‌السلام : في الامثال : بالصبر يناضل (٢) الحدثان ، الجزع من أنواع الحرمان ، العدل مألوف والهوى عسوف (٣) والهجران عقوبة العشق ، البخل جلباب المسكنة ، لا تأمنن ملولا ، إزالة الرواسي أسهل من تأليف القلوب المتنافرة ، من اتبع الهوى ضل ، الشجاعة صبر ساعة ، خير الامور أوسطها ، القلب بالتعلل رهين ، من ومقك

____________________

(١) الصعداء ـ بضم الصاد وفتح العين المهملتين ـ التنفس الطويل من هم أوتعب.

(٢) ناضله مناضلة : باراه في رمى السهام وناضل عنه : حامى وجادل ودافع عنه.

وحدثان الدهر ـ بكسر الحاء وفتحها ـ نوائبه ومصائبه.

(٣) العسوف ـ بفتح العين ـ الشديد العسف أى الجور. والظلم.

١١

أعتبك (١) القلة ذلة ، المجاعة مسكنة ، خير أهلك من كفاك ، ترك الخطيئة أهون من طلب التوبة ، من ولع بالحسد ولم به الشؤم ، كم تلف من صلف ، كم قرف من سرف (٢) عدو عاقل خير من صديق أحمق ، التوفيق من السعادة ، والخذلان من الشقاوة ، من بحث عن عيوب الناس فبنفسه بدأ ، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، من سلم من ألسنة الناس كان سعيدا ، من صحب الملوك تشاغل بالدنيا ، الفقر طرف من الكفر ، من وقع في ألسنة الناس هلك ، من تحفظ من سقط الكلام أفلح ، كل معروف صدقة ، كم من غريب خير من قريب ، لو القيت الحكمة على الجبال لقلقلتها (٣) ، كم من غريق هلك في بحر الجهالة ، وكم عالم قد أهلكته الدنيا ، خير إخوانك من واساك ، وخير منه من كفاك ، خير مالك ما أعانك على حاجتك ، خير من صبرت عليه من لابد لك منه ، أحق من أطعت مرشد لايعصيك ، من أحب الدنيا جمع لغيره ، المعروف فرض ، والايام دول ، عند تناهي البلاء يكون الفرج ، من كان في النعمة جهل قدر البلية ، من قل سروره كان في الموت راحته ، قد ينمي القليل فيكثر ، ويضمحل الكثير فيذهب. رب اكلة يمنع الاكلات ، أفلج الناس حجة من شهد له خصمه بالفلج (٤) السؤال مذلة ، والعطاء محبة ، من حفر لاخيه بئرا كان ، بترديه فيها جديرا.

أملك عليك لسانك ، حسن التدبير مع الكفاف أكفى من الكثير مع الاسراف.

الفاحشة كاسمها ، مع كل جرعة شرقة ، مع كل أكلة غصة ، بحسب السرور يكون التنغيص ، الهوى يهوي بصاحب الهوى ، عدو العقل الهوى ، الليل أخفى للويل صحبة الاشرار تورث سوء الظن بالاخيار ، من أكثر من شئ عرف به ، رب كثير هاجه صغير ، رب ملوم لاذنب له ، الحر حر ولو مسه الضر ، ما ضل من

____________________

(١) ومقه : أحبه.

(٢) الصلف : التملق. والقرف : النكس من مرض.

(٣) القلقلة : التحريك.

(٤) الفلج : الظفر.

١٢

استرشد ، ولا حار من استشار ، الحازم لا يستبد برأيه ، آمن من نفسك عندك من وثقت به على سرك ، المودة بين الاباء قرابة بين الابناء.

٧١ ـ وقال عليه‌السلام : من رضي عن نفسه كثر الساخط عليه ، ومن بالغ في الخصومة أثم ، ومن قصر فيها ظلم ، من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته ، إنه ليس لانفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها ، من عظم صغار المصائب ابتلاه الله بكبارها ، الولايات مضامير الرجال ، ليس بلد أحق منك من بلد ، وخير البلاد من حملك ، إذا كان في الرجل خلة رائعة فانتظر أخواتها ، الغيبة جهد العاجز ، رب مفتون بحسن القول فيه ، ما لابن آدم والفخر أوله نطفة ، وآخره جيفة ، لا يرزق نفسه ، و لا يمنع حتفه ، الدنيا تغر وتضر وتمر إن الله تعالى لم يرضها ثوابا بأوليائه ولا عقابا لاعدائه ، وإن أهل الدنيا كركب بيناهم حلوا إذ صاح سائقهم فارتحلوا ، من صارع الحق صرعه ، القلب مصحف البصر (١) التقى رئيس الاخلاق ، ما أحسن تواضع الاغنياء للفقراء طلبا لما عند الله. وأحسن منه تيه الفقراء على الاغنياء إتكالا على الله.

كل مقتصر عليه كاف (٢) الدهر يومان يوم لك ويوم عليك ، فان كان لك فلا تبطر ، وإن كان عليك فلا تضجر ، من طلب شيئا ناله أو بعضه ، الركون إلى الدنيا مع ما يعاين منها جهل ، والتقصير في حسن العمل مع الوثوق بالثواب عليه غبن والطمأنينة إلى كل أحد قبل الاختبار عجز ، والبخل جامع لسماوي الاخلاق ، نعم الله على العبد مجلبة لحوائج الناس إليه ، فمن قام لله فيها بما يجب عرضها للدوام والبقاء ، ومن لم يقم فيها بما يجب عرضها للزوال والفناء ، الرغبة مفتاح النصب ، والحسد مطية التعب. من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه من نظر في عيوب الناس فأنكرها ثم حببها (٣) لنفسه فذلك الاحمق بعينه ، العفاف

____________________

(١) استعار لفظ المصحف للقلب باعتبار انتقاشه بصور ما ينبغى التكلم به في طوح الخيال وادراك الحس المشترك له من باطن فهو كالمصحف يقرأ منه.

(٢) أى كل ما يمكن الاقتصار عليه فهو كاف.

(٣) في بعض النسخ «ثم رضيها».

١٣

زينة الفقر ، والشكر زينة الغنى ، رسولك ترجمان عقلك ، وكتابك أبلغ ما ينطق عنك. الناس أبناء الدنيا ولا يلام الرجل على حب أمه ، الطمع ضامن غيروفي ، و الاماني تعمى أعين البصائر ، لا تجارة كالعمل الصالح ، ولا ربح كالثواب ، ولا قائد كالتوفيق ، ولا حسب كالتواضع ، ولا شرف كالعلم ، ولا ورع كالوقوف عند الشبهة ، ولا قرين كحسن الخلق ، ولا عبادة كأداء الفرائض ، ولا عقل كالتدبير ، ولا وحدة أوحش من العجب ، ومن أطال الامل أساء العمل.

٧٢ ـ وسمع عليه‌السلام (١) رجلا من الحرورية يقرأ ويتهجد فقال : نوم على يقين خير من صلاة في شك ، إذا تم العقل نقص الكلام ، قدر الرجل قدر همته قيمة كل امرء ما يحسنه ، المال مادة الشهوات ، الناس أعداء ما جهلوه ، أنفاس المرء خطاه إلى أجله.

٧٣ ـ وقال عليه‌السلام : احذركم الدنيا فإنها خضرة حلوة ، حفت بالشهوات ، و تحببت بالعاجلة (٢) وعمرت بالامال ، وتزينت بالغرور ، ولا يؤمن فجعتها ، ولا يدوم حبرتها (٣) ضرارة غدارة غرارة زائلة بائدة أكالة عوالة ، لا تعد و إذا تناهت إلى امنية أهل الرضا بها (٤) والرغبة فيها أن يكون كما قال الله عز وجل » (٥) « كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض فأصبح هشيما تذروه الرياح (٦) على أن امرءا لم يكن فيها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة ولم يلق

____________________

(١) مطالب السؤول ص ٥٧.

(٢) أى صارت محبوبة للناس بكونها لذة عاجلة. والنفوس مولعة بحب العاجل.

(٣) الحبرة : النعمة والسرور.

(٤) باد أى هلك. وغاله : أهلكه. وعداه يعدوه : جاوزه. والامنية : ما يتمناه الانسان أى يريده ويأمله. (٥) الكهف ٤٥.

(٦) أى غاية موافقة الدنيا لاهلها لا يجاوز المثل المضروب لها في الكتاب الكريم والمراد بالماء المطر ، واختلاط النبات به دخوله في خلل النبات عند النمو ، والهشيم نبت يابس مكسر. وتذروه الرياح أى تطيره فيصير كأن لم يكن.

١٤

من سرائها بطنا إلا منحته من ضرائها ظهرا (١) ولم تطله فيها ديمة رخاء إلا هتنت عليه مزنة بلاء (٢) وحري إذا أصبحت له متنصرة أن تمسى له متنكرة ، فإن جانب منها اعذوذب لامرء واحلولى أمر عليه جانب فأوبي ، وإن لقى امرء من غضارتها رغبا زودته من نوائبها تعبا ، ولا يمسي امرء منها في جناح أمن إلا أصبح في خوافي خوف (٣) غرارة غرور ما فيها ، فانية فان من عليها ، من أقل منها استكثر مما يؤمنه (٤) ومن استكثر منها لم يدم له وزال عما قليل عنه ، كم من واثق بها قد فجعته ، وذي طمأنينة إليها قد صرعته ، وذي خدع قد خدعته ، وذي أبهة قد صيرته حقيرا ، وذي نخوة قد صيرته خائفا فقيرا ، وذي تاج قد أكبته لليدين و الفم. سلطانها دول ، وعيشها رنق (٥) وعذبها اجاج ، وحلوها صبر ، وغذائها سمام وأسبابها رمام (٦) حيها بعرض موت وصحيحها بعرض سقم ، ومنيعها بعرض اهتضام عزيزها مغلوب ، وملكها مسلوب ، وضيفها مثلوب ، وجارها محروب (٧) ثم من وراء

____________________

(١) الحبرة بالفتح : النعمة. والعبرة : الدمعة. والسراء مصدر بمعنى المسرة و والضراء : الشدة. ويختص البطن بالسراء والظهر بالضراء لان الاقبال يكون بالاول كما أن الادبار بالثانى ، أولان الترس يكون بطنه اليك وظهره إلى عدوك.

(٢) الطل ـ بالفتح ـ : المطر الضعيف. والديمة ـ بالكسر ـ : مطر يدوم في سكون بلا رعد وبرق. وهتنت أى انصبت. والحرى : الجدير والخليق.

(٣) الخوافى : ريشات من الجناح اذا ضم الطائر جناحيه خفيت. وفى المثل «ليس القوادم كالخوافى».

(٤) أى من أخذ القليل من متاعها أخذ الكثير مما يؤمنه.

(٥) الدولة ـ بالفتح ـ الانقلاب للزمان والجمع دول مثلثة. والرنق : الماء الكدر.

(٦) السمام ـ بالكسر ـ جمع سم بالضم والفتح. والسبب في اصل الحبل الذى يتوصل به إلى الماء ، ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى الشئ. والرمم ـ بالكسر ـ جمع رمة ـ بالضم ـ وهى قطعة جبل بالية.

(٧) المثلوب : الملوم ، وثلبه أى عابه ولامه. والمحروب : المسلوب ماله

١٥

ذلك هول المطلع ، وسكرات الموت والوقوف بين يدي الحكم العدل «ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى».

ألستم في منازل من كان أطول منكم أعمارا وآثارا ، وأعد منكم عديدا ، و أكثف جنودا (١) وأشد منكم عتودا ، تعبدوا الدنيا أي تعبد ، وآثروها أي إيثار ثم ظعنوا عنها بالصغار.

فهل بلغكم أن الدنيا سخت لهم بفدية ، أو أغنت عنهم فيما قد أهلكهم من خطب ، بل قد أوهنتهم بالقوارع (٢) وضعضعتهم بالنوائب ، وعفرتهم للمناخر ، و أعانت عليهم ريب المنون (٣) فقد رأيتم تنكرها لمن دان لها وأخلد إليها ، حتى ظعنوا عنها لفراق أمد إلى آخر المستند ، هل أحلتهم إلا الضنك؟ أو زودتهم إلا التعب؟ أو نورت لهم إلا الظلم ، أو أعقبتهم إلا النار ، فهذه تؤثرون؟ أم على هذه تحرصون؟ إلى هذه تطمئنون؟ يقول الله جل من قائل : «من كان يريد الحيوة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * اولئك الذين ليس لهم في الاخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون» (٤).

فبئست الدار لمن لايتهمها وإن لم يكن فيها على وجل منها ، إعلموا وأنتم لا تعلمون أنكم تار كواها لابد (٥) فانما هي كما نعتها الله تعالى «لهو ولعب» واتعظوا

____________________

(١) أى أكثر جنودا.

(٢) القوارع جمع القارعة وهى الداهية.

(٣) أى سلطته عليهم وريب المنون : صروف الدهر. (٤) هود : ١٨ و ١٩.

(٥) لعل العلم المأمور به هو اليقين المستتبع وهو العمل أى أيقنوا بأنكم ستتر كونها وترتحلون عنها وأنتم تعلمون ذلك لكن علما لا يترتب عليه الاثر. ويحتمل أن يكون المعنى اعلموا ذلك وأنتم من أهل العلم وشأنكم المعرفة وتمييز الخير من الشر.

(٦) أى يبنون بكل مكان مرتفع علما للمارة للعبث بمن يمر عليهم او قصورا يفتخرون بها ، والمصانع جمع المصنع : مأخذ الماء ، وقيل قصور مشيدة وحصونا.

١٦

بالذين كانوا يبنون بكل ريع آية تعبثون ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون (١) و اتعظوا بالذين قالوا : «من أشد منا قوة» واتعظوا باخوانكم الذين نقلوا إلى قبورهم لا يدعون ركبانا ، قد جعل لهم من الضريح أكنانا ومن التراب أكفانا ومن الرفات جيرانا ، فهم جيرة لا يجيبون داعيا ، ولا يمنعون ضيما (٢) قد بادت أضغانهم فهم كمن لم يكن وكما قال الله عزوجل «فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين» (٣) استبدلوا بظهر الارض بطنا ، وبالسعة ضيقا ، وبالاهل غربة ، جاؤوها كما فارقوها بأعمالهم إلى خلود الابد كما قال عز من قائل «كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين» (٤).

٧٤ ـ وقال (٥) أيها الذام للدنيا أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك (٦) فقال قائل من الحاضرين بل أنا المجترم عليها يا أمير المؤمنين فقال له : فلم ذممتها؟

أليست دار صدق لمن صدقها ، ودار غنى لمن تزود منها ، ودار عافية لمن فهم عنها؟ مسجد أحبائه ، ومصلى أنبيائه ، ومهبط الملائكة ، ومتجر أوليائه ، اكتسبوا فيها الطاعة ، وربحوا فيها الجنة ، فمن ذا يذمها؟ وقد آذنت بانتهائها ، ونادت بانقضائها وأنذرت ببلائها ، فان راحت بفجيعة فقد غدت بمبتغى ، وإن أعصرت بمكروه فقد أسفرت بمشتهى (٧) ذمها رجال يوم الندامة ، ومدحها آخرون ، حدثتهم فصدقوا ، وذكرتهم فتذكروا.

فيا أيها الذام لها ، المغتر بغرورها متى غرتك؟ أم متى استذمت إليك أبمصارع

____________________

(١) الريع : المكن المرتفع. و «آية» أى علما للمارة ببنهائها.

(٢) الضيم : الظلم والتعدى. والضغن : الجقد ، الناحية ، الحضن ، الميل.

(٣) القصص : ٥٨.

(٤) الانبياء : ١٠٤.

(٥) مطالب السؤول ص ٥١.

(٦) تجرم على فلان اذا ادعى على ذنبا لم أفعله.

(٧) أعصرت : دخلت في العصر. وأسفر الصبح أى أضاء وأشرق.

١٧

آبائك من البلى؟ أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم عللت بيديك ومرضت؟ وأذاقتك شهدا وصبرا؟ فان ذممتها لصبرها فامدحها لشهدها وإلا فاطرحها لامدح ولا ذم ، فقد مثلت لك نفسك حين ما يغني عنك بكاؤك ولا يرحمك أحباؤك.

٧٥ ـ وقال عليه‌السلام : إن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع ، وإن الاخرة قد أقبلت وآذنت باطلاع (١) ألا وإن المضمار اليوم والسباق غدا ، ألا وإن السبقة الجنة والغاية النار. ألا وإنكم في أيام مهل ، من ورائه أجل يحثه عجل ، فمن عمل في أيام مهله قبل حلول أجله نفعه عمله ولم يضره أمله ، ومن لم يعمل أيام مهله قبل حضور أجله ضره أمله ولم ينفعه عمله ، ولو عاش أحدكم ألف عام كان الموت بالغه ، ونحبه لاحقه (٢) فلا تغرنكم الاماني. ولا يغرنكم بالله الغرور ، وقد كان قبلكم لهذه الدنيا سكان ، شيدوا فيها البنيان ، ووطنوا الاوطان ، أضحت أبدانهم (٣) في قبورهم هامدة ، وأنفسهم خامدة ، فتلهف المفرط منهم على ما فرط يقول : يا ليتني نظرت لنفسي ، ياليتني كنت أطعت ربي.

٧٦ ـ وقال عليه‌السلام : إن الدنيا ليست بدار قرار ، ولا محل إقامة ، إنما أنتم فيها كركب عرسوا وارتاحوا (٤) ثم استقلوا فغدوا وراحوا ، دخلوها خفافا ، و ارتحلوا عنها ثقالا ، فلم يجدوا عنها نزوعا ، ولا إلى ما تركوا بها رجوعا ، جد بهم فجدوا ، وركنوا إلى الدنيا فما استعدوا ، حتى اخذ بكظمهم ، ورحلوا إلى دار

____________________

(١) آذنت أى أعلمت والايذان الاعلام. والاطلاع : الاشراف من مكان عال والمقبل على الانحدار أحرى بالوصول. والمضمار : مدة تضمير الفرس وموضعه أيضا وهو ان تعلفه حتى يسمن ثم ترده إلى القوت وذلك في أربعين يوما. والسباق المسابقة.

(٢) النحب : الموت والاجل.

(٣) في المصدر «أصبحت أبدانهم».

(٤) عرس القوم تعريسا : نزلوا في السفر للاستراحة ثم ارتحلوا. وارتاحوا أى نشطوا وسروا واستراحوا ، ولعل الصواب «فأنا خوا». واستقل القوم : ارتحلوا.

١٨

قوم لم يبق من أكثرهم خبر ولا أثر ، قل في الدنيا لبثهم ، وأعجل بهم إلى الاخرة بعثهم ، وأصبحتم حلولا في ديارهم ، وظاعنين على آثارهم ، والمنايا بكم تسير سيرا مافيه أين ولا بطوء ، نهاركم بأنفسكم دؤوب (١) وليلكم بأرواحكم ذهوب ، وأنتم تقتفون من أحوالهم حالا ، وتحتذون من أفعالهم مثالا ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا فانما أنتم فيها سفر حلول ، والموت بكم نزول ، فتلتضل فيكم مناياه ، وتمضي بكم مطاياه ، إلى دار الثواب والعقاب ، والجزاء والحساب ، فرحم الله من راقب ربه ، و خاف ذنبه ، وجانب هواه ، وعمل لاخرته ، وأعرض عن زهرة الحياة الدنيا.

٧٧ ـ وقال عليه‌السلام : كأن قد زالت عنكم الدنيا كما زالت عمن كان قبلكم فأكثروا عباد الله اجتهادكم فيها بالتزود من يومها القصير ليوم الاخرة الطويل.

فإنها دار العمل ، والدار الاخرة دار القرار والجزاء ، فتجافوا عنها فان المغتر من اغتربها ، لن تعد الدنيا إذا تناهت إليها امنية أهل الرغبة فيها ، المطمئنين إليها المغترين بها أن تكون كما قال الله تعالى : (٢) «كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض مما يأكل الناس والانعام» ألا إنه لم يصب امرء منكم من هذه الدنيا حبرة إلا أعقبتها عبرة ، ولا يصبح امرء في حياة إلا وهو خائف منها أن تؤول جائحة أو تغير نعمه أو زوال عافيته ، والموت من وراء ذلكم ، وهول المطلع ، والوقوف بين يدي الحكم العدل لتجزى كل نفس بما كسبت ويجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.

٧٨ ـ وقال عليه‌السلام : مالكم والدنيا فمتاعها إلى انقطاع ، وفخرها إلى وبال ، وزينتها إلى زوال ، ونعيمها إلى بؤس ، وصحتها إلى سقم أو هرم ، ومآل ما فيها إلى نفاد وشيك (٣) وفناء قريب ، كل مدة فيها إلى منتهى ، وكل حي فيها إلى مقارنة البلى ، أليس لكم في آثار الاولين وآبائكم الماضين عبرة وتبصرة إن كنتم تعقلون ، ألم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون ، وإلى الخلف الباقين ، منكم

____________________

(١) الاين : الحين ، والتعب والمشقة والاعياء. والدؤوب : الجدو التعب.

(٢) يونس : ٢٦.

(٣) الوشيك السريع.

١٩

لا يبقون ، أولستم ترون أهل الدنيا يمسون ويصبحون على أحوال شتى ميت يبكى وآخر يعزى ، وصريع مبتلى ، وعايد يعود ، ودنف بنفسه يجود (١) وطالب للدنيا والموت يطلبه ، وغافل وليس بمغفول عنه ، على أثر الماضي يمضى الباقي وإلى الله عاقبة الامور.

٧٩ ـ وقال عليه‌السلام : انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها فإنها عن قليل تزيل الساكن وتفجع المترف (٢) فلا تغرنكم كثرة ما يعجبكم فيها لقلة ما يصحبكم منها ، فرحم الله امرءا تفكر واعتبر ، وأبصر إدبار ما قد أدبر ، وحضور ما قد حضر فكان ما هو كائن من الدنيا عن قليل لم يكن ، وكأن ما هو كائن من الآخرة لم يزل وكل ما هو آت قريب ، فكم من مومل مالا يدركه ، وجامع مالا يأكله ، ومانع مالا يتركه ، ولعله من باطل جمعه ، أو حق منعه ، أصابه حراما ، وورثه عدوانا ، فاحتمل ما ضره ، وباء بوزره (٣) وقدم على ربه آسفالا لاهفا خسر الدنيا والاخرة وذلك هو الخسران المبين.

٨٠ ـ وقال عليه‌السلام : الدنيا مثل الحية لين مسها ، قاتل سمها فأعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها ، وكن آنس ما يكون إليها أوحش ما تكون منها (٤) فإن صاحبها كلما اطمئن منها ، إلى سرور أشخصته إلى مكروه ، فقد يسر المرء بما لم يكن ليفوته وليحزن لفوات مالم يكن ليصيبه أبدا وإن جهد ، فليكن سرورك بما قدمت من عمل أو قول ، ولتكن أسفك على ما فرطت فيه من ذلك ، ولا تكن

____________________

(١) الصريع : المطروح على الارض. والدنف : المريض. وجاد بنفسه أى سمح بها عند الموت فكانه يدفعها كما يدفع الانسان ماله.

(٢) المترف ـ كمكرم ـ : المتروك بنعمته يصنع فيها ما يشاء ولا يمنع.

(٣) باء يبوء اليه : رجع وباء بالحق أو بالذنب : أقر.

(٤) آنس حال و «ما» مصدرية وخبر كان احذر اى كن حال انسك بها أحذر اكوانك منها. وقوله «فان صاحبها ـ الخ» أى ان سكون صاحبها الي اللذة بها مستلزم العذاب المكروه في الاخرة.

٢٠