بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٩
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

بسم الله الرحمن الرحيم

١٨

* ( باب ) *

* ( العلة التى من أجلها صالح الحسن بن على صلوات الله عليه ) *

* ( معاوية بن أبى سفيان عليه اللعنة ، وداهنه ولم يجاهده ) *

* ( وفيه رسالة محمد بن بحر الشيبانى رحمه‌الله ) *

١ ـ ع : أبي ، عن سعد ، عن البرقي ، عن ابن فضال ، عن ثعلبة ، عن عمر ابن أبي نصر ، عن سدير ، قال : قال أبوجعفر عليه‌السلام ومعي ابني : يا سدير اذكر لنا أمرك الذي أنت عليه ، فان كان فيه إغراق كففناك عنه ، وإن كان مقصرا أرشدناك قال : فذهبت أن أتكلم فقال أبوجعفر عليه‌السلام : أمسك حتى أكفيك إن العلم : الذي وضع رسول الله (ص) عند علي عليه‌السلام من عرفه كان مؤمنا ومن جحده كان كافرا ثم كان من بعده الحسن عليه‌السلام قلت : كيف يكون بتلك المنزلة ، وقد كان منه ما كان دفعها إلى معاوية؟ فقال : اسكت فانه أعلم بما صنع ، لولا ما صنع لكان أمر عظيم (١).

٢ ـ ع : حدثنا علي بن أحمد [ ابن محمد ] ، عن محمد بن موسى بن داود الدقاق ، عن الحسن بن أحمد بن الليث ، عن محمد بن حميد ، عن يحيى بن أبي بكير قال : حدثنا أبوالعلاء الخفاف ، عن أبي سعيد عقيصا قال : قلت للحسن بن علي ابن أبي طالب عليهما‌السلام : يا ابن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته ، وقد علمت أن

____________________

(١) تراه في علل الشرائع ج ١ ص ٢٠٠ وهكذا الحديث التالى.

١

الحق لك دونه وأن معاوية ضال باغ؟

فقال : يابا سعيد ألست حجة الله تعالى ذكره على خلقه ، وإماما عليهم بعد أبي عليه‌السلام؟ قلت : بلى ، قال : ألست الذي قال رسول الله (ص) لي ولاخي : الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟ قلت : بلى ، قال : فأنا إذن إمام لوقمت ، وأنا إمام إذا قعدت ، يابا سعيد علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله (ص) لبني ضمرة وبني أشجع ، ولاهل مكة حين انصرف من الحديبية ، اولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل ، يابا سعيد إذا كنت إماما من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة ، وإن كان وجهه الحكمة فيما أتيته ملتبسا.

ألا ترى الخضر عليه‌السلام لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى عليه‌السلام فعله ، لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي ، هكذا أنا سخطتم علي بجهلكم بوجه الحكمة فيه ، ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الارض أحد إلا قتل.

قال الصدوق رحمه‌الله : قد ذكر محمد بن بحر الشيباني رضي‌الله‌عنه (١) في كتابه المعروف بكتاب « الفروق بين الاباطيل والحقوق » في معنى موادعة الحسن بن علي بن أبي طالب لمعاوية فذكر سؤال سائل عن تفسير حديث يوسف بن مازن الراسبي (٢) في هذا المعنى والجواب عنه وهو الذي رواه أبوبكر محمد بن الحسن بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري قال : حدثنا أبوطالب زيد بن أحزم قال : حدثنا أبوداود قال : حدثنا القاسم بن الفضل ، قال : حدثنا يوسف بن مازن الراسبي قال : بايع الحسن بن علي صلوات الله عليه معاوية على أن لا يسميه أمير المؤمنين ، ولا يقيم عنده شهادة ، وعلى أن لا يتعقب على شيعة علي عليه‌السلام شيئا ، وعلى أن يفرق في أولاد

____________________

(١) عنونه النجاشى في رجاله ص ٢٩٨ وقال : قال بعض أصحابنا انه كان في مذهبه ارتفاع ، وحديثه قريب من السلامة ، ولا أدرى من أين قيل ذلك.

(٢) الراشى خ ل في الموضعين.

٢

من قتل مع أبيه يوم الجمل وأولاد من قتل مع أبيه بصفين ألف ألف درهم ، وأن يجعل ذلك من خراج دار ابجرد (١).

قال : وما ألطف حلية الحسن صلوات الله عليه في إسقاطه إياه عن إمرأة المؤمنين قال يوسف : فسمعت القاسم بن محيمة يقول : ما وفى معاوية للحسن بن علي صلوات الله عليه بشئ عاهده عليه وإني قرأت كتاب الحسن عليه‌السلام إلى معاوية يعدد عليه ذنوبه إليه وإلى شيعة علي عليه‌السلام فبدأ بذكر عبدالله بن يحيى الحضرمي ومن قتلهم معه.

فنقول : رحمك الله إن ما قال يوسف بن مازن من أمر الحسن عليه‌السلام ومعاوية عند أهل التميز والتحصيل تسمى المهادنة والمعاهدة ، ألا ترى كيف يقول « ما وفى معاوية للحسن بن علي بشئ عاهده عليه وهادنه » ولم يقل بشئ بايعه عليه ، والمبايعة على ما يدعيه المدعون على الشرائط التي ذكرناها ، ثم لم يف بها لم يلزم الحسن عليه‌السلام.

وأشد ما ههنا من الحجة على الخصوم ، معاهدته إياه على أن لا يسميه أمير المؤمنين ، والحسين عليه‌السلام عند نفسه لا محالة مؤمن فعاهده على أن لا يكون عليه أميرا ، إذ الامير هو الذي يأمر فيؤتمر له.

فاحتال الحسن صلوات الله عليه لاسقاط الايتمار لمعاوية إذا أمره أمرا على نفسه والامير هو الذي أمره مأمور (٢) من فوقه ، فدل على أن الله عزوجل لم يؤمره عليه ، ولا رسوله (ص) أمره عليه ، فقد قال النبي (ص) : « لا يلين مفاء على مفئ » (٣).

____________________

(١) وسيجيئ منا وجه ذلك.

(٢) في المصدر المطبوع ج ١ ص ٢٠٢ « كأمور » وفى الطبعة الحجرية « كأمر » وسيجيئ بيانه من المصنف رضوان الله عليه لكن يحتمل أن يكون مصحف « بأمور ».

(٣) « المفاء » هو الذى صار فيئا للمسلمين ، و « المفئ » هو كل مسلم أخذ ذلك المفاء عنوة ، فلو كان ذلك المفاء المأخوذ كبيرا يجوز للمسلمين قتله ، واطلاقه منا أو فداء ، ولو كان

٣

يريد أن من حكمه (١) حكم هوازن الذين صاروا فيئا للمهاجرين والانصار فهؤلاء طلقاء المهاجرين والانصار بحكم إسعافهم النبي فيئهم لموضع رضاعه (٢)

____________________

صغيرا لم يبلغ الحلم جازلهم استرقاقه وهكذا اطلاقه منا أو فداء.

لكن المراد بالمفاء في هذا الحديث : الذى صار طليقا بالمن عليه ، صغيرا كان أو كبيرا ، فحيث كان المسلمون حاكمين على نفسه بالقتل أو الاسترقاق ولم يفعلوا ذلك ، بل تكرموا ومنوا عليه بالاطلاق ، ثبت لهم ولاية ذلك كما في ولاء العتق ، فلم يكن له أن يأمر ولا أن ينهى ولا أن يتأمر على المسلمين قضاء لحقوق تلك الولاية.

ووجه ذلك أن المسلمين هم الذين أعطوه ووهبوا له آثار الحياة والحرية ، بحيث صار يأمر وينهى لنفسه ، يذهب ويجئ حيث يشاء ، فلو صار يأمر وينهى المسلمين ، ويتأمر عليهم ، انتقض عليه ذلك وكان كعبد يتحكم على مولاه.

هذا مرمى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يلين مفاء على مفيئ » أى لا يكون الطليق أميرا على المسلمين أبدا ، ولو تأمر عليهم لكان غاصبا لحق الامارة ، ظالما لهم بحكم الشرع والعقل والاعتبار ، فحيث كان معوية طليقا لم يكن له أن يتأمر على المسلمين.

(١) الضمير في « حكمه » يرجع إلى الفيئ ، أى من أحكام الفيئ حكم أسرى هوازن الذين صاروا فيئا للمهاجرين والانصار يوم حنين.

(٢) أتى رسول الله وفد هوازن بالجعرانة وكان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من سبى هوازن ستة آلاف من الذرارى والنساء ، ومن الابل والشاء ما لا يدرى ما عدته فقالوا : يا رسول الله انا أصل وعشيرة وقد أصابنا من البلاء مالم يخف عليك فامنن علينا من الله عليك وقام رجل من بنى سعد بن بكر يقال له زهير. فقال : يا رسول الله! انما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتى كن يكفلنك ، ولو أنا ملحنا للحارث بن أبى شمر ، أو للنعمان بن المنذر ، ثم نزل منا بمثل الذى نزلت به ، رجونا عطفه وعائدته علينا ، وأنت خير المكفولين.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد كلام : أما ما كان لى ولبنى عبدالمطلب فهو لكم فقال المهاجرون : وما كان لنا فهو لرسول الله ، وقالت الانصار : وما كان لنا فهو لرسول الله. راجع سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٤٨٨.

٤

وحكم قريش وأهل مكة حكم هوازن (١).

فمن أمره (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم ، فهو التأمير من الله جل جلاله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أو من الناس كما قالوا في غير معاوية إن الامة اجتمعت فأمرت فلانا وفلانا وفلانا على أنفسهم فهو أيضا تأمير غير أنه من الناس لا من الله ولا من رسوله وهو إن لم يكن تأميرا من الله ومن رسوله ولا تأميرا من المؤمنين فيكون أميرهم بتأميرهم فهو تأمير منه بنفسه.

والحسن صلوات الله عليه مؤمن من المؤمنين فلم يؤمر معاوية على نفسه بشرطه عليه ألا يسميه أمير المؤمنين ، فلم يلزمه ذلك الايتمار له في شئ أمره به ، وفرغ صلوات الله عليه ، إذ خلص بنفسه من الايجاب عليها الايتمار له [ عن ] أن يتخذ على المؤمنين الذينهم على الحقيقة مؤمنون ، وهم الذين كتب في قلوبهم الايمان.

ولان هذه الطبقة لم يعتقدوا إمارته ووجوب طاعته على أنفسهم ، ولان الحسن عليه‌السلام أمير البررة ، وقاتل الفجرة ، كما قال النبي (ص) لعلي عليه‌السلام علي

____________________

(١) فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة عنوة فخطب على باب الكعبة ثم قال بعد كلام : « يا معشر قريش! ما ترون أنى فاعل فيكم؟ قالوا : خيرا. أخ كريم ، وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء » راجع سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٤١٢. فكان له صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأمر بأسرهم وقتلهم وسبى ذراريهم حيث انه دخلها عنوة فلم يفعل ذلك بل من عليهم وقال : انتم الطلقاء ، وفيهم معوية بن أبى سفيان.

(٢) هذا هو الصحيح يعنى فعلى هذا : من أمره رسول الله على المسلمين أو على الطلقاء فهو التأمير من الله ورسوله الخ ويكون ابتداء كلام وما في النسخ من قوله : « لمن أمره رسول الله عليهم » تتميما لما سبق ، فهو تصحيف لم يتنبه له المصنف رضوان الله عليه على ما يجئ في البيان ، وذلك لان حكم الطلقاء طلقاء قريش وهوازن من عدم جواز تأمرهم على المسلمين بقوله « لا يلين مفاء على مفيئ » عام مطلق ، لا يختص بمن أمره رسول الله على الطلقاء. مع أنه لو قرءنا اللفظ « لمن أمره » لتشتت الكلام من نواحى شتى.

٥

أمير البررة ، وقاتل الفجرة ، فأوجب عليه‌السلام أنه ليس لبر من الابرار أن يتأمر عليه وأن التأمير على أمير الابرار ليس ببر ، هكذا يقتضي مراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولو لم يشترط الحسن بن علي عليهما‌السلام على معاوية هذه الشروط ، وسماه أمير المؤمنين. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قريش أئمة الناس أبرارها لابرارها ، وفجارها لفجارها.

وكل من اعتقد من قريش أن معاوية إمامه بحقية الامامة من الله عزوجل واعتقد الايتمار له وجوبا عليه فقد اعتقد وجوب اتخاذ مال الله دولا وعباده خولا ودينه دخلا (١) وترك أمر الله إياه إن كان مؤمنا فقد أمر الله عزوجل المؤمنين بالتعاون على البر والتقوى فقال : « وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان » (٢).

فان كان اتخاذ مال الله دولا ، وعباده خولا ، ودين الله دخلا : من البر والتقوى ، جاز على تأويلك من اتخذه إماما وأمره على نفسه ، كما ترون التأمير على العباد.

ومن اعتمد أن قهر مال الله على ما يقهر عليه ، ودين الله على ما يسام ، وأهل دين الله على ما يسامون ، هو بقهر من اتخذهم خولا ، وأن الله من قبله مديل في تخليص المال من الدول ، والدين من الدخل ، والعباد من الخول ، علم وسلم وآمن واتقى أن البر مقهور في يد الفاجر ، والابرار مقهورون في أيدي الفجار ، بتعاونهم مع الفاجر على الاثم والعدوان المزجور ، عنه المأمور بضده وخلافه ومنافيه.

وقد سأل الثوري السفيان عن « العدوان » ما هو؟ فقال : هو أن ينقل صدقة بانقياء إلى الحيرة فتفرق في أهل السهام بالحيرة ، وببانقياء أهل السهام

____________________

(١) اشارة إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اذا بلغ بنو العاص ثلاثين رجلا : اتخذوا مال الله دولا ، وعباد الله خولا ، ودين الله دغلا » أخرجه الحاكم بالاسناد إلى على عليه‌السلام وهكذا أبى ذر ، وأبى سعيد الخدرى ، وصححه راجع مستدرك الحاكم ج ٤ ص ٤٨٠.

(٢) المائدة : ٣.

٦

وأنا اقسم بالله قسما بارا أن حراسة سفيان ومعاوية بن مرة ومالك بن معول وخيثمة بن عبد الرحمن خشبة (١) زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام بكناس الكوفة بأمر هشام بن عبدالملك من العدوان الذي زجر الله عزوجل عنه وأن حراسة من سميتم بخشبة زيد رضوان الله عليه ، الداعية بنقل صدقة بانقياء إلى الحيرة.

فإن عذر عاذر عمن سميتهم بالعجز عن نصر البر الذي هو الامام من قبل الله عزوجل ، الذي فرض طاعته على العباد ، على الفاجر الذي تأمر باعانة الفجرة إياه ، قلنا : لعمري إن العاجز معذور فيما عجز عنه ، ولكن ليس الجاهل بمعذور في ترك الطلب ، فيما فرض الله عزوجل عليه ، وإيجابه على نفسه فرض طاعته وطاعة رسول الله (ص) وطاعة اولي الامر ، وبأنه لا يجوز أن يكون سريرة ولاة الامر بخلاف علانيتهم ، كما لم يجز أن يكون سريرة النبي (ص) الذي هو أصل ولاة الامر وهم فرعه ، بخلاف علانيته.

وإن الله عزوجل العالم بالسرائر والضمائر ، والمطلع على ما في صدور العباد ، لم يكل علم ما لم يعلمه العباد إلى العباد ، عزوجل عن تكليف العباد ما ليس في وسعهم وطوقهم ، إذ ذاك ظلم من المكلف ، وعبث منه ، وأنه لا يجوز أن يجعل جل وتقدس اختيار من يستوي سريرته بعلانيته ، ومن لا يجوز ارتكاب الكبائر الموبقة والغضب والظلم منه ، إلى من لا يعلم السرائر والضمائر ، فلا يسع أحدا جهل هذه الاشياء.

وإن وسع العاجز بعجزه ترك ما يعجز عنه ، فانه لا يسعه الجهل بالامام البر الذي هو إمام الابرار ، والعاجز بعجزه معذور ، والجاهل غير معذور ، فلا يجوز أن لا يكون للابرار إمام ، وإن كان مقهورا في قهر الفاجر والفجار ، فمتى

____________________

(١) هؤلاء كانوا موكلين على حراسة خشبة صلب عليها زيد بن على بن الحسين عليهم‌السلام ، لئلا ينزلوه ويدفنوه ، فبقى جثته رضوان الله عليه أربع سنين على الصليب ثم استنزلوه وأحرقوه.

٧

لم يكن للبر إمام بر قاهر أو مقهور ، فمات ميتة جاهلية ، إذا مات وليس يعرف إمامه.

فان قيل : فما تأويل عهد الحسن عليه‌السلام وشرطه على معاوية بأن لا يقيم عنده شهادة لا يجاب الله عليه عزوجل إقامة الشهادة بما علمه ، قبل شرطه على معاوية [ بأن لا يقيم عنده شهادة ] قيل : إن لاقامة الشهادة من الشاهد شرائط : وهي حدودها التي لا يجوز تعديها لان من تعدى حدود الله عزوجل فقد ظلم نفسه ، وأوكد شرائطها إقامتها عند قاض فصل ، وحكم عدل ، ثم الثقة من الشاهد أن يقيمها عند من يجر (١) بشهادته حقا ويميت بها أثرة ، ويزيل بها ظلما ، فإذا لم يكن من يشهد عنده سقط عنه فرض إقامة الشهادة.

ولم يكن معاوية عند الحسن عليه‌السلام أميرا اقامه الله عزوجل ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو حاكما من ولاة الحكم ، فلو كان حاكما من قبل الله وقبل رسوله ، ثم علم الحسن عليه‌السلام أن الحكم هو الامير ، والامير هو الحكم ، وقد شرط عليه الحسن أن لا يؤمر ، حين شرط ألا يسميه أمير المؤمنين ، فكيف يقيم الشهادة عند من أزال عنه الامرة بشرط أن لا يسميه أمير المؤمنين ، وإذا زال ذلك عنه بالشرط أزال عنه الحكم ، لان الامير هو الحاكم ، وهو المقيم للحاكم ، ومن ليس له تأمير ولا تحاكم ، فحكمه هذر ، ولا تقام الشهادة عند من حكمه هذر.

فان قال : فما تأويل عهد الحسن عليه‌السلام على معاوية وشرطه عليه أن لا يتعقب على شيعة علي عليه‌السلام شيئا؟ قيل : إن الحسن عليه‌السلام علم أن القوم جوزوا لانفسهم التأويل ، وسوغوا في تأويلهم إراقة ما أرادوا إراقته من الدماء ، وإن كان الله عزوجل حقنه ، وحقن ما أرادوا حقنه ، وإن كان الله عزوجل أراقه في حكمه.

فأراد الحسن عليه‌السلام أن يبين أن تأويل معاوية على شيعة علي عليه‌السلام بتعقبه عليهم ما يتعقبه زائل مضمحل فاسد ، كما أنه أزال إمرته عنه وعن المؤمنين ، بشرط

____________________

(١) عند من يحيى بشهادته حقا. ظ ، بقرينة قوله « يميت » وما في الصلب مطابق للنسخ والمصدر.

٨

أن لا يسميه أمير المؤمنين ، وأن إمرته زالت عنه وعنهم ، وأفسد حكمه عليه وعليهم.

ثم سوغ الحسن عليه‌السلام بشرطه عليه أن لا يقيم عنده شهادة ، للمؤمنين القدوة منهم به في أن لا يقيموا عنده شهادة فتكون حينئذ داره دائرة وقدرته قائمة لغير الحسن ولغير المؤمنين ، فتكون داره كدار بخت نصر وهو بمنزلة دانيال فيها وكدار العزيز وهو كيوسف فيها.

فان قال : دانيال ويوسف عليهما‌السلام كان يحكمان لبخت نصر والعزيز ، قلنا : لو أراد بخت نصر دانيال والعزيز يوسف أن يريقا بشهادة عمار بن الوليد ، وعقبة بن أبي معيط ، وشهادة أبي بردة بن أبي موسى ، وشهادة عبدالرحمن بن أشعث بن قيس دم حجر بن عدي بن الادبر وأصحابه رحمهم‌الله وأن يحكما له بأن زيادا أخوه وأن دم حجر وأصحابه مراقة بشهادة من ذكرت ، لما جاز أن يحكما لبخت نصر والعزيز ، والحكم بالعدل يرمي الحاكم به في قدرة عدل أو جائر ومؤمن أو كافر لا سيما إذا كان الحاكم مضطرا إلى أن يدين للجائر الكافر ، والمبطل والمحق بحكمه.

فإن قال : ولم خص الحسن عليه‌السلام عد الذنوب إليه وإلى شيعة علي عليه‌السلام وقدم أمامها قتله عبدالله بن يحيى الحضرمي وأصحابه ، وقد قتل حجرا وأصحابه وغيرهم؟ قلنا : لو قدم الحسن عليه‌السلام في عده على معاوية ذنوب حجر وأصحابه على عبدالله بن يحيى الحضرمي وأصحابه لكان سؤالك قائما فتقول : لم قدم حجرا على عبدالله بن يحيى وأصحابه أهل الاخيار والزهد في الدنيا والاعراض عنها فأخبر معاوية بما كان عليه ابن يحيى وأصحابه من الخرق (١) على أمير المؤمنين عليه‌السلام وشدة حبهم إياه ، وإفاضتهم في ذكره وفضله ، فجاء بهم وضرب أعناقهم صبرا.

ومن أنزل راهبا من صومعته فقتله بلا جناية منه إلى قاتله أعجب ممن يخرج

____________________

(١) في النسخ المطبوعة وهكذا المصدر ص ٢٠٥ « الحزق » وهو بمعنى المنع والقبض ولعل الصحيح : « الحرق » من الحرارة والحب الشديد.

٩

قسا من ديره فيقتله لان صاحب الدير أقرب إلى بسط اليد لتناول ما معه من صاحب الصومعة الذي هو بين السماء والارض ، فتقديم الحسن عليه‌السلام العباد على العباد والزهاد على الزهاد ، ومصابيح البلاد على مصابيح البلاد ، لا يتعجب منه ، بل يتعجب لو قدم في الذكر مقصرا على مخبت ومقتصدا على مجتهد.

فان قال : ما تأويل اختيار مال دارا بجرد على سائر الاموال لما اشترط أن يجعله لاولاد من قتل مع أبيه صلوات الله عليهم يوم الجمل وبصفين ، قيل : لدارا بجرد خطب في شأن الحسن عليه‌السلام ، بخلاف جميع فارس (١).

____________________

(١) قد ذكر الصدوق رحمه‌الله في وجه اختيار الامام الحسن السبط عليه‌السلام خراج درا بجرد ما تتلوه ، والذى أراه أن درابجرد لم يفتح عنوة بل صالح أهلها على ما صرح به البلاذى في فتوح البلدان ص ٣٨٠ حيث قال : « وأتى عثمان بن أبى العاص درابجرد وكانت شادروان علمهم ودينهم وعليها الهربذ فصالحه الهربذ على مال أعطاه اياه ، وعلى أن أهل دراجرد كلهم اسوة من فتحت بلاده من أهل فارس ، واجتمع له جمع بناحية جهرم ففضهم ، وفتح أرض جهرم ، وأتى عثمان فصالحه عظيمها على مثل صلح درابجرد ، ويقال : ان الهربذ صالح عليها أيضا » انتهى.

فحيث كان درابجرد صولح عليها مثل فدك ، كان يجب حمل مال صلحها إلى زعيم أهل البيت لقوله تعالى : « وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب إلى قوله تعالى ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كى لا يكون دولة بين الاغنياء منكم ».

وأما سائر الاراضى المفتوحة عنوة بايجاف الخيل والركاب ، فكان حكم خراجها أن يقاسم بين مقاتليها ، فانها فيئ وغنيمة كما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أراضى خيبر ، بعدما أخرج سهم الخمس ، لكن لم يعمل عمر بن الخطاب بتلك السنة النبوية وتأول قوله تعالى « والذين جاؤا من بعدهم » فجعل خراجها لعامة المسلمين ودون لهم ديوان العطاء. فجرى بعده سائر الخلفاء والامراء على سنة عمر بن الخطاب ، ولم يتهيأ لعلى عليه‌السلام أن يرد ذلك إلى نصابه الحق المطابق لسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد كان الحسن السبط عليه‌السلام يحكم بأن المتبع من السنن ، انما هو سنة النبى الاقدس ، ولا يرى لاوليائه وأصحابه المخصوصين به أن يرتزقوا ويأخذوا العطاء من خراج الاراضى المفتوحة عنوة ، ولذلك شرط على معاوية أموال درابجرد التى صولح عليها.

١٠

وقلنا : إن المال مالان : الفيئ الذي ادعوا أنه موقوف على المصالح الداعية إلى قوام الملة وعمارتها ، من تجييش الجيوش للدفع عن البيضة ، ولارزاق الاسارى ، ومال الصدقة الذي خص به أهل السهام وقد جرى في فتوح الارضين بفارس والاهواز وغيرهما من البلدان : فيما فتح منها صلحا ، وما فتح منها عنوة وما أسلم أهلها عليها هنات وهنات ، وأسباب وأسباب (١).

وقد كتب ابن عبدالعزيز إلى عبدالحميد بن زيد بن الخطاب وهو عامله على العراق : أيدك الله هاش في السواد ما يركبون فيه البراذين ، ويتختمون بالذهب ، ويلبسون الطيالسة وخذ فضل ذلك فضعه في بيت المال.

وكتب ابن الزبير إلى عامله « جنبوا بيت مال المسلمين ما يؤخذ على المناظر والقناطر فانه سحت » ، فقصر المال عما كان ، فكتب إليهم « ما للمال قد قصر »؟ فكتبوا إليه إن أمير المؤمنين نهانا عما يؤخذ على المناظر والقناطر ، فلذلك قصر المال ، فكتب إليهم : « عودوا إلى ما كنتم عليه » هذا بعد قوله : « إنه سحت ».

ولا بد أن يكون أولاد من قتل من أصحاب علي صلوات الله عليه بالجمل وبصفين من أهل الفيئ ومال المصلحة ومن أهل الصدقة والسهام. وقد قال سول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصدقة « قد امرت أن آخذها من أغنياءكم وأردها في فقرائكم » بالكاف والميم ، ضمير من وجبت عليهم في أموالهم الصدقة ، ومن وجبت لهم الصدقة فخاف الحسن عليه‌السلام أن كثيرا منهم لا يرى لنفسه أخذ الصدقة من كثير منهم ولا أكل صدقة كثير منهم ، إذ كانت غسالة ذنوبهم ، ولم يكن للحسن عليه‌السلام في مال الصدقة سهم.

روى بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه ، عن جده (٢) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : في كل أربعين من الابل ابنة لبون ولا تفرق إبل عن

____________________

(١) زاد في المصدر بعده : [ بايجاب الشرائط الدالة عليها ].

(٢) هذا هو الصحيح كما في المصدر ص ٢٠٧ ، وقد روى الحديث أبوداود في سننه عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ولفظه :

١١

حسابها ، من أتانا بها مؤتجرا فله أجرها ومن منعناها أخذناها منه وشرط إبله عزمة من عزمات ربنا وليس لمحمد وآل محمد فيها شئ ، وفي كل غنيمة خمس أهل الخمس بكتاب الله عزوجل وإن منعوا.

فخص الحسن عليه‌السلام ما لعله كان عنده أعف وأنظف من مال أردشير خره ولانها حوصرت سبع سنين حتى اتخذ المحاصرون لها في مدة حصارهم إياها مصانع (١) وعمارات ، ثم ميزوها من جملة ما فتحوها بنوع من الحكم وبين الاصطخر الاول والاصطخر الثاني هنات علمها الرباني الذي هو الحسن عليه‌السلام فاختار لهم أنظف ما عرف.

فقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال في تفسير قوله عزوجل : « وقفوهم إنهم مسؤلون » (٢) أنه لا يجاوز قدما عبد حتى يسأل عن أربع : عن ثيابه (٣) فيما أبلاه

____________________

ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : في كل سائمة ابل في أربعين بنت لبون لا يفرق ابل عن حسابها ، من أعطاها مؤتجرا بها فله أجرها ، ومن منعها فانا آخذوها وشطر ما له عزمة من عزمات ربنا عزوجل ، ليس لال محمد منها شئ.

فما في النسخ المطبوعة : « روى بهذين حكيم عن معاوية بن جندة القشيرى » فهو تصحيف. والرجل معنون بنسبته ونسبه في رجال العامة ، راجع التاريخ الكبير للبخارى ج ١ ق ٢ ص ٢٩٠ ، الجرح والتعديل ج ١ ق ١ ص ٤٣٠ ، اسد الغابة ج ٤ ص ٣٨٥ وعنونه في التقريب ص ٥٧ وقال : صدوق من السادسة.

(١) المصانع : جمع مصنع ومصنعة : ما يصنع كالحوض يجمع فيه ماء المطر.

(٢) الصافات : ٢٤. والحديث رواه الشيخ في الامالى عن أبى حمزة عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله : لا يزال قدما عبد الخ. وهكذا أخرجه موفق بن أحمد الخوارزمى في المناقب من حديث أبى برذة ولفظه : لا يزول الخ كما في البرهان ج ٤ في تفسير سورة الصافات. وأخرجه المؤلف رضوان الله في ج ٣٦ ص ٧٩ من الطبعة الحديثة عن كتاب منقبة المطهرين للحافظ أبى نعيم باسناده عن نافع بن الحارث عن أبى بردة فراجع.

(٣) شبابه ، خ.

١٢

وعمره فيما أفناه ، وعن ماله من أين جمعه ، وفيما أنفقه ، وعن حبنا أهل البيت وكان الحسن والحسين عليهما‌السلام يأخذان من معاوية الامال فلا ينفقان من ذلك على أنفسهما ولا على عيالهما ما تحمله الذبابة بفيها.

قال شيبة بن نعامة : كان علي بن الحسين عليهما‌السلام ينحل فلما مات نظروا فإذا هو يعول في المدينة أربعمائة بيت من حيث لم يقف الناس عليه.

فان قال : فان هذا محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري قال : حدثنا أبوبشر الواسطي قال : حدثنا خالد بن داود ، عن عامر قال : بايع الحسن بن علي معاوية على أن يسالم من سالم ويحارب من حارب ، ولم يبايعه على أنه أمير المؤمنين.

قلنا : هذا حديث ينقض آخره أوله ، وأنه لم يؤمره ، وإذا لم يؤمره لم يلزمه الايتمار له إذا أمره ، وقد روينا من غير وجه ما ينقض قوله : « يسالم من سالم ، ويحارب من حارب » فلا نعلم فرقة من الامة أشد على معاوية من الخوارج وخرج على معاوية بالكوفة جويرية بن ذراع أو ابن وداع أو غيره من الخوارج فقال معاوية للحسن : اخرج إليهم وقاتلهم ، فقال : يأبى الله لي بذلك ، قال : فلم؟ أليس هم أعداؤك وأعدائي؟ قال : نعم يا معاوية ، ولكن ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فوجده ، فأسكت معاوية.

ولو كان ما رواه أنه بايع على أن يسالم من سالم ، ويحارب من حارب ، لكان معاوية لا يسكت على ماحجه به الحسن عليه‌السلام ولانه يقول له : قد يايعتني على أن تحارب من حاربت كائنا من كان ، وتسالم من سالمت كائنا من كان ، وإذا قال عامر في حديثه : « ولم يبايعه على أنه أمير المؤمنين » قد ناقض لان الامير هو الآمر والزاجر ، والمأمور هو المؤتمر والمنزجر ، فأبى تصرف الآمر ، فقد أزال الحسن عليه‌السلام في موادعته معاوية الايتمار له ، فقد خرج من تحت أمره حين شرط أن لا يسميه أمير المؤمنين.

ولو انتبه معاوية بحيلة الحسن عليه‌السلام بما احتال عليه ، لقال له : يا با محمد أنت

١٣

مؤمن وأنا أمير ، فإذا لم أكن أميرك لم أكن للمؤمنين أيضا أميرا وهذه حيلة منك تزيل أمري عنك ، وتدفع حكمي لك وعليك ، فلو كان قوله « يحارب من حارب » مطلقا ولم يكن شرطه « إن قاتلك من هو شر منك قاتلته ، وإن قاتلك من هو مثلك في الشر وأنت أقرب منه إليه لم اقاتله » ولان شرط الله على الحسن وعلى جميع عباده التعاون على البر والتقوي ، وترك التعاون على الاثم والعدوان ، وإن قتال (١) من طلب الحق فأخطأه ، مع من طلب الباطل فوجده ، تعاون على الاثم والعدوان (٢).

فان قال : هذا حديث ابن سيرين يرويه محمد بن إسحاق بن خزيمة قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن ابن عون ، عن أنس بن سيرين قال : حدثنا الحسن بن علي يوم كلم فقال : ما بين جابرس وجابلق رجل جده نبي غيري وغير أخي وإني رأيت أن اصلح بين امة محمد ، وكنت أحقهم بذلك ، فانا بايعنا معاوية ولعله فتنة لكم ومتاع إلى حين.

قلنا : ألا ترى إلى قول أنس كيف يقول : « يوم كلم الحسن » ولم يقل : « يوم بايع » إذ لم يكن عنده بيعة حقيقة ، وإنما كانت مهادنة كما يكون بين أولياء الله وأعدائه ، لا مبايعة تكون بين أوليائه وأوليائه فرأى الحسن عليه‌السلام رفع السيف مع العجز بينه وبين معاوية ، كما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع السيف بينه وبين أبي سفيان وسهيل بن عمرو ، ولو لم يكن رسول الله مضطرا إلى تلك المصالحة والموادعة لما فعل.

فان قال : قد ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بينه وبين سهيل وأبي سفيان مدة ، ولم يجعل الحسن بينه وبين معاوية مدة ، قلنا : بل ضرب الحسن عليه‌السلام أيضا بينه وبين معاوية مدة وإن جهلناها ولم نعلمها ، وهي ارتفاع الفتنة وانتهاء مدتها ، وهو متاع إلى حين.

____________________

(١) في الاصل المطبوع : « وان قاتل » وان صح فيكون جوابه « تعاون على الاثم ».

(٢) زاد في المصدر ص ٢٠٨ بعده : والمبايع غير المبايع ، والمؤازر غير المؤازر.

١٤

فإن قال : فان الحسن قال لجبير بن نفير (!) حين قال له : إن الناس يقولون إنك تريد الخلافة فقال : قد كان جماجم العرب في يدي يحاربون من حاربت ، ويسالمون من سالمت ، تركتها ابتغاء وجه الله ، وحقن دماء امة محمد ثم أثيرها يا تياس أهل الحجاز؟.

قلنا : إن جبيرا كان دسيسا إلى الحسن عليه‌السلام دسه معاوية إليه ليختبره هل في نفسه الاثارة؟ وكان جبير يعلم أن الموادعة التي وداع معاوية غير مانعة من الاثارة التي اتهمه بها ، ولو لم يجز للحسن عليه‌السلام مع المهادنة التي هادن أن يطلب الخلافة لكان جبير يعلم ذلك ، فلا يسأله ، لانه يعلم أن الحسن عليه‌السلام لا يطلب ما ليس له طلبه ، فلما اتهمه بطلب ما له طلبه ، دس إليه دسيسه هذا ليستبرئ برأيه وعلم أنه الصادق وابن الصادق وأنه إذا أعطاه بلسانه أنه لا يثيرها بعد تسكينه إياها فانه وفي بوعده ، صادق في عهده.

فلما مقته قول جبير قال له : يا تياس أهل الحجاز ، والتياس بياع عسب الفحل الذي هو حرام ، وأما قوله « بيدي جماجم العرب » فقد صدق عليه‌السلام ولكن كان من تلك الجماجم الاشعث بن قيس في عشرين ألفا ويزهدونهم (٢).

قال الاشعث يوم رفع المصاحف : ووقع تلك المكيدة : « إن لم تجب إلى ما دعيت إليه لم يرم معك غدا يمانيان بسهم ، ولم يطعن يمانيان برمح ، ولا يضرب يمانيان بسيف » وأومأ بيده (٣) إلى أصحابه أبناء الطمع وكان في تلك الجماجم شيث بن ربعي تابع كل ناعق ، ومثير كل فتنة ، وعمرو بن حريث الذي ظهر على

____________________

(١) هذا هو الصحيح كما في المصدر ص ٢٠٩ وعنونه في الاصابة في القسم الثانى وقال : جبير بن نفير بالنون والفاء ابن مالك بن عامر الحضرمى أبوعبدالرحمان مشهور من كبار التابعين ولا بيه صحبة ، وهكذا عنونه في الاستيعاب.

(٢) في بعض نسخ المصدر؟ « يزيدونهم ».

(٣) بقوله خ ل.

١٥

علي صلوات الله عليه وبايع ضبة احتوشها مع الاشعث والمنذر بن الجارود الطاغي الباغي.

وصدق الحسن صلوات الله عليه أنه كان بيده هذه الجماجم ، يحاربون من حارب ولكن محاربة منهم للطمع ، ويسالمون من سالم لذلك ، وكان من حارب لله عزوجل ، وابتغى القربة إليه والحظوة منه قليلا ، وليس فيهم عدد يتكافى أهل الحرب لله ، والنزاع لاولياء الله ، واستمداد كل مدد وكل عدد ، وكل شدة على حجج الله عزوجل.

بيان : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « قاما أو قعدا » أي سواء قاما بأمر الامامة أم قعدا عنه للمصلحة والتقية ، ويقال « سفهه » أي نسبه إلى السفه ، و « تعقبه » أي أخذه بذنب كان منه.

قوله : « والمبايعة على ما يدعيه المدعون » المبايعة مبتدأ ولم يلزم خبره أي لو كانت مبايعة على سبيل التنزل فهي كانت على شروط ولم تتحقق تلك الشروط فلم تقع المبايعة ، ويحتمل أن يكون نتيجة لما سبق أي فعلى ما ذكرنا لم تقع المبايعة على هذا الوجه أيضا.

قوله « على نفسه » لعله متعلق بالاسقاط بأن يكون « على » بمعنى « عن » قوله : « هو الذي امره مأمور » الظاهر زيادة لفظ « مأمور » وعلى تقديره يصح أيضا إذ في العرف لا يطلق الامير على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيكون كل من نصب أميرا مأمورا. قوله « يريد أن من حكمه » لعل خبر « أن » محذوف (١) بقرينة المقام والاسعاف الاعانة وقضاء الحاجة.

قوله « لمن أمره رسول الله عليهم » أي على هوازن أو على أهل مكة ، والمعنى كما أن هوازن لا يكونون أمراء على الذين أمرهم رسول الله (ص) على هوازن كذلك قريش وأهل مكة بالنسبة إلى من أمرهم الله عليهم وبعثهم لقتالهم.

____________________

(١) بل قد عرفت ان الضمير في « حكمه » يرجع إلى الفئ فيكون « من حكمه » خبر « أن » واسمه « حكم هوازن ».

١٦

قوله « فهو » أي التأمير مطلقا أو تأمير معاوية ، قوله « أن يتخذ » أي عن أن يتخذ ، وهو متعلق بقوله « فرغ » أي لما خلص عليه‌السلام نفسه عن البيعة ، فرغ عن أن يتخذ بيعة الشقي على المؤمنين ، لان بيعتهم كان تابعا لبيعته ، ولم يبايعوا أنفسهم بيعة على حدة ، وإليه أشار بقوله « لان هذه الطبقة » وقوله : « ولان الحسن » دليل آخر على عدم تأميره على الحسن عليه‌السلام وقوله « فقد اعتقد » جزاء للشرط في قوله : « ولو لم يشترط ».

وقال الجزري : وفي حديث أبي هريرة إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين اتخذوا عباد الله خولا ، بالتحريك أي خدما وعبدا يعني أنهم يستخدمونهم ويستعبدونهم وقال : الدخل بالتحريك ، الغش والعيب والفساد ، ومنه الحديث إذا بلغ بنوا أبي العاص ثلاثين كان دين الله دخلا ، وحقيقته أن يدخلوا في الدين امورا لم تجر به السنة انتهى.

والدول بضم الدال وفتح الواو جمع دولة بالضم وهو ما يتداولونه بينهم يكون مرة لهذا ومرة لهذا ، قوله « من اتخذه » أي اتخاذ من اتخذه ، وهو فاعل « جاز » وقوله « من اعتمد » مبتدأ وقوله « علم وسلم » خبره.

ويقال : سامه سوء العذاب أي حمله عليه ، قوله « إن البر » كأنه استيناف أو اللام فيه مقدر أي لان البر مقهور ، ويمكن أن يكون اتقى تصحيف أتقن أو أيقن.

و « بانقيا » قرية بالكوفة « والحيرة » بلدة قرب الكوفة ، والكناسة بالضم موضع بالكوفة.

قوله « الداعية » هي خبر « أن » أي أمثال تلك المعاونات على الظلم صارت أسبابا لتغيير أحكام الله التي من جملتها نقل صدقة بانقيا إلى الحيرة.

و « الاثرة » الاستبداد بالشئ والتفرد به ، و « الهذر » بالتحريك « الهذيان » وبالدال المهملة البطلان.

قوله « ومن أنزل راهبا » حاصله أن عبدالله كان من المترهبين المتعبدين

١٧

وكان أقل ضررا بالنسبة إليهم من حجر وأصحابه ، فكان قتله أشنع ، فلذا قدمه والاخبات الخشوع والتواضع. قوله : « هنات وهنات » أي شرور وفساد وظلم.

وقال الفيروز آبادي « الهوشة » الفتنة ، والهيج ، والاضطراب ، والاختلاط والهواشات بالضم الجماعات من الناس والابل والاموال الحرام ، والمهاوش ما غصب وسرق ، وقال : الهيش الافساد ، والتحريك والهيج ، والحلب الرويد والجمع.

قوله « مؤتجرا » أي طالبا للاجر والثواب ، وقال الجزري في حديث مانع الزكاة « أنا آخذها وشطر ماله عزمة من عزمات الله » أي حق من حقوق الله وواجب من واجباته.

قال الحربي : غلط الراوي في لفظ الرواية إنما هو « شطر ماله » أي يجعل ما له شطرين ويتخير عليه المصدق فيأخذ الصدقة من خير النصفين ، عقوبة لمنعه الزكاة فأما ما لا يلزمه فلا ، وقال الخطابي في قوله الحربي : لا أعرف هذا الوجه وقيل معناه أن الحق مستوفى منه غير متروك عليه ، وإن ترك شطر ماله كرجل كان له ألف شاة مثلا فتلفت حتى لم يبق إلا عشرون فانه يؤخذ منه عشر شياة لصدقة الالف ، وهو شطر ماله الباقي ، وهذا أيضا بعيد لانه قال : أنا آخذها وشطر ماله ولم يقل : أنا آخذ وأشطر ماله.

وقيل : إنه كان في صدر الاسلام يقع بعض العقوبات في الاموال ثم نسخ كقوله في الثمر المعلق : من خرج بشئ فله غرامة مثليه ، والعقوبة ، وكقوله : في ضالة الابل المكتومة غرامتها ومثلها معها ، وكان عمر يحكم به ، وقد أخذ أحمد بشئ من هذا وعمل به.

وقال الشافعي في القديم : من منع زكاة ماله اخذت منه واخذ شطر ماله عقوبة على منعه ، واستدل بهذا الحديث وقال في الجديد : لا يؤخذ منه إلا الزكاة لا غير وجعل هذا الحديث منسوخا انتهى.

قوله « ينحل » من النحلة بمعنى العطية أو النحول بمعنى الهزال والثاني بعيد

١٨

قوله عليه‌السلام : « ليس من طلب الحق » المعنى أن هؤلاء الخواج مع غاية كفرهم خير من معاوية وأصحابه ، لان للخوارج شبهة وكان غرضهم طلب الحق فأخطأوا بخلاف معاوية وأصحابه ، فانهم طلبوا الباطل معاندين فأصابوه ، لعنة الله عليهم أجميعن.

قوله : « إليه » أي إلى الشر ، والجماجم جمع الجمجمة جمجمة الرأس ويكنى بها عن السادات والقبائل التي تنسب إليها البطون.

وقال الفيروز آبادي : التيس ذكر الظباء والمعز والتياس ممسكه والعسب ضراب الفحل أو ماؤه أو نسله ، واحتوش القوم على فلان جعلوه في وسطهم.

٣ ـ ج : عن حنان بن سدير ، عن أبيه سدير بن حكيم ، عن أبيه ، عن أبي سعيد عقيصا قال : لما صالح الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما‌السلام معاوية بن أبي سفيان دخل عليه الناس فلامه بعضهم على بيعته فقال الحسن عليه‌السلام : ويحكم ما تدرون ما عملت ، والله الذي عملت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس أو غربت ، ألا تعلمون أني إمامكم ومفترض الطاعة عليكم ، وأحد سيدي شباب أهل الجنة ، بنص من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علي؟ قالوا : بلى ، قال : أما علمتم أن الخضر لما خرق السفينة وأقام الجدار ، وقتل الغلام ، كان ذلك سخطا لموسى بن عمران عليه‌السلام إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك ، وكان ذلك عند الله تعالى ذكره حكمة وصوابا أما علمتم أنه ما منا أحد إلا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلا القائم الذي يصلي خلفه روح الله عيسى بن مريم عليه‌السلام؟ فإن الله عزوجل يخفي ولادته ، ويغيب شخصه لئلا يكون لاحد في عنقه بيعة إذا خرج ، ذاك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة الاماء يطيل الله عمره في غيبته ، ثم يظهره بقدرته في صورة شاب ابن دون الاربعين سنة ذلك ليعلم أن الله على كل شئ قدير.

ك : المظفر العلوي ، عن ابن العياشي ، عن أبيه ، عن جبرئيل بن أحمد عن موسى بن جعفر البغدادي ، عن الحسن بن محمد الصيرفي ، عن حنان بن

١٩

سدير مثله (١).

٤ ـ ج : عن زيد بن وهب الجهني قال : لما طعن الحسن بن علي عليهما‌السلام بالمدائن أتيته وهو متوجع فقلت : ما ترى يا ابن رسول الله فان الناس متحيرون؟ فقال : أرى والله معاوية خيرا لي من هؤلاء ، يزعمون أنهم لي شيعة ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي ، وأخذوا مالي ، والله لان آخذ من معاوية عهدا أحقن به دمي وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني فتضيع أهل بيتي ، وأهلي ، والله لو قاتلت معاوية لاخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما.

فو الله لان اسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسيره أو يمن علي فتكون سبة على بني هاشم إلى آخر الدهر ، ومعاوية لا يزال يمن بها وعقبه على الحي منا والميت.

قال : قلت : تترك يا ابن رسول الله شيعتك كالغنم ليس لهم راع؟ قال : وما أصنع يا أخا جهينة إني والله أعلم بأمر قد ادي به إلي عن ثقاته : إن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لي ذات يوم وقد رآني فرحا : يا حسن أتفرح؟ كيف بك إذا رأيت أباك قتيلا؟ أم كيف بك إذا ولي هذا الامر بنو امية وأميرها الرحب البلعوم الواسع الاعفاج ، يأكل ولا يشبع ، يموت وليس له في السماء ناصر ، ولا في الارض عاذر ، ثم يستولي على غربها وشرقها ، تدين له العباد ويطول ملكه ، يستن بسنن البدع والضلال ، ويميت الحق وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

يقسم المال في أهل ولايته ، ويمنعه من هو أحق به ، ويذل في ملكه المؤمن ويقوى في سلطانه الفاسق ، ويجعل المال بين أنصاره دولا ويتخذ عباد الله خولا ويدرس في سلطانه الحق ، ويظهر الباطل ، ويلعن الصالحون ، ويقتل من ناواه على الحق ، ويدين من والاه على الباطل.

فكذلك حتى يبعث الله رجلا في آخر الزمان وكلب من الدهر ، وجهل من الناس يؤيده الله بملائكته ، ويعصم أنصاره ، وينصره بآياته ، ويظهره على

___________________

(١) تراه في ج ١ ص ٤٣٢ من كمال الدين ، والاحتجاج ص ١٤٨.

٢٠