الأحكام الشرعية ، بل لزم التسلسل فيها كما عرفت فيما تقدّم. وحينئذ فلم يبق إلاّ أن نقول إنّ هذا الحكم العقلي لا يستكشف منه الحكم الشرعي ، وحينئذ يتوجّه الإشكال أوّلاً : بأنّه لماذا لا يكون هذا الحكم العقلي ملازماً للحكم الشرعي مع كونه غير واقع في سلسلة معلولات الأحكام ، بل هو واقع في سلسلة عللها.
وثانياً : بأنّ مجرّد هذا الحكم العقلي بلزوم دفع الضرر المذكور لا يكون حينئذ منجّزاً للحكم الواقعي ، ولا موجباً لاستحقاق العقاب على مخالفته ، فلا يكون وارداً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ولا حاكماً على البراءة الشرعية ، فتأمّل.
قوله : وأمّا الوقوع في المفسدة فكذلك أيضاً ، لأنّه ليس كلّ مفسدة ضرراً حتّى يجب عقلاً التحرّز عن الوقوع فيها ، إلاّأن يدّعى أنّ دفع المفسدة كدفع الضرر يجب عقلاً ... الخ (١).
مراده من الضرر في قوله : ليس كلّ مفسدة ضرراً الخ هو الضرر الدنيوي وحينئذ لابدّ من دعوى القطع بأنّ المفسدة التي هي ملاك الحكم مقصورة على المفاسد النفسانية غير الراجعة إلى العقاب ولا إلى الأضرار الدنيوية ، والمراد بالمفاسد النفسانية هي ما يتعلّق بعالم النفس من كدورتها وظلمتها وبعدها عن ساحة الربّ ، ونحو ذلك ممّا لا يرجع إلى الأضرار الأُخروية أعني العقاب ، ولا إلى الأضرار الدنيوية مثل قصر العمر وموت الولد وقلّة الرزق ونحو ذلك.
ولا يخفى أنّ دعوى القطع بأنّ المفاسد التي هي ملاك الأحكام منحصرة بذلك ، وأنّها مجرّدة عن الضرر الدنيوي لا تخلو عن مجازفة ، لوجود الاحتمال الوجداني بأنّ ملاك هذا التحريم مثلاً هو الضرر الدنيوي ، إمّا وحده أو منضمّاً للمفسدة النفسانية ، ومع وجود هذا الاحتمال يكون العقل حاكماً بلزوم دفعه.
__________________
(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٢١.