قلت : قد تقدّم في بعض المباحث السابقة (١) أنّ حكم العقل بقبح التجرّي لا يكون علّة لاستحقاق العقاب ، وأنّ من قطع بحرمة شيء فارتكبه وانكشف خطأ قطعه لا إشكال في حكم العقل بقبح ارتكابه ، إمّا لجهة الفعل أو للجهة الفاعلية ، لكن حكم العقل بقبح ذلك لا يكون علّة لاستحقاق العقاب. وأمّا الإشكال باناطة العقاب بأمر غير مقدور ، فقد تقدّم الجواب عنه (٢) بما هو مأخوذ من كلام الشيخ قدسسره وحاصله : أنّ ارتفاع العقاب لأمر غير داخل تحت الاختيار لا ضير فيه ، وحينئذ فليس مرجع ذلك الجواب إلى ارتفاع جهة القبح بأمر غير اختياري ، كي يكون ذلك نقضاً على ما أفاده قدسسره من أنّ الجهة الواقعية لمّا لم تكن معلومة لم تكن مؤثّرة في ارتفاع القبح ، فلا حاجة حينئذ إلى ما أفاده قدسسره من الجواب عن النقض المذكور بالتفرقة بين المقامين.
وقد سبقه الشيخ قدسسره إلى التفرقة المذكورة ، فإنّ قول الشيخ قدسسره : ودعوى أنّ الفعل الذي يتحقّق به التجرّي وإن لم يتّصف في حدّ نفسه بحسن ولا قبح ، لكونه مجهول العنوان ـ إلى قوله ـ مدفوعة مضافاً إلى الفرق بين ما نحن فيه وبين ما تقدّم من الدليل العقلي كما لا يخفى الخ (٣) راجع إلى هذا الذي شرحه شيخنا قدسسره.
وكلّ ذلك ناشئ عن دعوى كون حكم العقل بالقبح علّة لاستحقاق العقاب ، فأرادوا أن يمنعوا حكم العقل بقبح التجرّي فراراً من الالتزام باستحقاق العقاب ، وجعلوا ذلك الدليل العقلي مسوقاً لاثبات القبح الموجب لاستحقاق العقاب. وأجابوا عنه بامكان ارتفاع القبح بأمر غير اختياري ، وهو عدم مصادفة
__________________
(١) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ١٣٤ وما بعدها.
(٢) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ١٤٢ وما بعدها.
(٣) فرائد الأُصول ١ : ٤٤.