والنهار ، وأجرى فضل هذا الماء العذب إلى سقايات اتخذهن على أبواب هذا المسجد بجهاته الثلاث الشرقية والغربية والشمالية ، أجراها هنالك إلى ثلاث جواب من حياض الرخام استقطعها بمقطع المنستير بسفح جبل قرطبة بالمال الكثير ، وألقاه الرخّامون (١) هنالك ، واحتفروا أجوافها بمناقيرهم في المدة الطويلة حتى استوت في صورها البديعة لأعين الناس ، فخفف ذلك من ثقلها ، وأمكن من إهباطها إلى أماكن نصبها بأكناف المسجد الجامع ، وأمد الله تعالى على ذلك بمعونته ، فتهيأ حمل الواحدة منها فوق عجلة كبيرة اتخذت من ضخام خشب البلوط على فلك موثقة بالحديد المثقف محفوفة بوثاق الحبال قرن لجرّها سبعون دابة من أشد الدواب ، وسهلت قدامها الطرق والمسالك ، وسهل الله تعالى حملها واحدة بعد أخرى على هذه الصفة في مدة اثني عشر يوما ، فنصبت في الأقباء المعقودة لها ، قال : وابتنى المستنصر في غربي الجامع دار الصدقة ، واتخذها معهدا لتفريق صدقاته المتوالية ، وابتنى للفقراء البيوت قبالة باب المسجد الكبير الغربي ، انتهى.
واعلم أنه لعظم أمر قرطبة كان عملها حجة بالمغرب ، حتى إنهم يقولون في الأحكام :
هذا مما جرى به عمل قرطبة ، وفي هذه المسألة نزاع كثير ، ولا بأس أن نذكر ما لا بد منه من ذلك ، قال الإمام ابن عرفة رحمه الله تعالى : في اشتراط الإمام على القاضي الحكم بمذهب معين ـ وإن خالف معتقد المشترط اجتهادا وتقليدا ـ ثلاثة أقوال : الصحة للباجي ، ولعمل أهل قرطبة ، ولظاهر شرط سحنون على مذهب من ولاه الحكم بمذهب أهل المدينة ، قال المازري : مع احتمال كون الرجل مجتهدا. الثاني : البطلان ، للطرطوشي ، إذ قال : في شرط أهل قرطبة هذا جهل عظيم. الثالث : تصح التولية ويبطل الشرط ، تخريجا على أحد الأقوال في الشرط الفاسد في البيع للمازري عن بعض الناس ، انتهى مختصرا.
قال ابن غازي : إن ابن عرفة نسب للطرطوشي البطلان مطلقا ، وابن شاس إنما نسب له التفصيل ، انتهى.
ولما ذكر مولاي الجد الإمام قاضي القضاة بفاس (٢) سيدي أبو عبد الله المقري التلمساني في كتابه القواعد شرط أهل قرطبة المذكور ، قال بعده ما نصه : وعلى هذا الشرط ترتب إيجاب عمل القضاة بالأندلس ، ثم انتقل إلى المغرب ، فبينما نحن ننازع الناس في عمل المدينة ونصيح
__________________
(١) في ج : الرخاميون.
(٢) هو الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد المقري التلمساني وهو جد المؤلف لهذا الكتاب (انظر تاريخ قضاة الأندلس ص ١٦٩).