الذرور ، فتوقف ، وعلم أنه مطّلع على أنه سم ، فقال : كيف نسبتني إلى قلة الوفاء ، وأنا منذ سنين أعلم أنك تريد أن تسمني بهذا السم ، وقد جعل لك الملك الفلاني على ذلك عشرة آلاف دينار ، فلا أنا أمكنتك من نفسي ، ولا أشعرتك ، لئلا يكون في ذلك ما لا خفاء به ، وتركتك على حالك ، وأنا مع هذا لا أغير عليك نعمة ، ثم قال : ردوا سمه إلى كمرانه ، لا أبقى الله تعالى عليه إن قدر وأبقى علي ، فجعل يقبل الأرض ويقول : هكذا والله كان ، وأنا تائب لله تعالى ، ثم إن الشيخ جدّد توبة ، واستأنف أدبا آخر وخدمة أخرى ، وكانت هذه الفعلة من إحدى عجائب العادل.
قال : وكان كثير المصانعات حتى إنه يصوغ الحلي الذي يصلح لنساء الفرنج ويوجّه في الخفية إليهنّ ، حتى يمسكن أزواجهنّ عن الحركة ، وله في ذلك مع ملوك الإسلام ما يطول ذكره.
ولما خرج ابن أخيه المعز إسماعيل بن طغتكين (١) باليمن ، وخطب لنفسه بالخلافة ، وكتب له أن يبايعه ويخطب له في بلاده ، كان في الجماعة من أشار إلى النظر في توجيه عسكر له في البر والبحر ، وإنفاق الأموال قبل أن يتفاقم أمره ، فضحك وقال : من يكون عقله هذا العقل لا يحوج خصمه إلى كبير مؤنة ، أنا أعرف كيف أفسد عليه حاله في بلاده ، فضلا عن أن يتطرق فساده لبلادي ، ثم إنه وجه في السر لأصحاب دولته بالوعد والوعيد وقال لهم : أنتم تعلمون بعقولكم أن هذا لا يسوغ لي ، فكيف يسوغ له؟ وقد أدخل نفسه في أمر لا يخرج منه إلا بهلاكه ، فاحذروا أن تهلكوا معه ، واتعظوا بالآية (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) [هود : ١١٣] وما لهذا عقل يدبر به نفسه ، فكيف يفضل عن تدبير خاصته إليكم (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (٨٨) [ص : ٨٨] فعندما وعت أسماعهم هذا وتدبروه بعقولهم قبضوا عليه وقتلوه ، وعادت البلاد للعادل ، وقال للمشيرين عليه في أول الأمر بتجهيز العسكر : قد كفينا المؤنة بأيسر شيء من المال ، ولو حاولناه بما أشرتم به لم تقم خزائن ملكنا بالبلوغ إلى غايته.
وكان ـ على ما بلغه من عظمة السلطان ، واتساع الممالك ـ يحكي ما جرى له من زمان خلوّه من ذلك ، ويحب الاستماع لنوادر أنذال العالم ، واشتهر في خدمته مساخر أشهرهم خضير صاحب البستان المشهور عند الربوة بغوطة دمشق ومن نوادره الحارّة (٢) معه أنه سمعه
__________________
(١) في ه : «ظفركين». وفي نسخة «طغرلكين».
(٢) في ج : نوادره الحاضرة منه.