وذكر الشيخ أبو الطيب بن علوان التونسي عن والده أحمد التونسي الشهير بالمصري أن للمذكور تأليفا سماه «التجنيس» وله شرح أبيات الجمل ، سماه «وشي الحلل» رفعه للملك المستنصر الحفصي بتونس ، فدفعه المستنصر للأستاذ أبي الحسن حازم ، وأمره أن يتعقب عليه ما فيه من خلل وجده ، فحكى أبو عبد الله القطان المسفر ـ وكان يخدم حازما ـ قال : كنت يوما بدار أبي الحسن حازم وبين يديه هذا الكتاب ، فسمعت نقر الباب ، فخرجت فإذا بالفقيه أبي جعفر ، فرجعت وأخبرت أبا الحسن ، فقام مبادرا حتى أدخله وبالغ في بره وإكرامه ، فرأى الكتاب بين يديه ، فقال له : يا أبا الحسن ، قال الشاعر : [الطويل]
وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة
(١) فقال له : يا فقيه أبا جعفر ، أنت سيدي وأخي ، ولكن هذا أمر الملك لا يمكن فيه إلا قول الحق ، والعلم لا يحتمل المداهنة ، فقال له : فأخبرني بما عثرت عليه ، قال له : نعم ، فأظهر له مواضع ، فسلّمها أبو جعفر وبشرها وأصلحها بخطه.
وأصل هذا اللّبلي من لبلة قرية بالأندلس ، اجتمع في رحلته للمشرق بالقاضي ابن دقيق العيد ، وكان نحويا ، فلما دخل عليه اللّبلي قال له القاضي : خير مقدم ، ثم سأله بعد حين : بم انتصب خير مقدم؟ فقال له اللبلي : على المصدر ، وهو من المصادر التي لا تظهر أفعالها ، وقد ذكره سيبويه ، ثم سرد عليه الباب من أوله إلى آخره ، فإنه كان يحفظ أكثره ، فأكرمه القاضي وعظمه.
ثم قال ابن علوان : وذكر والدي أيضا رحمه الله تعالى ، ومن خطه المبارك نقلت ، أن الأستاذ أبا جعفر اللبلي المذكور رحمه الله تعالى قرىء عليه يوما قول امرئ القيس : [الكامل]
حيّ الحمول بجانب العزل |
|
إذ لا يلائم شكلها شكلي |
فقال لطلبته : ما العامل في هذا الظرف يعني «إذ»؟ فتنازعوا القول ، فقال : حسبكم ، قرىء هذا البيت على أستاذنا أبي علي الشّلوبين ، فسألنا هذا السؤال ، وكان أبو الحسن بن عصفور قد برع واستقل وجلس للتدريس ، وكان الشلوبين يغض منه ، فقال لنا : إذا خرجتم فاسألوا ذلك الجاهل ، يعني ابن عصفور ، فلما خرجنا سرنا إليه بجمعنا ، ودخلنا المسجد ، فرأيناه قد دارت به حلقة كبيرة ، وهو يتكلم بغرائب النحو ، فلم نجسر على سؤاله لهيبته ، وانصرفنا ، ثم جئنا بعد على عادتنا لأبي علي ، فنسي حتى قرىء عليه قول النابغة : [البسيط]
__________________
(١) كليلة : كلّ السيف : لم يقطع. وكلّ البصر أو اللسان : لم يحقق المنظور أو المنطوق.