تقول ، ولكنك تدخل علينا به داخلة ، فإن أعفيتنا منه فهو أحبّ إلينا ، وإن اضطررتنا لم يمكنا عقوقك ، فعزم عليه عزم من لم يشكّ أن قد ظفر بحاجته ، وضايقته الآجال ، فألح عليه ، فأرسل الحكم عند ذلك إلى فقيهين من فقهاء زمانه ، وخط شهادته بيده في قرطاس ، وختم عليها (١) بخاتمه ، ودفعها إلى الفقيهين وقال لهما : هذه شهادتي بخطي تحت ختمي ، فأدياها إلى القاضي ، فأتياه بها إلى مجلسه وقت قعوده للسماع من الشهود ، فأدياها إليه ، فقال لهما : قد سمعت منكما فقوما راشدين في حفظ الله تعالى ، وجاء وكيل سعيد الخير ، وتقدم إليه مدلّا واثقا ، وقال له : أيها القاضي ، قد شهد عندك الأمير ـ أصلحه الله تعالى! ـ فما تقول؟ فأخذ كتاب الشهادة ونظر فيه ، ثم قال للوكيل : هذه شهادة لا تعمل عندي ، فجئني بشاهد عدل ، فدهش الوكيل ، ومضى إلى سعيد الخير فأعلمه ، فركب من فوره إلى الحكم ، وقال : ذهب سلطاننا ، وأزيل بهاؤنا ، يجترئ هذا القاضي على رد شهادتك ، والله سبحانه قد استخلفك على عباده ، وجعل الأمر في دمائهم وأموالهم إليك؟ هذا ما يجب أن تحمله (٢) عليه ، وجعل يغريه بالقاضي ويحرضه على الإيقاع به ، فقال له الحكم : وهل شككت أنا في هذا يا عم؟ القاضي رجل صالح والله ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، فعل ما يجب عليه ويلزمه ، وسدّ دونه بابا كان يصعب عليه الدخول منه ، فأحسن الله تعالى جزاءه! فغضب سعيد الخير ، وقال : هذا حسبي منك ، فقال له : نعم قد قضيت الذي كان لك علي ، ولست والله أعارض القاضي فيما احتاط به لنفسه ، ولا أخون المسلمين في قبض يد مثله.
ولما عوتب ابن بشير فيما أتاه من ذلك قال لمن عاتبه : يا عاجز ، أما تعلم أنه لا بد من الإعذار في الشهادات ، فمن كان يجترئ على الدفع في شهادة الأمير لو قبلتها؟ ولو لم أعذر لبخست المشهود عليه حقه.
وتوفي القاضي محمد بن بشير سنة ١٩٨ قبل الشافعي بست سنين كما يأتي قريبا ومحاسنه ـ رحمه الله تعالى! ـ كثيرة ، وقد استوفى ترجمته بقدر الإمكان القاضي عياض في المدارك ، فليراجها من أرادها ، فإن عهدي بها في المغرب (٣).
وقال بعض من عرف به ، ما نصه : القاضي محمد بن بشير بن محمد المعافري ، أصله من جند باجة من عرب مصر ، ولاه الحكم بن هشام قضاء القضاة الذي يعبرون عنه بالمغرب
__________________
(١) عليها : غير موجودة في ب ، ه.
(٢) في ب : هذا ما لا يجب أن تحمل عليه.
(٣) في أصل ه : فإن عهدي به لمغرب. وما أثبتناه هو الصحيح ، وهكذا جاء في ب ، ج.