فقيل له : ها هو ، وأشير إليه ، فقال : إني رجل غريب ، وأراكم تستهزئون بي ، أنا أسألكم عن القاضي وأنتم تدلونني على زامر ، فصححوا له أنه القاضي ، فتقدم إليه واعتذر ، فأدناه وتحدث معه ، فوجد عنده من العدل والإنصاف فوق ما ظنه ، فكان يحدث بقصته معه.
وعوتب في إرسال لمّته (١) ولبسه الخز والمعصفر ، فقال : حدثني مالك بن أنس أن محمد بن المنكدر ـ وكان سيد القراء ـ كانت له لمّة ، وأن هشام بن عروة فقيه هذا البلد ـ يعني المدينة ـ كان يلبس المعصفر ، وأن القاسم بن محمد كان يلبس الخز ، ولقد سئل يحيى بن يحيى عن لباس العمائم فقال : هي لباس الناس في المشرق ، وعليه كان أمرهم في القديم ، فقيل له : لو لبستها لاتّبعك الناس في لباسها ، فقال : قد لبس محمد بن بشير الخز فما تبعه الناس فيه ، وكان ابن بشير أهلا أن يقتدى به ، فلعلي لو لبست العمامة لتركني الناس ولم يتبعوني كما تركوا ابن بشير.
وكان أول ما نظر فيه محمد بن بشير ـ حين ولي القضاء ـ التسجيل على الخليفة الحكم في أرحي القنطرة (٢) إذ قيم عليه فيها وثبت عنده حق المدّعي ، وأعذر إلى الحكم فلم يكن عنده مدفع ، فسجل فيها ، وأشهد على نفسه ، فما مضت مديدة (٣) حتى ابتاعها الحكم ابتياعا صحيحا ، فسر بذلك ، وقال : رحم الله محمد بن بشير! فلقد أحسن فيما فعل بنا على كره منا ، كان في أيدينا شيء مشتبه فصححه لنا ، وصار حلالا طيب الملك في أعقابنا ، وحكم على ابن فطيس الوزير ، ولم يعرّفه بالشهود ، فرفع الوزير ذلك إلى الحكم ، وتظلم من ابن بشير ، فأومأ الحكم إليه أن الوزير كره (٤) حكمك عليه بشهادة قوم لم تعرّفه بهم ، ولا أعذرت إليه فيهم ، وإن أهل العلم يقولون : إن ذلك له ، فكتب إليه ابن بشير : ليس ابن فطيس ممن يعرّف بمن شهد عليه ، لأنه إن لم يجد سبيلا إلى تجريحهم لم يتحرج عن طلب أذاهم في أنفسهم وأموالهم ، فيدعون الشهادة هم ومن ائتسى بهم ، وتضيع أموال الناس.
وأكثر موسى بن سماعة أحد خواصّ الأمير الحكم في ابن بشير الشكاية ، وأنه يجور عليه ، فقال له الحكم : أنا أمتحن قولك الساعة ، فاخرج إليه فورا ، واستأذن عليه ، فإن أذن لك عزلته ، وصدّقت قولك فيه ، وإن لم يأذن لك دون خصمك ازددت بصيرة فيه ، فليس هو عندي
__________________
(١) اللمّة الشعر الذي لا يتجاوز شحمة الأذن.
(٢) الأرحي : جمع رحى.
(٣) مديدة : تصغير مدة ، أي مدة قصيرة.
(٤) في ب ، ه : أن الوزير ذكر حكمك.