وما زالت الحركات بينهم كذلك تترى ، حتى هزمهم الأمير ، وانقطع التدبير ، فقالوا : ما أنت بصغير ، وكان في أثناء تلك الحركات قد ترنم ابن عم الأمير منشدا : [الطويل]
وأحلى الهوى ما شكّ في الوصل ربّه |
|
وفي الهجر فهو الدّهر يرجو ويتّقي |
فقال : لعن الله أبا الطيب! أو يشك الربّ؟ فقلت له في الحال : ليس كما ظنّ صاحبك أيها الأمير ، إنما أراد بالرب ههنا الصاحب ، يقول : ألذ الهوى ما كان المحبّ فيه من الوصال ، وبلوغ الغرض من الآمال (١) ، على ريب ، فهو في وقته كله على رجاء لما يؤمله ، وتقاة (٢) لما يقع به (٣) ، كما قال : [الطويل]
إذا لم يكن في الحبّ سخط ولا رضا |
|
فأين حلاوات الرّسائل والكتب |
وأخذنا نضيف إلى ذلك من الأغراض ، في طرفي إبرام وانتقاض (٤) ، ما حرّك منهم إلى جهتي دواعي (٥) الانتهاض ، وأقبلوا يتعجبون مني ويسألوني كم سني ، ويستكشفونني عني ، فبقرت (٦) لهم حديثي ، وذكرت لهم نجيثي (٧) ، وأعلمت الأمير بأن أبي معي ، فاستدعاه ، وقمنا الثلاثة إلى مثواه ، فخلع علينا خلعه ، وأسبل علينا أدمعه ، وجاء كل خوان ، بأفنان وألوان (٨).
ثم قال بعد المبالغة في وصف ما نالهم من إكرامه : فانظر إلى هذا العلم الذي هو إلى الجهل أقرب ، مع تلك الصّبابة اليسيرة من الأدب ، كيف أنقذا من العطب؟ وهذا الذكر يرشدكم إن عقلتم إلى المطلب ، وسرنا حتى انتهينا إلى ديار مصر ، انتهى مختصرا.
والزول : العجب ، ونجيث الخبر : ما ظهر من قبيحه ، يقال : بدا نجيث القوم ، إذا ظهر سرهم الذي كانوا يخفونه ، قالهما الجوهري.
وذكر ـ رحمه الله تعالى ـ! في رحلته عجائب :
منها : أنه حكى في (٩) دخوله بدمشق بيوت بعض الأكابر أنه رأى فيه النهر جاريا إلى موضع جلوسهم ، ثم يعود من ناحية أخرى ، فلم أفهم معنى ذلك حتى جاءت موائد الطعام في النهر المقبل إلينا ، فأخذها الخدم ووضعوها بين أيدينا ، فلما فرغنا ألقى الخدم الأواني وما معها
__________________
(١) في ه : وبلوغ الغرض والآمال.
(٢) التقاة : الخوف والحذر.
(٣) في ب ، ج : لما يقطع به.
(٤) في ب ، ه : طرفي الإبرام والانتقاض.
(٥) في ب : داعي.
(٦) بقرت لهم حديثي : أوضحته.
(٧) النجيث : السر الخفي.
(٨) في ب ، ه : بأفنان الألوان.
(٩) في ب : حكى دخوله.