الرّبض الشرقي منفصلة عن دوره ، ويتصل بها حمّام له غلة واسعة ، وكان أولاد زكريا أخي نجدة أيتاما في حجر القاضي ، فأرسل الخليفة من قوّمها له بعد ما طابت نفسه ، وأرسل ناسا أمرهم بمداخله وصى الأيتام في بيعها عليهم ، فذكر أنه لا يجوز إلا بأمر القاضي ، إذ لم يجز بيع الأصل إلا عن رأيه ومشورته ، فأرسل الخليفة إلى القاضي منذر في بيع هذه الدار ، فقال لرسوله : البيع على الأيتام لا يصح إلا لوجوه : منها الحاجة ، ومنها الوهي الشديد ، ومنها الغبطة (١) ، فأما الحاجة فلا حاجة لهؤلاء الأيتام إلى البيع ، وأما الوهي فليس فيها ، وأما الغبطة فهذا مكانها ، فإن أعطاهم أمير المؤمنين فيها ما تستبين به الغبطة أمرت وصيهم بالبيع ، وإلا فلا ، فنقل جوابه إلى الخليفة ، فأظهر الزهد في شراء الدار طمعا أن يتوخّى رغبته فيها ، وخاف القاضي أن تنبعث منه عزيمة تلحق الأيتام ثورتها (٢) ، فأمر وصيّ الأيتام بنقض الدار وبيع أنقاضها ، ففعل ذلك وباع الأنقاض ، فكانت لها قيمة أكثر مما قومت به للسلطان ، فاتصل الخبر به ، فعز عليه خرابها ، وأمر بتوقيف الوصي على ما أحدثه فيها ، فأحال الوصي على القاضي أنه أمره بذلك ، فأرسل عند ذلك للقاضي منذر ، وقال له : أأنت (٣) أمرت بنقض دار أخي نجدة؟ فقال له : نعم ، فقال : وما دعاك إلى ذلك؟ قال : أخذت فيها بقول الله تعالى : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (٧٩) [الكهف : ٧٩] مقوّموك لم يقوموها (٤) إلا بكذا ، وبذلك تعلق وهمك ، فقد نضّ (٥) في أنقاضها أكثر من ذلك ، وبقيت القاعة والحمام فضلا ، ونظر الله تعالى للأيتام ، فصبر الخليفة عبد الرحمن على ما أتى من ذلك ، وقال : نحن أولى من انقاد إلى الحق ، فجزاك الله تعالى عنا وعن أمانتك خيرا!.
قالوا : وكان ـ على متانته وجزالته ـ حسن الخلق ، كثير الدّعابة ، فربما ساء ظنّ من لا يعرفه ، حتى إذا رام أن يصيب من دينه شعرة ثار له ثورة الأسد الضاري ، فمن ذلك ما حدث به سعيد ابنه قال : قعدنا ليلة من ليالي شهر رمضان المعظم مع أبينا للإفطار بداره البرانية ، فإذا سائل (٦) يقول : أطعموني (٧) من عشائكم أطعمكم الله تعالى من ثمار الجنة ، هذه الليلة ، ويكثر من ذلك ، فقال القاضي إن استجيب لهذا السائل فيكم فليس يصبح منا أحد (٨).
__________________
(١) أراد بالغبطة المنفعة الظاهرة للأيتام.
(٢) في ب : الأيتام سورتها.
(٣) في ب : وقال له : أنت.
(٤) في ب ، ه : لم يقدروها.
(٥) نضّ : حصل.
(٦) في ه : فإذا بسائل وفي المطمح : فإذا بسائل يقول : يا أهل هذه الدار الصالح أهلها أطعمونا.
(٧) في ب : أطعمونا.
(٨) في ب ، ه : واحد.