قال في المطمح : من بني يحيى بن يحيى الليثي ، وهذه ثنية علم وعقل ، وصحة ضبط ونقل ، كان علم الأندلس ، وعالمها النّدس (١) ، ولي القضاء بقرطبة بعد رحلة رحلها إلى المشرق ، وجمع فيها من الروايات والسماع كل مفترق ، وجال في آفاق ذلك الأفق ، لا يستقر في بلد ، ولا يستوطن في جلد (٢) ، ثم كر إلى الأندلس فسمت رتبته ، وتحلّت بالأماني لبّته ، وتصرف في ولايات أحمد فيها منابه ، واتصلت بسببها بالخليفة أسبابه ، وولاه القضاء بقرطبة فتولاه بسياسة محمودة ، ورياسة في الدين مبرمة القوى مجهودة ، والتزم فيها الصّرامة في تنفيذ الحقوق ، والحزامة في إقامة الحدود ، والكشف عن البيان في السر ، والصّدع بالحق في الجهر ، لم يستمله مخادع ، ولم يكده مخاتل ، ولم يهب ذا حرمة ، ولا داهن ذا مرتبة ، ولا أغضى لأحد من أرباب (٣) السلطان وأهله ، حتى تحاموا حدة (٤) جانبه ، فلم يجسر أحد منهم عليه ، وكان له نصيب وافر من الأدب ، وحظ من البلاغة إذا نظم وإذا كتب.
ومن ملح شعره ما قاله عند أوبته عن غربته : [الطويل]
كأن لم يكن بين ولم تك فرقة |
|
إذا كان من بعد الفراق تلاق |
كأن لم تؤرّق بالعراقين مقلتي |
|
ولم تمر كفّ الشّوق ماء مآقي |
ولم أزر الأعراب في جنب أرضهم |
|
بذات اللّوى من رامة وبراق |
ولم أصطبح بالبيد من قهوة النّدى |
|
وكأس سقاها في الأزاهر ساق |
وله أيضا : [البسيط]
ما ذا أكابد من ورق مغرّدة |
|
على قضيب بذات الجزع ميّاس |
ردّدن شجوا شجى قلب الخليّ فهل |
|
في عبرة ذرفت في الحبّ من باس |
ذكّرنه الزمن الماضي بقرطبة |
|
بين الأحبّة في أمن وإيناس |
هم الصّبابة لو لا همة شرفت |
|
فصيّرت قلبه كالجندل القاسي |
وله أخبار تدل على رقة العراق والتغذي بماء تلك الآفاق :
فمنها أنه خرج إلى حضور جنازة بمقابر قريش ، ورجل من بني جابر كان يواخيه له منزل هناك ، فعزم عليه في الميل إليه ، وعلى أخيه ، فنزل (٥) عليه ، فأحضر لهما طعاما ، وأمر جارية له بالغناء ، فغنت : [الكامل]
__________________
(١) الندس : الشديد الفطنة.
(٢) الجلد ، بفتحتين : الأرض الصلبة.
(٣) في ب : أسباب السلطان.
(٤) في ب : حتى تحاموا جانبه.
(٥) في ب : منزلا عليه.