الحدائق الناضرة - ج ٢٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٦

هذا الحديث أن المرأة الأولى إذا أرضعت الجارية حرمت الجارية عليه لأنها صارت بنته ، وحرمت عليه المرأة الأخرى لأنها أم امرأته ، فإذا أرضعتها المرأة الأخيرة أرضعتها وهي بنت الرجل لا زوجته ، فلم تحرم عليه لأجل ذلك.

وإلى هذا القول مال السيد السند في شرح النافع ، وشيخنا المجلسي في حواشيه على الكافي وهو الأظهر ، ويعضده أصالة الإباحة ، قال في شرح النافع ـ بعد ذكر الرواية ـ : فهذه الرواية وإن كانت ضعيفة السند لكنها مطابقة لمقتضى الأصل السالم عن المعارض صريحا فيترجح العمل بمضمونها. انتهى.

وقيل يتعدى التحريم إلى الثانية أيضا ، وهو مذهب ابن إدريس ، ونقل عن الشيخ في المبسوط ، وبه صرح المحقق في النافع ، والعلامة في المختلف وأكثر المتأخرين ، ومنهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك قالوا : لأن هذه يصدق عليها أنها أم زوجته وإن كان قد انفسخ عقدها ، لأن الأصح أنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء المعنى فتدخل تحت قوله «وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ» ولمساواة الرضاع للنسب ، وهو محرم سابقا ولا حقا فكذا مساويه ، كذا ذكره في المسالك ثم قال : وهو الأقوى.

أقول : مرجع الدليل الأول إلى ثبوت هذه القاعدة الأصولية ، وهو أنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء مأخذ الاشتقاق ، وقد حققنا في مقدمات الكتاب من المجلد الأول (١) في كتاب الطهارة ما في ذلك من الاشكال واختلاف الأقوال وعدم الصلاحية للبناء عليها في الأحكام الشرعية والاستدلال ، وأما الثاني فيخص عموم القاعدة المذكورة بالرواية.

بقي الكلام فيما طعن به في المسالك على الرواية المشار إليها من أنها ضعيفة السند ، قال : لأن في طريقها صالح بن حماد وهو ضعيف ، ومع ذلك فهي مرسلة لأن المراد بأبي جعفر عليه‌السلام حيث يطلق الباقر عليه‌السلام ، وبقرينة قول ابن شبرمة في مقابلة ، لأنه كان في زمنه وابن مهزيار لم يدرك الباقر عليه‌السلام.

__________________

(١) ج ١ ص ١٢١.

٤٢١

ولو أريد بأبي جعفر الثاني وهو الجواد عليه‌السلام بقرينة أنه أدركه وأخذ عنه فليس فيه أنه سمع منه ذلك ، بل قال : قيل له ، وجاز أن يكون سمع ذلك بواسطة ، فالارسال متحقق على التقديرين مع أن هذا الثاني بعيد لأن إطلاق أبي جعفر لا يحمل على الجواد عليه‌السلام. انتهى.

أقول : فيه (أولا) أن ما طعن به من ضعف السند فهو عندنا غير مسموع ولا معتمد كما تقدمت الإشارة إليه في غير موضع مما تقدم مع أن ذلك لا يقوم حجة على الشيخ وأمثاله من المتقدمين الذين لا وجود لهذا الاصطلاح المحدث عندهم على أنك قد عرفت أن سبطه الذي هو من المتصلبين في هذا الاصطلاح قد عمل بالخبر المذكور وخرج عن قاعدة اصطلاحه في الأخبار ، لاعتضاد الخبر بأصالة الإباحة.

و (ثانيا) أن دعوى الإرسال بعدم صحة إطلاق أبي جعفر عليه‌السلام على الجواد عليه‌السلام ممنوعة كما لا يخفى على من تتبع الأخبار ، فإنه في الأخبار غير عزيز ، ومنه خبر الكتاب الذي كتبه إلى شيعته في أمر الخمس ، وصورة السند هكذا على ما في التهذيب (١) : محمد بن الحسن الصفار عن أحمد وعبد الله بن محمد عن علي بن مهزيار قال : «كتب إليه أبو جعفر عليه‌السلام وقرأت أنا كتابه إليه في طريق مكة قال : الذي أوجبت في سنتي هذه» الخبر ، وضمير «قال» يرجع الى أحمد أو عبد الله «كتب إليه» يعني إلى علي بن مهزيار.

و (ثالثا) أنه مع تسليم الإرسال وأن المروي عنه هو الباقر عليه‌السلام فمن الظاهر الذي لا يعتريه الريب أن جلالة الرجل المذكور وعلو منزلته في هذه الفرقة الناجية يمنع من نقله الخبر مع عدم صحته عنده وثبوته لديه كما في مراسيل ابن أبي عمير وغيره.

و (رابعا) أن ما جعله قرينة على كون المراد الباقر عليه‌السلام من قول ابن شبرمة في مقابلته ، فإن ذلك متجه لو خلي المقام مما يدافعه ويضاده ، فإنه متى كان

__________________

(١) التهذيب ج ٤ ص ١٤١ ح ٢٠ ، الوسائل ج ٦ ص ٣٤٩ ح ٥.

٤٢٢

الظاهر كون المراد بأبي جعفر هو الجواد عليه‌السلام لرواية علي بن مهزيار عنه ، والأصل عدم الإرسال فإن من الجائز الخالي من الاستبعاد أن يكون ذلك السائل الذي قال له نقل له قول ابن شبرمة في المسألة ، وإن كان الرجل المنقول عنه قد مات مذ سنين عديدة وهو عليه‌السلام خطأ ابن شبرمة في هذه الفتوى ، ولا ريب أن هذا الاحتمال أقرب من تكلفه الإرسال في الرواية بالحمل على الباقر عليه‌السلام.

و (خامسا) أن ما ذكره من أن قول ابن مهزيار «قيل له» لا يستلزم أنه سمع ذلك مشافهة ، بل يجوز أن يكون سمع ذلك بواسطة.

فقيه : أنه مع تسليمه وإن بعد فإن حكايته ذلك عنه عليه‌السلام ولو بواسطة لو لم يكن ثابتا محققا عنده لما استجاز أن ينقله لعلمه بما يترتب عليه من العمل به ، وهو لا يقصر عن المشافهة ، وبالجملة فإن جميع ما تكلفه لرد الرواية ليس في محله ، ولذا لم يلتفت إليه سبطه في المقام بل عمل بالرواية من غير توقف ، والله العالم.

الرابعة : لو تزوج رضيعتين فأرضعتهما امرأته حرمن كلهن إن كان قد أرضعتهما بلبنه ، سواء أرضعتهما على الاجتماع أم على التعاقب. أما تحريم الصغيرتين فلأنهما صارتا ابنتيه ، وأما الكبيرة فلأنها أم زوجتيه وأم الزوجة تحرم وإن لم تدخل بالزوجة ، والأم من الرضاع كالأم من النسب كما تقرر ، وإن أرضعتهما بلبن غيره ، فإن كان دخل بالكبيرة حرمن أيضا جميعا مؤبدا ، لأن الرضيعتين وإن لم يكونا بالرضاع ابنتيه لكنهما ابنتا زوجته المدخول بها وهي أم زوجتيه فيحرمن كلهن.

قالوا : ولا فرق بين كون إرضاعهما دفعة أو علي التعاقب ، لأن الكبيرة وإن خرجت عن الزوجية بإرضاع الأولى إلا أن الرضيعة الثانية قد صارت بنت من كانت زوجته.

أقول : وهو يرجع إلى ما تقدم من البناء على قاعدة أنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء مأحذ الاشتقاق ، وقد تقدم ما فيه ، وإن لم يكن دخل بالكبيرة فلا يخلو

٤٢٣

إما أن تكونا ارتضعتا منها دفعة أو على التعاقب ، فإن كان الأول بأن أعطتهما في الرضعة الأخيرة كل واحدة ثديا وارتويا دفعة واحدة انفسخ عقد الجميع لتحقق الجمع بين الأم وبنتيها بالعقد ، واختص التحريم المؤبد بالكبيرة لأنها أم زوجتيه ، وله تجديد العقد على من شاء من الأختين.

وإن أرضعتهما على التعاقب انفسخ نكاح الكبيرة والأولى خاصة لتحقق الجمع المحرم فيهما وبقي نكاح الثانية لأن الكبيرة لم تصر لها أما حتى انفسخ عقدها فلم يتحقق الجمع المحرم ، ويبقى حل الصغيرة الاولى موقوفا على مفارقة الثانية كما في كل أخت الزوجة غير معقود عليها ، وقس على هذا ما لو أرضعت له زوجة ثالثة ورابعة دفعة أو على التعاقب (١).

الخامسة : لو زوج ابنه الصغير بابنة أخيه الصغيرة ثم أرضعت جدتهما أحدهما انفسخ نكاحهما ، لأن الجدة إن كانت للأب وكان المرتضع الذكر ، فإنه يصير عما لزوجته ، لأنه صار أخا أبيها لأمه من الرضاع بعد أن كان ابن عمها فتحرم عليه ، وإن كان المرتضع الأنثى فإنها تصير عمة لزوجها لأنها أخت أبيه لامه فتحرم عليه أيضا.

وإن كانت الجدة المرضعة جدة للام بأن كانا ولدي خالة كما كانا ولدي عم ، فإن كان المرتضع الذكر فإنه يصير خالا لزوجته لأنه صار أخا أمها من الرضاع ، وإن كان المرتضع الأنثى فإنها تصير خالة لزوجها لأنها أخت امه من الرضاع. والكل مما يحرم نكاحه في النسب فيحرم في الرضاع أيضا ، عملا بالخبر المتفق عليه.

السادسة : لو تزوجت المرأة الكبيرة بصغير بأن عقد له عليها وليه الإجباري ،

__________________

(١) يعنى أرضعت الكبيرة زوجة له ثالثة رضيعة ، فإنه ان كان قد دخل بالكبيرة حرمت عليه الصغيرة وهي الثالثة أيضا مؤبدا كما ذكر في الأصل والا بقيت الصغيرة زوجة من غير فسخ وذلك لان الكبيرة قد بانت منه سابقا ، فلا يتحقق الجمع بينها وبين بنتها ، وهكذا لو أرضعت رابعة. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٤٢٤

ثم فسخت منه بعيب أو غيره من الأمور الموجبة للفسخ ثم إنها تزوجت بكبير وأرضعت ذلك الصغير بلبن زوجها الكبير فإنها تحرم على الزوجين معا ، أما على الصغير فلصيرورته ابنا لها وهي أم له ، ولأنها منكوحة أبيه. وأما الكبير فلأنها كانت زوجة لابنه الرضاعي وحليلة الابن محرمة ، وكذا الحكم لو تزوجت بالكبير أولا ، ثم طلقها ، ثم تزوجت بالصغير ، ثم أرضعته بلبنه ، والكلام في المهر هنا كما سبق.

السابعة : لو طلق زوجته الكبيرة فأرضعت زوجته الصغيرة حرمتا عليه إن كان دخل بالكبيرة لصيرورتها أم زوجته ، وصيرورة الصغيرة بنتا له إن كان الرضاع بلبنه ، وإن لم يكن الرضاع بلبنه تصير بنتا للزوجة المدخول بها.

وإن لم يدخل بالكبيرة حرمت الكبيرة خاصة لما عرفت دون الصغيرة ، لأن البنت لا تحرم على الزوج بمجرد العقد على أمها بل مع الدخول بالأم نعم ينفسخ النكاح فله تجديده إن شاء.

ولا يخفى عليك أن الحكم بالتحريم هنا مبني على الاكتفاء بمن كانت زوجته ، وقد تقدم ذكر الخلاف في مثل ذلك في المسألة الثالثة ، لكنه هنا منتف حيث لا قائل بخلاف ما ذكرناه ، وهو يرجع إلى العمل بالقاعدة الأصولية المتقدمة على بعض الأقوال ، وهو أنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء مأخذ الاشتقاق ، إلا أن ثمة نصا على خلاف القاعدة المذكورة ، وقائلا بذلك وهنا لا نص ولا مخالف على الظاهر.

الثامنة : لو كان له زوجتان كبيرة وصغيرة فأرضعت أم الزوجة الكبيرة زوجته الصغيرة انفسخ نكاحهما معا لصيرورة الصغيرة حينئذ أختا لزوجته الكبيرة والجمع بين الأختين في النكاح محرم ، ولو أرضعت الصغيرة جدة الزوجة الكبيرة أو أختها. قال في القواعد : إشكال.

ووجه الاشكال على ما ذكره شراح الكتاب أنه على تقدير كون مرضعة

٤٢٥

الزوجة الصغيرة جدة الكبيرة ، فإن كانت جدة لأبيها تصير الصغيرة عمة الزوجة الكبيرة ، وإن كانت جدتها لأمها تكون خالة لها ، وعلى تقدير كون المرضعة أخت الزوجة الكبيرة تكون الكبيرة خالة الصغيرة ، فيكون جامعا بين العمة وبنت الأخ ، وبين الخالة وبنت الأخت في الصور الثلاث وكل ذلك منهي عنه ، لقوله عليه‌السلام (١) «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها».

ومن أن هذه النسبة بمجردها غير مانعة من النكاح ، فإنه لو أذنت العمة أو الخالة ، أو تقدم عقد بنت الأخ أو الأخت ورضيت العمة والخالة جاز الجمع ، ولم يقم دليل على عدم جواز الجمع هنا فيستصحب الحكم السابق.

قال المحقق الثاني في الشرح : والتحقيق أن يقال إن الجمع بين العمة وبنت أخيها والخالة وبنت أختها في النكاح بغير رضا العمة والخالة ممنوع منه ولهذا لو عقد أحد الوكيلين على بنت الأخ والوكيل الآخر على عمتها في زمان واحد لم يقع كل من النكاحين صحيحا ماضيا ولا واحد منهما بدون رضاهما ، لانتفاع المرجح بل يقعان موقوفين ، وكذا لو تزوجهما في ساعة واحدة ، وعلي هذا فيكون الرضاع المحدث بهذه النسبة لاجتماعهما في النكاح ، وهو منهي عنه بدون الاذن والفرض انتفاعه. انتهى وهو جيد.

وعلى هذا ففي صورة ما إذا أرضعت الصغيرة جدة الكبيرة لأبيها تصير الصغيرة عمة الزوجة الكبيرة ، وينفسخ النكاح هنا لعدم جواز الجمع إلا مع رضا العمة ، والعمة هنا صغيرة لا يمكن اعتبار رضاها في الصورتين.

وفي صورة ما لو أرضعت الصغيرة جدة الكبيرة للام ، تصير الصغيرة خالة الزوجة الكبيرة فينفسخ النكاح أيضا لعين ما ذكرنا في العمة.

وفي صورة ما لو أرضعت الصغيرة أخت الكبيرة تكون الكبيرة خالة الصغيرة ، فإن رضيت صح النكاح ولا فسخ. لأنه يجوز الجمع بين الخالة وبنت أختها مع

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٢٤ ح ٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٧٥ ح ٢.

٤٢٦

رضا الخالة ، ولو أرضعت امرأة أخي الكبيرة تلك الصغيرة صارت الكبيرة عمة الصغيرة ، فإن رضيت لم ينفسخ النكاح أيضا.

وبالجملة فإن الرضاع هنا يجري مجرى النسب في صحة النكاح مع الرضا ، وعدمه مع عدم الرضاء لصدق هذه العنوانات ، أعني كونها عمة وخالة وبنت أخ وبنت أخت على من كانت كذلك نسبا أو رضاعا كما تقدم في الأم والبنت والأخت ، وبذلك يظهر لك ضعف الوجه الثاني من وجهي الإشكال المذكور.

ثم إنه ينبغي أن يعلم أن غاية ما يلزم هنا هو انفساخ العقد لعدم جواز الجمع لا التحريم المؤبد ، والله العالم.

التاسعة : لو كانت له أمة قد وطأها فأرضعت زوجته الصغيرة حرمتا معا ، سواء كان الرضاع بلبنة أو لبن غيره ، أما على الأول فلصيرورة الأمة اما لزوجته ، وصيرورة الزوجة بنتا له وأما على الثاني فلكون الأمة اما لزوجته ، والزوجة بنت المدخول بها. أما لو لم يكن الأمة موطوءة ، فإنها تختص بالتحريم دون الزوجة ، لأنها أم زوجته ، وأما الزوجة فلا موجب لتحريمها.

قال المحقق الثاني في شرح القواعد : والظاهر أنه إذا لم يكن قد وطأ الأمة لا تحرم الزوجة بإرضاع الأمة إياها إذ لا يحرم على الشخص بنت مملوكته التي لم يطأها لا عينا ولا جمعا ، فلا تحريم حينئذ ولا فسخ ، انتهى.

ويغرم الزوج للصغيرة على تقدير تحريمها عليه المهر جميعا أو نصفه على ما سبق ، وأما رجوع الزوج على الأمة المرضعة ، فإن كانت أمته وهي مملوكة له ، لم يرجع عليها بشي‌ء ، لأنه لا يثبت له على ماله مال.

نعم لو كانت مكاتبة مطلقة أو مشروطة رجع عليها لانقطاع سلطنته عنها ، وكونها بحيث يثبت عليها مال ، وكذا لو كانت مملوكة لغيره قد نكحها بالعقد أو التحليل ، فإنه يرجع عليها ، على إشكال في الجميع ، منشأه ما تقدم من أن البضع هل هو كالأموال يضمن بالتفويت أم لا؟ وقد تقدم الكلام في ذلك في الصورة

٤٢٧

الثانية من الصور الخمس المذكورة في أول هذا المقام ، فإن قلنا بالضمان تبعت الأمة المرضعة متى أعتقت كما في سائر الإتلافات المالية.

العاشرة : لو كان لاثنين زوجتان صغيرة وكبيرة فطلق كل منهما زوجته ، وتزوج كل منهما بزوجة الآخر ، ثم أرضعت الصغيرة منهما الكبيرة ، قالوا : حرمت الكبيرة عليهما معا لكونهما أم زوجة ، أما بالنسبة إلى زوج الصغيرة في الحال فواضح ، وأما بالنسبة إلى من كانت زوجته ثم طلقها فهو مبني على ما تقدم من الاكتفاء في التحريم بمثل ذلك أو عدمه؟ وهو يرجع إلى العمل بتلك القاعدة الأصولية وعدمه ، وأما الصغيرة فإنها تحرم على من دخل بالكبيرة لأنها بنت زوجته المدخول بها ، أو من كانت زوجته ، دون من لم يدخل بها لأن البنت لا تحرم على الزوج بمجرد العقد على أمها بخلاف الام ، ومن المعلوم أن أم الزوجة حرام لقوله سبحانه «وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ».

المورد الخامس : إذا ادعى أحد الزوجين الرضاع المحرم فلا يخلو إما أن يكون المدعي هو الزوج أو الزوجة فالكلام هنا في الموضعين.

الأول : أن يكون المدعي هو الزوج ، بأن يدعي على المرأة أنها امه من الرضاع أو بنته أو أخته مثلا ، فإما أن لا يمكن قبول دعواه بحيث يكذبه الحس وينافيه الوجدان ، بأن يقضي ـ الوجدان بالنظر إلى سن كل واحد منهما ـ أنه لا يمكن ارتضاعهما من لبنه في الحولين ، أو لا يمكن رضاعه من لبنها كذلك أو لا يمكن ارتضاعهما من امرأة واحدة أو بلبن رجل واحد فإنه لا يلتفت إلى دعواه ولا يعمل عليها وجاز له أن يتزوجها ، وإن كان قد تزوجها صح تزويجه ولم تحرم عليه ، أو يمكن ذلك ، وعلى هذا إن كان قبل العقد عليها يحكم عليه باعترافه ، ولا يجوز له التزويج بها ظاهرا سواء صدقته أو كذبته وإن أكذب نفسه وادعى تأويلا محتملا لعموم «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز (١)» ، وهذا

__________________

(١) الوسائل ج ١٦ ص ١١١ ح ٢.

٤٢٨

هو الظاهر من إطلاق الأصحاب الحكم في المسألة.

وربما احتمل قبول قوله إذا أكذب نفسه وادعى تأويلا محتملا بأن قال : قد اعتمدت في الإقرار على قول من أخبرني ، ثم تبين لي أن مثل ذلك لا يثبت به الرضاع وأمكن في حقه ذلك ، إلا أن ظاهرهم هو الأول.

وإن كانت الدعوى المذكورة بعد العقد عليها وقبل الدخول وصدقته في تلك الدعوى فالعقد باطل ، ولا مهر ولا متعة لها لانتفاء النكاح ، وإن كانت بعد الدخول وكانت عالمة بذلك قبل الدخول فلا شي‌ء لها أيضا لأنها بعلمها سابقا ثم قبولها الدخول تكون بغيا ، ولا مهر لبغي ، وإن لم تعلم إلا بعد الدخول فهي حال الدخول جاهلة بالتحريم ، والمنقول عن الشيخ أن لها المسمى معللا ذلك بأن العقد هو سبب ثبوت المهر لأنه مناط الشبهة ، فكان كالصحيح المقتضي لتضمين البضع بما وقع عليه التراضي في العقد.

واختار في المسالك وقبله المحقق الثاني في شرح القواعد أن الذي لها في هذه الصورة إنما هو مهر المثل ، قال في المسالك ـ بعد نقل قول الشيخ ـ : ويحتمل وجوب مهر المثل لبطلان العقد فيبطل ما تضمنه من المهر الموجب له ، وهو وطئ الشبهة ، وعوضه مهر المثل ، لأن المعتبر في المتلفات المالية وما في حكمها هو قيمة المثل ، وقيمة منافع البضع هو مهر المثل ، وهذا هو الأقوى (١). انتهى. وعلى هذا النهج كلامه في شرح القواعد (٢).

__________________

(١) ثم انه قال ـ بعد قوله «وهذا هو الأقوى» ـ هذا إذا كان مهر المثل أقل من المسمى أو مساويا له ، أما لو كان أزيد منه احتمل أن لا يكون سوى المسمى لقدومها على الرضاع عن البضع بالأقل فلا يلزمه الزائد ، وثبوت مهر المثل مطلقا ، لان ذلك هو المعتبر في قيمته شرعا ورضاها بدون وجه شرعي ولا عبرة به ، وهذا هو المعتمد. انتهى.

(منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) حيث قال : ويحتمل وجوب مهر المثل مع الجهل ، لان العقد باطل فلا يلزم

٤٢٩

هذا فيما إذا صدقته الزوجة ، أما لو كذبته فإن أقام بينة على دعواه التحريم حكم بها وكان كما لو صدقته ، وإن لم يكن ثمة بينة حكم على بالحرمة لاعترافه ، عملا بالخبر المتفق عليه ، ولا يقبل قوله بالنسبة إلى المرأة فإن ادعى عليها العلم فله إحلافها ، ومتى حلفت أو لم يدع عليها العلم وكان ذلك قبل الدخول فهل الواجب لها عليه نصف الصداق لأنها فرقة من طرف الزوج قبل الدخول كالطلاق ، أو الجميع لوجوبه بالعقد ، وتنصيفه بالطلاق لا يقتضي إلحاق غيره به لأنه قياس لا يوافق أصول المذهب؟ قولان : المشهور الأول ، والثاني مختار جملة من محققي المتأخرين كالمحقق الثاني والشهيد الثاني في شرحي القواعد والمسالك ، وأما بعد الدخول فالواجب الجميع قولا واحدا وحكم بالفرقة بينهما.

الثاني : أن يكون مدعي الرضاع المحرم هو الزوجة ، وحينئذ فإن كان ذلك قبل التزويج حكم عليها به وحرم عليها نكاحه ، وهو واضح ، فإن كان بعد التزويج سمعت أيضا دعواها الحرمة وإن كانت قد رضيت بالعقد لجواز جهلها بالحرمة حال العقد ، وإنما تجدد لها باخبار الثقات بعد ذلك ، فلا يكون فعلها مكذبا لدعواها ، وحينئذ فإن صدقها الزوج على دعواها وكان ذلك قبل الدخول بها ثبتت الفرقة بينهما ولا شي‌ء لها ، وإن كان بعد الدخول فلها مهر المثل أو المسمى على الخلاف المتقدم مع جهلها حال العقد ، وإنما حصل العلم بالتحريم لها بعده.

واختار في التذكرة أن لها أقل الأمرين ، لأن المسمى إن كان أقل فلا تستحق ظاهرا غيره ، ولا يقبل قولها في استحقاق الزائد بل القول فيه قوله بيمينه ، وإن كان مهر المثل أقل فلا تستحق بدعواها غيره ، لأن الوطي بدعواها لشبهة لا لعقد ، واختار هذا القول في المسالك. وكذا الشيخ علي في شرح القواعد.

__________________

من جهته مهر لبطلان ما تضمنه ، وقد تقرر في الأصول أن الباطل لا يترتب عليه أثره وانما الموجب له وطئ الشبهة ولا تعلق له بالمسمى ، ولان الواجب في الإتلاف انما هو قيمة المثل فوجب ضمانه : وهو الأصح. انتهى (منه ـ قدس‌سره ـ).

٤٣٠

وأما مع العلم بالتحريم قبله فهي بغي لا مهر لها ، وإن كذبها الزوج وكان ذلك بعد العقد وقبل الدخول لم تقبل دعواها في حقه ، وله المطالبة بحقوق الزوجية وليس لها الامتناع بحسب الظاهر ، ولكن ليس لها ابتداءها بالاستمتاع لأنه محرم بزعمها ، ولا مهر لها لفساده بزعمها ، ويجب عليها أن تفتدي منه بما أمكنها ، والتخلص من ذلك بكل وجه ممكن.

وإن كذبها الزوج وكان ذلك بعد الدخول بها فالحكم في المهر كما تقدم من الأقوال الثلاثة ، وأما في بطلان العقد فإنه لا يقبل قولها إلا بالبينة ، لكن لها إحلافه لو ادعت عليه العلم فيحلف على نفى العلم بذلك ، (١) فإن حلف اندفعت دعواها وحكم بصحة النكاح ظاهرا ، وعليها فيما بينها وبين الله التخلص من ذلك بحسب الإمكان.

وإن نكل ردت اليمين عليها فتحلف على البت لأنه حلف على إثبات فعل ، فإن حلفت حكم بالفرقة بينهما ، ووجب بالدخول ما مر ، وإن نكلت أو نكلا معا بقي النكاح ظاهرا.

وحيث يبقى بحسب الظاهر فليس لها الابتداء بالاستمتاع كما عرفت ولا المطالبة بحقوق الزوجية من نفقة وكسوة ومبيت عندها ونحو ذلك ، لاعترافها بأنها ليست زوجة. نعم لها قبول ذلك مع دفع الزوج.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن عندي في هذا المقام إشكالا ولعله إنما جاء من قصور فهمي الفاتر ، وذلك بالنسبة إلى القول الذي نقلناه عن التذكرة ، وذكرنا أنه اختاره في المسالك وشرح القواعد من القول بالتفصيل ، فإن المفهوم من كلامه في المسالك الذي قدمناه في الموضع الأول ـ في اختياره القول بمهر المثل في صورة

__________________

(١) لما تقرر في كتاب القضاء من أن الحلف على نفى فعل الغير يحلف على نفسي العلم ، والحالف على إثبات فعل الغير أو إثبات فعل نفسه أو نفى فعله انما يحلف على القطع والبت. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٤٣١

ما إذا لم تعلم المرأة بالتحريم إلا بعد الدخول ، فهي حال الدخول جاهلة بالتحريم ـ أن الواجب لها مهر المثل دون الممسى لبطلان العقد ، فيبطل ما تضمنه من المهر ، والموجب له وطئ الشبهة ، وعوضه مهر المثل إلى آخره ، وكذا صرح فيما طويناه من كلامه (١) ولم ننقله في تعليل وجوب مهر المثل لها ، وإن كان أزيد من المسمى ، قال : لأن ذلك هو المعتبر في قيمته شرعا.

ولا يخفى أن ما نحن فيه من قبيل ذلك ، فإن الدخول هنا وقع قبل العلم بالتحريم ، فيكون ذلك وطئ شبهة ، وقد تقرر أن وطئ الشبهة موجب لمهر المثل كائنا ما كان لعين ما نقلناه عن المسالك في تلك المسألة.

وقوله في التذكرة ـ إن المسمى إن كان أقل فلا يستحق ظاهرا غيره ـ مردود بأن المسمى قد بطل ببطلان العقد لعين ما تقدم في تلك المسألة ، والواجب لها شرعا من حيث إن الوطي من شبهة إنما هو مهر المثل كما عرفت.

قوله ـ ولا يقبل قولها في استحقاق الزائد ، بل القول قوله بيمينه ـ لا معنى له لأنا نتكلم على ما يقتضيه هذا العقد الذي ظهر بطلانه هل الواجب فيه ما سمي في العقد أو مهر المثل ، ولا تعلق للكلام هنا بمدع ولا منكر حتى يقال إنه تدعي الزيادة وهو ينكرها فالقول قوله بيمينه ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا خفاء عليه ، والله العالم.

المورد السادس : لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أنه لا يحكم بالرضاع المحرم إلا بعد ثبوته شرعا ، فتحقيق الكلام في المقام يقع في مواضع.

الأول : اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أنه هل يثبت بشهادة النساء منفردات أو منضمات أم لا ، فذهب الشيخ في الخلاف وموضع من المبسوط ، وتبعه ابن إدريس وسبطه نجيب الدين يحيى بن سعيد صاحب الجامع إلى العدم

__________________

(١) قوله «فيما طويناه من كلام» ، إشارة الى ما نقلناه عنه في الحاشية المتقدمة. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٤٣٢

وهو اختيار العلامة في التحرير ، ونقله في المسالك عن الأكثر ، وذهب الشيخ أبو عبد الله المفيد وسلار والشيخ في كتاب الشهادات من المبسوط إلى قبولها ، وهو المنقول عن ابن حمزة وابن الجنيد وابن أبي عقيل. واختاره العلامة في المختلف والقواعد وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك وقربه المحقق في الشرائع ، وتردد فيه في النافع.

احتج الأولون بأصالة الإباحة ، قال في المسالك : ولا يخفى ضعف أصالة الإباحة مع معارضة الشهادة.

احتج الآخرون بموثقة عبد الله بن بكير (١) عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه‌السلام «في امرأة أرضعت غلاما وجارية ، قال : يعلم ذلك غيرها؟ قال قلت : لا ، قال : لا تصدق إن لم يكن غيرها».

قال في المسالك : ومفهوم الشرط أنها تصدق حيث يعلم ذلك غيرها : لأن عدم الشرط يقتضي عدم المشروط وهو عدم التصديق ، فيثبت نقيضه ، وهو التصديق. انتهى.

أقول : والأظهر الاستدلال على هذا القول الأخير بأنه لا ريب أن الرضاع مما يعسر اطلاع الرجال عليه غالبا كالولادة والبكارة والثيوبة وعيوب النساء الباطنة كالرتق والقرن والحيض ونحو ذلك ، وقد استفاضت الأخبار بأن ما كان كذلك فإنه تقبل شهادة النساء فيه.

وممن صرح بأن الرضاع مما يعسر اطلاع الرجال عليه شيخنا الشهيد في اللمعة ، وهو ظاهر الشهيد الثاني في شرحها حيث نسبه إلى الأقوى ، وبذلك صرح المحدث الكاشاني في المفاتيح ، والفاضل الخراساني في الكفاية.

وأما الأخبار الدالة على قبول شهادة النساء فيما يعسر اطلاع الرجال عليه

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٢٣ ح ٣٨ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٠٤ ح ٣.

٤٣٣

فمنها قول الرضا عليه‌السلام في رواية محمد بن الفضيل (١) «تجوز شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه ، وليس معهن رجل».

وفي رواية أبي بصير (٢) قال : «سألت الصادق عليه‌السلام عن شهادة النساء ، فقال : تجوز شهادة النساء وحدهن على ما لا يستطيع الرجال ينظرون إليه».

وفي رواية إبراهيم الخارقي (٣) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : تجوز شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه ويشهدوا عليه».

وفي موثقة ابن بكير (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال تجوز شهادة النساء في العذرة وكل عيب لا يراه الرجال».

وفي صحيحة عبد الله بن سنان (٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال تجوز شهادة النساء وحدهن بلا رجال في كل ما لا يجوز للرجال النظر إليه».

وفي رواية داود بن سرحان (٦) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أجيز شهادة النساء في الغلام صاح أو لم يصح وفي كل شي‌ء لا ينظر إليه الرجال تجوز شهادة النساء فيه». إلى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبع ، وبذلك يظهر لك قوة القول الثاني (٧).

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٧ ص ٣٩١ ح ٥ و ٤، التهذيب ج ٦ ص ٢٦٤ ح ١١٠ و ١٠٩، الوسائل ج ١٨ ص ٢٥٩ ح ٧ وص ٢٥٨ ح ٤.

(٣) التهذيب ج ٦ ص ٢٦٥ ح ١١٢ ، الوسائل ج ١٨ ص ٢٥٩ ح ٥.

(٤) الكافي ج ٧ ص ٣٩١ ح ٧ ، التهذيب ج ٦ ص ٢٧١ ح ١٣٧ ، الوسائل ج ١٨ ص ٢٦٠ ح ٩.

(٥ و ٦) الكافي ج ٧ ص ٣٩١ ح ٨ وص ٣٩٢ ح ١٣، التهذيب ج ٦ ص ٢٦٤ ح ١٠٧ وص ٢٦٨ ح ١٢٦ ، الوسائل ج ١٨ ص ٢٦١ ح ١٠ وص ٢٦١ ح ١٢.

(٧) وبه قطع المحقق والعلامة والشهيد في شرح شهادات الإرشاد ، وصرح بأنه هو المشهور بين الأصحاب ، وعليه اعتمد المحقق الشيخ على في شرح القواعد. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٤٣٤

الثاني : المشهور في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه في كل موضع يكفى فيه شهادة النساء منفردات لا يكفي فيه أقل من أربع نساء ، لما علم من عادة الشارع في باب الشهادات من اعتبار امرأتين برجل ، والأمر بإشهاد رجل وامرأتين.

نعم قد استثني من ذلك صورتان قد خرجتا بنص خاص إحداهما الوصية بالمال ، والثانية ميراث المستهل ، فإنه قد دلت النصوص على ثبوت الحق كلا أو بعضا بنسبة الشاهد ، فيثبت الكل بالأربع ، وثلاثة الأرباع بالثلاثة ، والنصف بالاثنين ، والربع بالواحدة.

وذهب الشيخ المفيد وتبعه سلار إلى أنه يقبل في عيوب النساء والاستهلال والنفاس والحيض والولادة والرضاع شهادة امرأتين مسلمتين في حال الضرورة ، وإذا لم يوجد إلا شهادة امرأة واحدة مأمونة قبلت شهادتها فيه ، واستندا في ذلك إلى صحيحة الحلبي (١) «عن الصادق عليه‌السلام أنه سأله عن شهادة القابلة في الولادة؟ قال : تجوز شهادة الواحدة».

وأجاب في المختلف عن الرواية بالقول بالموجب ، فإنه يثبت بشهادة الواحدة الربع ، مع أنه لا يدل على حكم غير الولادة ، ونقل عن ابن أبي عقيل وسلار القول بقبول الواحدة في الرضاع والحيض والنفاس والاستهلال والعذرة وعيوب النساء من غير اعتبار الضرورة.

وعن ابن الجنيد القول باعتبار الأربع ، والقضاء بشهادة ما نقص عن العدد في حالة الاختيار ولكن بالحساب من ذلك كما في الاستهلال والوصية قال : وكل أمر لا يحضره الرجال ولا يطلعون عليه فشهادة النساء فيه جائزة كالعذرة والاستهلال والحيض ، فلا يقضى بالحق إلا بأربع منهن ، فإن شهد بعضهن فبحساب ذلك.

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٩٠ ح ٢ ، التهذيب ج ٦ ص ٢٦٩ ح ١٢٨ ، الوسائل ج ١٨ ص ٢٥٨ ح ٢.

٤٣٥

ورد بأن هذا إنما يستقيم على ما قد عول عليه من العمل بالقياس إذ لا نص هناك في باب الرضاع ، ولا تنصيص أيضا على العلة الجامعة. انتهى ، وهو جيد.

الثالث : قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لا يقبل الشهادة بالرضاع مجملة ، فلا يكفي الشهادة بحصوله مطلقا لوقوع الخلاف فيه كمية وكيفية ، واختلاف مذهب الشاهد والحاكم في ذلك.

فلو شهد الشاهد أن بين فلان وفلانة رضاعا محرما لم يقبل ذلك ، لجواز بنائه في شهادته على التحريم بما لا يوافق مذهب الحاكم ، بل لا بد أن يشهد أن فلانا رضع من ثدي فلانة من لبن الولادة أو الحمل المستند إلى النكاح الصحيح خمس عشرة رضعة مثلا تامات في الحولين من غير أن يفصل بينهما برضاع امرأة غيرها.

نعم لو علم أن مذهب الشاهد لا يخرج عن مذهب الحاكم بأن يكون من جملة مقلديه الموثوق بمراعاته مذهبه ، فالظاهر أنه لا يحتاج إلى التفصيل المذكور وإن كان أحوط ، ومثله ما لو كان الشاهد فقيها موثوقا به وهو موافق الحاكم في جميع شرائط الرضاع ، قال في شرح القواعد : وهذا قوي ، لكن لا نجد به قائلا من الأصحاب ، وبمثله صرح في شرح اللمعة (١).

وصرحوا أيضا بأنه يشترط في صحة شهادته أن يعرف المرأة في تلك الحال أنها ذات لبن ، وأن يشاهد الولد قد التقم الثدي ، وأن يكون مكشوفا لئلا يلتقم غير الحلمة ، وأن يشاهد امتصاصه له وتحريك شفتيه والتجرع وحركة الحلق على وجه يحصل له القطع بذلك لقولهم عليهم‌السلام «لا تشهد إلا على مثل

__________________

(١) حيث قال : ولو علم موافقة رأى الشاهد لرأي الحاكم في جميع الشرائط فالمتجه الاكتفاء بالإطلاق ، الا أن الأصحاب أطلقوا القول بعدم صحتها الا مفصلا الى آخره. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٤٣٦

الشمس» (١).

أقول : ومن هنا تبين لك صحة ما قدمناه من عسر اطلاع الرجال على ذلك غالبا.

وهل يعتبر في التفصيل ذكر وصول اللبن إلى الجوف ، قال بعضهم : فيه وجهان ، واستقرب العلامة في القواعد عدم الاشتراط لأن ضابط وجوب التفصيل وقوع الخلاف في شرائط المشهود به ، دفعا لاحتمال استناد الشاهد إلى اعتقاد لا يستصحه الحاكم ، ووصول اللبن إلى الجوف ليس من هذا القبيل ، فيكفي فيه إطلاق الشهادة.

وأيضا ليس بمحسوس ، فلا يعتبر تصريح الشاهد به ، ومن قال إنه يحكم به ، يعول على ما ذكره لتقبل الشهادة كما ذكر في الإيلاج في شهادة الزنا.

وأيضا ذلك مناط نشر الحرمة فلا بد من ذكره ، وأيضا اختصاص علية الحكم (٢) ببعض الأفراد لا يقدح في عمومه فإن العلة في تحريم الخمر هو الإسكار ، مع أن قليله يحرم وإن لم يسكر ، قال المحقق الثاني في شرح القواعد : والأول أصح ، لأن الشهادة بالرضاع يقتضيه ، فيكفي عن ذكره.

وقال سبطه ـ المحقق الداماد بعد نقل ذلك عنه ـ : وعندي أن الأصح هو الثاني عملا بمقتضى الأدلة. انتهى. وأشار بالأدلة إلى ما ذكرناه في الاستدلال للوجه الثاني والظاهر هو ما ذكره جده (قدس الله روحهما) قال في شرح القواعد :

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ص ٢٥٠ ح ٣.

(٢) قوله «وأيضا اختصاص علية الحكم» الى آخره إشارة إلى الجواب عما ذكره في أدلة الأول ـ من تعليله بأن ضابط وجوب التفصيل وقوع الخلاف في شرائط المشهود به ، وهذا الفرد ليس محل خلاف ، ووجه الجواب ظاهر فإنه لا يجب اطراد العلة في جميع الافراد المحكوم فيها بذلك الحكم كما ذكر من مثال الخمر ونحوه تعليل وجوب العدة باستبراء الرحم وغير ذلك. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٤٣٧

هل يشترط أن يشهد الشاهد بأن الرضيع بقي اللبن في جوفه ، لأنه لو قاءه لم يثمر الرضاع التحريم ، مقتضي التعليل السابق اعتباره ، لأن هذا من الأمور المختلف فيها ولم أجد به تصريحا ، إلا أنه ينبغي اعتباره.

قال سبطه ـ بعد نقل ذلك عنه ـ قلت : لا ريب في وجوب اعتباره وإن لم يكن هو مما اختلف فيه لما تعرفته ، فكيف إذا وقع فيه الخلاف. انتهى.

هذا كله إذا كانت الشهادة على نفس الرضاع ، أما لو كانت على إقرار المقر به فإنه لا يعتبر ما ذكر من التفصيل وإن أمكن استناد المقر إلى ما لا يحصل به التحريم عند الحاكم عملا بعموم «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» (١). إلا أن يعلم استناده إلى مذهب يخالف مذهب السامع أو الحاكم ولا تقبل إلا شهادة رجلين ، لأن الإقرار مما يطلع عليه الرجال غالبا.

الرابع : لو كان له أخت من الرضاع أو بنت أو نحوهما فامتزجت بأهل قرية ، قال العلامة في القواعد : جاز أن ينكح واحدة منهن ، ولو اشتبهت بمحصور العدد عادة حرم الجميع.

قال المحقق الشيخ علي في شرحه على الكتاب : فهنا صورتان : (إحداهما) أن يكون الاختلاط بعدد غير محصور بالعادة كنسوة بلد أو قرية كبيرة فله نكاح واحدة منهن ، ولو لا ذلك لسد عليه باب النكاح لأنه لو انتقل إلى بلدة لم يؤمن مسافرتها إلى بلدة اخرى قال : ومثله ما لو اختلط صيد مملوك بصيود مباحة لا تنحصر فإنه لا يحرم الاصطياد ، وكذا لو تنجس مكان أرض غير محصورة ، فإنه لا يمنع من الصلاة على تلك الأرض.

(الثانية) أن يكون الاختلاط بعدد محصور في العادة فيمنع من النكاح هنا لوجوب اجتناب المحرم ولا يتم إلا باجتناب الجميع ، ولا عسر في اجتناب العدد المحصور ، ثم قال : والمراد من غير المحصور عسر عدهن على آحاد الناس

__________________

(١) الوسائل ج ١٦ ص ١٣٣ ح ٢.

٤٣٨

نظرا إلى أن أهل العرف إذا نظروا إلى مثل ذلك العدد أطلقوا عليه أنه ليس بمحصور لكثرته ، وإلا فلو عمد أحد إلى أكبر بلدة لعد سكانها لأمكنه ذلك. انتهى.

قال بعض الفضلاء بعد نقل ذلك : وهذا الكلام لا يخلو من اشكال وإن كان الاجتناب هو الأحوط فتأمل. انتهى.

أقول : قد تقدم تحقيق الكلام في جلد كتاب الصلاة ، وكذا حققنا المسألة بما لا مزيد عليه في كتابنا الدرر النجفية ، وذكرنا الخلاف في هذا المقام من بعض متأخري المتأخرين الأعلام.

وأما ما ذكره المحقق المذكور هنا بالنسبة إلى ما هو المراد من غير المحصور فيمكن الاستدلال له بموثقة حنان بن سدير (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أنه سئل وأنا حاضر عن جدي رضع من خنزير حتى شب واشتد عظمه ، ثم استفحله رجل في غنم فخرج له نسل ما تقول في نسله؟ قال : أما ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربه ، وأما ما لم تعرفه فهو بمنزلة الجبن فكل ولا تسأل عنه».

بحمل الغنم في الخبر على قطيع كثير الغنم كما هو الغالب ، وقد حكم عليه‌السلام بأنه ما لم يعلم نسل ذلك الفحل بعينه فإنه يجوز له الأكل من تلك الغنم ، وليس إلا من حيث إنه غير محصور عادة كالقرية الكبيرة التي مثل بها ويؤيده تمثيله بالجبن الذي استفاضت الروايات بحله وإن عمل بالميتة لكونه غير محصور فيحتمل أن لا يكون كذلك.

وفي الخبر أيضا احتمال آخر ذكرناه في كتاب الدرر النجفية ، وهو أنه يمكن أن يكون نسله غير محقق ولا معلوم في جملة تلك الغنم ، لاحتمال أنه سرق أو ضل أو ذبح أو بيع أو نحو ذلك ، ولا يتحقق العلم بالحرام في المقام ، والحكم

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٢٤٩ ح ١ ، التهذيب ج ٩ ص ٤٤ ح ١٨٣ ، الفقيه ج ٣ ص ٢١٢ ح ٧٧ ، الوسائل ج ١٦ ص ٣٥٢ ح ١.

٤٣٩

بالتحريم مبني على تيقن العلم ببقائه.

بقي هنا شي‌ء ينبغي التنبيه عليه ، وهو أنه لو عقد على واحدة من العدد المحصور فلا ريب أنه منهي عن ذلك وأن العقد باطل بحسب ظاهر الشرع لما عرفت من تحريم الجميع عليه في المحصور ، ولكن لو ظهر بعد العقد أن المعقود عليها ليست من المحرمات عينا ولا جمعا ، فهل يحكم بصحة العقد بناء على مطابقته للواقع وانكشاف ذلك له ، أو البطلان لسبق الحكم ببطلانه ، وأنه وقع مع اعتقاد العاقد عدم الصحة ، وأن الأحكام الشرعية إنما تناط بالظاهر لا بالواقع ونفس الأمر ، مقتضي قواعد الأصحاب وأصولهم هو البطلان لما عرفت ، ولا ريب أن التجديد أحوط.

الخامس : لو حصل الشك في بلوغ النصاب من العدد المعتبر أو في وصول اللبن إلى الجوف في بعض المرات أو نحو ذلك من الشروط المعتبرة في التحريم لم تثبت الحرمة ، لأن الأصل الإباحة والأصل عدم الحرمة ، إلا أن الاحتياط يقتضي التحريم كما استفاض الأمر به سيما في النكاح محافظة على النسل الممتد إلى يوم القيمة.

أما لو شك في وقوع الرضاع في الحولين ، قالوا : تقابل هنا أصلان أصالة بقاء الحولين ، لأن كون المرتضع في الحولين كان ثابتا قبل الرضاع والأصل البقاء وأصالة الإباحة لأنها كانت ثابتة قبل الرضاع وقبل النكاح والأصل بقاؤها.

ورجح الثاني بوجوه (أحدها) أن التقابل والتكافؤ أي تقال الأصلين المذكورين ، وعدم إمكان ترجيح أحدهما على الآخر ، يقتضي التساقط كما قيل تعارضا تساقطا ، فينتفي التحريم قطعا لانتفاء سببه ، ويلزم من انتفائه ثبوت الإباحة إذ لا يعقل ارتفاع النقيضين.

و (ثانيها) أن الشك في وقوع الرضاع في الحولين يقتضي الشك في تقدم الرضاع وتأخره ، والأصل عدم التقدم.

٤٤٠