الحدائق الناضرة - ج ٢٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٦

المرء لنفسه أن كلما وقع عليه اسم رضعة ـ وهو ما ملأت بطن الصبي إما بالمص أو بالوجور ـ محرم للنكاح ، ومنشأ هذا الخلاف اختلاف الأخبار في المسألة كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

استدل العلامة في المختلف على ما ذهب إليه من الاكتفاء بالعشر فقال : والوجه التحريم بالعشر لوجوه.

الأول : عموم قوله تعالى (١) «وَأُمَّهاتُكُمُ اللّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ» وهو يصدق على القليل والكثير ترك العمل به فيما دون العشر ، فيبقى في العشر على إطلاقه.

الثاني : قوله (٢) «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». والتقريب ما تقدم.

الثالث : الروايات الدالة على العدد. روى الفضيل (٣) بن يسار في الصحيح (٤).

__________________

(١) سورة النساء ـ آية ٢٣.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٣٠٥ ح ٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٣ ح ١.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٣١٥ ح ١٣ وص ٣٢٤ ح ٤٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٥ ح ١١ وص ٢٨٤ ح ٧ ، وما عثرنا على الرواية بهذا النحو عن الباقر عليه‌السلام ، ولعل (قدس‌سره) قد اختلط الروايتين عنه عليه‌السلام وعن الصادق عليه‌السلام وجعلهما رواية واحدة.

(٤) أقول : لا يخفى أن صحيحة الفضيل المذكورة قد رواها الشيخ في الصحيح كما ذكرناه في الأصل ، ورواها أيضا في الموثق عن الفضيل بن يسار عن عبد الرحمن بن أبى عبد الله قال : «لا يحرم من الرضاع الا ما كان مجبورا ، قلت : وما المجبور؟ قال : أم مربية أو ظئر تستأجر أو خادم تشترى أو ما كان مثل ذلك موقوفا عليه».

ورواها في الفقيه عن حريزقال : «لا يحرم من الرضاع الا ما كان مجبورا ، قلت : وما المجبور ، قال : أم مربية أو ظئر تستأجر أو خادم تشترى.

وأنت خبير بأن المجبور في هاتين الروايتين قد جعله صفة للرضاع وفسره بالأم

٣٤١

عن الباقر عليه‌السلام قال : «لا يحرم من الرضاع إلا المجبورة قلت : وما المجبور؟ قال : أم تربى أو ظئر تستأجر أو أمة تشترى ثم ترضع عشر رضعات يروى الصبي وينام».

لا يقال : في طريقه محمد بن سنان وفيه قول ، ولأن الرواية اختلفت فإن كلا من الشيخ والصدوق روى هذا الخبر بصيغة مخالفة لصيغة الرواية الأخرى فيتعارضان. لأنا نقول : قد بينا رجحان العمل برواية محمد بن سنان في كتاب الرجال ولا مدخل لاختلاف الصيغتين في الاستدلال من منعه ، لأنا نستدل بقوله «ثم ترضع عشر رضعات» وهذه الزيادة رواها الشيخ ، ولا يلزم من ترك رواية الصدوق لها الطعن فيها.

وفي الحسن عن حماد بن عثمان (١) عن الصادق عليه‌السلام «قال لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم والدم». ونحوه عن عبد الله بن سنان (٢) عن الصادق عليه‌السلام.

إذا تقرر هذا فنقول الذي تنبت اللحم والعظم عشر رضعات لما رواه عبيد بن زرارة (٣) في الصحيح عن الصادق عليه‌السلام إلى أن قال «فقلت : وما الذي ينبت اللحم والدم؟ فقال : كان يقال : عشر رضعات».

وفي الموثق عن عمر بن يزيد (٤) عن الصادق عليه‌السلام «عن الغلام يرضع الرضعة والثنتين قال : لا يحرم فعددت عليه حتى أكملت عشر رضعات ، فقال : إذا كانت

__________________

والظئر المستأجرة والخادم ، وفي الصحيحة المذكورة في الأصل جعله قسيما للفردين الآخرين خارجا عنهما ، وهذه علة أخرى في هذه الرواية توجب اضطرابها. (منه ـ قدس‌سره ـ).

ما عثرنا بهذا النحو الذي نقله (قدس‌سره) عن الفقيه في التعليقة فلا حظ ج ٣ من الفقيه ص ٣٠٧ ح ١٢.

(١ و ٢ و ٣ و ٤) التهذيب ج ٧ ص ٣١٢ ح ٢ و ٣ وص ٣١٣ ح ٤ وص ٣١٤ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٩ ح ١ و ٢ وص ٢٨٧ ح ١٨ وص ٢٨٣ ح ٥ ..

٣٤٢

متفرقة فلا».

دل بمفهومه على التحريم مع عدم التفريق.

الرابع : الاحتياط ، فإن التحريم المستند إلى عموم الكتاب والروايات لما عارضته الإباحة المستندة إلى الأصل والروايات غلب ، جانب التحريم ، فيبقى البراءة معه بخلاف الطرف الآخر ، وقد روى عنه (١) (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال».

الخامس : عمل أكثر الأصحاب عليه فيكون راجحا ، فيتعين العمل به لامتناع العمل بالمرجوح. انتهى كلامه زيد مقامه.

وفيه (أولا) أن ما ذكره من الاستدلال بالآية بالتقريب الذي ذكره مبني على ثبوت التحريم بالعشر من الأخبار ، وأما علي تقدير أن الثابت منها إنما هو الخمس عشرة ، كما سنوضحه إن شاء الله تعالى ، فإن للخصم أن يقول : إن الرضاع في الآية يصدق على القليل والكثير ، ترك العمل به فيما دون الخمس عشرة ، فيبقى الخمس عشرة على إطلاقه.

وبالجملة فإن الكلام في الآية موقوف على تعيين ما يستفاد من أخبار العدد من أن المحرم منه هل هو العشر أو الخمس عشرة؟

وكذا رد في المسالك الاستناد إلى الآية بنحو ما قلناه ، حيث قال : ما في الآية كما خصصت فيما دون العشر برواياتكم ، كذلك خصصت فيما دون الخمس عشرة بروايات الآخرين ، ومعهم المرجح كما سنبينه. انتهى ، ومن ذلك علم الكلام في الدليل الثاني ، وهو حديث «يحرم من الرضاع» للاشتراك في الإجمال.

و (ثانيا) أن ما استدل به من رواية الفضيل بن يسار (٢) مردود بالقدح فيها

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٢ الطبعة الجديدة.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣٢٤ ح ٤٢ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٠٧ ح ١٢ بتفاوت ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٤ ح ٧.

٣٤٣

متنا وسندا.

أما الأول فإن ما اشتملت عليه من الحصر لا قائل به ، بل فساده ظاهر ، للإجماع على عدم انحصار المرضعة فيمن ذكر ، لخروج المتبرعة عن هذا الحصر ، مع أن إرضاعها ينشر إجماعا.

وأما الثاني فلتصريح جملة من علماء الرجال بضعف محمد بن سنان ، كالشيخ والنجاشي وابن الغضائري. وقد روى الكشي فيه روايات تشتمل على قدح عظيم ، وأي رجحان يبقى لروايته مع تصريح هؤلاء الذين هم أساطين هذا العلم ، وهم المرجع فيه.

مع أنه في الخلاصة بعد أن نقل كلام هؤلاء الأفاضل ، ونقل عن المفيد توثيقه (١) توقف في أمره وقد اعترض عليه بأنه لا وجه للتوقف ، لأن الجارح مقدم لو فرض التساوي ، على أن المفيد قد اختلف قوله فيه أيضا ، وبالجملة فضعف سند الرواية مما لا يعتريه الاشكال.

و (ثالثا) : أن ما استند إليه من الروايات الدالة على حصر المحرم فيما ينبت اللحم ويشد العظم ، بتقريب ما دلت عليه صحيحة عبيد بن زرارة (٢) من «أن العشر ينبت اللحم ويشد العظم».

ففيه أن دلالة الصحيحة المذكورة على ذلك محل إشكال بل ربما كانت

__________________

(١) حيث انه وثقه في الإرشاد وهو الذي نقله عنه الأصحاب كالعلامة في المختلف وغيره الا أنه قد ضعفه في رسالته الموضوعة للرد على الصدوق فيما ذهب اليه من أن شهر رمضان لا يصيبه اليه ما يصيب الشهور من النقصان فإنه طعن في محمد بن سنان ورد روايته فقد تعارض كلامه فيه فليراجع ذلك (منه ـ قدس‌سره).

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٣٩ ح ٩ ، التهذيب ج ٧ ص ٣١٣ ح ٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٧ ح ١٨.

٣٤٤

بالدلالة على خلافه أظهر في هذا المجال ، وذلك فإنه عليه‌السلام نسب القول (١) بذلك إلى غيره ، فقال «كان يقال» وفيه إشعار بعدم اعتباره عنده عليه‌السلام ، ويؤيد ذلك أن السائل لما فهم منه عدم إرادته كرر السؤال فقال «هل يحرم عشر رضعات» فقال «دع ذا» ، ثم عدل إلى كلام خارج من البين ، فقال : «ما يحرم من النسب فهو يحرم من الرضاع» فلو كان التحريم بالعشر حقا كما يدعونه لما عدل عن الإفتاء به أولا ، بل نسبه إلى غيره ، ولما أعرض عن جواب السؤال الثاني وعدل إلى كلام خارج من البين ، بل جميع ذلك مما يؤذن بعدم التحريم بالعشر ، كما أشرنا إليه.

على أن هذه الرواية معارضة بصحيحة علي بن رئاب (٢) المتقدمة الدالة

__________________

(١) قال الشيخ في الاستبصار : والجواب عن هذا أنه لم يقل أن عشر رضعات يحرم عن نفسه بل أضافه إلى غيره فقال «كان يقال» الى آخره ولو كان ذلك صحيحا لا خبر به عن نفسه. إلخ.

واعترض الفاضل الداماد في رسالته التي في التنزيل حيث انه اختار فيها القول بالتحريم بالعشر فقال ما هذا لفظه : قلت هذا الكلام ضعيف جدا لانه لو لم يكن ذلك صحيحا لكان واجبا على الامام عليه‌السلام أن ينبه على فساده وأن يعين ما هو الصحيح في ذلك. انتهى.

أقول : بل الضعيف انما هو كلامه (قدس‌سره) حيث ان ما أوجبه على الامام من الجواب بما هو الصحيح الواردة عنهم عليهم‌السلام في تفسير قوله عزوجل «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» لتصريحها بان الواجب عليكم أن تسئلونا وليس علينا أن نجيبكم بل ذلك إلينا ان شئنا أجبنا وان شئنا لم نجب.

والوجه في ذلك أنهم بالمصالح في ذلك أعلم فقد يجيبون بما هو الحكم الواقعي وقد يجيبون بخلافه وقد لا يجيبون بالكلية وقد يجيبون بأجوبة مشتبهة ، كل ذلك قد أباحته التقية.

ولكن هذا الفاضل غفل عن ملاحظة الأخبار المذكورة ولم تخطر بباله ولا يخفى على من لا حظ الاخبار وجاس خلال تلك الديار صحة ما ذكرناه ودلالتها على ما قلناه والله العالم. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣١٣ ح ٦ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٣ ح ٢.

٣٤٥

صريحا على أن العشر لا ينبت اللحم ولا يشد العظم.

و (رابعا) أن ما استند إليه من مفهوم رواية عمر بن يزيد (١) ففيه أنه ـ مع قطع النظر عن ضعف هذا المفهوم عند الأصحاب وغيرهم وأنه لا يصلح لإثبات حكم شرعي ـ معارض بمنطوق

موثقة عبيد بن زرارة (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سمعته يقول : إن عشر رضعات لا يحر من شيئا».

وموثقة ابن بكير (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سمعته يقول : عشر رضعات لا تحرم». ولا ريب أن المفهوم لو سلم صحة الاستناد إليه لا يعارض المنطوق ، وجوابه في المختلف عن هاتين الروايتين بضعف الاستناد وارد عليه في استدلاله برواية عمر بن يزيد فإنها في التهذيب مروية عن الحسن بن فضال ، وطريق الشيخ إليه غير معلوم ، وفي الكافي مروية بسند فيه المعلى بن محمد وهو ضعيف ، فروايته المذكورة في كلا الكتابين من قسم الضعيف.

وروايتا عبيد بن زرارة وابن بكير المذكورتان من قسم الموثق ، وحينئذ فروايته أولى بالرمي بالضعف.

و (خامسا) أن ما استند من الاحتياط عندهم ليس بدليل شرعي ، مع أنه قد أورد عليه أنه غير مطرد ، بل قد يكون الاحتياط في الجانب الآخر كما لو عقد على صغيرة بهذا الوصف ، أو ورثت مهرا كذلك ، فإن الاحتياط القول بعدم التحريم ، من جهة استحقاقها المهر ، ونحوه من حقوق الزوجية.

و (سادسا) أن دعواه كون التحريم عليه عمل الأكثر ، معارض بما ذكره في التذكرة كما نقل عنه فإنه جعل المشهور هو القول الآخر ورجحه ، والحق

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٣٩ ح ٨ ، التهذيب ج ٧ ص ٣١٤ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٣ ح ٥.

(٢ و ٣) التهذيب ج ٥ ص ٣١٣ ح ٧ و ٨ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٣ ح ٣ و ٤.

٣٤٦

أن التحريم بالعشر هو المشهور عند المتقدمين ، وعدمه هو المشهور عند المتأخرين وبالجملة فإن كلامه (قدس‌سره) هنا واستدلاله بما ذكر غير متجه.

والتحقيق أن يقال : إن روايات العشر مضطربة ، لا تصلح التعلق بها في إثبات هذا الحكم ، حيث إن جملة منها صريح في نفي التحريم ، كصحيحة ابن رئاب (١) وموثقتي عبيد بن زرارة (٢) ، وعبد الله بن بكير (٣).

ومنها ما هو ظاهر في ذلك ، كرواية عبيد بن زرارة (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن الرضاع أدنى ما يحرم منه» الحديث.

وقد تقدم في صدر الموضع الأول في الأثر ، فإن ظاهرها أنه عليه‌السلام يقول : «لا» في جواب السؤال عن هذه المعدودات التي من جملتها العشر ، ونحوها موثقة زياد بن سوقة الآتية (٥) حيث قال في آخرها «ولو أن امرأة أرضعت غلاما أو جارية عشر رضعات من لبن فحل واحد وأرضعتها امرأة أخرى من لبن فحل آخر عشر رضعات لم يحرم نكاحها».

فإن الظاهر كما استظهره في الوافي أيضا أن لفظ «أو» في عطف الجارية على الغلام غلط ، وأن صوابه بالواو ، وكذا ضمير «أرضعتها» إنما هو ضمير التثنية ، وهكذا ضمير «نكاحها» إنما هو ضمير التثنية ، فإن ذلك هو الذي يستقيم به الكلام ، ويحصل به الانتظام ، أول وجملة منها متشابهة الدلالة مضطربة المقالة ، يشبه أن يكون قد تجللها غيم التقية ، ونزلت بها تلك البلية ، مثل صحيحة عبيد بن زرارة المتقدمة وقوله فيها بعد أن سأله عن الذي ينبت اللحم والدم ، «كان يقال : عشر رضعات» إلى آخرها وقد مر بيانه.

__________________

(١ و ٢ و ٣) التهذيب ج ٧ ص ٣١٣ ح ٦ و ٧ و ٨ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٣ ح ٢ و ٣ و ٤.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٤٣٨ ح ٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٨ ذيل ح ٢١.

(٥) التهذيب ج ٧ ص ٣١٥ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٢ ح ١.

٣٤٧

ومثل رواية عمر بن يزيد (١) المتقدمة ، وصحيحة صفوان (٢) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرضاع ما يحرم منه؟ فقال : سأل رجل أبي عليه‌السلام فقال : واحدة ليس بها بأس ، وثنتان حتى بلغ خمس رضعات ، قلت : متواليات أو مصة بعد مصة؟ فقال : هكذا قال له ، وسأله آخر عنه فانتهى به إلى تسع ، وقال : ما أكثر ما اسأل عن الرضاع ، فقلت. جعلت فداك أخبرني عن قولك في هذا ، أنت عندك فيه حد أكثر من هذا؟ فقال : قد أخبرتك بالذي أجاب فيه أبي قال : قد علمت الذي أجاب أبوك فيه ، ولكني قلت : لعله يكون فيه حد لم يخبر به فتخبرني به أنت ، فقال : هكذا قال أبي».

ومما يؤيد الحمل على التقية في هذه الروايات ما نقله العامة في صحاحهم عن عائشة (٣) «أنه كان في القرآن عشر رضعات محرمات فنسخت تلاوته».

وفي رواية أخرى عنها «قالت : كان فيما أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي ما يقرء من القرآن» ، رواها مسلم والنسائي والترمذي والسجستاني وابن ماجة القزويني (٤) واكتفى الشافعي من علمائهم وأحمد بن حنبل بخمس لا أقل. وفيهم من قال بثلاث ، واكتفى مالك وأبو حنيفة بالرضعة الواحدة ولعل قوله عليه‌السلام في صحيحة عبيد بن زرارة (٥) «كان يقال عشر رضعات» إشارة إلى هذه الرواية التي عن عائشة أنها كانت ثم نسخت.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٣٩ ح ٨ ، التهذيب ج ٧ ص ٣١٤ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٣ ح ٥.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٣٩ ح ٧ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٨ ح ٢٤.

(٣ و ٤) مسلم ج ١٠ ص ٢٩ و ٣٠ ، الترمذي ج ٣ ص ١١٥٠ ، ابن ماجة ح ١ ص ٦٢٥ ح ١٩٤٢ ، سنن البيهقي ج ٧ ص ٤٥٤.

(٥) الكافي ج ٥ ص ٤٣٩ ح ٩ ، التهذيب ج ٧ ص ٣١٣ ح ٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٧ ح ١٨.

٣٤٨

وبالجملة فاختلال هذه الأخبار وعدم صلوحها للاستدلال ـ مع قطع النظر عما عارضها من الأخبار الصريحة في نفي العشر ـ مما لا يخفى على المتأمل المنصف ، وقد وقع للفاضلين المتقدمين أيضا في هذا الموضع ما وقع لهم سابقا من الاشكال المتقدم من جهة تلك الأخبار ، وقد عرفت ما فيه.

وزاد الفاضل الخراساني في الاشكال هنا برواية عمر بن يزيد (١) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : خمس عشر رضعة لا تحرم». وهذا الخبر حمله الشيخ على الرضعات المتفرقة ، ويمكن حمله على الإنكار دون الاخبار.

وبالجملة فإنه ـ بعد ما عرفت وستعرف إن شاء الله من التحقيق ـ لا يبقى لهذا الخبر قوة المعارضة لإجماع الفرقة الناجية سلفا وخلفا على رده ، وعدم العمل عليه بل إجماع الأمة ، لما عرفت من أقوال العامة في المسألة ، ولكن هذا الفاضل ربما يتشبث بما هو أوهن من بيت العنكبوت ، وإنه لأوهن البيوت.

استدل الشيخ ومن تبعه للقول الثاني بما رواه في التهذيب عن زياد بن سوقه في الموثق (٢) قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : هل للرضاع حد يؤخذ به؟ فقال : لا يحرم الرضاع أقل من رضاع يوم وليلة ، أو خمس عشرة رضعات متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد لم يفصل بينها رضعة امرأة غيرها ، ولو أن امرأة أرضعت غلاما أو جارية عشر رضعات من لبن فحل واحد ، وأرضعتها امرأة أخرى من لبن فحل آخر عشر رضعات لم يحرم نكاحها».

وهي نص في ثبوت التحريم بالخمس عشرة ، وصريحة في نفي العشرة ، وأيده بعضهم بأصالة الإباحة واستصحابها.

وهذا القول هو الأظهر عندي وعليه العمل ، لما عرفت من روايات العشر ، وتصادمها ، وعدم نهوض ما استدل به بالدلالة ، وما ستعرف ـ إن شاء الله ـ في

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣١٤ ح ٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٤ ح ٦.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣١٥ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٢ ح ١.

٣٤٩

روايات القول الثالث من الطعن فيها ، وليس لهذه الرواية معارض بعد ما عرفت إلا رواية عمر بن يزيد المتقدمة ، وقد عرفت أنها متروكة بإجماع الأمة.

وإلى هذا القول مال في المسالك أيضا بتقريب آخر غير ما ذكرناه ، حيث قال ـ بعد الطعن في روايات المسألة ومنها رواية زياد بن سوقة بأن في طريقها عمار بن موسى وحاله في الفطحية معلوم ، ما لفظه ـ : والحق أن مثل هذه الأخبار المتناقضة الواهية الإسناد ، لا يلتفت إليها من الجانبين ، ومتى اعتبرنا ذلك فليس معنا في ذلك كله أصح سندا من رواية على بن رئاب الدالة على أن العشر لا يحرم وفيها ـ مع صحة السند ـ التعليل بأن العشر لا تنبت اللحم ولا تشد العظم ، والخبر المعلل مرجح على غيره عند التعارض ، فسقط بها اعتبار كل ما دل على الاكتفاء بالعشر ، وتعين القول بالخمس عشرة وإن لم يعتبر أدلته ، إذ لا قائل بما فوقه ، ولا ما بينه وبين العشر ، وتبقى ما دل على الخمس عشرة شاهدا وإن لم يكن أصلا. انتهى.

وفيه من الضعف ما لا يخفى على المتأمل الناظر بعين التحقيق والمتأمل بالفكر الصائب الدقيق ، وذلك فإنه متى فرض أن لا دليل لهذا القول من الأخبار فالقول به والحكم به مما منعت منه الآيات القرآنية والأخبار المعصومية لما دلت عليه من النهي والزجر عن القول والفتوى في الأحكام الشرعية بغير دليل واضح عنهم عليهم‌السلام.

ومجرد دلالة الأخبار على نفي العشر وعدم القول بما فوق الخمس عشرة ولا ما بينهما وبين العشرة ليس بدليل شرعي ولا نهج مرعي ، لا مكان وقوع الحكم في قالب الاشتباه ، إذ الفرض أنه لا دليل للقول بخمس عشرة ، والقول به بغير دليل ممنوع منه شرعا ، ولا قائل بشي‌ء من ذلك الوجهين المذكورين.

وبالجملة فإن أصحاب هذا الاصطلاح المحدث لوقوعهم ـ متى تمسكوا به ـ في مضيق الإلزام يلجئون إلى التمسك بهذه التكلفات العليلة الضئيلة ، ولهذا أن

٣٥٠

سبطه في شرح النافع (١) قال بعد ما نقل ذلك عنه : فإن تم ما ذكره فذاك ، وإلا فللتوقف في ذلك مجال وفيه إيذان بعدم تمامية ذلك عنده.

ومما يدل على ما ذهب إليه ابن الجنيد ما رواه الشيخ (٢) في الصحيح عن علي بن مهزيار عن أبي الحسن عليه‌السلام «أنه كتب إليه يسأله عما يحرم من الرضاع؟ فكتب عليه‌السلام : قليله وكثيره حرام».

وعن عمرو بن خالد (٣) عن زيد بن علي عليه‌السلام عن آبائه عن علي عليهم‌السلام «أنه قال الرضعة الواحدة كالمائة رضعة لا تحل له أبدا».

واستدل له بإطلاق الآية وهي قوله تعالى (٤) «وَأُمَّهاتُكُمُ ... مِنَ الرَّضاعَةِ» وهو يصدق على القليل والكثير وضعف الجميع مما لا يستره ساتر كما لا يخفى على كل ناظر.

أما صحيحة علي بن مهزيار ، ففيها (أولا) أنها بظاهرها لا تنطبق علي مدعاه من الرضعة التامة التي يملأ البطن لدلالتها على أن القليل والكثير محرم وهو

__________________

(١) أقول : صورة عبارته في شرح النافع هكذا «وبالجملة فالأخبار من الطرفين لا تخلو من قصور من حيث السند ، لكن ذكر جدي (قدس‌سره) في المسالك أنه إذا سقط اعتبار ما دل على الاكتفاء بالعشر تعين القول بالخمس عشرة وان لم يعتبر دليله ، إذ لا قائل بما فوقه ، ولا ما بينه وبين العشرة ، ويبقى ما دل على الخمس عشرة شاهدا ، فان تم ما ذكره الى آخر ما ذكر في الأصل» ومراده أنه ان تم ما ذكره من الملازمة بقوله «إذا سقط اعتبار ما دل على الاكتفاء بالعشر تعين القول بالخمس عشرة» وفيه إشارة الى أن الملازمة غير تامة عنده ، إذ مجرد سقوط ما دل على اعتبار العشر لا يستلزم تعين القول بالخمس عشرة بوجه من الوجوه. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣١٦ ح ١٦ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٥ ح ١٠.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٣١٧ ح ١٧ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٥ ح ١٢.

(٤) سورة النساء ـ آية ٢٣.

٣٥١

شامل لما دون ذلك.

(وثانيا) أنها معارضة بالأخبار المتقدمة من أخبار المسألة كملا أخبار العدد وغيرها ، فهي محمولة على التقية بلا إشكال.

ومثلها رواية عمرو بن خالد فإن رواتها كملا من العامة ، وقد تقدم أن مذهب أبي حنيفة ومالك الاكتفاء بالرضعة الواحدة.

وأما ما ذكره شيخنا في المسالك حيث قال : وتمام الاحتياط المخرج من خلاف جميع أصحابنا أن لا يشبع الولد من رضاع الأجنبية إذا أريد السلامة من التحريم ولو مرة واحدة ليخرج من خلاف ابن الجنيد وروايته ، ومع ذلك لا يسلم من خلاف جميع مذاهب المسلمين فقد ذهب جماعة من العامة إلى الاكتفاء بمسماه وقدره بعضهم بما يفطر الصائم وادعى عليه إجماع العلم. انتهى ، فهو بمحل من الضعف والقصور ، فإن الظاهر أن الاحتياط المندوب إليه والمحثوث في الأخبار عليه من قولهم عليهم‌السلام (١) «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك». ونحوه إنما هو في موضع يحتمل صحة ذلك القول الذي يراد الخروج من عهدته وأنه مراد له سبحانه.

واحتمال التحريم بما دلت عليه هاتان الروايتان ممنوع لمعارضتها الأخبار الدالة على خلاف ما دلتا عليه خصوصا وعموما ، وهي روايات إنبات اللحم ، وشد العظم ، وروايات اليوم والليل ، وروايات العدد ، مع استفاضة الأخبار (٢) منهم عليهم‌السلام بعرض الأخبار في مقام الاختلاف على مذهب العامة ، والأخذ بخلافهم ، فأي مجال لاحتمال صحة ما اشتملتا عليه ، والحال ما ذكرناه.

ثم العجب منه (قدس‌سره) أيضا في اعتباره الاحتياط بالخروج عن أقوال العامة ومذاهبهم في هذه المسألة ، وأي وجه لهذا الاحتياط مع استفاضة الأخبار بالأخذ بخلافهم ، وأن الرشد في خلافهم ، ورمي الأخبار الموافقة لهم ، وأنهم

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ص ١٢٢ ح ٣٨.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٦ ، الوسائل ج ١٨ ص ٧٥ ح ١.

٣٥٢

ليسوا من الحنفية على شي‌ء ، وأنه لم يبق في أيديهم إلا استقبال القبلة ، وأنهم ليسوا إلا كالجد المنصوبة ، وأن لا فرق بين صلاتهم وزنائهم ، حتى ورد أنه إذا لم يكن في البلد فقيه تستفتيه في الحكم ، فاستفت قاضي العامة ، وخذ بخلافه.

وما ادعاه من إسلامهم وإن ذهب هو إليه ، وتبعه جمع عليه ، إلا أن المشهور بين متقدمي أصحابنا (رضوان الله تعالى عليهم) هو الكفر كما استفاضت به أخبار أهل الذكر عليهم‌السلام ، وأوضحناه بما لا مزيد عليه في كتابنا الشهاب الثاقب في معنى الناصب ، وقد تقدم في جلد كتاب الطهارة من كتابنا هذا نبذة من الكلام في ذلك. (١)

وأما الآية فعمومها مخصوص بالأخبار العالية المنار في هذا الحكم وغيره من سائر أحكام الرضاع بالضرورة والإجماع كما في سائر الآيات المجملة في غير هذا الحكم من غير خلاف ولا نزاع ، والله العالم.

تنبيهات :

الأول : لا يخفى أن لفظ المجبورة في رواية الفضيل بن يسار (٢) لا يخلو من اشتباه ، ونقل في الوافي أن المجبورة في بعض نسخ الفقيه بالمهملة قال ، وكأن الجيم هو الأصح كما في نسخة اخرى منه.

وقال في كتاب مجمع البحرين في مادة حبر بالحاء المهملة بعد ذكر الحديث : وقد اضطربت النسخ في ذلك ففي بعضها بالحاء المهملة كما ذكرناه وفي بعضها بالجيم كما تقدم ، وفي بعضها بالخاء المعجمة ، ولعله الصواب ويكون المخبور بمعنى المعلوم. انتهى.

وقال في مادة جبر بالجيم والباء الموحدة بعد نقل الخبر المذكور : قال في

__________________

(١) ج ٥ ص ١٨٧.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣١٥ ح ١٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٥ ح ١١.

٣٥٣

شرح الشرائع : المجبور وجدتها مضبوطة بخط الصدوق (رحمه‌الله) بالجيم والباء في كتابه المقنع ، فإنه عندي بخطه. انتهى.

أقول : الظاهر أنه أراد بشرح الشرائع هو كتاب المسالك إلا أني لم أقف عليه في الكتاب المذكور ، ثم إني وجدت في بعض الفوائد المنسوبة إلى الشيخ الفاضل الفقيه الأوحد الشيخ حسين بن عبد الصمد والد شيخنا البهائي (قدس الله روحهما) ما صورته : المجبورة بالجيم فكان كلا منهما باعتبار المحبة أو الأجرة أو الرقية مجبور في الإرضاع الدائمي ، ويحتمل أن يكون بالجيم والتاء المثناة من فوق مفتعل من الجوار.

قال في الصحاح : تجاوروا أو اجتوروا : أي اصطحبوا ، ولم تعل الواو في اجتور كما لم تعل في تجاور لأنها بمعناها ، ولما كان كل من الثلاث مصاحبا للرضيع قيل لها المجتور ، وإنما يحرم من الرضاع ما كان مصطحبا للرضيع مجاورا بالشرائط المقررة.

ويحتمل أن يكون مفعولا من خثر بالخاء المعجمة والثاء المثلثة والراء ، يقال : خثر في الحي إذا قام بها ، وهذا المعنى يقرب من تاليه.

ويؤيد هذين المعنيين قوله عليه‌السلام في آخر الخبر «أو ما كان مثل ذلك موقوفا عليه» ، وكذا ما في خبر موسى بن بكر الآتي من قوله «مقيم عليه» وهذان الاحتمالان قريبان.

ويحتمل أن يكون بالحاء المهملة والتاء المثناة الفوقانية مفعولا من الحترة بالفتح.

قال في القاموس : الحترة : الرضعة ، والمحتور : الذي يرضع شيئا قليلا ولما كان المرضعة الرضاع المحرم إنما ترضع قليلا ، أي ساعة فساعة في زمان كثير يمكن الوصف بالقلة والكثرة بالاعتبارين ، هذا غاية ما يمكن في تصحيح ذلك ، ولم أحد لأحد كلاما.

٣٥٤

واعلم أن التذكير إنما هو باعتبار الموصول ، فتأمل ، وإني وجدت بخط الشهيد الثاني أنه نقل : إني رأيت بخط صاحب الفقيه المجبور بالجيم ثم الموحدة ثم قال : لكن المشهور بين المحدثين بالمهملة والتاء المثناة من فوق بالمعني المذكور. انتهى كلامه زيد إكرامه.

الثاني : قد صرح الأصحاب بأنه يعتبر في الرضعات لتحقق العدد قيود ثلاثة ، كمالية كل واحدة من تلك الرضعات ، وتواليها ، والارتضاع من الثدي ، وتفصيل هذه الجملة يقع في مواضع ثلاثة :

(أحدها) في كمالية الرضعة ، والمشهور الرجوع في ذلك إلى العرف ، لأنه المرجع فيما لم يقدر له حد في الشرع فلا تجزى الرضعة الناقصة ، وقيل : حد الكمالية أن يروى الصبي أي الولد مطلقا ويصدر من قبل نفسه ، والقولان للشيخ (رحمه‌الله) إلا أن ظاهر كلامه في التذكرة أن مرجعهما إلى قول واحد ، فإن الثاني منهما هو الذي يدل عليه العرف ، ولا يدل على غيره ، ولهذا جمع بينهما في التذكرة فقال : إن المرجع في كمالية إلى العرف ، ثم قال : فإذا ارتضع الصبي وروي وقطع قطعا بينا باختياره ، وأعرض إعراض ممتل باللبن كان ذلك رضعة. انتهى ، فجعل العبارتين معا أمرا واحدا ، والعبارة التي نسبوا للشيخ بهما القولين المذكورين هي ما ذكره في المبسوط حيث قال : والمرجع في ذلك العرف ، لأن ما لا حد له في الشرع ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف ، غير أن أصحابنا قيدوا الرضعة بما يروى الصبي منه ويمسك.

قال في المسالك : وهذه العبارة هي مستند الجماعة في جعلهما قولين ، وليست بدالة على ذلك. انتهى.

أقول : والذي وقفت عليه من الأخبار في المقام ما رواه الشيخ عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا (١) رواه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الرضاع الذي ينبت اللحم والدم

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣١٦ ح ١٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٠ ح ٢.

٣٥٥

هو الذي يرضع حتى يتضلع ويمتلئ وينتهي نفسه».

وعن ابن أبي يعفور (١) قال : «سألته عما يحرم من الرضاع قال : إذا رضع حتى يمتلئ بطنه ، فإن ذلك ينبت اللحم والدم ، وذلك الذي يحرم». وقد تقدم في حديث الفضيل بن يسار (٢) «ثم يرتضع عشر رضعات يروى الصبي وينام».

وهذه الأخبار كما ترى ظاهرة في المعنى الثاني ، وهو الذي يفهم من العرف أيضا كما عرفت ، فيكون مرجع الأمرين المذكورين إلى أمر واحد ، وبذلك يظهر أن من قال بالرجوع إلى العرف ـ لأنه لا حد له في الشرع كما يدل عليه كلامه في المبسوط ـ ليس في محله ، فإن مقتضى هذه الأخبار كما عرفت حصول حد شرعي لذلك ، فيجب الوقوف عليه ، فلا يحتاج إلى التمسك بالعرف ، وإن كان العرف لا يخرج عن ذلك كما عرفت.

والمراد كما يستفاد من ظاهر الاستبصار أن ذلك تفسير لكل رضعة من الرضعات التي مجموعها محرم ينبت اللحم والدم ، ويشد العظم ، أو يحصل به العدد المحرم ، لا أن ذلك وحده كاف في التحريم والإنبات ، وعلى هذا فإذا ارتضع ثم قطع باختياره : وأعرض إعراض ممتل كانت رضعة كاملة ، وإن قطع لا بنية الإعراض كالتنفس أو الالتفات إلى ملاعب أو الانتقال من ثدي إلى آخر ، أو قطعت عليه المرضعة ، أو حصل له نوم خفيف ، فإن عاد بعد ذلك حتى يعرض بنفسه كان الجميع رضعة ، وإلا لم يعتبر في العدد لعدم كونها كاملة.

و (ثانيها) في توالي الرضعات ، وفسر بانفراد المرأة الواحدة بإكمال العدد ، فلو رضع من امرأة بعض العدد المحرم وأكمله من اخرى لم ينشر الحرمة.

ونسب في التذكرة القول بعدم نشر الحرمة في هذه الصورة إلى علمائنا مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ، ويدل عليه ما تقدم من قوله عليه‌السلام : في موثقة زياد بن

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣١٦ ح ١٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٠ ح ١.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣١٥ ح ١٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٥ ح ١١.

٣٥٦

سوقة (١) «أو خمس عشرة رضعات متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد لم يفصل بينها رضعة امرأة غيرها ، ولو أن امرأة أرضعت غلاما أو جارية عشر رضعات من لبن فحل واحد وأرضعتهما امرأة أخرى من لبن فحل آخر عشر رضعات لم يحرم نكاحهما».

وفسر أيضا بأن لا يفصل بين العدد المذكور برضاع امرأة أخرى وإن أكملت الأولى العدد ، وعليه أيضا يدل الخبر المذكور بل ربما كان هو الأظهر من لفظ التوالي ، فإن المفهوم منه هو حصول العدد المذكور من امرأة واحدة من غير فصل بين أفراده برضاع امرأة أخرى.

وعلى هذا فلو تناوب على إرضاع الصبي عدة نساء الرجل الواحد بحيث أكملن العدد المعتبر ، فإنه لا ينشر الحرمة بين الرضيع والنسوة ولا بينه وبين صاحب اللبن ، أما الأول فلأنه لم تصر واحدة منهن اما لعدم إكمال العدد الموجب لنشر الحرمة ، وأما الثاني فلأن الأبوة فرع الأمومة فحيث انتفت الأمومة انتفت الأبوة.

أقول : والأصل في الحكم هو النص المذكور ، وهذا مما تصلح لبيان الوجه فيه ، وظاهره في المسالك (٢) الاعتماد في الحكم على الإجماع لرده الخبر بالضعف ، وفيه ما لا يخفى.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣١٥ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٢ ح ١.

(٢) قال في المسالك بعد ذكر الرواية : وهي ناصة على المطلوب ، إلا أنك قد عرفت ما في سندها من الاشكال ، ولعل التعويل على الإجماع على ما فيه.

وقد خالف في ذلك العامة كافة ، فلم يعتبروا اتحاد المرضعة بل اتحاد الفحل ، والأصل يقتضيه ، وتخصيصها باشتراط اتحاد المرضعة يحتاج الى دليل صالح ، والرواية ليست حجة مطلقا ، أما على المخالف فظاهر ، وأما علينا فلضعف السند ، ومن ثم لم يعتبرها الأكثر في اشتراط كون العدد خمس عشرة ، نظرا الى ذلك ، فيبقى الاحتياج الى تحقق

٣٥٧

بقي الكلام في أنه على تقدير التفسير الثاني هل يشترط في الرضاع الذي يقطع التوالي أن يكون رضعة كاملة أو مطلق الرضاع وإن كان أقل من رضعة؟ مع اتفاق الجميع على أنه لا يقطع التوالي تخلل المأكول والمشروب بين الرضعات وجهان : بل قولان :

وبالأول جزم في التذكرة فقال في تفسير التوالي : أن لا يفصل برضاع امرأة أخرى رضاعا تاما فلو ارتضع من واحدة رضعة تامة ، ثم اغتذي بمأكول أو بمشروب أو رضعة غير تامة من امرأة أخرى ، ثم أرضعت الاولى رضعة تامة ، ثم اغتذى أو ارتضع من اخرى إما ثانية أو غيرها رضعة غير تامة ، وهكذا خمس عشرة مرة نشر الحرمة بين المرضعة الاولى وبين المرتضع دون المرضعة الثانية لفقد الشرط فيه. انتهى.

وبالثاني جزم في القواعد فقال : لا يشترط عدم تخلل المأكول والمشروب بين الرضعات ، بل عدم تخلل رضاع وإن كان أقل من رضعة.

ووجه هذا القول صدق التفريق وعدم التوالي بذلك ، ووجه الأول ظاهر قوله عليه‌السلام في الرواية المتقدمة «لم يفصل بينها رضعة امرأة» بناء على أن المتبادر من إطلاق الرضعة هي الكاملة ، ولهذا حمل قولهم عليهم‌السلام «عشر رضعات أو خمس

__________________

الإجماع وحجيته. انتهى.

أقول : لا يخفى أن هذا الاشكال لا خصوصية له بهذه المسألة ، بل هو جار في جميع المسائل التي لم يرد فيه نص صحيح ، وهي أكثر من أن تحصى في أبواب الفقه ولو تم ما ذكروه من الاقتصار في الاستدلال على النص الصحيح لكان الواجب عليهم الخروج الى دين آخر غير هذا الدين وشريعة أخرى ، كما لا يخفى على المتأمل المصنف ، مع أنه غير موضع قد عمل بالأخبار الموثقة ، وكذا غيره ، وتستروا بما هو أوهن من بيت العنكبوت وانه لأوهن البيوت ، والله العالم. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٣٥٨

عشرة رضعة» على الرضعات الكاملة ، إلا أنه أيضا يحتمل الحمل على المسمى (١) فيكون دليلا للثاني أيضا ، والمسألة لذلك لا تخلو من شوب التوقف والاشكال.

وظاهره في المسالك الميل إلى الثاني ، قال السيد السند في شرح النافع : وكما يقدح الفصل بالرضعة في توالي العدد المعتبر كذا يقدح في رضاع اليوم والليلة ، بل يقدح تناول المأكول والمشروب أيضا بخلاف العدد ، وأما التقدير بالأثر فالمعتبر حصوله كيف كان. انتهى ، وهو جيد ، والله العالم.

و (ثالثها) في الارتضاع من الثدي ، والمشهور بين الأصحاب اعتباره ، وأنه لو وجر في حلقه أو وصل إلى جوفه بحقنة ونحوها أو جعل جبنا فأكله لم ينشر حرمة ، وقال ابن الجنيد : ان كلما ملأ بطن الصبي بالمص أو الوجور محرم للنكاح وقد تقدمت عبارته المشتملة على هذا الكلام.

ورده الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأن المفهوم من الرضاع المستفاد من الكتاب والسنة هو ما كان من الثدي ، فيقال لمن التقم الثدي ومص اللبن منه إنه ارتضع ، ولا يقال لمن شربه من إناء أو وجر في حلقه إنه ارتضع ، وهذا أمر شائع ذائع بين الناس ، فإنهم لشربهم الألبان من الأواني لا يقال : إنهم ارتضعوا من البهائم وحينئذ فلا يدخل تحت إطلاق الرضاع المذكور في الآيات والأخبار.

ويؤيده ما رواه في الكافي عن الحلبي (٢) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : يا أمير المؤمنين إن امرأتي حلبت من لبنها في مكوك (٣) فأسقته جاريتي فقال : أوجع امرأتك وعليك بجاريتك».

__________________

(١) وهو تحقق الانقطاع وعدم التوالي بأقل من رضعة ، ونقل عن ظاهر عبارة المبسوط وعبارة الشرائع. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٤٥ ح ٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٨ ح ١.

(٣) المكوك : كتنور ـ طاس يشرب منه.

٣٥٩

وفي حديث محمد بن قيس (١) قال : «سألته عن امرأة حلبت من لبنها فأسقت زوجها لتحرم عليه قال : أمسكها وأوجع ظهرها».

وفيهما إشعار بأنها إذا استحقت التأديب في سقي لبنها البالغ كما هو ظاهر الخبرين ، فبطريق الأولى إذا أسقته الصغير وإن كان لا يوجب تحريما في الموضعين.

أقول : ومما يدل على القول المشهور قول أبي عبد الله عليه‌السلام في رواية زرارة (٢) «لا يحرم من الرضاع إلا ما ارتضعا من ثدي واحد حولين كاملين».

وفي رواية العلاء بن رزين (٣) «لا يحرم من الرضاع إلا ما ارتضع من ثدي واحد سنة».

ولا ينافي ذلك اشتمال الروايتين على ما هو متروك بالاتفاق كما تقدم ، لأن طرح بعض الخبر لقيام الدليل على خلافه لا ينافي طرح ما لا دليل على خلافه.

واستدل في المختلف لابن الجنيد ناسبا الاستدلال إليه ، كما هو عادته غالبا في الكتاب المذكور ، فقال : احتج ابن الجنيد بما رواه جميل بن دراج في الصحيح (٤) عن الصادق عليه‌السلام قال : «إذا رضع الرجل من لبن امرأة حرم عليه كل شي‌ء من ولدها». وهو يصدق مع الوجور ، ثم أجاب عنه بالمنع من صدق الرضاع معه.

وظاهر شيخنا في المسالك أن ابن الجنيد إنما استند هنا إلى القياس (٥) تبعا للعامة ، قال (قدس‌سره) بعد نقل قول ابن الجنيد : ووافق ابن الجنيد على ذلك

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٤٣ ح ٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٨ ح ٢.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣١٧ ح ١٨ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٢ ح ٨.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٣١٨ ح ٢٣ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٠٧ ح ١٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٦ ح ١٣.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ٣٢١ ح ٣٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٠٦ ح ٣.

(٥) أقول : العجب من أصحابنا في طعنهم على ابن الجنيد في غير موضع كما عرفت في هذا الكتاب بالعمل بالقياس لما علم من كلام أهل البيت عليهم‌السلام في ذم

٣٦٠