الحدائق الناضرة - ج ٢٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٦

المختلف إلى أصالة الإباحة ، وأن الزنا لا حرمة له فأشبه الأجنبي.

وفيه أن الأخبار المذكورة ظاهرة بل صريحة في التحريم بدون ظهور التوبة ولا معارض لها إلا هذه الأخبار المطلقة ، ومقتضى القاعدة كما ذكروه في غير موضع حمل المطلق على المقيد ، فهنا ينبغي أن يكون كذلك وبه يظهر قوة مذهب القائلين بالتحريم حتى تعرف التوبة.

ومما ذكرنا يظهر قوة القول بالتحريم في المشهورة بالزناء حتى يعرف منها التوبة بطريق أولى ، ويمكن أيضا حمل هذه الأخبار المطلقة في الجواز على الأخبار الأخيرة من أخبار القسم الأول الدالة علي جواز التزويج بالزانية «وأن يحصن بابه» ، فيجوز التزويج حينئذ بمن فجر بها سابقا وإن لم يظهر منها التوبة لكن «يحصن بابه» ، ويمنعها من الزنا ، وبالجملة فإنك إذا راجعت أخبار القسم الأول والقسم الثالث وضممت بعضها إلى بعض بحمل مطلقها على مقيدها ومجملها على مفصلها يظهر لك أنه لا يجوز التزويج بالزانية المشهورة إلا مع ظهور التوبة منها ، وكذا الرجل المشهور بالزناء وأما التزويج بالزانية الغير المشهورة فيشترط في جواز التزويج بها ، إما ظهور التوبة أو منعها من الزنا الذي عبر عنه بأنه «يحصن بابه».

وأما أخبار القسم الثاني فالظاهر عندي إرجاعها إلى قائلها عليه‌السلام والعمل عندي على صحيحة رفاعة لما عرفت آنفا.

وأما رواية عباد بن صهيب المتقدمة في أخبار القسم الأول الدالة بظاهرها على جواز إمساك زوجته وإن رآها تزني ، فهي لعدم قبولها لما ذكرنا من التأويل مرجوعة إلى قائلها أيضا لمعارضتها بما هو أكثر عددا وأصح سندا من أخبار المسألة كملا ، كما عرفت بعد جمعها وحمل بعضها على بعض بما هو مقتضى القواعد الشرعية والضوابط المرعية ، والله العالم.

٥٠١

تنبيهات :

الأول : طعن شيخنا الشهيد الثاني في المسالك في رواية أبي بصير المتقدمة ـ بعد رميها بالضعف ـ بأن في متنها إشكالا من حيث إن دعائها إلى الحرام يتضمن إعزائها بالقبيح.

وفيه نظر ، أما (أولا) فلأن هذا المضمون كما ورد في هذه الرواية ورد أيضا في موثقة عمار ومرفوعة ابن أبي يعفور (١).

وأما (ثانيا) فلأنه متى حرم تزويجها حتى تعرف توبتها ، فلا وجه أكشف وأظهر من دعائها إلى ذلك ، ولو أمكن أيضا بوجه آخر كفى كما دلت عليه موثقة عمار من قوله «فإن آنس منها رشدا» وموثقة إسحاق بن جرير من قوله «بعد أن يقف على توبتها».

وبالجملة فإن ما ذكره اجتهاد في مقابلة النصوص وجرأة على أهل الخصوص.

الثاني : المشهور بين الأصحاب جواز إمساك الزوجة وإن أصرت على الزنا ، وذهب جماعة منهم الشيخ المفيد إلى التحريم مع الإصرار ، قال شيخنا المفيد (عطر الله مرقده) : وإذا كان للرجل امرأة ففجرت وهي في بيته وعلم ذلك من حالها كان بالخيار إن شاء أمسكها وإن شاء طلقها ، ولم يجب لذلك فرقها ولا يجوز له إمساكها وهي مصرة على الفجور ، فإن أظهرت التوبة جاز له المقام عليها

__________________

(١) أقول : ونحو ذلك ما رواه الراوندي في كتاب النوادر عن موسى بن جعفر عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام قال : «قال رجل لعلى عليه‌السلام : إذا زنا الرجل بالمرأة ثم أراد أن يتزوجها فقال : لا بأس إذا تابا ، فقيل : هذا الرجل يعلم توبة نفسه فكيف يعلم توبة المرأة؟ فقال : يدعوها الى الفجور ، فان ائت فقد تابت وان قبلت حرم نكاحها». (منه ـ قدس‌سره ـ) ، هذه الرواية في مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٥٧٦ ب ١١ ذيل ح ١.

٥٠٢

وينبغي له أن يعتزلها بعد ما وقع من فجورها حتى يستبرئها.

وقال ابن حمزة : وإذا أصرت المرأة عند زوجها على الزنا انفسخ نكاحها على قول بعض الأصحاب.

وقال سلار : وإن زنت امرأته لم تحرم عليه إلا أن تصر ، قال في المختلف بعد نقل ذلك : والوجه عدم التحريم لقوله عليه‌السلام «لا يحرم الحرام الحلال» (١) ، وما رواه عباد بن صهيب (٢) ـ ثم ساق الرواية وقد تقدمت (٣) ثم قال ـ : احتج سلار بأن أعظم فوائد النكاح التناسل ، وأعظم حكم الحد والزجر عن الزنا لزوم اختلاط الأنساب ، فلو أبيح له نكاح المصرة على الزنا لزم اختلاط الأنساب ، وهو محذور عنه شرعا ، ثم أجاب بأنه لا نسب للزاني. انتهى.

أقول : ويمكن الاستدلال للقول بالتحريم هنا بالروايات المتقدمة في القسم الثالث الدالة على أنه لا يجوز تزويج امرأة زنى بها إلا بعد وقوفه على توبتها ، بتقريب أن الإصرار على الزنا كما يمنع ابتداء يمنع استدامة ، إذ العلة واحدة في الموضعين وحديث عباد بن صهيب قد عرفت ما فيه ، وحديث «لا يحرم الحرام الحلال». مخصص بما ذكرناه من الأخبار ، وبالجملة فالمسألة لا تخلو من شوب التوقف والاشكال.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٤٧١ ح ٩٧ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٢٥ ح ١٢.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣٣١ ح ٢٠ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٣٣ ح ١.

(٣) أقول : ومثل هذه الرواية ما رواه شيخنا المجلسي عن كتاب الحسين بن سعيد بسند صحيح إلى زرارة قال : «جاء رجل الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله ان امرأتي لا تدفع يد لامس ، قال. طلقها ، قال : يا رسول الله انى أحبها قال : فأمسكها». فإنها صريحة في إمساكها وان كانت مصرة على الزنا غير متمكن من إحصانها ومنعها ، وأخبار الأقسام الثلاثة في الأصل واضحة بل صريحة في المعارضة للرواية وما في معناها. (منه ـ قدس‌سره). والرواية في البحار ج ١٠٤ ص ١٢ ح ٣٦.

٥٠٣

الثالث : المشهور في كلام الأصحاب بل الظاهر أنه لا خلاف فيه أنه لا عدة على الزانية إذا كانت ذات حمل من الزاني ، أما لو لم تكن كذلك فالمشهور أيضا أنه لا عدة عليها ، وقيل : بوجوبها وإليه مال العلامة في التحرير (١).

قال المحدث الكاشاني في المفاتيح : قيل : ولا عدة للزاني مع الحمل بلا خلاف إذ لا حرمة له ، وبدونه قولان : أشهرهما العدم وأثبتها في التحرير ، أقول : والأحوط ثبوتها مطلقا عملا بالعمومات وحذرا من اختلاط المياه وتشويش الأنساب ، انتهى.

والظاهر أنه أراد بالعمومات ما ورد عنهم عليهم‌السلام في عدة روايات من قولهم «إذا أدخله وجب الغسل والعدة والمهر والرجم» (٢). وقولهم «العدة من الماء» (٣). ونحو ذلك وهو شامل بإطلاقه للزناء.

وأما العلة الثانية وهي المحاذرة من اختلاط المياه وتشويش الأنساب ، فهي لا تنطبق على الإطلاق الذي اختاره ، إذ مع الحمل لا يلزم ذلك كما لا يخفى ، وإنما يتجه في غير صورة الحمل.

أقول : والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بذلك رواية إسحاق بن جرير (٤) المتقدمة في القسم الثالث ، وهي دالة على أنه لا يجوز لمن فجر بالمرأة أن يتزوجها حتى تنقضي عدتها باستبراء رحمها من ماء الفجور.

وما رواه الحسن بن علي بن شعبة في كتاب تحف العقول (٥) عن أبي جعفر

__________________

(١) قال في التحرير : ولو زنت امرأة خالية من بعل فحملت لم يكن عليها عدة من الزنا ، وجاز لها التزويج ، ولو لم يحمل فالأقرب أن عليها العدة. انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢ و ٢) الوسائل ج ١٥ ص ٦٦ ح ٩ وص ٦٥ ح ١.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٣٥٦ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٢٧ ح ٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٣١ ح ٤.

(٥) تحف العقول ص ٤٥٤ الطبعة الثانية ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٧٦ ح ٢.

٥٠٤

محمد بن علي الجواد عليهما‌السلام «أنه سئل عن رجل نكح امرأة على زنا ، أيحل له أن يتزوجها؟ قال : يدعها حتى يستبرئها من نطفته ونطفة غيره ، إذ لا يؤمن منها أن تكون قد أحدثت مع غيره حدثا كما أحدثت معه ثم يتزوج إذا أراد ، فإنما مثلها مثل نخلة أكل رجل منها حراما ثم اشتراها فأكل منها حلالا».

وما رواه في التهذيب عن زرعة عن سماعة (١) في الموثق «قال سألته عن رجل له جارية فوثب عليها ابن له ففجر بها ، قال : قد كان رجل عنده جارية وله زوجة فأمرت ولدها أن يثب على جارية أبيه ففجر بها فسئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن ذلك فقال : لا يحرم ذلك على أبيه ، إلا أنه لا ينبغي له أن يأتيها حتى يستبرئها للولد ، فإن وقع فيما بينهما ولد فالولد للأب إن كانا جامعاها في يوم واحد وشهر واحد».

وإلى العمل بهذه الأخبار مال المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي فقال في بدايته بوجوب العدة على الزانية إذا أرادت أن يتزوج الزاني أو غيره ، وهو جيد ، إلا أن عبارته مطلقة في وجوب العدة على الزانية حاملا كانت أم لا. والمستفاد من الروايات المذكورة من حيث التعليل فيها باستبراء الرحم التخصيص بغير الحامل كما لا يخفى ، وما تعلق به أصحابنا النافين للعدة من حيث «إن ماء الزاني لا حرمة له» اجتهاد في مقابل النصوص.

وأنت خبير بأن المستفاد من روايتي إسحاق بن جرير ورواية كتاب تحف العقول تخصيص وجوب الاستبراء بغير ذات البعل إذا أرادت أن يتزوج الزاني وغيره ، وهو الذي صرح به القائلون بوجوب العدة.

أما لو كانت ذات بعل فإشكال ينشأ من دلالة الأخبار (٢) على أن «الولد للفراش» ، فيلحق بالزوج ، وإن احتمل كونه من الزاني ، وحينئذ فلا يضر اختلاط المياه ، لأن الشارع ألحقه بالزوج ، ومن ظاهر موثقة سماعة المذكورة ، ولعل الموثقة

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ١٧٩ ح ٥١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٦٤ ح ٣.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ١٨٣ ح ٦٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٦٥ ح ١.

٥٠٥

المذكورة محمولة على استحباب الاستبراء وكراهة الجماع بدونه ، ويخرج لفظ «لا ينبغي» شاهدا بأن يحمل على ما هو المتعارف من الكراهة ، إلا أن عبارة الشيخ المفيد المتقدمة ظاهرة فيما دلت عليه الرواية المذكورة ، والاحتياط ظاهر ، والله العالم.

المقام الثالث : في وطئ الشبهة ، والمراد به ما ليس بمستحق منه مع عدم العلم بتحريمه ، كالوطئ في نكاح فاسد أو شراء فاسد مع عدم العلم بفسادهما : وإذا ظن أجنبية أنها زوجته أو أمته فوطأها ونحو ذلك.

وقد اختلف الأصحاب في نشر الحرمة به فالمشهور ذلك ، وأنه كالوطئ الصحيح ، وخالف في ذلك ابن إدريس فقال : أما عقد الشبهة ووطي الشبهة فعندنا لا ينشر الحرمة ولا يثبت به تحريم المصاهرة بحال ، وتبعه المحقق في كتابيه ونسب القول بالتحريم إلى تخريج الشيخ فقال في الشرائع : وأما الوطي بالشبهة فالذي خرجه الشيخ (رحمه‌الله) أنه ينزل منزلة النكاح الصحيح ، وفيه تردد ، أظهره أنه لا ينشر.

قال في المسالك : ووجه التحريم مساواته للصحيح في لحوق النسب ، وثبوت المهر به ، والعدة ، وسقوط الحد ، وهي معلولة للوطئ الصحيح كما أن الحرمة معلولة الآخر ، وثبوت أحد المعلولين يستلزم ثبوت الآخر ، والمصنف يمنع ذلك لعدم النص وأصالة بقاء الحل وضعف هذا التخريج ، فإنه لا يلزم من ثبوت حكم لدليل ثبوت آخر يناسبه ، كما أن المحرمية منتفية عن وطئ الشبهة بالإجماع ، مع أنها من جملة معلولات الوطي الصحيح ، وقد سبقه ابن إدريس إلى ذلك.

والأقوى نشر الحرمة به مع سبقه لثبوته في الزنا بالنص الصحيح مع تحريمه ، فيكون في الشبهة أولى ، لأنه وطئ محترم شرعا ، فيكون إلحاقه بالوطء الصحيح في ثبوت حرمة المصاهرة أولى من الزنا ، كما يثبت به أكثر أحكام الصحيح.

ولا يقدح تخلف المحرمية ، لأنه إباحة بحل النظر بسببه ، فجاز اشتراطه

٥٠٦

بكمال حرمة الوطي ، والموطوئة بالشبهة لا يباح النظر إليها للواطئ فلأقاربه أولى. انتهى.

أقول : وعلى هذا النهج كلام غير ، في تعليل القول المشهور ، ومن ذلك علم حجج القولين المذكورين. والمسألة عندي لا تخلو من توقف وإشكال ، فإن ما احتج به ابن إدريس والمحقق جيد من حيث أصالة الحل ، وعدم الدليل على ما يوجب الخروج عنها ، إلا ما ادعوه من مفهوم الأولوية من الأخبار الدالة على بشر الحرمة بالزناء.

وفيه (أولا) أن هذا لا يقوم حجة على المحقق وابن إدريس ، لأنهما يمنعان القول بنشر حرمة الزنا المتقدم ويقولون إنه لا ينشر الحرمة ، ويطرحون هذه الأخبار ، ويعملون على الأخبار المقابلة لها فكيف تقوم عليهم الحجة بهذا الدليل ، وإنما تثبت حجيته عند من يعمل بتلك الأخبار ، ويقول بنشر الحرمة بالزناء السابق على النكاح.

والظاهر أن خلافهم هنا مبني على الخلاف في تلك المسألة كما قدمنا نقله عنهم وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر ، لا سترة عليه.

و (ثانيا) أن كلامهم مبني على حجية مفهوم الأولوية ، وقد سبق منا الكلام فيه في مقدمات الكتاب المذكورة في المجلد الأول في الطهارة (١) وبالجملة فالمسألة عندي محل توقف ، والله العالم.

المقام الرابع : في المس والنظر هل ينشر حرمة المصاهرة أم لا؟ الظاهر أنه لا خلاف في عدم النشر بنظر ولمس ما يجوز لغير المالك نظره ، كالوجه والكفين ما لم يكن بشهوة ، أما ما لا يجوز كالفرج وباطن الجسد فقد اختلف فيه كلام الأصحاب. وتنقيح الكلام في المقام أن يقال : إذا ملك الرجل أمة وطأها أو نظر منها إلى

__________________

(١) ج ١ ص ٥٥.

٥٠٧

ما لا يجوز لغيره النظر اليه كالوجه والكفين أو لمسه ، فهل يحرم بذلك على أبيه أو ابنه أم لا؟ أقوال :

(أحدها) القول بالتحريم ، وهو منقول عن الشيخ في النهاية وأتباعه ، واختاره العلامة في المختلف والتذكرة إلا أن الذي في عبارة النهاية إنما هو النظر والتقبيل بشهوة حيث قال : لو نظر الأب أو الابن أو قبل بشهوة جارية قد ملكها حرم على الآخر وطؤها.

و (ثانيها) القول بعدم التحريم بالكلية ، وإنما المحرم الوطي خاصة ، وإليه ذهب ابن إدريس والمحقق والعلامة في غير الكتابين المتقدمين.

قال ابن إدريس : لا يحرم على أحدهما لو نظر الآخر وقبل وإن كان بشهوة بل المقتضي للتحريم الوطي لأصالة الإباحة وقوله (١) «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» قال : وهذا مذهب الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان ، والفقيه أبي يعلى سلار قال : وبه أفتى ، وغلطه العلامة في نقله هذا القول عن الشيخين المذكورين ، وهو كذلك.

و (ثالثها) اختصاص التحريم بمنظورة الأب وملموسته دون الابن ، وهو مذهب الشيخ المفيد وأبي الصلاح ، قال شيخنا المفيد (عطر الله مرقده) : من ابتاع جارية فنظر منها إلى ما كان يحرم عليه قبل ابتياعها بشهوة فضلا عن لمسها لم تحل لابنه بملك يمين ولا عقد نكاح أبدا ، وليس كذلك حكم الابن إذا نظر من أمة يملكها إلى ما وصفناه.

وقال في باب السراري : إذا نظر الأب إلى جارية قد ملكها نظرا بشهوة حرمت على ابنه ، ولم تحرم على الأب بنظر الابن دون غيره ، ففرق بين الأب والابن في الحكم المذكور ، وبه يظهر لك غلط ابن إدريس ونقله عنه القول بما ذهب إليه ، والظاهر من هذه الأقوال هو القول الأول.

__________________

(١) سورة النساء ـ آية ٤.

٥٠٨

والواجب أولا نقل الأخبار الواردة في المقام ثم تذييلها بما يسر الله تعالى فهمه منها بتوفيقه وبركة أهل العصمة (صلوات الله عليهم) فنقول :

منها ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في الرجل تكون عنده الجارية يجردها وينظر إلى جسدها نظر شهوة وينظر منها إلى ما يحرم على غيره ، هل تحل لأبيه؟ وإن فعل ذلك أبوه هل تحل لابنه؟ قال : إذا نظر إليها نظر شهوة ونظر منها إلى ما يحرم على غيره لم تحل لابنه ، وإن فعل ذلك الابن لم تحل لأبيه».

ورواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن إسماعيل. وهو ابن بزيع (٢) في الصحيح قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الرجل يكون عنده الجارية فيقبلها ، هل تحل لولده؟ فقال : بشهوة؟ قلت : نعم ، قال : فقال : ما ترك شيئا إذا قبلها بشهوة ثم قال ابتداء منه : إن جردها ونظر إليها بشهوة حرمت على أبيه وابنه ، قلت : إذا نظر إلى جسدها؟ فقال : إذا نظر إلى فرجها وجسدها بشهوة حرمت عليه».

أقول : وبهاتين الروايتين استدل للقول الأول ، وهما صحيحتان صريحتان.

والظاهر أن المراد من النظر إلى ما يحرم على غيره الاحتراز عن الوجه والكفين حيث إنه يجي‌ء أن النظر إليهما لا يوجبان تحريما وإن كان النظر بشهوة.

وظاهر الأصحاب أن النظر إليهما بشهوة يوجب التحريم ، وظاهر الخبرين خلافه ، وكذا ظاهر الخبرين سيما الثاني أن التحريم بالنظر إلى الجسد لا بد من تقييده بالشهوة ، فلو نظر إليه بغير شهوة لم يوجب تحريما ، ومقتضى الخبر قصر التحريم على الأب والابن.

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٢١٢ ح ٦٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣١٨ ح ٦.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤١٨ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٨١ ـ ٢٨٢ ح ٢٨ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣١٧ ح ١.

٥٠٩

ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن مسلم (١) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا جرد الرجل الجارية ووضع يده عليها فلا تحل لابنه».

أقول : يجب تقييد التحريم بكون ذلك عن شهوة كما دل عليه الخبران الأولان.

ومنها ما رواه في التهذيب عن عيص بن القاسم (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أدنى ما تحرم به الوليدة تكون عند الرجل على ولده إذا مسها أو جردها».

وما رواه في التهذيب في الموثق عن عبد الله بن سنان (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في الرجل تكون عنده الجارية فتنكشف فيراها أو يجردها لا يزيد على ذلك ، قال : لا تحل لابنه».

وعن داود الأبزاري (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل اشتري جارية فقبلها قال : تحرم على ولده ، وقال : إن جردها فهي حرام على ولده».

أقول : وبصحيحة محمد بن مسلم استدل للقول الثالث من حيث اشتمالها على تحريم ملموسة الأب على الابن دون العكس.

وفيه : أن غاية ما يدل عليه هو التنبيه على حكم ملموسة الأب بالنسبة إلى الابن وأما بالنسبة إلى العكس فهو مطلق فيجب تقييده بالخبرين السابقين الصحيحين الصريحين في حكمهما معا والأخبار الثلاثة متفقة على حكم الابن وتحريم منظورة الأب وملموسته عليه ، والخبران الأولان مصرحان بالعكس.

نعم لو كان ما دل عليه الخبر واقفا على جهة الحصر بحيث لا يتعدى إلى العكس

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤١٩ ح ٥ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٨٢ ح ٢٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤١٧ ح ٤.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٢٠٨ ح ٤٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٨٥ ح ١.

(٣) التهذيب ج ٨ ص ٢٠٨ ح ٤٦ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٨٥ ح ٢.

(٤) التهذيب ج ٨ ص ٢٠٩ ح ٤٨ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٨٥ ح ٤.

٥١٠

لتم الاستدلال ، وهكذا يقال في الأخبار الباقية ، فإن موردها تحريم منظورة الأب وملموسته على الابن دون العكس لا على جهة الحصر ، بل هي مطلقة بالنسبة إلى العكس فيجب تقييدها بالخبرين الأولين.

وكيف كان فإنه يجب تقييد هذه الأخبار بالشهوة أيضا لما عرفت من صراحة الصحيحين المتقدمين في ذلك ، وأيضا فإنه هو الغالب سيما في التقبيل ، وبذلك يظهر ضعف القول المذكور.

ومنها ما رواه الشيخ (١) في الموثق عن علي بن يقطين عن العبد الصالح عليه‌السلام «عن الرجل يقبل الجارية ويباشرها من غير جماع داخل أو خارج أتحل لابنه أو لأبيه؟ قال : لا بأس».

وهذه الرواية قد استدل بها بالقول الثاني ، وحملوا الروايات المنافية على الكراهة جمعا.

وفيه : أن النهي حقيقة في التحريم فلا يحمل على خلافه إلا مع القرينة الواضحة الصارفة عن الحقيقة ، والرواية المذكورة غير صريحة في التحريم لإمكان حملها على ما ذكره الشيخ من كون ذلك لا بشهوة ، والمحرم إنما هو الواقع بشهوة كما عرفت.

وبالجملة فإن هذا الخبر يضعف عن معارضة الأخبار المتقدمة سندا وعددا ودلالة ، فيجب التأويل في جانبه لا في جانب تلك الأخبار.

وبما ذكرنا يظهر ضعف الاستناد إلى أصالة الإباحة كما ذكره ابن إدريس لوجوب الخروج عنها بالدليل الدال على التحريم ، وقد عرفت ضعف الاستناد إلى الآية فإنها مخصوصة بالأخبار ، على أن مجرد الملك لا يقتضي إباحة الوطي فقد يملك من لا يجوز له وطؤها ، والله العالم.

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٢٠٩ ح ٤٧ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٨٥ ح ٣.

٥١١

تذنيبات

الأول : لو قلنا بتحريمها على الأب والابن كما هو أحد الأقوال المتقدمة ، فهل يتعدى التحريم إلى أمها وإن علت ، وابنتها وإن سفلت : فيحرم على المولى نكاحها أم لا ، الظاهر أن المشهور الثاني ، وبالأول صرح الشيخ في الخلاف وابن الجنيد (١).

واحتج في الخلاف بإجماع الفرقة وأخبارهم والاحتياط ، وفي موضع آخر من الكتاب المذكور خص التحريم بالنظر إلى فرجها ، واستدل بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) «لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها».

وما روى عنه (٣) صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من كشف قناع امرأة حرم عليه ابنتها».

والظاهر أنه عنى بالأخبار هذه الأخبار مع أنها عامية فإنها غير موردة في شي‌ء من أخبارنا.

والعلامة في المختلف قد استدل له بصحيحة محمد بن مسلم (٤) عن أحدهما عليهما‌السلام «عن رجل تزوج امرأة فنظر إلى رأسها وإلى بعض جسدها ، أيتزوج ابنتها؟ قال : لا ، إذا رأى ما يحرم على غيره فليس له أن يتزوج ابنتها».

__________________

(١) قال ابن الجنيد : إذا أتى الرجل من زوجته وأمته محرما على غيره كالقبلة والملامسة والنظر إلى العورة فقد حرمت عليه ابنتها بنسب كانت أو رضاع ، وقال الشيخ في الخلاف : اللمس إذا كان بشهوة مثل القبلة أو اللمس إذا كان مباحا أو شبهة ينشر التحريم ، وتحرم الام وان علت والبنت وان سفلت ، واستدل عليه بإجماع الفرقة وأخبارهم وقال في موضع آخر : وإذا نظر الى فرجها تعلق به تحريم المصاهرة ، واستدل بإجماع الفرقة وأخبارهم وطريق الاحتياط ، ثم ذكر الروايتين المنقولتين في الأصل. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢ و ٣) عوالي اللئالي ج ٣ ص ٣٣٣ ح ٢٢٢ و ٢٢٣، مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٥٧٩ ب ٢٠ ح ٦.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ٢٨٠ ح ٢٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٥٣ ح ١.

٥١٢

ورواية أبي الربيع (١) قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام «عن رجل تزوج امرأة فمكث أياما معها لا يستطيعها ، غير أنه قد رأى منها ما يحرم على غيره ثم طلقها ، أيصلح له أن يتزوج ابنتها؟ فقال : لا يصلح له وقد رأى من أمها ما رأى».

ورواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، وهي مثل رواية أبي الربيع المذكورة.

ثم أجاب عنها بما ذكره الشيخ في كتابي الأخبار من حمل النهي فيها على الكراهة جمعا ، أقول : ولا يبعد الحمل على التقية أيضا. وبالجملة فإن الآية الشريفة أعني قوله عزوجل (٢) «فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» الصريحة في قصر تحريم البنت على المدخول بالأم ، والمس والنظر ونحوهما لا يسمى دخولا ، وكذلك الأخبار الكثيرة المتقدمة الصريحة في عدم تحريم البنت إلا مع الدخول بالأم.

وخصوص صحيحة العيص بن القاسم ـ (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل باشر امرأة وقبل ، غير أنه لم يفض إليها ثم تزوج ابنتها؟ قال : إذا لم يكن أفضى إلى الأم فلا بأس ، وإن كان أفضى إليها فلا يتزوج ابنتها». ـ صريح في عدم التحريم إلا مع الدخول ، مع تأيد هذه الأدلة بأصالة الإباحة.

على أن في الاستدلال بهذه الأخبار خروجا عن محل البحث ، فإن مورد هذه الأخبار إنما هو الزوجة ، ومحل البحث الأمة ، ومن ذلك يظهر ضعف القول المذكور ، وأنه بمحل من القصور لعدم الدليل عليه ، وحينئذ فيجب قصر التحريم على الأب والابن كما تقدم ، والله العالم.

الثاني : قد نقل جملة من الأصحاب عن المحقق الشيخ فخر الدين في شرح

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٨٠ ح ٢٤ وفيه «أيصلح» ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٥٣ ح ٢.

(٢) سورة النساء ـ آية ٢٣.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٤١٥ ح ٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٢٢ ح ٢.

٥١٣

القواعد أنه قال بأن القائلين أن الزنا ينشر حرمة المصاهرة اختلفوا في أن النظر المحرم إلى الأجنبية والمس هل ينشر الحرمة؟ فتحرم به الأم وإن علت ، والبنت وإن نزلت أم لا؟ هذا كلامه (رحمة الله عليه).

قال في المسالك : ولم نقف على القائل بالتحريم ، وعلى القول به لا تحرم المنظورة والملموسة على الفاعل ، وإنما نقل الخلاف في أمها وابنتها ، وكيف كان فهو قول ضعيف جدا لا دليل عليه. انتهى.

ومما يدل على بطلان هذا القول صحيح العيص بن القاسم (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل باشر امرأة وقبل ، غير أنه لم يفض إليها ، ثم تزوج ابنتها قال : إن لم يكن أفضى إلى الأم فلا بأس ، وإن كان أفضى إليها فلا يتزوج ابنتها».

وما رواه المجلسي في كتاب البحار عن الحسين بن سعيد عن صفوان عن منصور بن حازم (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في رجل كان بينه وبين امرأة فجور ، أيحل له أن يتزوج ابنتها ، قال : إن كان قبلة وشبهها فليتزوج بها إن شاء أو بابنتها».

قال : وروى القاسم بن محمد عن أبان عن منصور (٣) مثل ذلك إلا أنه قال : «فإن جامعها فلا يتزوج ابنتها وليتزوجها» ، وفي الخبر دلالة على ما ذكره شيخنا المتقدم ذكره من قوله «وعلى القول به لا تحرم المنظورة والملموسة على الفاعل».

والمشهور أيضا أنه لو وقع اللمس أو النظر وكذا القبلة بشبهة فإنه لا يحرم ونقل عن الشيخ في الخلاف القول بالتحريم به للام والبنت فساوى بين المباح من هذه الأشياء وبين الشبهة.

قال في الكتاب المذكور : اللمس بشهوة مثل القبلة واللمس إذا كان مباحا

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٣٠ ح ١٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٢٢ ح ٢.

(٢) البحار ج ١٠٤ ص ١٠ ح ٢٥ ، مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٥٧٥ ب ٦ ح ٤.

(٣) البحار ج ١٠٤ ص ١٠ ح ٢٦ ، مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٥٧٥ ب ٦ ذيل ح ٨.

٥١٤

أو بشبهة ينشر التحريم ، وتحرم الام وإن علت والبنت وإن نزلت ، واستدل بإجماع الفرقة وأخبارهم. انتهى.

ولا ريب في ضعفه كما صرح به جملة من المتأخرين ، فإنه مجرد دعوى لا دليل عليها.

الثالث : المفهوم من كلام جملة من الأصحاب كالعلامة في القواعد والمحقق في الشرائع جواز لمس الأجنبي للأمة في الجملة ، وفيه إشكال.

قال في القواعد : ولا خلاف في انتفاء التحريم بما يحل لغير المالك كنظر الوجه ولمس الكف ، قال الشارح المحقق : ويستفاد من قول المصنف ـ ثم نقل العبارة المذكورة ـ أنه يحل النظر واللمس المذكوران في الأمة للأجنبي وفي حل اللمس تردد. انتهى.

وقال المحقق في الشرائع : فما يسوغ لغير المالك كنظر الوجه ولمس الكف لا ينشر الحرمة.

قال في المسالك : يستفاد منه أيضا أن لمسها جائز في الجملة ، ولم يذكروا جوازه بل القائلون بجواز النظر قصروه عليه ، عملا بظاهر قوله تعالى (١) «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها» فإنه يقتضي إباحة نظر محل ذلك ، فاللمس باق على أصل التحريم ، وصرح بعض الأصحاب بتحريم اللمس مطلقا ، وفي القواعد في هذا المحل جوز لمس كف الأمة للأجنبي ، وجعله المراد مما يحل لغير المالك لمسه ، ويمكن حمل عبارة المصنف عليه. انتهى.

أقول : في قوله ـ ويمكن حمل عبارة المصنف عليه ـ فيه ما لا يخفى فإن مرجع العبارتين إلى أمر واحد فلا معنى لقوله «ويمكن».

وكيف كان فإن ما ذكراه من جواز اللمس في هذا الموضع لا أعرف عليه دليلا ، وغاية ما يستفاد من الأخبار ـ الدالة على استثناء الوجه والكفين من العورة

__________________

(١) سورة النور ـ آية ٣١.

٥١٥

بالنسبة إلى بدن المرأة ـ هو جواز النظر إليهما ، وأما اللمس فلم أقف له على دليل ، والله العالم.

ختام :

قد صرح جملة من الأصحاب بأن المحرمات المذكورة في باب المصاهرة بالنكاح الصحيح أو الزنا أو وطئ الشبهة أو النظر واللمس كما تحرم بالنسب كذلك تحرم بالرضاع ، فكل من حرم بالمصاهرة بسبب كالأبوة والبنوة والأمية والبنتية ونحوها إذا كان من النسب حرم نظيره في الرضاع فيحرم الموطوءة بالعقد على أب الواطئ الرضاعي كما تحرم على أبيه النسبي وإن علا ، وابنه نسبا ورضاعا وإن نزل ، ويحرم على الواطئ أمها رضاعا كما تحرم الأم النسبية وإن علت ، وهكذا ابنتها لعموم «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (١).

ولا يقال : إن هذا إنما يحرم بالمصاهرة لا بالنسب ، فلا يدخل في عموم الخبر ، لأنا نقول : قد بينا في باب الرضاع تفصيل الكلام وشرحه بأوضح بيان في معنى المصاهرة ، وأنها على معنيين مصاهرة مبنية على النكاح ، وهي راجعة إلى النسب فيحرم بها ما يحرم من النسب ، ومصاهرة راجعة إلى الرضاع فلا يترتب عليها تحريم إلا على مذهب القائلين بالتنزيل في الرضاع ، وقد أشرنا ثمة إلى بطلانه.

ومما يعضد ما ذكرنا ما رواه أبو عبيدة الحذاء (٢) في الصحيح عن الصادق عليه‌السلام قال : «سمعته يقول : لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على أختها من الرضاعة».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٣٧ ح ٢ و ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٩٢ ح ٦٠ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨١ ح ٤.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٢٦٠ ح ٢١ ، الكافي ج ٥ ص ٤٤٥ ح ١١ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٩٢ ح ٦٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٠٤ ح ١ وص ٣٠٠ ح ٦.

٥١٦

وما رواه محمد بن مسلم (١) في الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل فجر بامرأة ، أيتزوج أمها من الرضاعة أو ابنتها؟ قال ، لا».

والتقريب فيه صدق الام والبنت في موضع التحريم على الرضاعيتين كما تصدق على النسبيتين ، وهكذا في الأب والابن والأخت والعمة والخالة ونحوها من المحرمات النسبية ، والظاهر أن الحكم موضع وفاق عند كل من قال بالتحريم في المصاهرة. والله العالم.

المقصد الثاني : فيما يلحق بما تقدم من المواضع التي أشرنا إليها آنفا من وقوع التحريم فيها زيادة على ما تقدم في المقامات المتقدمة ، وقد تقدم ذلك في صدر البحث ، وحيث كان التحريم في بعضها جمعا وفي بعضها عينا فالكلام هنا يقع في موردين.

الأول : فيما يحرم جمعا وفيه مسائل.

الاولى : لا خلاف نصا وفتوى في تحريم الجمع بين الأختين في النكاح ، وقد تقدمت جملة من الأخبار الدالة على ذلك في التذنيبات التي في آخر المسألة الثانية من المطلب الثاني وسيأتي جملة من الأخبار الدالة على ذلك.

وأما ما روي في شدوذ الأخبار عن منصور بن الصيقل (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا بأس بالرجل أن يتمتع باختين». فإنه محمول على ما ذكره الشيخ (رحمه‌الله) من أنه يتمتع واحدة بعد اخرى ، لا أنه يجمع بينهما.

وبالجملة فإن الحكم المذكور مما لا خلاف ولا إشكال فيه ، وحينئذ فلو تزوجهما فلا يخلو أن يكونا مترتبتين إحداهما بعد الأخرى ، أو يقع ذلك في

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤١٦ ح ٨ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٣١ ح ١٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٢٥ ح ٢.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٨٨ ح ٤٧ ، الاستبصار ج ٣ ص ١٧١ ح ١ فيه «بأختين» ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٧٠ ح ٢.

٥١٧

عقد واحد ، فالكلام هنا في موضعين :

(أحدهما) أن يتزوجهما بالترتيب إحداهما قبل الأخرى. والذي صرح به الشيخ في النهاية هو بطلان عقد الثانية خاصة ، فإن وطأ الثانية فرق بينهما ، ولا يرجع في نكاح الاولى حتى تخرج التي وطأها من العدة ، وبه صرح ابن البراج وابن زهرة.

وقال ابن إدريس : لا دليل على صحة هذه الرواية ، والذي يقتضيه أصول

المذهب أنه لا يمتنع من وطئ امرأته الاولى.

وقال ابن الجنيد ، لو تزوج بأخت امرأته وهو لا يعلم فرق بينهما إن كان لم يدخل بالثانية ، فإن دخل بالأخيرة خير أيتهما شاء ، ولا يقرب التي يختار حتى تنقضي عدة التي فارق ، فإن أحب العود إلى التي فارقها لم يكن له أن يعقد حتى يفارق التي كانت في حباله ، إما بطلاق بين أو خلع تبين منه عصمتها ثم لا يكون له رجعة عليها أو يموت. انتهى.

أقول : ويدل على القول الأول ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن زرارة (١) في الموثق «قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل تزوج بالعراق امرأة ثم خرج إلي الشام فتزوج امرأة أخرى فإذا هي أخت امرئته التي بالعراق ، قال : يفرق بينه وبين التي تزوجها بالشام ولا يقرب المرأة حتى تنقضي عدة الشامية ، قلت : فإن تزوج امرأة ثم تزوج أمها وهو لا يعلم أنها أمها؟ قال : قد وضع الله عنه جهالته بذلك ، ثم قال : إذا علم أنها أمها فلا يقربها ولا يقرب الابنة حتى تنقضي عدة الأم منه ، فإذا انقضت عدة الام حل له نكاح الابنة ، قلت : فإن جاءت الام بولد؟ قال : هو ولده ، ويكون ابنه وأخا امرأته» (٢).

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٣١ ح ٤ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٦٤ ح ٤٣ التهذيب ج ٧ ص ٢٨٥ ح ٤٠ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٦٨ ح ١.

(٢) هذه الرواية عدها في المختلف في الصحيح ، ثم اعترض على نفسه بأن في

٥١٨

ومما يدل على ما ذهب إليه ابن الجنيد ما رواه في الكافي عن أبي بكر الحضرمي (١) في الحسن قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : رجل نكح امرأة ثم أتى أرضا فنكح أختها وهو لا يعلم ، قال : يمسك أيتهما شاء ويخلي سبيل الأخرى».

ونقل عنه في المختلف أنه استدل أيضا ـ زيادة على الرواية المذكورة ـ بأنهما عقدان استباح بهما وطأهما فيتخير لامتناع الجمع ، وعدم الأولوية كما في المقارن.

ثم أجاب في المختلف عن الرواية بأنا نقول بموجبها ، والمراد : إمساك الأولى بالعقد الثابت المستقر ، وإن أراد إمساك الثانية طلق الأولى وابتدأ العقد على الثانية.

أقول : وبهذا أجاب الشيخ (رحمه‌الله) عن الرواية المذكورة ، ولا يخفى ما فيه من البعد ، والمسألة لذلك لا تخلو من شوب الإشكال إلا أنه يمكن ترجيح القول المشهور بأن النهي عن الجمع إنما توجه هنا إلى الأخيرة ، ولهذا لو كان عالما بكون الثانية أختا للأولى ، فإنه لا خلاف ولا إشكال في بطلان عقدها وحينئذ فصحته ظاهرا قبل العلم لا ينافي بطلانه بعد العلم كما في غيره من نكاح الشبهة.

ومما يؤيد ذلك أيضا صحيحة محمد بن قيس (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام «في رجل

__________________

سندها ابن بكير وهو فطحي ، ثم أجاب بأن الكشي قد نقل عنه أنه ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه.

ولا يخفى عليك ما فيه من التكلف لخروجه عن اصطلاحه ، وفيه تأييد لما قدمنا ذكره في الكتاب في غير موضع من خروجهم عن مقتضى اصطلاحهم لضيق الخناق فيه وتسترهم بالأعذار الواهية. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٣١ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٨٥ ح ٤١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٦٩ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٣٠ ح ٣ ، التهذيب ح ٧ ص ٢٩٤ ح ٧١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٠٠ ح ١.

٥١٩

كان تحته أربع نسوة فطلق واحدة ثم نكح اخرى قبل أن تستكمل المطلقة العدة قال : فيلحقها بأهلها حتى تستكمل المطلقة أجلها ، وتستقبل الأخرى عدة اخرى ولها صداقها إن كان دخل بها ، فإن لم يكن دخل بها فله ماله ولا عدة عليها ، ثم إن شاء أهلها بعد انقضاء عدتها زوجوه ، وإن شاؤا لم يزوجوه».

ورواية عنبسة بن مصعب (١) «قال ، سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل كانت له ثلاث نسوة فتزوج عليهن امرأتين في عقد واحد ، فدخل بواحدة منهما ثم مات فقال : إن كان دخل بالمرأة التي بدأ باسمها وذكرها عند عقد النكاح فإن نكاحها جائز ، ولها الميراث وعليها العدة ، وإن كان دخل بالمرأة التي سميت وذكرت بعد ذكر المرأة الأولى فإن نكاحها باطل ، ولا ميراث لها وعليها العدة».

والتقريب فيهما دلالتهما على بطلان عقد الخامسة لأنها هي التي توجه إليها النهي ، والمسئلتان من باب واحد ، إلا أنه يبقى الكلام فيما يحمل عليه حسنة الحضرمي المذكورة ، وليس إلا ما ذكره الشيخ وإن بعد ، واحتمال التقية فيه ممكن ، سيما من حيث قول ابن الجنيد به.

ومما يؤيد الرواية الأولى أيضا فيما دلت عليه من الأمر بفراق الأخيرة ما رواه في الكافي مسندا في الصحيح عن محمد بن قيس (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في أختين نكح إحداهما رجل ثم طلقها وهي جبلي ثم خطب أختها فجمعهما قبل أن تضع أختها المطلقة ولدها؟ فأمره أن يفارق الأخيرة حتى تضع أختها المطلقة ولدها ثم يخطبها ويصدقها صداقا مرتين».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٣٠ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٩٥ ح ٧٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٠٣ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٣٠ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٨٤ ح ٣٨ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٦٦ ح ١.

٥٢٠