الحدائق الناضرة - ج ٢٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٦

وجزمه بالجواز هنا مع كون المسألتين من باب واحد ـ وارد عليه أيضا من جهة جزمه بالتحريم كابن إدريس في تلك المسألة وتوقفه هنا فإن الكلام في الموضعين واحد ، فإنه إنما جزم بالتحريم في المسألة السابقة نظرا إلى ظاهر التعليل في تلك الروايات ، كما أسلفنا نقله عنه ، والحال أنه هنا كذلك كما يفيده قوله هنا ، وهذا التعليل يعطي صيرورة أولاده إخوة لأولاده فينشر الحرمة.

وبالجملة فالمسألتان من باب واحد فالحكم فيها واحد ، ولا وجه للقول في إحداهما بالتحريم والقول بالثانية بالجواز أو التوقف.

وما احتج به العلامة ـ من قوله ـ وهذا التعليل ـ إلى آخره ـ عليل كما عرفت من كلام شيخنا الشهيد الثاني ، والذي صرح به العلامة ـ في غير هذا الكتاب ـ هو الجواز ، وهو اختيار ابنه فخر المحققين في شرح القواعد أيضا ، وبه قال : الشيخ في المبسوط أيضا على ما نقله المحقق الثاني في الرسالة المتقدم ذكرها ، ونقل عبارته ثمة ، ولا مخالف هنا إلا الشيخ في الكتابين المتقدمين ، وكفى بأصالة الجواز متمسكا حتى يقوم الدليل القاطع على خلافه ، سيما مع ما ثبت من الجواز في النسب والتحريم الرضاعي فرع على النسبي ، فكيف يحل في الأصل ويحرم في الفرع؟ نعم لا يبعد القول بالكراهة في الرضاع كما ورد مثله في النسب أيضا. ويدل على الأول موثقة إسحاق بن عمار (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في رجل تزوج أخت أخيه من الرضاعة فقال : ما أحب أن أتزوج أخت أخي من الرضاعة».

وعلى الثاني ما رواه الراوي المذكور (٢) قال : «سألته عن رجل يتزوج أخت أخيه؟ قال : ما أحب له ذلك».

وقال : المحقق الثاني في الرسالة الرضاعية ـ بعد نقل الخلاف في المسألة ـ ما هذا لفظه : فإن قيل : النص السالف يدل على التحريم هنا التزاما ، لأنه لما

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٤٤ ح ٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٧٩ ح ٢.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٤٧٢ ح ١٠١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٠ ح ٤.

٤٠١

تضمن تحريم الأولاد على أب المرتضع معللا بأنهم بمنزلة أولاده في التحريم لزم من ذلك أن يكونوا لأولاده كالاخوة ، فيحرم بعضهم على بعض ، لأن البنوة لصاحب اللبن والاخوة لأولاده متلازمان ، فيمتنع ثبوت إحداهما مع انتفاء الأخرى وقد ثبت البنوة بالنصوص السابقة ، فيثبت الاخوة فيلزم التحريم.

قلنا : نمنع الدلالة الالتزامية ، لأن من شرطها اللزوم الذهني البين بالمعنى الأخص وليس بثابت ، بل نمنع التلازم أصلا ، فإن ثبوت بنوة شخص الآخر يقتضي ثبوت الاخوة لأولاده ، لا ثبوت الاخوة لإخوة أولاده ، وذلك غير مقتض للتحريم بوجه من الوجوه. انتهى ، وهو جيد.

وبالجملة فإن القول المذكور ضعيف لا يلتفت إليه ، وعليل لا يعول عليه ، والتمسك بأصالة الحل أقوى مستمسك حتى يقوم الدليل الواضع على الخروج ، عنه ، والله العالم.

المسألة الرابعة : هل يحل للفحل النكاح في إخوة المرتضع بلبنه أم لا؟ والأشهر الأظهر الأول ، وبه صرح الشيخ في المبسوط فيما قدمناه من عبارته في المسألة الثانية ، وبالثاني صرح في الخلاف والنهاية ، وإليه ذهب ابن إدريس كما تقدم نقل ذلك أيضا ، وكلام من عداهما من الأصحاب متفق النظام متسق الانسجام على الجواز.

والعجب هنا من المحقق الشيخ علي (قدس‌سره) في الرسالة حيث قال ـ بعد نقله عن الشيخ التحريم وعن العلامة في التحرير والقواعد الجواز ـ ما هذا لفظه :

والظاهر عدم الفرق بين بنات الفحل بالنسبة إلى أب المرتضع وأخوات المرتضع بالنسبة إلى الفحل نظرا إلى العلة المذكورة في الحديثين السابقين ، فإن كانا حجة وجب التمسك بمقتضي العلة المنصوصة ، وإلا انتفى التحريم في المقامين ، وعلى كل فالاحتياط فيهما أولى وأحرى. انتهى.

أقول : فيه (أولا) أنه لا يخفى أن العلة المنصوصة في الروايتين المشار إليهما

٤٠٢

إنما هو صيرورة أولاد الفحل أو المرضعة بمنزلة أولاد أب المرتضع ، وأما صيرورة أولاد أب المرتضع بمنزلة أولاد الفحل في التحريم عليه فليس في الروايات إشعار به بوجه ولا دلالة لها عليه بنوع بالكلية ، وكيف يكون داخلا في العلة المنصوصة.

وقد عرفت مما تقدم في كلام شيخنا الشهيد الثاني أن العمل بالعلة المنصوصة يقتضي وجود تلك العلة في المعدى إليه ، مثلا قول الشارع حرمت الخمرة لاسكارها فمتى قلنا بالعمل بمنصوص العلة ، فإنه لا بد من حصول الإسكار في الفرد المعدى ليتعدى التحريم إليه ، والعلة التي في الفرع هنا وهي نكاح الفحل في إخوة المرتضع بلبنه ليست هي التي في الأصل كما عرفت.

و (ثانيا) أنه أي فرق بين هذه الصورة وبين سابقتها حيث يختار الجواز هناك ، وينفي دلالة النصوص على حكم تلك الصورتين ، ويرجح التحريم هنا فإنه إن وقف على ظاهر النص فمورده إنما هو هذا الفرد الخاص ، وهو نكاح أب المرتضع في أولاد صاحب اللبن ، وإن تعدى عنه بالنظر إلى ما يتخيل من ظاهر التعليل وإجراء حكمه في اللازم والمشابه ونحوهما فلا معنى لمنعه هناك الجواز ، وإلزامه للشهيد في المسألة الثانية بالقول بالقياس فإن الأمر في الجميع واحد.

بل ربما يقال : بأن إجراء حكم التعليل في المسألة الثالثة التي منع فيها حصول اللزوم بالكلية أظهر منه في هذه المسألة ، وذلك لأن البنوة من حيث هي مستلزمة لإخوة من شارك فيها ، فبنوة أولاد الفحل لأب المرتضع مستلزم لإخوة بعضهم ببعض ، بخلاف ما هنا ، فإن كون أولاد الفحل بمنزلة أولاد أب المرتضع لا يستلزم العكس ، لأنه لا ملازمة بالمرة كما لا يخفى.

ونحن إنما ضربنا صفحا عن الاخوة ، ولم نرتب عليها هناك حكما شرعيا وإن كان لزومها ظاهرا من حيث إن الأحكام الشرعية لا تبنى على اللزومات العقلية والمناسبات الذوقية ، بل ولا على جهات الأولوية ، بل المدار إنما هو على صريح

٤٠٣

النصوص الجلية ، وإنما ذلك مذهب أصحاب الرأي والقياس ، كما صرحت به النصوص عن أهل الخصوص (صلوات الله عليهم).

وربما كان منشأ الشبهة فيما ذكره (قدس‌سره) هو أنه لما كان أولاد الفحل إنما صاروا بحكم أولاد المرتضع كما صرحت به النصوص من جهة إخوتهم للمرتضع ، فألحقهم بأبيه النبي فيجب أن يكون أولاد أب المرتضع بحكم أولاد الفحل لذلك أيضا.

وفيه ـ مع الإغماض عن عدم دلالة النص عليه ، وكون ذلك علة مستنبطة بل أبعد ـ أن صيرورة ولد الفحل بالنسبة إلى أب المرتضع في التحريم عليه كولده لا يستلزم صيرورة ولد أب المرتضع بالنسبة إلى الفحل كولده في التحريم عليه ، لجواز قوة العلاقة الموجبة لترتب الحكم في الأول دون الثاني ، فإن من الجائز أن يقال : إنه لما اشترك الفحل وأب المرتضع في بنوة هذا المرتضع ، وكانت البنوة بالنسبة إلى أحدهما أقوى منها بالنسبة إلى الآخر.

وبعبارة أخرى : وكانت البنوة بالنسبة إلى أحدهما نسبا وإلى الآخر رضاعا ولا ريب أن البنوة النسبية أقوى علاقة من الرضاعية ، فمن الممكن القريب أن تلك البنوة النسبية لقوة علاقتها تلحق الاخوة الرضاعية بالأب النسبي بخلاف البنوة الرضاعية ، فإنها لضعف علاقتها لا تلحق الاخوة النسبية بالأب الرضاعي. وهذا يصلح وجها لما دل عليه النص من إلحاق الاخوة الرضاعية بالأب النسبي دون العكس.

وبالجملة فإن ما ادعاه المحقق المذكور من كون العلة في الحديثين جارية في كلتا المسألتين لا أعرف له وجها يعتمد عليه ولا دليلا يوجب المصير إليه.

هذا ما وقفت عليه في كتب أصحابنا التي يحضرني الآن من المسائل التي وقع الخلاف فيها مما ادعى فيها الخروج عن دائرة تلك القاعدة الكلية والضابطة الواضحة الجلية وقد أوضحنا ـ بحمد الله تعالى سبحانه ومنه ـ عدم خروج شي‌ء

٤٠٤

منها عن جادة ذلك الضابطة المنصوص ، سوى المسألة الأولى لتصريح النص بها على الخصوص ، وقد صرح بذلك أيضا المحقق الشيخ علي (رحمة الله عليه) في صدر الرسالة وقد قدمنا عبارته في المقام الأول ، والله العالم.

تنبيهان :

الأول : اعلم أن المستفاد من كلام الأصحاب كما صرح به غير واحد في هذا الباب وعليه دلت نصوص أهل الخصوص (سلام الله عليهم) هو أنه لا فرق في تحريم أم المرضعة على المرتضع بين كونها إما نسبية أو رضاعية لدخولهما في عموم الأمهات التي صرحت الآية بتحريمها ، وكذا أختها وأخت الفحل ، فإنهما محرمان عليه ، سواء كانت إخوتهما من النسب أو الرضاع ، لدخولهما في عموم الأخوات الموجب لكونهما بالنسبة إلى المرتضع خالة وعمة ، وهكذا خالتها وعمتها تحرمان عليه وإن كانتا من الرضاع ، وقد تقدم ذكر ذلك في تفريع الرضاع على النسب في صدر المطلب.

وقال العلامة (قدس‌سره) في القواعد : لا تحرم أم المرضعة من الرضاع على المرتضع ولا أختها منه ولا بنات أخيها وإن حرمن في النسب ، لعدم اتحاد الفحل ، وقال المحقق الشيخ علي في شرحه : قد حققنا أن حرمة الرضاع لا تثبت بين مرتضعين إلا إذا كان الفحل واحدا فيما تقدم ، وأوردنا النص الوارد بذلك ، وحكينا خلاف الطبرسي.

فعلى هذا لو كان لمن أرضعت صبيا أم من الرضاع لم تحرم تلك الام على الصبي ، لأن نسبتها إليه بالجدودة إنما تتحصل من رضاعه من مرضعة ورضاع مرضعته منها ، ومعلوم أن اللبن في الرضاعين ليس لفحل واحد ، فلا تثبت الجدودة بين المرتضع والام المذكورة لانتفاء الشرط ، فينتفي التحريم.

ومن هذا يعلم أن أختها من الرضاع وعمتها منه وخالتها منه لا يحرمن ،

٤٠٥

وإن حرمن من النسب ، لما قلنا من عدم اتحاد الفحل ، ولو كان المرتضع أنثى لا يحرم عليها أبو المرضعة من الرضاع ولا أخوها منه ولا عمها منه ولا خالها منه لمثل ما قلناه.

وقيل : عموم قوله عليه‌السلام (١) «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». يقتضي التحريم هنا وأيضا فإنهم قد أطلقوا على المرضعة أنها أم ، وعلى المرتضعة بلبن أب المرضعة أنها أخت ، فتكون الأولى جدة والثانية خالة ، فيندرجان في عموم المحرم للجدة والخالة ، وكذا البواقي.

قلنا : الدال على اتحاد الفحل خاص ، فلا حجة في العام حينئذ ، وأما الإطلاق المذكور فلا اعتبار به مع فقد الشرط ، فإنهم أطلقوا على المرتضع أنه ابن المرضعة ، وعلي المرتضعة منها بلبن فحل آخر أنها بنت لها أيضا ، ولم يحكموا بالأخوة المثمرة للتحريم بين الابن والبنت لعدم اتحاد الفحل ، انتهى كلامه زيد مقامه.

أقول : العجب منهما (عطر الله مرقديهما) فيما ذهبا إليه وما اعتمدا في الاستدلال عليه ، وذلك فإن اشتراط اتحاد الفحل إنما هو في تلك الصورتين المخصوصتين المتقدم ذكرهما في الشرط الرابع ، وهما حصول التحريم بين المرتضعين الأجنبيين أو في إكمال النصاب بمعنى أنه لا يحرم أحد ذينك المرتضعين على الآخر إلا بأن يرتضعا من لبن فحل واحد ، أو لا ينشر الرضاع الحرمة بين المرتضع وبين المرضعة والفحل وتوابعهما حتى يكمل النصاب من لبن فحل واحد ومرجعه إلى اشتراط ذلك في حصول الاخوة والبنوة خاصة.

وعلى ذلك دلت الروايات المتقدمة كصحيحة الحلبي (٢) «قال سألت أبا عبد الله

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٩١ ح ٥٩ وص ٢٩٢ ح ٦٠ ، الكافي ج ٥ ص ٤٣٧ ح ٢ و ٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٧١ ح ٣ و ٤.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٤٣ ح ١١ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٢١ ح ٣١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٤ ح ٣.

٤٠٦

عليه‌السلام «عن الرجل يرضع من امرأة وهو غلام ، أيحل له أن يتزوج أختها لأمها من الرضاعة؟ فقال : إن كانت المرأتان رضعتا من امرأة واحدة من لبن فحل واحد فلا تحل ، وإن كانت المرأتان رضعتا من امرأة واحد من لبن فحلين فلا بأس بذلك».

وموثقة عمار الساباطي (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن غلام رضع من امرأة ، أيحل له أن يتزوج أختها لأبيها من الرضاع؟ قال فقال : لا ، قد رضعا جميعا من لبن فحل واحد من امرأة واحدة ، قال : قلت : فيتزوج أختها لأمها من الرضاعة؟ قال : فقال : لا بأس بذلك إن أختها التي لم ترضعه كان فحلها غير فحل التي أرضعت الغلام ، فاختلف الفحلان فلا بأس».

والخبران المذكوران صريحان فيما قلناه ، واضحان فيما ادعيناه ، فإنه عليه‌السلام خص اشتراط اتحاد الفحل بالمرأتين المذكورتين ، وهي المرضعة وأختها ، وأنه متى اتحد الفحل بالنسبة إليهما ثبتت الأختية ، ومتى ثبتت الأختية فإنها تحرم على المرتضع لكونها خالته رضاعا ، ولو كان اتحاد الفحل شرطا في التحريم بين المرتضع وأم المرضعة أو أختها أو نحوهما مما تقدم لما حكم عليه‌السلام بتحريم أخت المرضعة على المرتضع في هذين الخبرين متى حصلت الأختية بينهما باتحاد الفحل ، لأن الفحل متعدد البتة ، فإن فحل المرتضع غير فحل أخت المرضعة ، وبموجب ما ذهبوا إليه لا تحرم مع أنه عليه‌السلام حكم بالتحريم.

وبه علم أن اشتراط اتحاد الفحل في التحريم ليس على الإطلاق الذي توهموه بحيث يدخل تحته هذا الفرد الذي عدوه ، وإنما هو مخصوص بالأخوة والبنوة كما ذكرناه ، والظاهر أن الفاضلين المذكورين لم يلاحظ الخبرين ، ولم يطلعا عليهما في المقام.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٤٢ ح ١٠ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٢٠ ح ٢٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٤ ح ٢.

٤٠٧

وأما اشتراط اتحاد الفحل في إكمال النصاب لتحصل البنوة بذلك فيدل عليه صحيحة بريد وقد تقدمت في الشرط الرابع ، قال : في المسالك : المشهور بين أصحابنا أنه يشترط في الرضاع المحرم أن يكون اللبن لفحل واحد ، بل ادعى عليه في التذكرة الإجماع.

وهذا الشرط يشمل أمرين : أحدهما : اتحاد الفحل في اللبن الذي ينشر الحرمة بين المرتضع والمرضعة وصاحب اللبن ، بمعنى أن رضاع العدد المعتبر لا بد أن يكون لبنه لفحل واحد ـ إلى أن قال ـ : الثاني : اشتراط اتحاد الفحل في التحريم بين رضيعين فصاعدا ، بمعنى أنه لا بد في تحريم أحد الرضيعين على الآخر مع اجتماع الشروط السابقة من كون الفحل وهو صاحب اللبن الذي رضعا منه جميعا واحدا. انتهى :

وهو كما ترى ظاهر فيما قلناه من أن هذا الشرط مخصوص بهاتين الصورتين.

وأما شرطية ذلك في التحريم بين المرتضع وأم المرضعة أو أختها من الرضاعة ، فإن ذلك أمر لا يكاد يعقل صحته ووقوعه بالمرة ، وبالجملة فإن كلامهما (رضوان الله عليهما) لا يخلو من غفلة ، والله العالم.

الثاني : قال الفاضل العماد مير محمد باقر الشهير بالداماد في رسالته التي في التنزيل ـ بعد نقل ذلك عنهما وتخصيص اعتبار الشرط بالأخوة الرضاعية ـ ما هذا لفظه : والسر في اعتبار وحدة الفحل هناك أن الأصل في التحريم بالرضاع هو التحريم بالنسب.

وفي النسب قد يكون أخت أخت الغلام أو أخت أخيه لا يحرم عليه إذا كانت النسبة مختلفة من جهة الأم ومن جهة الأب فلذلك اعتبر في تحريم الرضاع عدم اختلاف الفحل كيلا تختلف النسبة ، إذ الفحل في الرضاع بمنزلة الأب في النسب ، والأمومة والجدودة لا تصح فيهما ، بل إنهما في النسب ملاك التحريم على الإطلاق فكذلك في الرضاع ، وسواء في ذلك قلنا بقول الطبرسي أم بنينا الأمر على القول

٤٠٨

الذائع : فإذن تحريم أم المرضعة من الرضاع على المرتضع لا انفراع له على قول الطبرسي ولا ابتناء له على عدم اعتبار الفحل بل هو من جزئيات ما عليه النص والإجماع.

فأما أخت المرضعة من الرضاعة بارتضاعهما من امرأة واحدة أجنبية على قول الطبرسي تحرم على المرتضع مطلقا ، وعلى الذائع المشهور إذا كان ارتضاعهما من تلك المرأة من لبن فحل واحد ، وكذلك الكلام في عمة المرضعة وخالتها من الرضاعة.

والأنثى المرتضعة يحرم عليها أبو مرضعتها من الرضاعة ، وكذلك أخو مرضعتها من الرضاع ، أي المرتضع من لبن أبيها الراضع على ما هو الأشهر أو الذي أرضعته أمها الرضاعية على قول الطبرسي وكذلك عم مرضعتها وخالها من الرضاعة ، انتهى كلامه زيد مقامه ، وهو جيد متين.

المورد الثالث : اعلم أنه قد صرح الأصحاب بأن المصاهرة كما تتعلق بالنسب وتقتضي التحريم به كذلك تتعلق بالرضاع وتقتضي التحريم به ، فمن نكاح امرأة فكما تحرم عليه أمها وبنتها مع الدخول بالأم وأختها جمعا وبنت أخيها وأختها بدون رضاها على المشهور إذا كان الجميع من جهة النسب ، كذاك يحرمن من جهة الرضاع ، فتحرم عليه أمها الرضاعية وبنتها وأختها إلى آخر ما ذكر في النسب فإنهن يحرمن في الرضاع ، وكما تحرم أيضا زوجة الأب وزوجة الابن النسبيين كذلك زوجتيهما إذا كانا رضاعيين.

ومما فرعوا على ذلك ما لو كان تحته كبيرة فطلقها فنكحت صغيرا وأرضعته الرضاع المحرم بلبن المطلق فإنها تحرم عليهما مؤبد أما على المطلق فإنها لما أرضعت بلبنه وكان ابنه وقد نكحته فصارت حليلة ابنه ، وأما على الصغير فلأنها امه وزوجة أبيه أيضا ، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ أن الرضاع المحرم كما يمنع من النكاح سابقا يبطله لا حقا ، وذكر جملة من الصور المتفرعة على ذلك.

٤٠٩

ثم اعلم أيضا أنهم صرحوا بأن المصاهرة لا يتعدى إليها تحريم الرضاع ، والذي يحرم من الرضاع إنما هو ما يحرم من النسب لا من المصاهرة ، وربما أو هم ذلك التناقض في كلامهم وليس كذلك ، فإن المفهوم من كلامهم أن المصاهرة على قسمين :

أحدهما : ما يكون ناشئا وفرعا عليه ، وهذا هو الذي لا يتعدى إليه تحريم الرضاع ، كما إذا ارتضع صغيرا من امرأة رضاعا محرما ، فإن المرضعة تصير بمنزلة الزوجة للأب النسبي من حيث إنها أم ابنه وأمها بمنزلة أم الزوجة وأختها بمنزلة أخت الزوجة وبناتها بمنزله بنات الزوجة وهكذا ، فهذه المصاهرة أعني كون أم المرضعة بالنسبة إلى الأب النسبي أم زوجة وأختها أخت زوجة وهكذا ، انما نشأ من الرضاع خاصة فمثل هذه المصاهرة لا تؤثر فيها حرمة الرضاع ولا يتعدى إليها التحريم بأن تحكم بتحريم الام والأخت مثلا على الأب النسبي بسبب ذلك الرضاع ، بل يجوز له تزويجها.

ومن ذلك المسائل الأربع المتقدمة في سابق هذا المقام ، فإن التحريم فيها مبني على التحريم بهذه المصاهرة ، وقد عرفت أن لا تحريم في شي‌ء منها إلا في الصورة الاولى من حيث تلك النصوص المتقدمة فيها.

وأنت خبير بأن إطلاق المصاهرة على ذلك لا يخلو من تجوز ، فإن المصاهرة على ما ذكروه عبارة عن علاقة تحدث بين الزوجين وأقرباء كل منهما بسبب النكاح توجب الحرمة ، وهذه العلاقة المدعاة هنا بين الأب النسبي وبين المرضعة ليست بسبب النكاح ، فلا مصاهرة في الحقيقة ، وإنما ذلك نوع تجوز باعتبار أنها لما صارت أم ولده فكأنما بمنزلة الزوجة ، فهي مشابهة للزوجة في الأمومة ، فلا يترتب عليها تحريم في الأقارب ، لاختصاص ذلك بالمنكوحة.

والقسم الثاني : ما يكون ناشئا عن النكاح ، مثل كون المرأة أم الزوجة أو أختها أو بنتها ، فإن هذا الوصف إنما يثبت بنكاح بنت المرأة أو أختها أو أمها ،

٤١٠

وهذا هو الذي يتعدى إليه تحريم الرضاع بمعنى أنه بعد تحقق النكاح الصحيح ، فكما أنه تحرم الأم النسبية للزوجة ، فكذلك تحرم الام الرضاعية لدخولها في «أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ» ، وبنتها الرضاعية لدخولها مع الدخول بها في «رَبائِبُكُمُ» وهكذا ولا تنافي ذلك قوله عليه‌السلام «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». لأن ما ذكرنا من المصاهرة داخل في النسب.

والضابط هنا أن ينزل الولد من الرضاع منزلة الولد من النسب فأمه حينئذ بمنزلة الأم ، وأبوه بمنزلة الأب ، وأخته بمنزلة الأخت ، إلى آخر المحرمات ، ثم تلحقهم أحكام المصاهرة النسبية عينا أو جمعا.

وإن شئت زيادة توضيح في المقام ليسهل تناوله لجملة الأفهام فنقول :

فإن النسب قد يكون وحده سببا في التحريم ، وقد يكون مع المصاهرة وذلك فإن تحريم الام على ابنها إنما هو من حيث الأمومة ، وتحريم البنت على أبيها إنما هو من حيث البنتية وهكذا باقي المحرمات السبع فهذا تحريم بالنسب خاصة ، ومثل تحريم أم الزوجة وقع من حيث الأمومة ومن حيث التزويج بابنتها ، والأول هو الجزء النسبي ، والثاني المصاهرة ، إذ لو لم تكن اما لم تحرم ، ولو لم يتزوج ابنتها لم تحرم أيضا ، ومثله تحريم الربيبة وقع من حيث البنتية ، ومن حيث الدخول بأمها ، وهكذا جملة محرمات هذه المصاهرة ، فالعلة في التحريم هنا مركبة من جهة النسب والمصاهرة فصح بهذا قوله عليه‌السلام «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». بحمل المحرم النسبي على ما هو أعم من كونه علة تامة أو جزء العلة ، وفي الغالب إنما يطلق على هذا تحريم المصاهرة ، ولذا تراهم في تعداد أسباب المحرمات يجعلون ما يحرم بالنسب فسيما لما يحرم بالمصاهرة.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن التحريم في الرضاع فرع على هذا التحريم بكلا فرديه ، بمعنى أنه إذا أرضعت امرأة بلبن اخرى الرضاع المحرم كانت ابنة لها والفحل أبا وأولادهما اخوة ، واخوة الفحل وأخواته أعماما وعمات ، واخوة المرضعة

٤١١

وأخواتها أخوالا وخالات وهكذا ، فالتحريم هنا في الرضاع فرع النسب بخصوصه ، ثم إذا تزوجت تلك المرأة المرتضعة لحق هؤلاء أحكام المصاهرة من تحريم تلك الرضاعية على الزوج عينا وبنتها الرضاعية مع الدخول كذلك ، وأختها الرضاعية جمعا وهكذا.

وهذا مما كان التحريم فيه فرعا على النسب والمصاهرة معا فتحرم أم الزوجة الرضاعية لوقوعها موقع الام النسبية ، وبنت الزوجة الرضاعية مع الدخول بأمها بوقوعها موقع البنت النسبية المدخول بأمها وهكذا.

وهذا بخلاف ما أسلفناه من القسم الأول من المصاهرة ، وهي المصاهرة المترتبة على الرضاع ، فإن مبناها إنما هو على تنزيل المرضعة بالنسبة إلى الأب النسبي لكونها اما رضاعية بمنزلة الأم النسبية ، فتحرم بناتها على الأب النسبي لكونهن بمنزلة بناته ، وأمها لكونها بمنزلة أم الزوجة ، وهكذا.

كما عرفت في المسائل الأربع المتقدمة في سابق هذا المقام ، فإن مبنى التحريم فيها على هذه المصاهرة ، ويأتي على هذه المصاهرة أيضا تنزيل الفحل لكونه أبا رضاعيا بمنزلة الأب النسبي ، فيحرم عليه النكاح في بنات المرتضع وفي أم المرضعة وأم الفحل ، والقائلون بالتنزيل يحكمون بالتحريم بهذه المصاهرة كما تقدمت الإشارة عليه ، وقد أوضحنا بطلان هذا القول بما لم يسبق إليه سابق في رسالتنا المتقدم ذكرها ، والله العالم.

المورد الرابع : قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأن الرضاع المحرم كما يمنع من النكاح لو كان سابقا عليه كذا يبطله لو كان لاحقا له ، فكما أن امه لو أرضعت بنتا بالشروط المتقدمة صارت أخته وحرمت عليه ، فكذا لو تزوج رضيعة ثم إن امه أرضعتها الرضاع المحرم فإنها تصير أخته ، وينفسخ نكاحها وتحرم عليه مؤبدا.

وكذا لو أرضعت جدته من أبيه صبية ، فإنها تكون عمته ، ولو أرضعتها

٤١٢

جدته من امه صارت خالته ، فلا يجوز له نكاحها في الحالين ، كذلك لو تزوج صبية ثم حصل الرضاع الموجب لذلك بعد ذلك ، فإنه ينفسخ النكاح الأول ويبطل لكونها عمته أو خالته فتحرم عليه مؤبدا ، وهكذا لو أرضعت زوجة أخيه بلبنه صبية فإنها تكون بنت أخيه ، ويصير هو عمها ، فلا يجوز له نكاحها ، فكذا لو تزوجها أولا ثم حصل الرضاع الموجب لذلك بعده فإنه ينفسخ النكاح للعلة المذكورة.

ونحو ذلك لو أرضعتها زوجة أبيه بلبن الأب فإنها تصير أخته فلا يجوز له نكاحها ، فكذا لو تزوجها أولا ثم حصل الرضاع ثانيا ، فإنه ينفسخ النكاح الأول ، ويبطل للعلة المذكورة ، وقيد اللبن في زوجة الأخ بكونه لبن الأخ وكذا في زوجة الأب بكونه بلبن الأب احترازا عما لو كان بلبن الزوج السابق فإنه يمكن فرضه كما تقدم ، وغاية ما يلزم على هذا التقدير أن تكون الصغيرة ربيبة للأخ أو الأب ، والربيبة غير محرمة عليه.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنه إذا ارتضعت الصغيرة في هذه الفروض بعد العقد عليها على وجه انفسخ نكاحها فلا يخلو إما أن يكون بسبب مختص بها بأن سعت إلى الكبيرة وارتضعت الرضاع المحرم والكبيرة نائمة مثلا لا شعور لها بذلك ، أو يكون السبب من الكبيرة بأن تولت إرضاعها ، أو يكون السبب مشتركا بينهما بأن تكون الصغيرة سعت وارتضعت ولم تمنعها الكبيرة من ذلك ، وعلى تقدير تولي الكبيرة لذلك إما أن تكون مختارة أو مكرهة ، فهنا صور خمس :

الاولى : أن يكون الرضاع بسبب مختص بالصغيرة ، قالوا : لا شي‌ء هنا لها على الزوج ولا على المرضعة ، لأن الفسخ جاء من قبلها قبل الدخول ، فكان كالردة من قبلها كذلك ، ولا فرق بين كونها مفوضة أو ممهورة ، وبه جزم المحقق في الشرائع ، وجعله في التذكرة أقوى.

وفيه إيذان باحتمال عدم السقوط ولا يخلو من قوة ، لأن المهر قد وجب بالعقد ، والأصل يقتضي بقاءه حتى يقوم الدليل على سقوطه ، ولا نص هنا يدل

٤١٣

على ذلك.

قولهم : إن الفسخ جاء من قبلها ، فيه أن الصغيرة لا قصد لها ، فلا يعتبر بفعلها ، بل وجوده كعدمه.

قال في المسالك بعد ذكر نحو ذلك : فيحتمل حينئذ أن يثبت لها نصف المهر ، لأنها فرقة قبل الدخول كالطلاق ، وهو أحد وجهي الشافعية ، ويضعف بأنه قياس لا نقول به ، فإما أن يثبت الجميع لما ذكر ، أو يسقط الجميع من حيث استناده إليها ، وكيف كان فالمذهب السقوط لما عرفت. انتهى.

أقول : والمسألة لعدم النص محل توقف وإشكال ، إلا أن الأنسب بالقواعد الشرعية والضوابط المرعية هو عدم السقوط لما عرفت ، فإنه بعد ثبوته بالعقد يحتاج سقوطه إلى دليل واضح ، وفعل الصغيرة ـ لتجرده عن القصد وأنه في حكم العدم ـ لا يصلح دليلا للسقوط.

الثانية : أن يكون الرضاع بمباشرة الكبيرة وفعلها بأن تولت الإرضاع بنفسها من غير ضرورة تدعو إلى ذلك ، وقد اختلف الأصحاب هنا في حكم المهر ، فقيل : إنه يجب للصغيرة على الزوج نصف المهر ، لأنه فسخ قبل الدخول من غير جهة الزوجة ، فجرى مجرى الطلاق ، وهو مذهب الشيخ في المبسوط وتبعه عليه جماعة.

وقيل : يجب عليه جميع المهر ، لأن المهر يجب جميعه بالعقد كما سيأتي ، ولا ينتصف إلا بالطلاق وهذا ليس بطلاق والحاقة به قياس ، فيستصحب وجوبه إلى أن يثبت المزيل ، واختاره في المسالك ، ثم إنه متى غرم الزوج المهر أو نصفه بناء علي القولين المذكورين فهل له الرجوع به على المرضعة أم لا؟ قولان مبنيان على أن البضع هل يضمن بالتفويت أم لا؟

والقول بالرجوع للشيخ في المبسوط وتبعه عليه جماعة ، لأن البضع مضمون

٤١٤

كالأموال (١) ، هذا إذا قصدت المرضعة بالإرضاع إفساد النكاح كما قيده به الشيخ في المبسوط ، والمحقق في الشرائع وغيرهما ، فلو لم تقصده فإنه لا شي‌ء عليها ، لأنها على تقدير عدم القصد غير متعدية ، كما لو حفر في ملكه بئرا فتردى فيه أحد ، ولأنها محسنة وما على المحسنين من سبيل.

والقول بعدم الرجوع علي المرضعة للشيخ أيضا في الخلاف ، سواء قصدت الفسخ أم لم تقصد ، لأن منفعة البضع لا تضمن بالتفويت ، بدليل ما لو قتلت الزوجة نفسها أو قتلها قاتل أو ارتدت أو أرضعت من ينفسخ نكاحها بإرضاعه ، فإنها لا تغرم للزوج شيئا.

وبالجملة فالبضع ليس كالمال مطلقا ، وإلحاقه به في بعض المواضع لا يوجب إلحاقه مطلقا ، ومما يخرجه عن الإلحاق بالمال جواز تفويض البضع وعدم لزوم شي‌ء على تقدير عدم الطلاق ، والمال ليس كذلك.

هذا كله إذا سمي له مهرا في العقد ، فلو كانت مفوضة البضع فهل يجب للصغيرة شي‌ء على الزوج بإرضاع الكبيرة لها؟

قيل : وجبت لها المتعة إلحاقا لهذا الفسخ بالطلاق ، ورد ببطلان القياس مع وجود الفارق ، فإن الفسخ بالطلاق جاء من قبل الزوج ، وهنا ليس من قبله ، ومن ثم احتمل في المسالك السقوط أصلا ، فلا يجب لها شي‌ء بالكلية ، قال : كما لو مات أحدهما لأن عقد النكاح بالتفويض لا يوجب مهرا ، لأنه لم يذكر ، وإنما أوجبه الطلاق بالآية ، فلا يتعدى مورده ، قال : وليس هذا بقياس على الموت كما قاسه الأول على الطلاق ، بل مستند إلى أصل البراءة ، ثم احتمل أيضا وجوب مهر المثل أو نصفه على ما تقدم من الوجهين ، لأنه عوض البضع حيث لا يكون هناك

__________________

(١) والوجه في ذلك أنه يقابل بمال في النكاح والخلع ، ولا يحتسب على المريض لو نكح بمهر المثل فما دون ، وكذا المرتضعة بمهر المثل ويضمن للمسلمة المهاجرة مع كفر زوجها وبالشهادة بالطلاق ثم الرجوع عنها ، كذا ذكره في المسالك (منه ـ قدس‌سره ـ).

٤١٥

مسمى لامتناع أن يخلو البضع من عوض. انتهى.

ثم إنه يأتي هنا ما تقدم أيضا من رجوع الزوج بما يغرمه على المرضعة وعدمه حسبما تقدم من الخلاف والتفصيل.

الثالثة : ان يكون الرضاع بفعل الصغيرة والكبيرة عالمة ، لكن لم تعنها عليه ، كما لو سعت الصغيرة إليها وشربت من الثدي ، وهي مستيقظة ولم تمنعها ولم تعنها ، وفي إلحاقها بالسابقة في الضمان أو عدم الضمان وجهان : من أنها لم تباشر الإتلاف ، ومجرد قدرتها على منعها لا يوجب الضمان كما لو لم تمنعها من إتلاف مال الغير مع قدرتها على المنع.

قال في المسالك : ويظهر من المصنف وأكثر الجماعة أن تمكينها بمنزلة المباشرة ، وبه صرح في التذكرة لأن تمكينها من الرضاع بمنزلة الفعل حيث إن المرتضعة ليست مميزة ، ولا يخلو من نظر ، ولو قيل هنا باشتراك الصغيرة والكبيرة في الفعل فيكون السبب منهما ولا يرجع الزوج على المرضعة إلا بنصف ما يغرمه لكان أوجه من ضمانها مطلقا ، وظاهر الأصحاب القطع بإلحاق التمكين بالمباشرة. انتهى.

الرابعة : أن تتولى الكبيرة الإرضاع ، ولكن في موضع الحاجة. بأن لا تجد مرضعة غيرها مع اضطرار الصغيرة إلى الارتضاع ووجب على الكبيرة الفعل ، قالوا : وفي ضمانها حينئذ وجهان : من كونها مأمورة بالفعل شرعا فكان كالإذن في الإتلاف فلا يتعقبه الضمان وأنها محسنة ، وما علي المحسنين من سبيل ، وهو اختيار الشيخ في المبسوط ، ومن تحقق المباشرة للإتلاف قالوا : لأن غرامته لا يختلف بهذه الأسباب.

قال في المسالك : وظاهر المصنف وصريح بعضهم عدم الفرق ، واقتصر في التذكرة على نقل القولين عن الشافعية ، والأول لا يخلو من قرب. انتهى ، وأراد بالأول ما قلناه أولا من القول بعدم الضمان.

٤١٦

الخامسة : أن الكبيرة مكرهة على الإرضاع ، بأن حملها عليه القادر على فعل ما توعدها به مع ظنها فعله واستلزامه ضررا لا يتحمل مثله عادة وإن لم يبلغ حد الإلجاء ، قال في المسالك : ولا ضمان هنا على المرضعة لأن الإكراه يسقط ضمان المال المحض ، وغاية البضع إلحاقه بالمال ، وأما ضمان الزوج للصغيرة فثابت على كل حال ، وحكى في التذكرة فيه عن الشافعية وجهان في أنه على المكرهة أو المخوف ولم يرجح شيئا ، والمصنف تردد في ضمان المرضعة في جميع الأقسام نظرا إلى تردده في أن البضع هل يضمن بالتفويت أم لا؟ وقد ظهر مما قررناه وجه تردده. انتهى.

أقول : لا يخفى أن هذه التفريعات في هذا المقام كغيره مما قدمناه في كثير من الكتب المتقدمة إنما جرى فيه أصحابنا على ما ذكره العامة سيما الشافعية فإنهم هم الذين يكثر النقل عنهم في التذكرة ، وقبله الشيخ في كتبه فيختارون من ذلك ما رجحوه بهذه التعليلات التي قد عرفت أنها لا يمكن الاعتماد عليها في تأسيس الأحكام الشرعية ، ونصوصنا خالية من ذلك بالكلية ، والعمل على الاحتياط في مثل هذا المقام فإنه هو المأمور به عنهم عليهم‌السلام ، والله العالم.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن هنا فروعا قد ذكرها الأصحاب مما يتفرع على القاعدة المذكورة في أول المقام ، ونحن نذكر جملة منها في مسائل.

الأولى : لو أرضعت الجدة من الام ابن بنتها بلبن جده حرمت البنت على زوجها ، بناء على ما تقدم في المسألة الأولى من المسائل الأربع المذكورة في سابق هذا المقام ، وهي أنه لا يجوز لأب المرتضع أن ينكح في أولاد صاحب اللبن ، وأنه كما كان مانعا من النكاح كذلك يكون مبطلا له بعد وقوعه ، فإن هذا الصبي لما ارتضع بلبن جده وجدته. وكذا لو ارتضع بلبن بعض أزواج جده ، فإنه يصير ولدا للجد والجدة ، ويصير ان أصحاب اللبن ، فلو نكح أبو المرتضع زوجته بعد هذا الرضاع لصدق أنه قد نكح في أولاد صاحب اللبن ، وقد عرفت أنه حرام

٤١٧

مانع من النكاح فيكون مبطلا له هنا وموجبا لفسخ النكاح.

وكذا لو كانت البنت التي هي أم المرتضع بنتا للجدة خاصة ، وربيبة لصاحب اللبن فإنه يصدق ذلك أيضا بالنسبة إلى الجدة التي هي صاحبة اللبن ، وأنه لا يجوز له النكاح في بنتها بعد صيرورتها صاحبة اللبن ، كما أنه إذا ارتضع طفل بلبن امرأة وفحلها حرم على أبيه التزويج في أولادهما وأولاد الفحل وأولاد المرضعة وإن لم يكن من ذلك الفحل ، كذلك يكون ذلك مبطلا للنكاح بعد وقوعه كما عرفت ، أما لو كانت الجدة للأب فإنه لا مانع من إرضاعها ابن ابنها وهو ظاهر.

الثانية : أنه لو تزوج رضعية فأرضعتها امرأته الكبيرة حرمتا عليه إن كان قد دخل بالمرضعة ، وإلا حرمت المرضعة خاصة.

وتوضيح ذلك أنه لما امتنع الجمع في النكاح بين الام والبنت نسبية كانت البنت أو رضاعية ، فلو أرضعت امرأة صبية وتزوج أحد المرضعة فإنه يحرم عليه تزويج الصبية لكونها ابنة لها ، فكذلك لو تزوج رضعية وكبيرة ثم أرضعت الكبيرة الصغيرة الرضاع المحرم ، فإن كان الرضاع بلبن الزوج فإنهما تحرمان معا ، أما الصغيرة فلصيرورتها بالرضاع بنتا له ، وأما الكبيرة فلكونها اما للزوجة وهي تحرم بالعقد على البنت على الأشهر ، وسيجي‌ء الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى.

وإن كان الرضاع بلبن عيره ، فإن كان قد دخل بالكبيرة حرمتا معا أيضا لأن الكبيرة أم الزوجة ، وأم الزوجة حرام من الرضاع ، كما في أم الزوجة من النسب ، وأما الصغيرة فلأنها بنت المدخول بها وإن لم يكن دخل بالكبيرة لم تحرم الصغيرة مؤبدا وإن انفسخ نكاحها لأنها ربيبة لم يدخل بأمها ، وله تجديد النكاح عليها إن شاء ، أما الكبيرة فتحرم عليه بناء على تحريم أم الزوجة مطلقا ، دخل بالبنت أم لم يدخل كما هو الأشهر الأظهر.

ونحو ذلك أيضا لو كان تحته كبيرة فطلقها فنكحت صغيرا وأرضعته بلبن

٤١٨

المطلق ، فإنها تحرم عليهما معا ، أما على المطلق فلأن الصغير صار ابنا له ، فهي زوجة ابنه ، وزوجة الابن حرام على أبيه ، وأما على الصغير فلأنها امه من الرضاع ، وزوجة أبيه أيضا.

ثم إنه لا يخفى ان التحريم في الرضاع هنا فرع على النسب والمصاهرة حسبما قدمنا تحقيقه ، وهذا أحد قسمي المصاهرة التي يتفرع عليه الرضاع ، وقد تقدم بيان القسم الذي لا يجوز أن يتفرع عليه الرضاع.

والذي وقفت عليه من الأخبار هنا ما رواه الكليني في الحسن أو الصحيح عن الحلبي (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لو أن رجلا تزوج جارية رضيعا فأرضعتها امرأته فسد نكاحه».

وعن الحلبي وعبد الله بن سنان (٢) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في رجل تزوج جارية صغيرة فأرضعتها امرأته أو أم ولده ، قال : تحرم عليه».

وما رواه الشيخ في التهذيب في الموثق عن عبد الله بن سنان (٣) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لو أن رجلا تزوج جارية صغيرة فأرضعتها امرأته فسد نكاحه».

وما رواه في الفقيه بإسناده عن العلاء عن محمد بن مسلم (٤) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لو أن رجلا تزوج جارية رضيعة فأرضعتها امرأته فسد النكاح».

وأنت خبير بما في هذه الأخبار على تعددها من الإجمال ، فإنه يحتمل أن يراد بالنكاح الفاسد هو نكاح الصغيرة كما هو الأنسب بالسياق ، ويحتمل أن يراد نكاحهما معا كما صرح به الأصحاب من التفصيل في هذا الباب ، فإنه الموافق

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٤٤٤ ح ٤ وص ٤٤٥ ح ٦ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٠٢ ب ١٠ ح ١ وص ٣٠٣ ح ٢.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٢٩٣ ح ٦٧ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٠٢ ب ١٠ ح ١.

(٤) الفقيه ج ٣ ص ٣٠٦ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٠٢ ب ١٠ ح ١.

٤١٩

لمقتضى القواعد الشرعية والقوانين المرعية ، وكيف كان فهي دالة في الجملة.

بقي الكلام بالنسبة إلى مهر كل منهما بعد حصول التحريم ، وقد صرحوا بالنسبة إلى الكبيرة أنه إن كان قد دخل بها استقر مهرها بالدخول فلا يسقط بالسبب الطارئ وإن كان من جهتها كما لو ارتدت بعده ، وإن لم يدخل بها سقط مهرها ، لأن الفسخ حصل من قبلها كالردة قبله ، وفيه إشكال.

وأما الصغيرة فإنه صرح بعضهم بأنها تستحق جميع المهر على الزوج لوجوبه بالعقد وعدم ثبوت مسقط ، وقيل : ترجع عليه بالنصف خاصة كالطلاق ، وقوى في المسالك الأول ، والله العالم.

الثالثة : ما لو كان له زوجتان كبيرتان وزوجة رضيعة فأرضعت إحدى الزوجتين تلك الرضيعة الرضاع المحرم ، ثم أرضعتها الثانية كذلك ، ولا خلاف في تحريم الصغيرة والمرضعة الأولى حسبما تقدم في سابق هذا الموضع ، وإنما الخلاف في تحريم المرضعة الثانية ، فقيل : بعدم تحريمها ، وهو مذهب الشيخ في النهاية وابن الجنيد ، وإليه يميل كلام المحقق في الشرائع حيث نسب القول بالتحريم إلى أنه الأولى ، واحتجوا على ذلك بخروج الصغيرة عن الزوجية إلى البنتية وقت رضاع الثانية لها ، وأم البنت غير محرمة على أبيها ، خصوصا على القول باشتراط بقاء المعنى المشتق في صدق الاشتقاق كما هو رأي جمع من الأصوليين.

وبما رواه في الكافي والتهذيب عن علي بن مهزيار (١) رواه عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قيل له : إن رجلا تزوج بجارية صغيرة فأرضعتها امرأته ، ثم أرضعتها امرأة له أخرى فقال ابن شبرمة : حرمت عليه الجارية وامرأتاه ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام «: أخطأ ابن شبرمة ، حرمت عليه الجارية وامرأته التي أرضعتها أولا ، فأما الأخيرة فلم تحرم عليه ، كأنها أرضعت ابنتها».

وفي التهذيب «لأنها أرضعت ابنته» وهو الصحيح ، قال في التهذيب : وفقه

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٤٦ ح ١٣ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٩٣ ح ٦٨ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٠٥ ب ١٤ ج ١.

٤٢٠