الحدائق الناضرة - ج ٢٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٦

جماعة من العامة استنادا إلى الغاية المطلوبة من الرضاع وهو إنبات اللحم واشداد العظم ، وهي حاصلة بالوجور كما تحصل بالرضاعة ، ولأنه يصل إلى الجوف كما يصل بالارتضاع ، فيجب أن يساويه في التحريم.

وبالجملة فمرجع استدلالهم إلى قياس الوجور على الامتصاص من الثدي لاشتراكهما في العلة المستنبطة أو المومي إليها في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) «لإرضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم». وحينئذ فمرجع النزاع معهم إلى منع القياس مطلقا واختلاله في المتنازع لا إلى منع صدق الرضاعة والإرضاع بهذا الفعل كما هو المشهور في جوابهم ، وحال العامة في القياس معلوم ، وابن الجنيد يوافقهم عليه ، انتهى.

أقول : يمكن أن يكون مستند ابن الجنيد في هذا القول ما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا (٢) قال : وقال أبو عبد الله عليه‌السلام «وجور الصبي اللبن بمنزلة الرضاع». وهي صريحة في مدعاه ، وحملها على التقية ممكن ، بل هو الظاهر لما عرفت من اتفاق الأصحاب على خلافه مضافا إلى ظاهر الروايتين المتقدمتين ، واتفاقهم سيما المتقدمين منهم مثمر للعلم العادي بكون ذلك هو مذهب أئمتهم.

وربما يتوهم من نقل الصدوق الرواية المذكورة في كتابه القول بها بناء على قاعدته في صدر كتابه ، فيكون قائلا بما قاله ابن الجنيد.

وفيه ما أوضحناه في شرحنا على الكتاب المذكور من أنه لا يخفى على المتتبع له أنه لم يقف على هذه القاعدة ، ولم يلتزم ما تضمنه من الفائدة لحصول

__________________

القياس والعمل به ، وأن القائل به لا أقل يكون فاسقا ، فكيف مع هذا يعتبرون أقوال ابن الجنيد ويعتمدون بها ، والحال كما سمعت ، بل الواجب إخراجه من عداد علماء الشيعة بالكلية كما لا يخفى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(١) سنن أبى داود ج ٢ ص ٢٢٢ ح ٢٠٦٠.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٣٠٨ ح ٢٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٨ ح ٣.

٣٦١

المناقضة في جملة من المواضع التي أوضحناها ثمة.

وبالجملة فالظاهر هو القول المشهور ، وربما أشعر كلام المحقق في الشرائع هنا بموافقة ابن الجنيد أيضا حيث قال : ولا بد من ارتضاعه من الثدي في قول مشهور تحقيقا لمسمى الارتضاع إلى آخره.

قال في المسالك : واعلم أن نسبة المصنف اشتراط الارتضاع من الثدي إلى قول مشهور يشعر بتردده فيه ، أو أنه لم يجد عليه دليلا كما هو المنقول عنه في اصطلاحه وهو يدل على الميل إلى قول ابن الجنيد ، انتهى ، وهو ضعيف.

الثالث : لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أنه يشترط في الرضاع المحرم أن يكون المرضعة حية ، فلو ارتضع من ميتة العدد أو تمامه لم ينشر حرمة ، ويدل عليه ظاهر الآية وهي قوله تعالى (١) «وَأُمَّهاتُكُمُ اللّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ» حيث نسب إليها بالمباشرة والإرادة للارتضاع ، والميتة ليست كذلك.

ويؤيده أن الأصل الإباحة حتى يقوم دليل التحريم ، وليس في النصوص ما يدل على ذلك ، والأخبار وإن كان أكثرها مطلقا إلا أن جملة منها دلت على ما دلت عليه الآية من إسناد الإرضاع إلى المرأة الموجب لكونها حية قاصدة مريدة لذلك ، وإذا ضمت الأخبار بعضها إلى بعض بحمل مطلقها على مقيدها ثم الاستدلال بها.

ويؤيده أيضا أن من القواعد المقررة في كلامهم أن الإطلاق في الأخبار إنما يحمل على الأفراد المتكررة المتكاثرة ، دون الفروض النادرة خصوصا في هذا الموضع ، فإن ذلك إنما هو أمر فرضي لم تقع ولا يكاد يقع.

فإن قيل : إنه لا خلاف في أنه لو التقم الصبي ثدي المرأة وهي نائمة وامتص من لبنها فإنه يتحقق التحريم بذلك ، ومنه يعلم أن القصد إلى الإرضاع وفعله من المرضعة غير شرط.

__________________

(١) سورة النساء ـ آية ٢٣.

٣٦٢

قلنا : لا ريب في دلالة المذكورة والأخبار بعد ضم بعضها على ما قلناه ، وخروج هذا الفرد المذكور ـ لقيام الدليل عليه وهو اتفاق الأصحاب على ذلك ـ لا يوجب خروج ما لا دليل عليه ، بل يجب البقاء على ما دلت عليه تلك الأدلة ، ويكون من قبيل العام المخصوص فلا يرد ما أورده في المسالك من أنه غير شرط إجماعا ، فإن فيه أن ظاهر الآية والأخبار شرطيته.

وخروج هذا الفرد منه بدليل لا ينافي ذلك ولا يوجب التعدي إلى الميتة ونحوها كما يدعيه ، وبذلك يتم الاستدلال كما هو واضح بحمد الملك المتعال ، والله العالم.

الثالث : من الشروط المتقدم ذكرها ، أن يكون الرضاع في الحولين ، وهو بالنسبة إلى المرتضع موضع وفاق ، كما ادعاه جملة منهم ، فيجب أن يكون سنه وقت الرضاع ما دون الحولين ، ويكمل عدد الرضعات أو ما به يحصل الأثر أو الزمان المقرر فيهما فلو ارتضع بعد استكمالهما فإنه لا أثر لذلك الرضاع ، وقال ابن الجنيد : إذا كان بعد الحولين ولم يتوسط بين الرضاعين فطام حرم ، ورده الشهيد في شرح الإرشاد بالضعف لسبق الإجماع عليه ، وتأخره عنه.

واستدل على القول المشهور بالآية (١) «وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ» وقوله (٢) «وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ» والتقريب أن مقتضى تحديد الرضاع بالحولين أنه لا عبرة برضاعه بعدهما وإن كان جائزا كالشهر والشهرين.

وما رواه في الكافي عن منصور بن حازم (٣) في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا رضاع بعد فطام ، ولا وصال في صيام ، ولا يتم بعد احتلام ، ولا صمت يوما إلى الليل ، ولا تعرب بعد الهجرة ، ولا هجرة بعد الفتح ، ولا طلاق

__________________

(١) سورة البقرة ـ آية ٢٣٣.

(٢) سورة لقمان ـ آية ١٤.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٤٤٣ ح ٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٠ ح ١.

٣٦٣

قبل النكاح ، ولا عتق قبل ملك ، ولا يمين للولد مع والده ، ولا للمملوك مع مولاه ولا للمرأة مع زوجها ، ولا نذر في معصية ، ولا يمين في قطيعة». فمعنى قوله (١) «لا رضاع بعد فطام» أن الولد إذا شرب لبن المرأة بعد ما تفطمه لا يحرم ذلك الرضاع المناكح.

ورواه الصدوق بإسناده عن منصور بن حازم (٢) وطريقه إليه صحيح ، وترك التفسير الذي في آخره.

وعن الحلبي (٣) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا رضاع بعد فطام».

وعن الفضل بن عبد الملك (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الرضاع قبل الحولين قبل أن يفطم».

ووصف السيد السند هذه الرواية ـ في شرح النافع ـ بالصحة مع أن في سندها عبد الله بن محمد ، وهو بنان أخو أحمد بن محمد بن عيسى ، وحاله في الرجال غير معلوم وهو سهو منه (قدس‌سره).

وعن حماد بن عثمان (٥) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام «يقول لا رضاع بعد فطام قلت : وما الفطام؟ قال : الحولان اللذان قال الله عزوجل».

ويدل على ما ذهب إليه ابن الجنيد ما رواه في التهذيب والفقيه في الموثق عن داود بن الحصين (٦) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الرضاع بعد الحولين قبل أن

__________________

(١) أقول : هذا التفسير من صاحب الكافي كما صرحنا به في آخر البحث. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٢٢٧ ح ١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٠ ح ١.

(٣ و ٤ و ٥) الكافي ج ٥ ص ٤٤٣ ح ١ و ٢ و ٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩١ ح ٢ و ٤ و ٥.

(٦) التهذيب ج ٧ ص ٣١٨ ح ٢٢ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٠٦ ح ٧ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٢ ح ٧.

٣٦٤

يفطم يحرم».

وحمله الشيخ في التهذيبين على التقية وقال في التهذيب أيضا : أنه خبر نادر شاذ مخالف للأخبار كلها ، وما هذا سبيله لا يعترض به الأخبار الكثيرة ، وهو جيد لمخالفته لظاهر القرآن والأخبار المذكورة المؤيدة بعمل الطائفة قديما وحديثا. بقي الكلام هنا في مواضع أخر.

(أحدها) الأشهر الأظهر أنه لا فرق في التحريم بالرضاع قبل الحولين بين أن يفطم في ضمن الحولين قبل الرضاع ثم يرتضع في ضمنها أو لم يفطم لصدق الرضاع في الحولين الموجب للتحريم ، وربما ينسب إلى ظاهر كلام ابن أبي عقيل الخلاف في ذلك وأنه بعد الفطام في الصورة المذكورة لا يحرم حيث قال : الرضاع الذي يحرم عشر رضعات قبل الفطام ، فمن شرب بعد الفطام لم يحرم ذلك الشرب. انتهى.

واستدل له في المختلف برواية الفضيل المتقدمة ، ثم أجاب عنها بأن المراد من قوله «قبل أن يفطم» يعني قبل أن يستحق الفطام وهو جيد ، فإن الظاهر أن مرادهم عليهم‌السلام من قولهم «لا رضاع بعد فطام» يعني بعد تمام المدة المحدودة شرعا للرضاع ، وهي الحولان كما صرحت به رواية حماد بن عثمان (١) حيث قال له الراوي «وما الفطام؟ قال : الحولان». لا أن المراد حصول الفطام بالفعل أعم من أن يكون في ظرف المدة أو بعدها ، وعلى هذا فالمراد بقولهم عليهم‌السلام «لا رضاع بعد فطام» يعني بعد مضي المدة التي يفطم بعدها.

ومن المحتمل قريبا أن مراد ابن أبي عقيل ذلك أيضا فيرتفع الخلاف وعبارته غير صريحة فيما نسب اليه.

و (ثانيها) قال شيخنا (قدس‌سره) في المسالك والمعتبر : في الحولين الأهلة ، ولو انكسر الشهر الأول اعتبر ثلاثة وعشرون بالأهلة وأكمل التكسير بالعدد من

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣١٨ ح ٢١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩١ ح ٥.

٣٦٥

الشهر الخامس والعشرين كغيره من الآجال على الأقوى ، وبنحو ذلك صرح المحقق الثاني في شرح القواعد أيضا.

و (ثالثها) أنه يعتبر ابتداء الحولين من حين انفصال الولد على ما صرح به في المسالك وغيره في غيره.

و (رابعها) أنه قد صرح جمع من الأصحاب بأن هذا الشرط مخصوص بالمرتضع الأجنبي ، وإليه ذهب عامة علمائنا المتأخرين.

وأما ولد المرضعة فلا يشترط فيه ذلك بل لو ارتضع الأجنبي الرضاع المحرم بعد مضي الحولين لولد المرضعة نشر الحرمة ، وذهب آخرون إلى عموم هذا الشرط لولد المرضعة ، فيشترط أيضا في حصول التحريم بلبنه كونه في الحولين ، فلو ارتضع الأجنبي بلبنه بعد تمام الحولين أو وقع بعض النصاب خارجهما لم ينشر حرمة ونقل هذا القول عن السيد بن زهرة وعماد الدين بن حمزة وتقي الدين أبي الصلاح ، وقواه العلامة في المختلف ثم توقف في المسألة.

وكلام الشيخين (عطر الله مرقديهما) في هذا المقام مطلق لم يتعرضا فيه لتخصيص الحكم بالمرتضع ، ولا لعمومه للمرتضع وولد المرضعة ، بل جعلا الشرط هو أن يكون الرضاع في الحولين ، وأنه بعد الحولين لا يحرم ، ونقل في المختلف الإطلاق في ذلك أيضا عن أكثر علماءنا المتقدمين.

استدل القائلون بالقول الأول بعموم (١) «وَأُمَّهاتُكُمُ اللّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ» ونحوه من العمومات ، والتقريب فيها أنها تدل بعمومها على أن المرتضع من لبن من زاد سنه على الحولين يصدق على مرضعته أنها أم ، واستدلوا أيضا بأن الأصل عدم الاشتراط.

واستدل المتأخرون بعموم قولهم عليهم‌السلام في الأخبار المتقدمة (٢) «لا رضاع بعد

__________________

(١) سورة النساء ـ آية ٢٣.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٤٣ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٣١٧ ح ١٩ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٠٦ ح ٦ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٠ ح ١ وص ٢٩١ ح ٢.

٣٦٦

فطام». فإنه نكرة في سياق النفي فتعم بالنسبة إلى ولد المرضعة والمرتضع بلبنه ، ورد بأن المتبادر بعد فطام المرتضع دون ولد المرضعة.

ويؤيده كلام الشيخين المتقدمين محمد بن يعقوب في الكافي كما تقدم نقله عنه في ذيل موثقة منصور بن حازم من قوله «فمعني لإرضاع بعد فطام الى آخره» والصدوق في الفقيه حيث «قال : معناه إذا أرضع الصبي حولين كاملين ثم شرب بعد ذلك من لبن امرأة أخرى ما شرب لم يحرم ذلك الرضاع ، لأنه رضاع بعد فطام» ومآل الكلامين إلى أمر واحد ، وهو تخصيص الحكم بالمرتضع كما قلنا ، إلا أن الشيخ في التهذيبين نقل عن ابن بكير كلاما في تفسير الحديث المذكور خلافا لما ذكره الشيخان المتقدمان.

روى فيهما بطريقه إلى محمد بن أحمد بن يحيى عن أحمد بن أبي عبد الله عن على بن أسباط (١) قال : «سأل ابن فضال ابن بكير في المسجد فقال : ما تقولون في امرأة أرضعت غلاما سنتين ثم أرضعت صبية لها أقل من سنتين حتى تمت السنتان أيفسد ذلك بينهما؟ قال : لا يفسد ذلك بينهما لأنه رضاع بعد فطام ، وإنما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا رضاع بعد فطام أي أنه إذا تم للغلام سنتان أو الجارية فقد خرج من حد اللبن فلا يفسد بينه وبين من يشرب منه». انتهى.

وأنت خبير بأن كلام الشيخين المتقدمين ليس نصا في التخصيص بما ذكراه بل من الجائز أن يكون تفسيرا للخبر ببعض أفراده فلا ينافي ما فسره ابن بكير من الفرد الآخر ، والمسألة لذلك لا تخلو من الاشكال حيث إن ما فهموه من الخبر من التخصيص بالمرتضع غاية ما تمسكوا به في ذلك هو التبادر كما تقدم.

وفيه ما لا يخفى ، وما تمسكوا به من كلام الشيخين المذكورين لا يدل على التخصيص بذلك الفرد صريحا فيجوز أن يكون معنى العبارة أعم من الفردين

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣١٧ ح ١٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩١ ح ٦.

٣٦٧

المذكورين ، وقد فسره الشيخان المذكوران بأحدهما وابن بكير بالآخر سيما أن الرجل المذكورين يعنى ابن بكير من أعاظم أفاضل المعاصرين للأئمة عليهم‌السلام وثقاتهم وإن كان فطحيا ، وبالجملة فالمسألة عندي محل إشكال والاحتياط فيها لازم على كل حال. والله العالم.

الرابع : من الشروط المتقدمة اتحاد الفحل ، بمعنى أن يكون اللبن لفحل واحد ، وتحقيق الكلام في المقام أن يقال : لا خلاف في أنه يشترط في الرضاع المحرم أن يكون من امرأة واحدة من لبن فحل واحد.

ويدل عليه قوله في موثقة زياد بن سوقة (١) «أو خمس عشرة رضعات متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد».

وعلى هذا فلو رضع الصبي بعض النصاب من امرأة ، والمكملة من اخرى لم ينشر حرمة وإن اتحد الفحل ، وادعي العلامة على ذلك الإجماع.

وكذا لو أرضعته امرأة واحدة من لبن فحلين بأن أرضعته بعض الرضعات بلبن فحل ثم فارقته ، وأرضعت تمام النصاب بلبن فحل آخر ، فإن ذلك لا ينشر الحرمة بين المرتضع والمرضعة ، ولا واحد من الفحلين المذكورين ، وعلى هذا الحكم أيضا ادعى الإجماع في التذكرة (٢).

بقي هنا شي‌ء وهو أن الأصحاب (رضوان الله عليهم) ذكروا هذا الشرط بهذا العنوان الذي صدرنا به الكلام وهو اتحاد الفحل ، فلو لم يتحد بل تعدد

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣١٥ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٢ ح ١.

(٢) ثم انه متى اتحد الفحل فان التحريم لا يتعدى للمرتضعين من أقاربهما ، ويؤيده ما رواه الشيخ في الموثق عن يونس بن يعقوب قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة أرضعتني وأرضعت صبيا معى ولذلك الصبي أخ من أبيه وامه ، فيحل لي أن أتزوج ابنته؟ قال : لا بأس». منه ـ قدس‌سره ـ). التهذيب ج ٧ ص ٣٢٣ ح ٣٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٠ ح ٣.

٣٦٨

لم ينشر اللبن حرمة.

وهذا يشمل صورتين : إحداهما : ما ذكرناه من إرضاع المرأة بعض النصاب بلبن فحل وتمامه بلبن فحل آخر وإن ندر الفرض ، ويمكن فرض ذلك بأن يطلقها الزوج الأول بعد أن أرضعت بعض النصاب ، ويستقل الصبي بالمأكول والمشروب دون إرضاع أجنبية في البين إلى أن تتزوج بزوج آخر وتلد منه ، فإن ذلك لا يضر بالتوالي كما تقدم وترضع تمام النصاب بلبنه ، فإن تمام هذا الرضاع لعدم اتحاد الفحل لا يوجب تحريما بين المرتضع والمرضعة. ولا بينه وبين واحد من الفحلين ، وعلى هذا فاشتراط اتحاد الفحل يجري على نحو الشروط المتقدمة ، بمعنى أن التحريم لا يثبت بفقد الشرط.

وثانيهما : اشتراط اتحاد الفحل في حصول التحريم بين المرتضعين الأجنبيين بمعنى أنها لو أرضعت بلبن فحل صبيا الرضاع المحرم ، وأرضعت آخر بلبن فحل آخر الرضاع المحرم أيضا لم يحصل التحريم بين المرتضعين ، فيجوز لأحدهما التزويج بالآخر لو كانا صبيا وصبية على المشهور بين الأصحاب بل كاد يكون إجماعا.

وذهب أمين الإسلام الطبرسي (قدس‌سره) إلى التحريم ، واختاره المحدث الكاشاني في الوافي والمفاتيح ، وعلى هذا فهذا الشرط ليس على نهج الشروط المتقدمة لأن التحريم هنا ثابت بين المرتضع الأول وكذا الثاني وبين المرضعة وبين كل من المرتضعين وفحله الذي شرب بلبنه ، وإنما انتقى التحريم بين المرتضعين خاصة ، فاعتبار هذا الشرط إنما هو لثبوت التحريم بين المرتضعين خاصة.

وحاصل هذا الشرط أنه إذا ارتضع ذكر وأنثى من لبن فحل واحد سواء كان رضاعهما دفعة أم على التعاقب ، وسواء كان رضاعهما بلبن ولد واحد أم ولدين متباعدين فإنه يحرم أحدهما على الآخر ، ولو أرضعت مائة بلبن فحل واحد كذلك حرم بعضهم على بعض.

ولا فرق مع اتحاد الفحل بين أن يتحد المرضعة أو يتعدد بحيث يرتضع

٣٦٩

أحدهما من إحداهن كمال العدد المعتبر ، والآخر من الأخرى كذلك ، وإن بلغن مائة كالمنكوحات بملك اليمين والعقد المنقطع.

ولو فرض في الأولاد المتعددين رضاع ذكر وأنثى من واحدة بلبن فحل واحد ، ثم رضاع آخرين من تلك المرأة بلبن فحل آخر ، وهكذا فإنه يأتي بناء على المشهور من اشتراط هذا الشرط بين المرتضعين تحريم كل أنثى رضعت مع ذكرها من لبن الفحل الواحد عليه ، وعدم تحريمها على الآخر وعلى هذا ، وحينئذ فيكفي الاخوة في الرضاع من قبل الأب ، ولا يكفى من جهة الأم وحدها وهذا معنى قولهم «اللبن للفحل».

والذي يدل على قول المشهور ما رواه في الكافي والتهذيب (١) عن الحلبي في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يرضع من امرأة وهو غلام ، أيحل له أن يتزوج أختها لأمها من الرضاعة؟ فقال : إن كانت المرأتان رضعتا من امرأة واحدة من لبن فحل واحد فلا يحل ، وإن كانت المرأتان رضعتا من امرأة واحدة من لبن فحلين فلا بأس بذلك».

وهي صريحة في القول المذكور ، وأنه مع اتحاد المرضعة وتعدد الفحل لا يثبت التحريم بين المرتضعين.

وعن عمار الساباطي (٢) في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن غلام أرضع من امرأة ، أيحل له أن يتزوج أختها لأبيها من الرضاعة؟ قال : فقال : لا قد رضعا جميعا من لبن فحل واحد من امرأة واحدة ، قال : قلت : فيتزوج أختها لأمها من الرضاعة؟ قال : فقال : لا بأس بذلك إن أختها التي لم ترضعه كان فحلها

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٤٣ ح ١١ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٢١ ح ٣١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٤ ح ٣.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣٢٠ ح ٢٩ ، الكافي ج ٥ ص ٤٤٢ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٤ ح ٢.

٣٧٠

غير فحل الذي أرضعت الغلام ، فاختلف الفحلان فلا بأس».

وما تقدم في موثقة زياد بن سوقة (١) من قول أبي جعفر عليه‌السلام «من امرأة واحدة من لبن فحل واحد».

وما رواه في الكافي عن بريد بن معاوية العجلي (٢) في الصحيح قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزوجل (٣) «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً» إلى أن قال : فقلت له : أرأيت قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» فسر لي ذلك ، فقال : كل امرأة أرضعت من لبن فحلها ولد امرأة أخرى من جارية أو غلام فذلك الرضاع الذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «وكل امرأة أرضعت من لبن فحلين كانالها واحدا بعد واحد من جارية أو غلام» فإن ذلك رضاع ليس بالرضاع الذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وإنما هو من نسب ناحية الصهر رضاع ولا يحرم شيئا ، وليس هو سبب رضاع من ناحية لبن الفحولة فيحرم».

والروايتان الأولتان دليل على الصورة الثانية من الصورتين المتقدمتين ، والثالثة شاملة بإطلاقها للصورتين المذكورتين ، والرابعة دليل على الصورة الأولى القابلة باتحاد الفحل في إكمال النصاب وعلى هذا يكون قوله «واحدا بعد واحد» حالا من «فحلين كانا لها» ، وقوله «من جارية أو غلام» مفعول بزيادة من «أرضعت».

ولا يتوهم أن قوله «واحدا بعد واحد» مفعول ل «أرضعت» ويكون المعنى أنها أرضعت اثنين أحدهما بعد الآخر من لبن فحلين متعددين كل واحد من لبن فحل ، فتكون الرواية دليلا للصورة الثانية ، فإن هذا ظاهر البطلان حيث إنه عليه‌السلام نفى حصول التحريم رأسا بمعنى لا يحصل تحريم بهذا الرضاع بالكلية لا بالنسبة

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣١٥ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٢ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٤٢ ح ٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٣ ح ١.

(٣) سورة الفرقان ـ آية ٥٤.

٣٧١

إلى المرتضع والمرتضعة ولا بالنسبة إلى سائر الطبقات والمراتب من الأخوات والبنات والعمات والخالات ، حيث قال : فإن ذلك رضاع ليس بالرضاع الذي عناه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع أنه لا خلاف في تعدي التحريم الى الطبقات وكذا بين المرتضع والمرضعة والفحل ، وإنما الخلاف في حصوله بين المرتضعين وحينئذ فلا يجوز أن تحمل الرواية على ذلك.

والذي يدل على القول الآخر عموم قوله عزوجل (١) «وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ» وعموم الروايات المتقدمة من قولهم عليهم‌السلام (٢) «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».

ولا ريب أن الاخوة من الأم محرمة في النسب فيجب أن يكون في الرضاع كذلك عملا بالأخبار المذكورة.

وتدل عليه رواية محمد بن عبيدة الهمداني (٣) قال : «قال الرضا عليه‌السلام : ما يقول أصحابك في الرضاع؟ قال : قلت : كانوا يقولون : اللبن للفحل ، حتى جاءتهم الرواية عنك أنك تحرم من الرضاع ما تحرم من النسب ، فرجعوا إلى قولك ، قال : فقال لي : وذلك لأن أمير المؤمنين سألني عنها البارحة ، فقال لي : اشرح لي اللبن للفحل ، وأنا أكره الكلام ، فقال لي : كما أنت حتى أسألك عنها ، ما قلت في رجل كانت له أمهات أولاد شتى ، فأرضعت واحدة منهن بلبنها غلاما غريبا ، أليس كل شي‌ء من ولد ذلك الرجل من أمهات الأولاد الشتى محرما على ذلك الغلام؟ قال : قلت : بلى ، قال : فقال لي أبو الحسن عليه‌السلام : فما بال الرضاع يحرم

__________________

(١) سورة النساء ـ آية ٢٣.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٣٧ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٩٢ ح ٦٠ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨١ ح ٤.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٤٤١ ح ٧ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٢٠ ح ٣٠ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٥ ح ٩.

٣٧٢

من قبل الفحل ، ولا يحرم من قبل الأمهات؟ وإنما حرم الله الرضاع من قبل الأمهات ، وإن كان لبن الفحل أيضا يحرم».

قال المحدث الكاشاني (رحمة الله عليه) في الوافي ـ بعد ذكر صحيحة بريد المتقدمة حيث إنه اختار هذا القول ـ ما نصه : وهذا الخبر يدل على أن مع تعدد الفحل لا يحصل الحرمة وإن كانت المرضعة واحدة.

وهذا مخالف لقوله تعالى «وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ» وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». وقول الرضا عليه‌السلام في حديث محمد بن عبيدة الهمداني «فما بال الرضاع». ثم ذكر تمام الخبر إلى أن قال : وقد قالوا صلوات الله عليهم (١) : «إذا جاءكم حديث فأعرضوه على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف فردوه». فما بال أكثر أصحابنا أخذوا بهذه الأخبار الثلاثة. انتهى.

وقريب منه ما ذكره في المفاتيح أيضا وزاد فيه احتمال حمل مستند القول المشهور على التقية.

وما ذكره (قدس‌سره) جيد ، إلا أنه يبقى الاشكال فيما يحمل عليه الأخبار التي هي مستند القول المشهور ، وهو في المفاتيح وإن احتمل الحمل فيها على التقية ، إلا أن جملة من الأصحاب صرحوا بأن مذهب العامة إنما هو ما ذهب إليه أصحاب هذا القول الآخر ، وعلى هذا فالحمل المذكور غير تام.

وممن صرح بذلك شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، فإنه قال ـ بعد ذكر الصورتين المتقدمتين وكلام ثمة في البين ـ ما صورته : وعلى هذا فيكفي الاخوة في الرضاع من جهة الأب وحده ، ولا يكفى من جهة الأم وحدها ، وهذا معنى قولهم «اللبن للفحل».

وخالفنا الجمهور في الأمرين معا لعدم الدليل على اعتبارهما مع عموم الأدلة المتناولة لمحل النزاع ، واستند أصحابنا في الشرطين معا إلى رواياتهم ، ثم ساق

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ص ٨٤ ح ٢٩.

٣٧٣

الروايات المتقدمة.

وممن صرح بذلك أيضا ابن إدريس في السرائر فقال : وإن كان لامة من الرضاع بنت من غير أبيه من الرضاع ، فهي أخته لامه عند المخالفين من العامة لا يجوز له أن يتزوجها ، وقال أصحابنا الإمامية بأجمعهم : يحل له أن يتزوجها ، لأن الفحل غير الأب ، انتهى.

وقال الفاضل العماد مير محمد باقر المشهور بالداماد ـ في رسالته التي في التنزيل ـ ما صورته : من الذايعات عند الأصحاب أن انتشار حرمة الرضاع في الطبقات الرضاعية اشتراط صاحب اللبن ، بل العلامة في التذكرة قد ادعى فيه الإجماع.

وفقهاء العامة وأمين الإسلام أبو علي الطبرسي صاحب التفسير (رحمه‌الله) من الخاصة يسقطون هذا الشرط ، انتهى.

وبذلك يظهر لك بطلان ما احتمله في المفاتيح من حمل أخبار القول المشهور على التقية ، وعلى ذلك يعظم الإشكال إلا أنه يمكن أن يقال في جواب ما ذكره المحدث الكاشاني هنا ـ بناء على ما ذكرناه من مذهب العامة ، وهو ما ذهب إليه الطبرسي في المسألة ـ : أنه كما ورد عرض الأخبار على القرآن والأخذ بما وافقه وطرح ما خالفه كذلك ورد أيضا العرض على مذهب العامة ، والأخذ بما خالفهم وطرح ما وافقهم.

وقد دريت مما نقله هؤلاء الأجلاء أن العامة لا يشترطون اتحاد الفحل لا في الصورة الاولى ولا الثانية ، فتكون هذه الأخبار مخالفة لهم ، ورواية الهمداني موافقة لهم على أن للمنازع أن يناقش في دلالة الآية على ما ادعوه من شمولها لهذا الفرد ، فإن غاية ما يدل عليه التحريم في صورة الاخوة من الرضاعة ، والأصحاب لا يقولون بحصول الاخوة مع تعدد الفحل ، بل هو أول المسألة كما لا يخفى.

٣٧٤

نعم يبقى الكلام في الروايات الدالة على أنه «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». ، ولا ريب في تحريم الاخوة من الأم في النسب ، فيكون في الرضاع كذلك ، ويمكن أن يقال : إنه لا عام إلا وقد خص ، ولا مطلق إلا وقد قيد ، فيجب تخصيص هذه الأخبار الدالة على اشتراط اتحاد الفحل ، فتحمل الأخبار المذكورة على ما سواه لهذا الفرد ، وبذلك يظهر قوة القول المشهور والاحتياط في مثل ذلك مما ينبغي المحافظة عليه ، والله العالم.

تنبيه

قد عرفت أن محل الخلاف في الصورة الثانية هو ما إذا كان المرتضعان أجنبيين ، وحينئذ فلو كان أحدهما ابنها نسبا وإن لم يكن من الفحل الذي أرضعت بلبنه ، فإنه يحرم على هذا المرتضع.

قال في المسالك : لما كان تحريم الرضاع تابعا لتحريم النسب ، وكان الاخوة من الأم كافية في التحريم النسبي ، فالرضاع كذلك ، إلا أنه خرج من هذه القاعدة ، الاخوة من الام من جهة الرضاع خاصة بتلك الروايات ، فيبقى الباقي على العموم فيحرم أولاد المرضعة بالنسب على المرتضع وإن كانوا من الأم خاصة ، بأن يكونوا أولاد الفحل ، عملا بالعموم مع عدم وجود المخرج عنه ، كما يحرم على هذا المرتضع أولاد الفحل من النسب. وإن لم يكونوا إخوة من الام لتحقق الاخوة بينهما في الجملة ، انتهى.

أقول : ويدل عليه بالخصوص أيضا موثقة جميل بن دراج (١) عنه عليه‌السلام قال : «إذا رضع الرجل من لبن امرأة حرم عليه كل شي‌ء من ولدها وإن كان الولد من غير الرجل الذي كان أرضعته بلبنه : وإذا رضع من لبن الرجل حرم عليه كل شي‌ء من ولده وإن كان من غير المرأة التي أرضعته». وهي صريحة في المراد.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٢١ ح ٣٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٠٦ ح ٣.

٣٧٥

تذييل فيه تكميل

قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يستحب أن يختار للرضاع المرأة العاقلة المسلمة العفيفة الوضيئة لأن الرضاع يؤثر في الطباع والصورة ، وأنه يكره أن تسترضع الكافرة إلا مع الضرورة وعلى هذا ينبغي أن تسترضع الذمية.

ويتأكد الكراهة في المجوسية وأنه يمنعها شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، ولا يسلم لها الولد إلى منزلها ، وأنه يكره أن تسترضع من لبن من ولادتها عن الزنا وإن كانت أمة أحلها مولاها.

أقول : والذي يدل على الحكم الأول جملة من الاخبار منها ما رواه في الكافي عن محمد بن مروان (١) قال : «قال لي أبو جعفر عليه‌السلام : استرضع لولدك بلبن الحسان ، وإياك والقباح : فإن اللبن قد يعدي».

وعن زرارة (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «عليكم بالوضاء من الظؤرة ، فإن اللبن يعدي».

وعن غياث بن إبراهيم (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : انظروا من ترضع أولادكم ، فإن الولد يشب عليه».

وعن محمد بن قيس (٤) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تسترضعوا الحمقاء ، فإن اللبن يعدي ، وإن الغلام ينزع إلى اللبن ـ يعني ـ إلى الظئر في الرعونة والحمق».

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٦ ص ٤٤ ح ١٢ و ١٣، التهذيب ج ٨ ص ١١٠ ح ٢٥ و ٢٦، الفقيه ج ٣ ص ٣٠٧ ح ١٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٨٩ ب ٧٩ ح ١ و ٢.

(٣) الكافي ج ٦ ص ٤٤ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٨٧ ب ٧٨ ح ١.

(٤) الكافي ج ٦ ص ٤٣ ح ٨ ، التهذيب ج ٨ ص ١١٠ ح ٢٤ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٠٧ ح ١٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٨٨ ح ٢.

٣٧٦

وما رواه الصدوق في كتاب عيون أخبار الرضا (١) عن الرضا عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تسترضعوا الحمقاء ولا العمشاء فإن اللبن يعدي».

وبهذا الاسناد (٢) قال : «ليس للصبي لبن خير من لبن أمه».

وما رواه في كتاب قرب الاسناد (٣) عن جعفر عن أبيه عليهم‌السلام «إن عليا عليه‌السلام كان يقول : تخيروا للرضاع كما تخيرون للنكاح : فإن الرضاع يغير الطباع».

وأما ما يدل على الثاني على كراهة الارتضاع من الكافرة ، فالأخبار المتقدمة الدالة على أن للبن تأثيرا في الولد مطلقا كذا قيل.

وفيه أن غاية ما يدل عليه الأخبار المشار إليها هو المنع من القبيحة الصورة والحمقاء ونحوهما.

وأما اشتراط الايمان والإسلام فلم أقف عليه في شي‌ء من الأخبار ، بل الأخبار دالة على جواز الارتضاع من الكافرة كما رواه في الكافي والفقيه عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله (٤) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : هل يصلح للرجل أن ترضع له اليهودية والنصرانية والمشركة؟ قال : لا بأس ، وقال : امنعوهن من شرب الخمر». وهو شامل لجميع أصناف الكفار.

وقد تكاثرت الأخبار بالاذن باسترضاع الذمية ، وإنما وقع النهي عن المجوسية.

فروى في الكافي عن سعيد بن يسار (٥) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

__________________

(١ و ٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٣٣ ح ٦٧ و ٦٩ طبع النجف الأشرف الوسائل ج ١٥ ص ١٨٨ ح ٤ و ٥.

(٣) قرب الاسناد ص ٤٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٨٨ ح ٦.

(٤ و ٥) الكافي ج ٦ ص ٤٣ ح ٤ وص ٤٤ ح ١٤ ، التهذيب ج ٨ ص ١٠٩ ح ٢٢ وص ١١٠ ح ٢٣، الوسائل ج ١٥ ص ١٨٦ ح ٥ وص ١٨٥ ح ١.

٣٧٧

لا تسترضئوا للصبي المجوسية ، وتسترضع له اليهودية والنصرانية ، ولا يشربن الخمر ويمنعن من ذلك».

وعن عبد الله بن يحيى الكاهلي في الحسن عن عبد الله بن هلال (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن مظائرة المجوسي؟ فقال : لا ، ولكن أهل الكتاب».

وعن الحلبي (٢) في الصحيح قال : «سألته عن رجل دفع ولده إلى ظئر يهودية أو نصرانية أو مجوسية ترضعه في بيتها أو ترضعه في بيته؟ قال : ترضعه لك اليهودية والنصرانية في بيتك ، وتمنعها من شرب الخمر ، وما لا يحل مثل لحم الخنزير ، ولا يذهبن بولدك إلى بيوتهن ، والزانية لا ترضع ولدك ، فإنه لا يحل لك ، والمجوسية لا ترضع لك ولدك إلا أن تضطر إليها».

والمستفاد من هذه الأخبار بعد ضم بعضها إلى بعض هو جواز استرضاع الذمية من غير كراهة ، وكراهة استرضاع المجوسية.

وربما أشعر قوله في خبر الحلبي «إلا أن تضطر إليها» بالتحريم إلا أنك قد عرفت من رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله ما يدل على استرضاع الكافرة مطلقا وأما ما ذكروه من منعها من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير وأن تذهب به إلى بيتها ، فقد عرفت الدلالة عليه من هذه الأخبار.

ويؤيده تأييدا ما رواه في كتاب قرب الاسناد عن علي بن جعفر (٣) عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل المسلم هل يصلح له أن يسترضع اليهودية والنصرانية وهن يشربن الخمر قال : امنعوهن عن شرب الخمر ما أرضعن لكم».

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٤٢ ح ٢ ، التهذيب ج ٨ ص ١٠٩ ح ٢١ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٨٦ ح ٣.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ١١٦ ح ٥٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٨٦ ح ٦.

(٣) قرب الاسناد ص ١١٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٨٦ ح ٧.

٣٧٨

وأما ما يدل على الثالث من الأخبار ، فأما بالنسبة إلى كراهية الاسترضاع من لبن الزانية فمنه ما رواه في الكافي عن علي بن جعفر (١) في الصحيح عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام قال : «سألته عن امرأة ولدت من زنا هل يصلح أن يسترضع بلبنها؟ قال : لا يصلح ولا لبن ابنتها التي ولدت من الزنا».

وعن الحلبي (٢) في الموثق قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : امرأة ولدت من الزنا أتخذها ظئرا؟ قال : لا تسترضعها ولا ابنتها».

وفي هذين الخبرين زيادة كراهة استرضاع من ولدت من الزنا ولم يذكره الأصحاب وقد تقدم في صحيحة الحلبي «والزانية لا ترضع ولدك ، فإنه لا يحل لك». وربما أشعر هذه الأخبار بالتحريم سيما الأخير حيث لا معارض لها يدل على الجواز إلا أن المشهور بين الأصحاب إنما هو الكراهة.

وأما بالنسبة إلى ما ذكروه من استصحاب الكراهة وإن أحل مولى الجارية الزانية فعلته ، فعلل أن إحلال ما مضى من الزنا لا يرفع إثمه ، ولا يزيل حكمه ، فكيف يطيب لبنه.

قال في الشرائع ـ بعد ذكر الحكم المذكور كما هو المشهور ـ وروي أنها إن أحلها مولاها فعلها طاب لبنها ، وزالت الكراهة ، وهو شاذ.

أقول : لا يخفى أنه قد تكاثرت الأخبار برفع الكراهة مع التحليل من غير معارض ، فما ذكروه مجرد اجتهاد في مقابلة النص ، لا ينبغي أن يلتفت إليه ولا يعول عليه.

ومن ذلك ما رواه في الكافي عن محمد بن مسلم (٣) في الصحيح أو الحسن عن

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٤٤ ح ١١ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٨٤ ح ١.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٤٢ ح ١ ، التهذيب ج ٨ ص ١٠٨ ح ١٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٨٤ ح ٤.

(٣) الكافي ج ٦ ص ٤٣ ح ٥ ، التهذيب ج ٨ ص ١٠٩ ح ٢٠ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٠٨ ح ٢١ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٨٤ ح ٢.

٣٧٩

أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لبن اليهودية والنصرانية والمجوسية أحب إلى من لبن ولد الزنا ، وكان لا يرى بأسا بلبن ولد الزنا إذا جعل مولى الجارية الذي فجر بالجارية في حل» ، ورواه الصدوق بإسناده عن حريز عن محمد بن مسلم.

وعن هشام بن سالم وجميل بن دراج وسعد بن أبي خلف (١) جميعا في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في المرأة يكون لها الخادم قد فجرت ، فتحتاج إلى لبنها؟ قال : مرها فلتحللها يطيب اللبن».

وعن إسحاق بن عمار (٢) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن غلام لي وثب على جارية لي فأحبلها فولدت واحتجنا إلى لبنها فإنى أحللت لهما ما صنعا ، أيطيب لبنها؟ قال : نعم».

ولا يخفى عليك ما هي عليه من الضراحة في الحكم المذكور مع صحة السند ، فردها وعدم الاعتداد بها من غير معارض مشكل ، ومن ثم قال في المسالك بعد ذكر التعليل الذي قدمنا نقله عنهم ، وهذا في الحقيقة استبعاد محض مع ورود النصوص الكثيرة به التي لا معارض لها : وحمل بعض الأصحاب الرواية المذكورة على ما إذا كانت الأمة قد تزوجت بدون إذن مولاها ، فإن الأولى له إجازة العقد ليطيب اللبن ، وهو مع بعده يتوقف على وجود المعارض ، والله العالم.

المقام الثاني في الأحكام :

وتحقيق الكلام في ذلك يقع في موارد.

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٤٣ ح ٧ ، التهذيب ج ٨ ص ١٠٩ ح ١٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٨٤ ح ٣.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٤٣ ح ٦ ، التهذيب ج ٨ ص ١٠٨ ح ٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٨٥ ح ٥.

٣٨٠