الحدائق الناضرة - ج ٢٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٦

ورواه الصدوق في الفقيه (١) مرسلا قال : «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام» الحديث إلا أن الذي فيه «فنكحها» مكان «فجمعها» وفيه «فأمره أن يطلق الأخرى».

قال المحدث الكاشاني في الوافي بعد نقل الخبر كما نقلناه : بيان ، «فجمعها» كذا في أكثر النسخ ، والصواب فجامعها ، وربما يوجد في بعض النسخ «فجمعها» وفي الفقيه «فنكحها» وهو أوضح ، وفيه «فأمره أن يطلق الأخرى» وهو يشعر بصحة العقد على الأخيرة ، ويدل عليه إيجاب الصداق مرتين ، إلا أن يقال : ذلك لمكان الوطي.

ثم إن صح العقد على الأخيرة ، فما الوجه في التفريق ثم الخطبة وتثنية الصداق ، وإن جعل ـ يطلق من الإطلاق وحمل النكاح والجمع على الوطي ، وقيل بإبطال العقد الأول على الأخيرة ـ صحت النسختان وزال الاشكال. انتهى.

أقول : هذا الخبر قد نقله شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في كتاب البحار من كتاب الحسين بن سعيد (٢) بسنده فيه إلى محمد بن قيس هكذا : عن أبي جعفر عليه‌السلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام «في أختين نكح إحداهما رجل ثم طلقها وهي حبلى ، ثم خطب أختها فنكحها قبل أن تضع أختها المطلقة ولدها ، أمره أن يفارق الأخيرة حتى تضع أختها المطلقة ولدها ، ثم يخطبها ويصدقها صداقها مرتين».

وهذه الرواية موافقة لرواية الصدوق في لفظة «نكحها» عوض «فجمعها» الذي في رواية الكليني ، وموافقة لرواية الكليني في لفظ «المفارقة» دون لفظ «الطلاق» الذي في الفقيه.

وكيف كان فالظاهر بالنسبة إلى المخالفة الاولى أن الحق منهما ما نقله في الفقيه وفي كتاب الحسين بن سعيد من لفظ «النكاح» بمعنى الوطي لها.

ويدل عليه أنه هو الذي يترتب عليه المهر كما صرح به في رواية الكافي

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٦٩ ح ٦٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٦٦ ح ١.

(٢) البحار ج ١٠٤ ح ٢٦ ح ٦ ، مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٥٨٠ ب ٢٤ ح ١.

٥٢١

أيضا من كون الصداق مرتين ، وذلك لأنه نكاح شبهة موجب للصداق البتة ، وبالنسبة إلى المخالفة الثانية هو ما في الكافي ورواية الحسين بن سعيد من لفظ «المفارقة» دون «الطلاق» الذي في رواية صاحب الفقيه.

ويؤيده ما تقدم في رواية زرارة المتضمنة لأمره عليه‌السلام بأن يفرق بينه وبين امرأته الشامية التي هي الأخيرة ، وهو الأنسب بالقواعد الشرعية ، لأنه لما كان منهيا عنه فهو باطل ، وإن لم يأثم لمكان الجهل.

بقي الكلام فيما ذكره ابن إدريس مما قدمنا نقله عنه من تجويز نكاح الاولى قبل أن تخرج الثانية من العدة ، ردا على الشيخ فيما ذكره من أنه لا يقرب الاولى حتى تخرج الثانية من العدة.

وظاهر العلامة في المختلف موافقة ابن إدريس في هذا المقام حيث قال ـ بعد الكلام في المسألة ـ : بقي هنا بحث وهو أنه هل يحرم الاولى مدة عدة الثانية؟ ظاهر كلامه في النهاية ذلك ، والوجه الحمل على الكراهة ، عملا بأصالة الإباحة ، ولوجود المقتضى وهو العقد السابق السالم عن المعارض ، وهو تجدد العقد على الأخت ، فإنه لا يقتضي تحريما على العلم لقوله عليه‌السلام (١) «لا يحرم الحرام الحلال». فكذا مع الجهل ، والعدة غير مانعة لأنها ثابتة والجمع بين الأختين منتف. انتهى.

أقول : وبالجواز على كراهة صرح في القواعد أيضا ، وهو ظاهر المحقق الشيخ على في شرحه.

وأنت خبير بأن ما ذكره في المختلف وإن كان جيدا في بادئ النظر إلا أنه عند التأمل في المقام لا يخلو من نظر ، فإن الخبر صريح في التحريم كما ادعاه الشيخ خصوصا قوله عليه‌السلام في مسألة نكاح الام على البنت ،

«ولا يقرب البنت حتى تنقضي عدة الام منه ، فإذا انقضت عدة الام حل له نكاح البنت» ، ومسألة الأختين ومسألة

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٤٧١ ح ٩٧ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٢٥ ح ١٢.

٥٢٢

الام والبنت من باب واحد ، وغاية ما يدل عليه كلامه (قدس‌سره) أنه لا يعرف وجه التحريم في هذا المقام.

وفيه : أن عدم معرفته له لا يدل على العدم ، فلعل للتحريم وجها لا تهتدي إليه أبصارنا ، فيجب التسليم فيما أمروا ونهوا وإن لم نهتد إلى وجه ، والواجب شرعا هو متابعتهم فيا أمروا ونهوا. لا طلب العلة منهم وبيان الوجه في ذلك ، وبالجملة فالظاهر هو ما ذكره الشيخ (رحمة الله عليه) والله العالم.

تفريع :

لو قلنا ببطلان عقد الأخيرة كما هو أحد القولين فهو ظاهر مع العلم بالمتقدم والمتأخر ، أما لو اشتبه ذلك ولم يعلم السابق من اللاحق ، فالظاهر هو تحريمهما معا كما هو مقتضى قاعدة الاشتباه بمحصور ، لأن إحداهما محرمة يقينا لكنها قد اشتبهت بالأخرى ، وبذلك صرح في القواعد أيضا فقال : فلو اشتبه السابق منع منهما ، والأقرب إلزامه بطلاقهما (١).

(الثاني)

من الموضعين المشار إليهما آنفا : ما لو تزوجهما معا في عقد واحد ، وقد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ذلك ، فذهب الشيخ وجمع من الأصحاب منهم ابن البراج وابن الجنيد إلى أنه يختار أيهما شاء ، وكذا في الزائد على الأربع ، واختاره العلامة في المختلف وذهب ابن إدريس وابن حمزة إلى بطلان العقد ، وإلى هذا القول ذهب المحقق وأكثر المتأخرين.

__________________

(١) قال الشارح المحقق (رحمة الله عليه) : والأقرب عند المصنف إلزامه بطلاقهما بأن يجبره الحاكم على ذلك ، ووجه القرب أن البقاء على الزوجية موجب للضرر بالنسبة اليه وإليهما ، لتعلق أحكام الزوجية ومنعه من الاستمتاع ، ولان تحصيل البراءة عن حقوق الزوجية واجب ، ولا يتم الا بالطلاق ، ثم ناقش في ذلك بما هو مذكور ثمة. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٥٢٣

ويدل على ما ذهب إليه الشيخ ما رواه الصدوق في الصحيح عن ابن أبي عمير عن جميل بن دراج (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أنه قال في رجل تزوج أختين في عقدة واحدة ، قال : هو بالخيار يمسك أيتهما شاء ، ويخلي سبيل الأخرى ، وقال في رجل تزوج خمسا في عقدة واحدة : يخلي سبيل أيتهن شاء» وزاد في الكافي «ويمسك الأربع».

وهذه الرواية قد رواها الكليني والشيخ بطريق فيه ضعف ، وردها المتأخرون بذلك ، ولكنها كما عرفت قد رويت بطريق صحيح وهي صريحة في المدعى ، فلا مجال للطعن فيها بوجه.

احتج القائلون بالبطلان بأن العقد على كل واحدة منهما محرم للعقد على الأخرى ونسبته إليهما على السوية ، فلا يمكن الحكم بصحته فيهما لمحذور الجمع ، ولا في إحداهما على التعيين لأنه ترجيح من غير مرجح ، ولا بغير معينة ، لأن الحكم بالإباحة عرض معين فلا بد له من محل جوهري معين يقوم به لأن غير المعين في حد ذاته لا وجود له فإذا بطلت هذه الأحكام لزم الحكم بالبطلان فيهما ، ولأن العقد عليهما معا منهي عنه نهيا ناشئا عن عدم صلاحية المعقود عليهما على الوجه المخصوص للنكاح ، وإن كانت صالحة بغير هذه الجهة ، والنهي على هذا الوجه يقتضي بطلان العقد وإن لم يكن مطلق النهي موجبا لبطلان المعقود ، كذا قرره شيخنا في المسالك.

وفيه ما قدمنا لك ذكره في غير موضع من أن الخروج عن مقتضى الروايات ـ الصحيحة الصريحة في الحكم بمجرد هذه الأدلة العقلية ـ مجازفة محضة في أحكامه سبحانه ، لما عرفته قريبا من أنا مأمورون بالأخذ بأوامرهم (صلوات الله عليهم)

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٣١ ح ٣ وص ٤٣٠ ح ٥ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٦٥ ح ٤٥ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٨٥ ح ٣٩ وص ٢٩٥ ح ٧٣. الوسائل ج ١٤ ص ٣٦٧ ح ١ وص ٤٠٣ ب ٤ ح ١.

٥٢٤

ونواهيهم وإن لم تدرك أفهامنا غاياتها وعللها ، فالخروج عنها بهذه التعليلات العقلية غير جيد ، ولهذا إن شيخنا المذكور إنما جنح إلى هذا التعليل لضعف الرواية بناء على نقل الكليني والشيخ ، وحيث اطلع على نقل صاحب الفقيه لها بطريق صحيح عدل إلى العمل بالرواية فقال بعد نقلها : وعلى هذا فيتجه العمل بمضمونها لصحتها في المسألتين بعد تحقيق الحال من الكتاب ، فعندي فيه شبهة تتوقف على المراجعة.

أقول : أراد بالمسألتين مسألة الأختين ومسألة الجمع بين الخمس ، وما ذكره من الشبهة لا أعرف له وجها ، فإن الرواية في الفقيه كما ذكره سندا ومتنا صحيح ، أما المتن فقد عرفته ، وأما السند فإن طريق الصدوق إلى ابن أبي عمير ـ كما ذكره هو (قدس‌سره) في المسالك أيضا عن محمد بن الحسن عن الحميري عن أيوب بن نوح وإبراهيم بن هاشم ومحمد بن عبد الجبار عن محمد ابن أبى عمير ـ هو في أعلى مراتب الصحة.

ومما يؤيد ذلك تصريحه عليه‌السلام بهذا الحكم في الجمع بين الخمس بعقد واحد والمسألتان من باب واحد ، وبما ذكرنا يظهر قوة القول الأول ، والله العالم.

إلحاق

الظاهر أن ما تقدم من البحث في الأختين والخلاف في الموضعين يجري في الخمس ، وبذلك صرح في المختلف. فقال : لا يجوز الجمع بين الأختين في العقد ولا بين الخمس ، ولا بين اثنتين وعنده ثلاث إجماعا ، فإن فعل دفعة قال الشيخ في النهاية : يتخير في أي الأختين شاء وفي الزائد على الأربع ، وهو قول ابن الجنيد وابن البراج ، ثم نقل قول ابن إدريس المتقدم ، وبالجملة فإن المسألتين من باب واحد.

والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة ما تقدم في صحيحة

٥٢٥

جميل (١) من «أنه متى تزوج خمسا في عقد واحد يخلي سبيل أيتهن شاء». وهذا حكم الأختين على أحد القولين كما تضمنته الرواية المذكورة أيضا.

وصحيحة محمد بن قيس (٢) المتقدمة في الموضع الأول ، وهي نظيرة صحيحة المتقدمة أيضا الواردة في الأختين.

ورواية عنبسة بن مصعب (٣) المتقدمة أيضا في الموضع الأول ، إلا أن هذه الرواية لا تخلو من منافاة لما دلت عليه صحيحة جميل ، لأن هذه الرواية قد تضمنت أنه متى عقد على اثنتين دفعة وعنده ثلاث فإن العقد صحيح بالنسبة إلى من قدم اسمها في العقد ، وباطل بالنسبة إلى المؤخر اسمها.

وصحيحة جميل دلت على أنه متى جمع الخمس في عقد واحد تخير أيتها شاء ، ومقتضاه أنه يتخير أيضا في الاثنتين ، إذ لا فرق بين العقد على الخمس دفعة وبين من تزوج اثنتين وعنده ثلاث.

ومقتضى رواية عنبسة أنه يبطل عقد الخامسة التي تأخر ذكر اسمها ، ولا أعرف وجها للجمع بينهما إلا أن تحمل صحيحة جميل على كون ذكر الخمس وقع إجمالا لا تفصيلا ، بأن قال : زوجتك هذه الخمس نسوة ، أو زوجتك الخمس نسوة المعدودات بيني وبينك ، ونحو ذلك.

ومن روايات الخمس أيضا ما رواه في الكافي عن زرارة ومحمد بن مسلم (٤)

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٣٠ ح ٥ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٩٥ ح ٧٣ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٦٥ ح ٤٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٠٣ ب ٤ ح ١ وص ٣٦٧ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٣٠ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٩٤ ح ٧١ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٦٥ ح ٤٦ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٠٠ ح ١.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٤٣٠ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٩٥ ح ٧٢ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٦٦ ح ٤٨ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٠٣ ب ٥ ح ١.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٤٢٩ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٩٤ ح ٦٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٩٩ ح ١.

٥٢٦

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا جمع الرجل أربعا فطلق إحداهن فلا يتزوج الخامسة حتى تنقضي عدة المرأة التي طلق ، وقال : لا يجمع الرجل ماءه في خمس».

وعن علي بن أبي حمزة (١) قال : «سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن الرجل يكون له أربع نسوة فيطلق إحداهن أيتزوج مكانها اخرى؟ قال : لا حتى تنقضي عدتها».

ونظير هذين الخبرين في الأختين ما رواه في الكافي عن زرارة (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام «في رجل طلق امرأته وهي حبلى ، أيتزوج أختها قبل أن تضع؟ قال : لا يتزوجها حتى يخلو أجلها».

وعن علي بن أبي حمزة (٣) عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل طلق امرأة ، أيتزوج أختها؟ قال : لا حتى تنقضي عدتها».

المسألة الثانية : لا خلاف في جواز الجمع بين الأختين في الملك وإن تناوله النهي في ظاهر الآية وهو قوله تعالى (٤) «وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ» إلا أن المراد به ما كان بالعقد أو الوطي أو بهما إجماعا ، ولا خلاف أيضا في أنه لا يجوز الجمع بينهما في الوطي بملك اليمين ولا الجمع بينهما في النكاح (٥) كما تقدم في سابق هذه المسألة.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٢٩ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٩٤ ح ٧٠ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٠٠ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٣٢ ح ٨ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٨٢ ح ٤٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٧١ ب ٢٨ ح ٢.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٤٣٢ ح ٩ ، التهذيب ح ٧ ص ٢٩٠ ح ٧ ص ٢٩٠ ح ٥٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٧٤ ح ١٠.

(٤) سورة النساء ـ آية ٢٣.

(٥) أقول : ويدل عليه ما سيأتي ان شاء الله تعالى في الرواية الثانية عشر في قوله تعالى «وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلّا ما قَدْ سَلَفَ» يعني في النكاح. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٥٢٧

وحينئذ فإذا ملك أمتين دفعة أو على التعاقب صح الانتقال والملك إجماعا ، وله نكاح أيتهما شاء ، فإذا وطأ إحداهما حرمت عليه الأخرى حتى تخرج الاولى عن ملكه ، فلو خالف ووطأ الأخرى أيضا فقد أثم ، ولا حد عليه من حيث الملك ، وإنما يعزر من حيث ارتكاب المحرم كما في كل فاعل محرم.

بقي الكلام في أنه بعد وطئه الثانية فهل تحرم الاولى عليه ، أو الثانية ، أو هما معا على بعض الوجوه؟ أقوال منتشرة : الأول : مذهب الشيخ في النهاية وهو انه : إن وطأ الأخرى بعد وطئ الاولى وكان عالما بتحريم ذلك عليه حرمت الاولى عليه حتى تموت الثانية ، فإن أخرج الثانية عن ملكه ليرجع إلى الأولى لم يجز له الرجوع إليها ، فإن أخرجها عن ملكه لا لذلك جاز له الرجوع إلى الاولى ، وإن لم يعلم تحريم ذلك عليه ، جاز له الرجوع إلى الأولى على كل حال إذا أخرج الثانية عن ملكه.

هذا لفظ عبارته في الكتاب المذكور ، وتبعه القاضي وابن حمزة واختاره العلامة في المختلف.

الثاني : قول ابن إدريس ، وهو أن الاولى تبقى على الحل والثانية على التحريم سواء أخرج الثانية عن ملكه أم لا وسواء كان جاهلا بتحريم وطئ الثانية عليه أم عالما ، ومتى أخرج الأولى عن ملكه حلت له الثانية سواء أخرجها لأجل العود إلى الثانية أم لا.

أما الأول فلأن التحريم إنما تعلق بوطى‌ء الثانية ، لأن به حصل الجمع بين الأختين فيستصحب ، و «الحرام لا يحرم الحلال» (١). ولأصالة بقاء الحل ، وتحريم الثانية.

وأما الثاني فلأنه متى أخرج إحداهما عن ملكه لم يبق جامعا بين الأختين لانتفاء سببه ، واختار هذا القول المحقق والعلامة في القواعد ، ونقله في المسالك عن الشيخ في المبسوط وأكثر المتأخرين.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٢٨ ح ٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٢٥ ح ١١.

٥٢٨

قال ابن إدريس في السرائر : ولا بأس أن يجمع الرجل بين الأختين في الملك ، لكنه لا يجمع بينهما في الوطي لأن حكم الجمع بينهما في الوطي حكم الجمع بينهما في العقد ، فمتى ملك الأختين فوطأ واحدة منهما لم يجز له وطئ الأخرى حتى يخرج تلك من ملكه بالهبة أو البيع أو غيرهما.

وقد روى أنه «إن وطأ الأخرى بعد وطئه الاولى وكان عالما بتحريم ذلك حرمت عليه الاولى حتى تموت الثانية ، فإن أخرج الثانية عن ملكه ليرجع إلى الأولى لم يجز له الرجوع إليها ، وإن أخرجها عن ملكه لا لذلك جاز له الرجوع إلى الاولى ، وان لم يعلم بتحريم ذلك عليه جاز له الرجوع إلى الأولى على كل حال إذا أخرج الثانية عن ملكه».

والرواية بهذا الذي سطرناه لم يوردها في كتابه وتصانيفه إلا القليل من أصحابنا (١).

والذي يقتضيه أصول المذهب ويقوى في نفسي أنه إذا أخرج إحداهما عن ملكه حلت الأخرى ، سواء أخرجها ليعود إلى من هي باقية في ملكه ، أو لا يعود ، عالما كان بالتحريم أو غير عالم ، لأنه إذا أخرج إحداهما لم يكن جامعا بين الأختين بلا خلاف.

فأما تحريم الأولى إذا وطأ الثانية ففيه نظر ، فإن كان على ذلك إجماع منعقد أو كتاب أو سنة متواترة رجع إليه ، وإلا فلا يرجع عليه إليه ، لأن الأصل الإباحة للأولى ، وإنما التحريم تعلق بوطى‌ء الثانية بعد وطئه للأولى ، لأنه بوطئه للثانية يكون جامعا بين الأختين فكيف تحرم الاولى وهي المباحة الوطي وتحل المحرمة الوطي؟

وقد قلنا : إنها رواية أوردها شيخنا في نهايته إيرادا لا اعتقادا مثل ما أورد

__________________

(١) إلا أنه بمضمونها قد وردت عدة روايات في كتب أخبارنا كما سيأتي في الصفحات الاتية.

٥٢٩

كثيرا من الأخبار في كتابه المشار إليه إيرادا لا اعتقادا. انتهى.

أقول : لا يخفى أن كلامه وإن كان هو الأوفق بمقتضى القواعد العقلية ، إلا أن الأخبار على خلافه ، وعدم اهتدائه للوجه ـ فيما دلت عليه من الأحكام والعلة فيها ـ لا يدل على العدم.

وقال في المختلف ـ بعد نقل ملخص كلامه والجواب ـ : الأدلة غير منحصرة فيما ذكره ، وقل أن يوجد شي‌ء منها في الفروع ، والأصل إنما يصار إليه مع عدم دليل يخرج عنه ، ولا امتناع في اقتضاء وطئ الثانية تحريم الأولى ، فإذا وجدت الروايات خالية من المعارض وجب الحكم به ، وما ذكره استحسان لا يجوز العمل به. انتهى ، وهو جيد.

أقول : ومن المحتمل قريبا أن يكون تحريم الرجوع إلى الاولى مع العلم وعدم التحريم مع الجهل إنما وقع عقوبة له كما يظهر من الأخبار الاتية ، وقوله عليه‌السلام «لا ولا كرامة» ، وهذان القولان هما المشهوران في كلام الأصحاب ،

والواجب علينا أولا نقل ما وصل إلينا من الأخبار في المقام والكلام فيها بما يسر الله تعالى فهمه منها ببركة أهل الذكر (صلوات الله وسلامه عليهم).

فأقول : الأول : ما رواه في الكافي في الحسن أو الصحيح عن الحلبي (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : «وسئل عن رجل كان عنده اختان مملوكتان فوطأ إحداهما ثم وطأ الأخرى؟ قال : إذا وطأ الأخرى فقد حرمت عليه حتى تموت الأخرى قلت : أرأيت إن باعها أتحل له الأولى؟ قال : إن كان يبيعها لحاجة ولا يخطر على قلبه من الأخرى شي‌ء فلا أرى بذلك بأسا ، وإن كان إنما يبيعها ليرجع إلى الاولى فلا ولا كرامة».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٣٢ ح ٧ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٩٠ ح ٥٣ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٨٤ ح ١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٧٣ ح ٩.

٥٣٠

الثاني : عن أبي الصباح الكناني (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل عنده اختان مملوكتان فوطأ إحداهما ثم وطأ الأخرى ، قال : حرمت عليه الاولى حتى تموت الأخرى ، قلت : أرأيت إن باعها ، قال : إن كان إنما يبيعها لحاجته ولا يخطر على باله من الأخرى شي‌ء فلا أرى بذلك بأسا ، وإن كان إنما يبيع ليرجع إلى الاولى فلا». ورواه الصدوق بإسناده عن العلاء عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام مثله.

الثالث : عن علي بن أبي حمزة (٢) عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل ملك أختين أيطؤهما جميعا فقال : يطأ إحداهما ، وإذا وطأ الثانية فقد حرمت عليه الاولى التي وطأها حتى تموت الثانية أو يفارقها ، وليس له أن يبيع الثانية من أجل الأولى ليرجع إليها ، إلا أن يبيع لحاجة أو يتصدق بها أو تموت».

الرابع : ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن الحلبي (٣) في الصحيح بروايتي الشيخين المتقدمين عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال. قلت له : الرجل يشتري الأختين فيطأ إحداهما ثم يطأ الأخرى بجهالة قال : إذا وطأ الأخيرة بجهالة لم تحرم عليه الاولى ، وإن وطأ الأخيرة وهو يعلم أنها عليه حرام حرمتا عليه جميعا».

الخامس : ما رواه في التهذيب عن عبد الغفار الطائي (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٣١ ح ٦ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٩٠ ح ٥٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٧٣ ح ٩.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٣٢ ح ٩ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٩٠ ح ٥٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٧٤ ح ١٠.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٢٩٠ ح ٥٥ ، الكافي ج ٥ ص ٤٣٣ ح ١٤ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٨٤ ب ١٣٨ ح ٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٧٢ ح ٥.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ٢٩١ ح ٥٦ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٧٢ ح ٦.

٥٣١

«في رجل كانت عنده اختان فوطأ إحداهما ثم أراد أن يطأ الأخرى ، قال : يخرجها من ملكه ، قلت : إلى من؟ قال : إلى بعض أهله ، قلت : فإن جهل ذلك حتى وطأها؟ قال : حرمتا عليه كلتاهما» قال في التهذيب «حرمتا عليه جميعا». يعني به ما دامتا في ملكه ، وأما إذا زال ملك إحداهما فقد حلت الأخرى.

السادس : عن أبي بصير (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل كانت له اختان مملوكتان فوطأ إحداهما ثم وطأ الأخرى ، أيرجع إلى الأولى فيطأها؟ قال : إذا وطأ الثانية فقد حرمت عليه الاولى حتى تموت ، أو يبيع الثانية من غير أن يبيعها من شهوة لأجل أن يرجع إلى الأولى».

السابع : عن عبد الله بن سنان (٢) في الصحيح «قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إذا كانت عند الرجل الأختان المملوكتان فنكح إحداهما ، ثم بدا له في الثانية فنكحها ، فليس ينبغي له أن ينكح الأخرى حتى تخرج الاولى من ملكه يهبها أو يبيعها ، فإن وهبها لولده يجزيه» (٣).

الثامن : عن معاوية بن عمار (٤) في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل كانت عنده جاريتان اختان فوطأ إحداهما ، ثم بدا له في الأخرى ، قال : يعتزل هذه ويطأ الأخرى ، قال : قلت : فإنه تنبعث نفسه للأولى ، فقال :

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٩١ ح ٥٧ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٧٣ ح ٧.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٨٨ ح ٤٨ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٧١ ح ١.

(٣) أقول : ظاهر الرواية الاولى أنه بعد نكاحهما معا لا تحل له الاولى حتى يخرج الثانية عن ملكه لا بقصد العود إلى الاولى ، وظاهر هذه الصحيحة أنه ليس له نكاح الثانية مرة أخرى حتى تخرج الاولى عن ملكه مطلقا ، ويحصل من الجميع أن حل أحدهما متوقف على إخراج الأخرى أيتهما كانت. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٤) التهذيب ج ٧ ص ٢٨٨ ح ٤٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٧١ ح ٢.

٥٣٢

لا يقربها حتى يخرج تلك عن ملكه» (١).

التاسع : عن علي بن يقطين (٢) قال : «سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن أختين مملوكتين وجمعهما ، قال : مستقيم ولا أحبه لك ، قال : وسألته عن الام والبنت المملوكتين ، قال : هو أشدهما ولأحبه لك».

العاشر : عن الحلبي (٣) في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال محمد بن علي عليهما‌السلام في أختين مملوكتين تكونان عند الرجل جميعا قال : قال علي عليه‌السلام : أحلتهما آية وحرمتهما آية أخرى ، وأنا أنهى عنهما نفسي وولدي».

الحادي عشر : ما رواه العياشي (٤) في تفسيره عن أبي عون قال : «سمعت أبا صالح الخثعمي قال : قال علي عليه‌السلام ذات يوم : سلوني ، فقال ابن الكوا ، أخبرني عن بنت الأخ من الرضاعة وعن الأختين المملوكتين ، فقال : إنك لذاهب في النية

__________________

(١) أقول : هذه الموثقة لا تخلو من الإجمال ، ولعل الأقرب في معناها ان معنى قوله «بدا له في الأخرى» أنه أراد نكاحها فقال عليه‌السلام : إذا أراد أن ينكحها يعتزل مدة يعني الاولى ، والمراد من اعتزالها الكناية عن فراقها وإخراجها عن ملكه ، فإذا أخرجها وطئ الأخرى وهي الثانية ، فقال له الراوي : «انه تنبعث نفسه للأولى» فقال عليه‌السلام : لا يقرب الاولى حتى يخرج الثانية عن ملكه ولا نكاح الاولى حتى يخرج الثانية عن ملكه ، ويكون الخبر حينئذ جامعا بين ما دلت عليه الاخبار السابقة من توقف حل الثانية على إخراج الاولى ، وأما حمل الاعتزال على ظاهر معناه كما هو ظاهر المسالك فظني بعده لخروجه بذلك عما دلت عليه الاخبار المذكورة. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٨٨ ح ٥٠ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٧٢ ح ٤.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٢٨٩ ح ٥١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٧٢ ح ٣.

(٤) تفسير العياشي ج ١ ص ٢٣٢ ح ٧٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٧٤ ح ١٢. ففيهما «أبا صالح الحنفي».

٥٣٣

سل ما يعينك أو ما ينفع ، فقال ابن الكوا : إنما نسألك عما لا نعلم ، فأما ما نعلم فلا نسألك عنه ، ثم قال : أما الأختان المملوكتان أحلتهما آية وحرمتهما آية ، ولا أحله ولا احرمه ، ولا أفعله أنا ولا أحد من أهل بيتي».

الثاني عشر : عن عيسى بن عبد الله (١) قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن أختين مملوكتين ينكح إحداهما ، أتحل له الأخرى فقال : ليس ينكح الأخرى إلا فيما دون الفرج ، وإن لم يفعل فهي خير له نظير تلك المرأة تحيض فتحرم على زوجها أن يأتيها في فرجها لقول الله عزوجل «وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ» وقال «وأن تجمع بين الأختين إلا ما قد سلف» يعني في النكاح فيستقيم للرجل أن يأتي المرأة وهي حائض فيما دون الفرج».

هذا ما حضرني من روايات المسألة ، وأنت خبير بأنها قد اتفقت كلها على أنه بنكاح الثانية بعد أن نكح الاولى تحرم عليه الاولى حتى يفارق الثانية لا لقصد الرجوع إلى الاولى ، وأكثرها مطلق في تحريم الاولى.

والخبر الرابع قيد ذلك بالعلم ، فلو وطأ الثانية جاهلا بتحريم وطئها لم تحرم عليه الاولى ، وما أطلق منها في حل الاولى ـ بإخراج الثانية عن ملكه أعم من أن يكون بقصد الرجوع إلى الأولى أو لا بهذا القصد ـ مقيد بما دل على اشتراط أن لا يكون بقصد الرجوع إلى الاولى ، وبذلك يظهر لك ضعف القول المشهور.

وقولهم أن الاولى تبقى على الحل ـ سواء أخرج الثانية عن ملكه أم لا. وسواء كان جاهلا بتحريم وطئ الثانية عليه أم لا ، وتمسكهم في ذلك بما عرفت من الدليل المتقدم نقله عنهم ـ فإنه اجتهاد محض في مقابلة النصوص وجرأة تامة على أهل الخصوص.

__________________

(١) تفسير العياشي ج ١ ص ٢٣٢ ح ٧٨ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٧٤ ح ١١. ففيهما «أَنْ تَجْمَعُوا».

٥٣٤

نعم بقي كلام في أن أكثر الأخبار إنما صرح بتحريم الاولى بعد وطئ الثانية من غير تعرض لحكم الثانية ، بل ظاهرها اختصاص التحريم بالأولى إلى أن تموت الثانية أو يخرجها من ملكه لا بقصد العود للأولى.

وحينئذ فيشكل الجمع بينهما وبين الرواية الرابعة ، وذلك فإنه إن حملت تلك الروايات باعتبار دلالتها على اختصاص التحريم بالأولى على صورة الجهل ، فالمنافاة لتلك الروايات ظاهرة لتصريحها بعدم تحريم الاولى في صورة الجهل.

وإن حملناها على صورة العلم فالمنافاة أيضا موجودة ، فإن صريح الرواية المذكورة تحريمها معا ، وهذه الروايات كما عرفت ظاهرها اختصاص التحريم بالأولى خاصة ، فالمنافاة حاصلة على كل حال.

والتحقيق أن يقال : إنه لا شك في دلالة تلك الروايات على تحريم الاولى وأما بالنسبة إلى الثانية فغايتها أن تكون مطلقة ، إذ لا صراحة ولا ظهور في الاختصاص بالأولى دون الثانية ، وأن الثانية لا تحرم ، ومن الممكن بل هو الظاهر أن عدم التصريح بتحريم الثانية إنما هو من حيث معلومية تحريمها قبل وطؤها بمجرد وطئ الاولى لما عرفت من أنه بوطى‌ء إحداهما تحرم عليه الأخرى اتفاقا نصا وفتوى ، فتحريمها لما كان معلوما لم يحتج إلى تنبيه عليه.

وأما الأولى فإنها محللة وإنما عرض لها التحريم بوطى‌ء الثانية ، فلذلك احتيج إلى التنبيه إلى تحريمها ، فقد عرفت مما قدمناه وجوب تقييد إطلاق تلك الروايات ـ من حيث دلالتها بإطلاقها على تحريم الاولى سواء كان وطؤ الثانية عن علم أو جهل ـ بتلك الرواية الدالة على تخصيص تحريم الاولى بصورة العمد ، وحينئذ فتحريم الاولى في تلك الأخبار مخصوص بصورة العلم.

وقد تلخص من ذلك أنه متي وطأ الثانية عالما بتحريم ذلك عليه حرمتا معا ، أما الأولى فلما عرفت من دلالة الأخبار على ذلك بعد حمل مطلقها على مقيدها وأما الثانية فلثبوت التحريم لها قبل وطئها بعد وطئ الاولى ، فتكون باقية على

٥٣٥

التحريم مدة بقائها في الملك ، ومتى وطأها جاهلا فظاهر الخبر الرابع عدم تحريم الاولى ، وظاهر الخبر الخامس تحريمهما معا.

والشيخ قد جمع بينهما بحمل الخبر الرابع على ما إذا أخرج الثانية عن ملكه كما يشير إليه كلامه في النهاية الذي قدمناه ، والخبر الخامس ـ كما تقدم نقله عنه في ذيل الخبر المذكور ـ على مدة بقائهما في ملكه.

وأما إذا أخرج إحداهما عن ملكه فقد حلت الأخرى ، ولا يخفى ما فيه من البعد ، فإن ظاهر الرواية الاولى هو أنه مع الجهل لا تحرم عليه مطلقا وإن لم يخرج الثانية عن ملكه.

وما حمل عليه الرواية الثانية ـ من أنه في صورة الجهل حرمتا كلتاهما ما دامتا في الملك ـ يجري في صورة العلم ، فإنهما في صورة العلم ـ التي دلت الرواية الرابعة على أنهما تحرمان معا ـ مخصوص بمدة بقائهما في الملك أيضا فلو أخرج إحداهما عن ملكه فالظاهر أنه لا قائل بالتحريم للباقية ، وحينئذ فلا فرق في هذا الحكم بين صورة العلم والجهل.

وهكذا الكلام فيما حمل عليه الرواية الرابعة حيث قيد حل الاولى مع الجهل بما إذا أخرج الثانية عن ملكه ، فإن هذا الحكم حكم العالم أيضا كما عرفت ، فأي فرق هنا بين العلم والجهل.

وبالجملة فإن الظاهر أنه بإخراج إحداهما عن ملكه لا بقصد الرجوع إلى الأخرى بعد وطئهما معا تحل له الباقية ، سواء كان وطؤ الثانية عن علم أو جهل إذ المحرم هو جمعهما في النكاح والوطي بعقد كان ذلك أو ملك ، وبإخراج إحداهما يزول السبب الموجب للتحريم.

والمسألة عندي هنا محل إشكال لاختلاف الروايتين المذكورتين في صورة الجهل وعدم استقامة جمع الشيخ المذكور لما عرفت فيه من القصور ، ولعله لقصور فهمي السقيم وفتور ذهني العقيم.

٥٣٦

وأما ما دل عليه الخبر التاسع من جواز الجمع بين الأختين على كراهة ، كما يشير إليه قوله «مستقيم ولا أحب لك» فحمله الشيخ على الجمع في الملك دون الوطي وعلل الكراهة بأنه ربما تشوقت نفسه إلى وطئها فيفعل ذلك فيصير مأثوما.

وفيه أنه لم يقم لنا دليل على كراهية الجمع في الملك والحمل عليه يحتاج إلى دليل من خارج ، والظاهر هو أن المراد إنما هو الجمع في الوطي ، ولكن الخبر خرج مخرج التقية كما يظهر من الخبر العاشر والحادي عشر.

وأما ما دل عليه الخبر العاشر من قوله عليه‌السلام «أحلتهما آية وحرمتهما آية» فقال الشيخ «رحمة الله عليه» : عنى بالمحللة آية الملك (١) ، والمحرمة آية الوطي (٢) ، والنهي إما على التحريم وأراد به الوطي أو الكراهة وأراد به الجمع.

والظاهر بعد ما ذكره (قدس‌سره) بل عدم صحته ، لأن الخبر صريح في تعارض الآيتين بحسب الظاهر واتحاد مورد الحكمين ، مع أنه لم يثبت كراهة الجمع في الملك كما عرفت.

والأظهر أن المراد بالآية المحللة إنما هي قوله عزوجل (٣) «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» ، والآية المحرمة قوله تعالى (٤) «وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ» المراد به الجمع في النكاح اتفاقا ، وعليه يدل الخبر الثاني عشر ، فمورد الحل والحرمة ليس إلا الوطي خاصة.

والظاهر أنه إلى هذا أشار في الاستبصار حيث قال بعد الوجه الذي قدمنا

__________________

(١) أما آية الملك فهي قوله «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ».

(٢) وأما آية الوطي فهي قوله عزوجل «وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ».

(منه ـ قدس‌سره ـ).

(٣) سورة المؤمنون ـ آية ٥ و ٦.

(٤) سورة النساء آية ـ ٢٣.

٥٣٧

نقله عنه : ويمكن أن يكون قوله عليه‌السلام «أحلتهما آية» أي عموم الآية وظاهرها يقتضي ذلك ، وكذلك قوله «وحرمتهما آية» أي عموم الآية يقتضي ذلك ، إلا أنه إذا تقابل العمومان على هذا الوجه ينبغي أن يخص أحدهما بالآخر ثم بين بقوله «أنا أنهى عنهما نفسي وولدي» ما يقتضي تخصيص إحدى الآيتين وتبقية الأخرى على عمومها.

وقد روي هذا الوجه عن أبي جعفر عليه‌السلام ، روى ذلك علي بن الحسن بن فضال (١) ثم ساق سنده إلى يحيى بن بسام قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عما يروي الناس عن أمير المؤمنين عليه‌السلام عن أشياء من الفروج لم يكن يأمر بها ولا ينهى عنها إلا نفسه وولده ، فقلت : كيف يكون ذلك؟ قال : أحلتها آية وحرمتها آية أخرى فقلنا : هل الآيتان تكون إحداهما نسخت الأخرى؟ أم هما محكمتان ينبغي أن يعمل بهما؟ فقال : قد بين لهم إذ نهى نفسه وولده قلنا : ما منعه أن يبين ذلك للناس؟ قال : خشي أن لا يطاع ، فلو أن أمير المؤمنين ثبتت قدماه أقام كتاب الله كله والحق كله». انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن في المسألة قولين آخرين شاذين مجهولي القائل ليس في التعرض لذكرهما كثير فائدة لعدم الدليل عليهما ، أشار إليهما المحقق في النافع وذكر في المسالك أيضا أنه لم يعرف القائل بهما ولا نقلهما غير المصنف ، وأن المشهور ـ بين نقلة الخلاف ـ القولان المتقدمان خاصة ، ثم تكلف للاستدلال لهما بما لا يخلو من تكلف وتعسف.

وقال الشيخ في التهذيب (٢) ومتى كان عند الرجل اختان مملوكتان فوطأ إحداهما ثم وطأ الأخرى وهو عالم بأن ذلك حرام عليه ، فإنه يحرم عليه

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٥٥٦ ح ٨ ، التهذيب ج ٧ ص ٤٦٣ ح ٦٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٠١ ح ٨.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٨٩ ذيل ح ٥١.

٥٣٨

الاولى حتى يخرج الأخيرة من ملكه.

ثم استدل عليه بالرواية الثانية والاولى والثالثة ثم قال : ومتى وطأ الثانية وهو لا يعلم تحريم ذلك لم تحرم عليه الاولى ، ثم استدل له بالرواية الرابعة والخامسة ، وذيل الخامسة بما قدمنا نقله عنه ذيلها من التأويل.

وعد شيخنا الشهيد الثاني في المسالك هذا قولا خامسا في المسألة باعتبار إطلاق كلام الشيخ (رحمه‌الله) أن خروج الثانية عن ملكه موجب لتحليل الاولى وإن كان بقصد العود إلى الاولى ، وهو خلاف تفصيله في النهاية.

أقول : ويؤيده أنه في النهاية قيد حل الاولى مع الجهل بإخراج الثانية عن ملكه ، وهنا أطلق ولم يقيده بذلك.

ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن إطلاق الشيخ في عبارته مع وجود هذه القيود في أدلة المذكورة دليل على إرادتها ، وإلا فدليله لا يطابق دعواه ، وبه يبطل القول المذكور لخلوه من الدليل ، فالظاهر هو حمل كلامه على إرادة هذه القيود التي تضمنتها رواياته ، وعلى هذا يرجع إلى قوله المتقدم نقله عن كتاب النهاية.

وكلام شيخنا الشهيد الثاني هنا في المسالك ظاهر في التوقف والاشكال في المسألة ، حيث إنه نقل أخبارها على غير وجهه ، وبعضا طعن في سنده مع صحته فنقل الرواية الثانية بغلط في متنها واعترضها بأنها متهافتة المتن.

ونقل الرواية الرابعة من التهذيب واعترضها بضعف السند ، وأنها بسبب ذلك لا تصلح لتخصيص تلك الأخبار المطلقة ، وغفل عن سندها في الكافي والفقيه ، فإنه صحيح كما قدمنا ذكره ، وحصل له نوع توقف وإشكال في المقام بسبب ذلك ، وهو ناش عن الغفلة في الموضعين.

ثم إنه قال في آخر البحث ونعم ما قال : واعلم أن الأخبار على كثرتها قد اشتركت في الحكم بتحريم الأولى مع علم الواطئ بالتحريم ، فالقول ببقائها على الحل وإطراح جملة هذه الأخبار وإن ضعف طرقها مشكل ، واشتركت أيضا في أن إخراج الثانية لأبنية العود إلى الأولى يحللها ، وهذا أيضا لا شبهة فيه.

٥٣٩

وبقي ما لو أخرج الأولى عن ملكه ، فإنه يحلل الثانية قطعا لزوال المقتضي للتحريم وهو الجمع.

وبقي الإشكال في حل أيتهما كان مع بقائهما على ملكه ، وينبغي التوقف فيه إلى أن يظهر المرجح ، وطريق الاحتياط لا يخفى. انتهى.

أقول : قوله ـ وإن ضعف طريقها ـ مبني على ما نقله في الكتاب المذكور ، وإلا فقد عرفت أن فيها الصحيح والحسن بإبراهيم بن هاشم الذي لا يقصر عن الصحيح والموثق وغيرهما.

وأما قوله ـ وبقي ما لو أخرج الأولى عن ملكه ، فإنه يحلل الثانية قطعا ـ فإن فيه أن هذا ظاهر صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة ، إلا أنه لم ينقلها في المسالك فهو مستفاد من الأخبار حينئذ.

وأما قوله ـ وبقي الإشكال في حل أيتهما إلى آخره ـ فلا يخلو من إشكال فإنك قد عرفت أن الحكم بجمع الأختين في الوطي مما اتفقوا على تحريمه بعقد كان أو ملك ، وقد صرحت الأخبار كما صرحوا به أيضا أنه متى وطأ إحداهما بعد ملكه لهما حرمت عليه الثانية ، وتوجه المنع إليها ، فلا يجوز له وطئوها. للزوم الجمع المنهي عنه ، وعلى هذا فلو وطأهما معا وارتكب المحرم بوطى‌ء الثانية بعد الأولى فإنهما يحرمان عليه معا ما دامتا في ملكه وإن حل تملكها ، إلا أن وطئهما محرم عليه ، فلا يجوز له وطؤ واحدة منهما إلا أن يخرج الأخرى عن ملكه.

فما ذكره من الإشكال ـ في حل أيتهما ما دامتا في ملكه ـ لا أعرف له وجها ، بل الظاهر هو تحريمهما معا ما دامتا في الملك لما وقع عليه الاتفاق نصا وفتوى من تحريم الجمع في النكاح ، وهو يحصل بنكاح إحداهما فإنه يحرم عليه الثانية ، فكيف فيما إذا نكحهما معا تحل له إحداهما حتى أنه يتوقف في أيتهما يعني الأولى أو الثانية.

وبالجملة فإن قضية تحريم الجمع عدم حل واحدة منهما بعد وطئ

٥٤٠