الحدائق الناضرة - ج ٢٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٦

إحداهما فضلا عن وطئهما معا إلا مع إخراج إحداهما عن الملك لزوال سبب التحريم ، والله العالم.

تذنيب :

لو وطأ أمته بالملك ثم تزوج نسبا أو رضاعا ، قال الشيخ : يصح التزويج وتحرم الموطوءة بالملك ما دامت الزوجة في حباله لعموم (١) «وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ» قالوا : وليس مطلق الجمع بين الأختين محرما ، فإن اجتمعتا في الملك ليس محرما قطعا وإن كان الملك يجوز الوطي ، ولأن النكاح أقوى من الوطي بملك اليمين فإذا اجتمعتا قدم الأقوى ، وإنما كان أقوى لكثرة ما يتعلق به من الأحكام التي لا تلحق الوطي بالملك ، مضافا إلى أن الغرض من الملك المالية فلا ينافي النكاح ، فعلى هذا تحرم الموطوءة بالملك ما دامت الثانية زوجته.

وظاهر المحقق في الشرائع التردد في ذلك ، قال في المسالك : ووجهه أن الوطي يصير الأمة فراشا للحوق الولد به ، فلم يجز أن يرد النكاح على فراش الأخت ، كما لا يرد نكاح الأخت على نكاح أختها ، ولأنه فعل في الأخت ما ينافي إباحة أختها المفترشة ، فلم يجز كالوطئ ثم قال : وأجيب ببطلان القياس مع وجود الفارق فإن النكاح أقوى من الوطي بملك اليمين.

أقول : لا يخفى ما في هذه التعليلات العليلة من الوهن ، وعدم الصلاح لتأسيس الحكم الشرعي ، والمستفاد من الأدلة هو تحريم الجمع بين الأختين في الوطي بعقد نكاح كان أو ملك ، أعم من أن تستوي الأختان في الأول أو الثاني أو تختلفا كما هو محل البحث.

وتعليل تقديم النكاح على الملك ـ بما ذكروه من أن النكاح أقوى لكثرة ما يتعلق به من الأحكام ـ مجرد دعوى لا تسمع إلا مع الدليل ، فإن الأحكام

__________________

(١) سورة النساء ـ آية ٢٤.

٥٤١

الشرعية مبنية على التوقيف بالسماع من حامل الشريعة ، ولا تثبت على مجرد هذه الخيالات العقلية والتخرصات الوهمية.

فكما أنه لو جمع بينهما في العقد حرمتا جميعا على التفصيل المتقدم ، وكذا لو جمعهما في نكاح الملك فكذا هنا ، هذا مقتضى الأصول والقواعد الشرعية وأما الاستناد إلى الآية فقد عرفت أنها مخصصة بما لا تحصى من الأحكام ، فالاعتماد في الاستدلال على مثل ذلك مجازفة.

ثم قال في المسالك أيضا على أثر الكلام المتقدم : ولو انعكس الفرض بأن تزوج الأمة ثم ملك أختها ووطأها فعل حراما ، ولم يقدح ذلك في صحة النكاح ، ولا يجب إخراج الموطوءة عن ملكه ، للأصل ، ولأن الأقوى يدفع الأضعف. انتهى.

أقول : لا ريب في صحة النكاح هنا لوقوعه أولا كما لو تزوج الأختين مرتبا ، فإنا قد قدمنا أن عقد الاولى صحيح ، لكن يبقى الإشكال في ملك الأخت الثانية ووطئها ، فهل يجب به إخراجها عن ملكه ، كما يجب في المملوكتين لتحل الاولى له ويجوز له وطئوها وإلا للزم الجمع المحرم ، أو لا يجب وإن حرم وطئوها بناء على أن الوطي في الأمة بمنزلة العقد في الحرمة.

وتوضيحه : أنك قد عرفت أنه لا يمتنع الجمع بين الأختين في الملك ، وإنما يمتنع في الوطي به ، فلو ملكهما معا فلا إشكال ، ولو وطئ إحداهما حصل تحريم الجمع بخلاف الحرة ، فإن الممتنع هو الجمع في العقد ، والجمع في الوطي في الإماء كالجمع بالعقد في الحرائر ، فكما أن الحرة تحل أختها بطلاقها المزيل للعقد المحرم ، فالأمة تحل أختها بترك وطئها المنزل منزلة العقد وإن لم يخرجها عن الملك ، فإنه بترك الوطي تكون مملوكة غير فراش ، والجمع في الملك غير محرم وكيف كان فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال ، والله العالم.

المسألة الثالثة : هل يجوز الجمع بين اثنين من ولد فاطمة عليهما‌السلام أم لا؟ أقول : هذه المسألة لم يحدث فيها الكلام إلا في هذه الأعصار الأخيرة ، وإلا فكلام

٥٤٢

المتقدمين من أصحابنا (رضوان الله عليهم) والمتأخرين خال من ذكرها والتعرض لها ، وقد اختلف فيها الكلام وكثر فيها النقض والإبرام بين علماء عصرنا ومن تقدمه قليلا ، فما بين من جزم بالتحريم ، ومن جزم بالحل ، ومن توقف في ذلك.

والأصل في هذه المسألة ما رواه الشيخ في التهذيب عن علي بن الحسن بن فضال عن السندي بن الربيع عن ابن أبي عمير (١) عن رجل من أصحابنا قال : «سمعته يقول لا يحل لأحد أن يجمع بين ثنتين من ولد فاطمة عليها‌السلام أن ذلك يبلغها فيشق عليها ، قلت : يبلغها؟ قال : أي والله».

ورواه الصدوق في كتاب العلل عن محمد بن على ماجيلويه عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن حماد (٢) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : الحديث».

فممن جزم بالتحريم في هذه المسألة المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (عطر الله مرقده) والشيخ الفقيه الشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني (قدس الله روحه) على ما وجدته بخط والدي (طيب الله تعالى مرقده) حيث قال بعد نقل هذا الخبر برواية الصدوق : قد نقل هذا الحديث بهذا السند الفقيه النبيه الشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني (قدس‌سره) وقال عقيب ذكره ما صورته : يقول كاتب هذه الأحرف جعفر بن كمال الدين البحراني : هذا الحديث صحيح ولا معارض له فيجوز أن يخصص به عموم القرآن ، ويكون الجمع بين الشريفتين من ولد الحسن والحسين عليهما‌السلام في النكاح حراما. انتهى. كلامه (قدس‌سره).

وهذا الحديث ذكره الشيخ في التهذيب أيضا إلا أن سنده فيه غير صحيح. وهذا الشيخ كما ترى قد نقله بهذا السند الصحيح على الظاهر ، ولا نعلم من أين

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٤٦٣ ح ٦٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٨٧ ح ١.

(٢) علل الشرائع ج ٢ ص ٥٩٠ ب ٣٨٥ ، من نوادر العلل ح ٣٨.

٥٤٣

أخذه (قدس‌سره) ولكن كفى به ناقلا. وكتب الفقير أحمد بن إبراهيم. انتهى كلام والدي (طيب الله ثراه وجعل الجنة مثواه).

وأقول : إنه قد أخذه من كتاب العلل ، ولكن الوالد لم يطلع عليه وليته كان حيا فأهديه إليه ، وممن مال إلى العمل بالخبر المذكور المحدث الفاضل المولى محمد جعفر الأصفهاني المشهور بالكرباسي صاحب الحواشي على كتاب الكفاية ذكر ذلك في كتاب النوادر حيث قال ـ بعد نقل الخبر المذكور بطريقي الشيخين المذكورين ـ ما هذا لفظه : أقول : فيه دلالة على عدم جواز الجمع بين ثنتين من ولد فاطمة عليها‌السلام ولم أجد معارضا لها حتى يحمل ذلك على الكراهة ، وظاهرها حرمة الجمع ، والأحوط ترك الجمع وتخصيص العمومات بها ، إلا أنه لا بد من العلم بكونهما من ولد فاطمة عليها‌السلام. انتهى.

وأما شيخنا علامة الزمان ونادر الأوان الشيخ سليمان البحراني (قدس‌سره) فقد اختلف النقل عنه في هذه المسألة ، فإني وجدت بخط بعض الفضلاء الموثوق بهم نقلا من خطه (عطر الله مرقده) بعد نقل الخبر المذكور ما صورته : ومال إلى العمل به بعض مشايخنا وهو متجه لجواز تخصيص عمومات الكتاب بالخبر الواحد الصحيح ، وإن توقفنا في المسألة الأصولية ، ولا كلام في شدة المرجوحية وشدة الكراهة انتهى.

ونقل تلميذه المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح (عطر الله مرقده) في كتاب منية الممارسين في أجوبة مسائل الشيخ ياسين عنه التوقف ، حيث قال بعد ذكر المسألة المذكورة : وكان شيخنا علامة الزمان يتوقف في هذه المسألة ويأمر بالاحتياط فيها حتى إني سمعت من ثقة من أصحابنا أنه أمره بطلاق واحدة من نسائه لأنه كانت تحته فاطميتان ، ونقل عنه أنه يرى التحريم إلا أني لم أعرف منه غير التوقف.

ثم قال (قدس‌سره) بعد كلام في البين : إلا أني بعد في نوع حيرة واضطراب

٥٤٤

ودغدغة وارتياب فانا في المسألة متوقف والاحتياط عندي لازم.

وقد سألني بعض الاخوان المتورعين عن هذه المسألة سابقا وكان مبتلى بها حيث إنه جامع بين فاطميتين فكتبت له جوابا يشعر بالتوقف والأمر بالاحتياط ، فامتثل ما كتبته وطلق واحدة ، ولا شك أن هذا طريق السلامة والسلوك في مسالك الاستقامة ، نسأل الله الوقوف عند الشبهات والتثبت عند الزلات. انتهى.

أقول : أما ما نقله عن شيخه العلامة من التوقف فإنه لا ينافي الجزم عنه بالتحريم كما نقلناه ونقله هو عن ذلك الرجل لجواز أن يكون صار إلى التحريم بعد التوقف أو بالعكس ، وما ذهب إليه هو (قدس‌سره) من التوقف فإنما أراد في الفتوى بالتحريم وإن كان يقول بتحريم الجمع من حيث الاحتياط كما أشار إليه بقوله : والاحتياط عندي فيها لازم.

وذلك لأن الأحكام عند أصحابنا الأخباريين ثلاثة ، حلال بين ، وحرام بين ، وشبهات بين ذلك ، والحكم عندهم في موضع الشبهة وجوب الاحتياط ، وليس الفرق بينه وبين من قدمنا نقل القول عنه بالتحريم إلا من حيث المستند ، وإلا فالجميع متفقون على تحريم الجمع في المسألة.

والظاهر أن منشأ توقف شيخنا المذكور عدم وقوفه على رواية الصدوق للخبر في العلل بالسند الصحيح المذكور ، فإنه إنما نقل الخبر برواية الشيخ وأطال الكلام في سنده نقضا وإبراما لأجل إثبات صحته بطريق المتأخرين إلا أنه (قدس‌سره) من متصلبي الأخباريين لا يرى العمل بهذا الاصطلاح المحدث ، فتوقفه هنا غريب لا أعرف له وجها وجيها.

ولبعض الأفاضل المعاصرين (١) اعتراضات عديدة على كلامه في كتاب منية الممارسين قد أجاد فيها بما أدس ، وهو كلام طويل واسع لا يسع المقام نقله إلا

__________________

(١) هو الفاضل المحقق السيد عبد الله بن السيد نور الدين السيد نعمة الله الشوشتري الجزائري قدس الله أسرارهم جميعا) في أجوبة المسائل الجبلية. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٥٤٥

أنه قال في آخره ـ بعد نقل الرواية بطريق الصدوق في العلل والكلام في السند ـ ما ملخصه. والصحيح أنه من الصحيح ، مأخوذا من كتاب ابن أبي عمير أو من تأخر عنه ، وعلى هذا فيلزم على المجتهدين العاملين بالآحاد الصحاح العمل بها ، إلا من قصر العمل على الكتب الأربعة فيبقى الإلزام على العاملين بما عداها من الكتب المشهورة مثل شيخنا البهائي (رحمه‌الله عليه) وموافقيه.

وكذا يلزم العمل بها على هذا الفاضل ومن وافقه في جواز تخصيص الكتاب والسنة بخبر الواحد الصحيح ، كما صرح به فيما تقدم ، فلا وجه لتوقفه في الحكم ، وهل هذا إلا تسليم للقياس ومنع للنتيجة.

قوله ـ فالشيخ محمد الحر جار على أصله ـ كلام مقبول ، لكني لا أعلم ما الذي ثبط (١) هذا الفاضل عن موافقته ، مع أنه يحذو حذوه في أكثر الأبواب الأصلية والفرعية؟ ثم ما الذي أرجع الشيخ محمد الحر عن فتياه هذه في وسائل الشيعة؟ حيث تصدى لتأويل الرواية فقال بعد ما نقلها : قد ورد حصر المحرمات في النكاح وإباحة ما عداها في القرآن والحديث ، وهذا يمكن أن يحمل على كون البنتين أختين ، أو على الكراهة مع الجور عليهما أو على إحداهما في القسم ، لتعليله أنه يشق على فاطمة عليها‌السلام بعد الموت وذلك بحسب الطينة البشرية في النساء ولم يذكر أنه يؤذيها ، بل هو أعم ، ولم يذكر أنه يشق على الرسول والأئمة (صلوات الله عليهم) ، وذلك لا يدل على التحريم مع ما تقدم ومع القرينة. انتهى كلامه.

أقول : إلى هنا كلام الفاضل المشار إليه آنفا وهو جيد وجيه كما سيظهر لك إن شاء الله بما لا يخفى على الفطق النبيه ، وهو ظاهر بل صريح في قوله بالخبر المذكور ، إلا أن ما نقله ـ عن الشيخ محمد الحر ـ من الكلام الدال على رجوعه ، وتأويله

__________________

(١) ثبطه عن الأمر وثبطه تثبيطا : قعد به عن الأمر وشغله عنه ومنعه تخذيلا ونحوه (المصباح المنير ج ١ ص ١١٠).

٥٤٦

الخبر بما ذكره ـ عجب عجيب فإن نسخ الوسائل التي عندنا خالية من ذلك وإنما الذي فيه أنه قال : باب حكم الجمع بين ثنتين من ولد فاطمة عليها‌السلام ، ثم نقل الرواية بطريق الشيخ ، ثم قال : محمد بن علي بن الحسين في العلل عن محمد ابن علي ماجيلويه ، ثم ساق السند إلى حماد كما تقدم ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول ، وذكر مثله.

هذا صورة ما في كتاب الوسائل الذي حضرني ، والظاهر أن ما نقله الفاضل المذكور حاشية كتبت على الكتاب المذكور لبعض الناظرين في الجواب ، فظن أنها من أصل الكتاب ، أو نسخها الناسخ بناء على ذلك فليراجع الكتاب من أحب الوقوف على تحقيق الحال.

ثم أقول : والظاهر من نقل الصدوق الخبر المذكور وجموده عليه وعدم تعرضه للقدح هو القول بمضمونه ، كما هو المعهود من طريقته والمألوف من عادته وإن كان ذكره هنا إنما هو من حيث الاشتمال على العلة بالمشقة في المنع ، فإن المعلوم من عادته في كتبه ومصنفاته أنه لا ينقل من الأخبار إلا ما يعتمده ويحكم بصحته متنا وسندا ويفتي به.

وإذا أورد ما هو بخلاف ذلك نبه على العلة فيه وذيله بما يشعر بالطعن في متنه أو سنده ، وهذا المعنى وإن لم يصرح به إلا في الفقيه ، إلا إن المتتبع لكتبه ومؤلفاته والناظر في جملة مصنفاته لا يخفى عليه صحة ما ذكرناه ، وحيث إن هذا الكلام مما يكبر في صدور القاصرين سيما المعاصرين فيقابلونه بالإنكار والصد والاستكبار ، فلا بأس لو أرخينا العنان للقلم في الجري في هذا الميدان بنقل جملة من المواضع الدالة على ما ذكرناه ساعة من الزمان وإن طال به زمام الكلام ، فإنه أهم المهام.

فنقول : من المواضع المذكورة ما صرح به في باب العلة التي من أجلها حرم على الرجل جارية ابنه وأحل له جارية ابنته (١) ، فإنه أورد خبرا يطابق

__________________

(١) العلل ص ٥٢٥ ب ٣٠٣ طبع النجف الأشرف ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٤٥ ح ٨.

٥٤٧

هذا العنوان ، ويدل على جواز نكاح جارية الابنة لأن الابنة لا تنكح ، ثم قال عقيبه ، قال مؤلف هذا الكتاب وساق الكلام إلى أن قال : والذي أفتى به أن جارية الابنة لا يجوز للأب أن يدخل بها.

ومنها في باب علة تحصين الأمة الحر (١) فإنه أورد خبرا يدل على أن الأمة يحصل بها الإحصان ، ثم قال بعده قال : محمد بن علي رضي‌الله‌عنه مصنف هذا الكتاب : جاء هذا الحديث هكذا فأوردته كما جاء في هذا الموضع لما فيه من ذكر العلة ، والذي أفتى به واعتمد عليه ما حدثني به محمد بن الحسن ثم ساق جملة من الأخبار الدالة على أن الحر لا تحصنه المملوكة.

ومنها في باب العلة التي من أجلها صار وقت المغرب إذا ذهب الحمرة من المشرق (٢) ثم أورد الخبر بذلك ، ثم أردفه بأخبار دالة على التحديد بغروب الشمس وغيبوبة القرص ، ثم قال : قال محمد بن على مؤلف الكتاب : إنما أوردت هذه الأخبار على أثر الخبر الذي في أول هذا الباب ، لأن الخبر احتجت في هذا المكان لما فيه من ذكر العلة ، وليس هو الذي أقصده من الأخبار التي رؤيتها في هذا المعنى ، وأوردت ما أقصده وأستعمله وأفتي به على أثره ، ليعلم ما أقصده من ذلك.

ومنها في باب علة منع شرب الخمر في حال الاضطرار (٣) ، فإنه أورد خبرا يدل على أن المضطر لا يجوز له أن يشرب الخمر ، وقال بعده : قال محمد بن علي بن الحسين مصنف هذا الكتاب : جاء هذا الحديث هكذا كما أوردته ، وشرب الخمر في حال الاضطرار مباح الى آخر كلامه.

ومنها في باب العلة التي من أجلها جعلت أيام منى ثلاثة أيام (٤) فإنه أورد

__________________

(١) العلل ص ٥١١ ب ٢٨٥ طبع النجف الأشرف ، الوسائل ج ١٨ ص ٣٥٢ ح ٢.

(٢) العلل ص ٥٤٩ ب ٦٠ طبع النجف الأشرف ، الوسائل ج ٣ ص ١٢٦ ح ٣.

(٣) العلل ص ٤٧٨ ب ٢٢٧ طبع النجف الأشرف ، الوسائل ج ١٧ ص ٢٧٧ ح ١٣.

(٤) العلل ص ٤٥٠ ب ٢٠٤ طبع النجف الأشرف ، الوسائل ج ٩ ص ٥٨ ح ٧.

٥٤٨

حديثا يدل على أن من أدرك شيئا من أيام منى فقد أدرك الحج ، ثم قال : قال محمد بن علي مصنف هذا الكتاب جاء هذا الحديث هكذا ، فأوردته في هذا الموضع لما فيه من ذكر العلة ، والذي أفتي به وأعتمده ما حدثنا به شيخنا محمد بن الحسن ، ثم ساق الخبر بما يدل على تخصيص إدراك الحج بإدراك المشعر قبل الزوال ، وعرفة قبل الزوال.

ومنها في باب العلة التي من أجلها تجزئ البدنة عن نفس واحدة ، وتجزى البقرة عن خمسة ، (١) فإنه أورد خبرا بهذا المضمون ، ثم قال بعده : قال مصنف هذا الكتاب : جاء هذا الحديث هكذا فأوردته لما جاء فيه من ذكر العلة ، والذي أفتي به وأعتمد به وأن البقرة والبدنة يجزيان عن سبعة نفر إلى آخره.

ومنها في حديث ورد فيه أن من بر الولد أن لا يصوم تطوعا ولا يحج تطوعا ولا يصلي تطوعا إلا بإذن أبويه ، وإلا كان قاطعا للرحم ، (٢) ثم قال بعده : قال محمد بن علي مؤلف هذا الكتاب : جاء هذا الخبر هكذا ، ولكن ليس للوالدين على الولد طاعة في ترك الحج تطوعا كان أو فريضة إلى آخره.

ونحو ذلك في باب العلة التي من أجلها لا يجوز السجود إلا على الأرض أو ما أنبتت ، (٣) وفي باب العلة التي من أجلها قال هارون لموسى عليهما‌السلام : «يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي» (٤) إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع ، فكلامه ذيل هذه الأخبار وسكوته في سائر المواضع أدل دليل على ما قلناه.

__________________

(١) العلل ص ٤٤٠ ب ١٨٤ طبع النجف الأشرف ، الوسائل ج ١٠ ص ١١٦ ح ١٨.

(٢) العلل ص ٣٨٥ باختلاف يسير طبع النجف الأشرف ، الوسائل ج ٧ ص ٣٩٦ ح ٢.

(٣) العلل ص ٣٤١ ب ٤٢ طبع النجف الأشرف ، الوسائل ج ٣ ص ٥٩١ ح ١.

(٤) العلل ص ٦٨ ب ٥٨ طبع النجف الأشرف.

٥٤٩

ومنها أنه قال في كتاب عيون أخبار الرضا (١) بعد نقل حديث في سنده محمد بن عبد الله المسمعي ما صورته : قال مصنف هذا الكتاب : كان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي‌الله‌عنه سيئ الرأي في محمد بن عبد الله المسمعي راوي هذا الحديث ، وإنما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب لأنه كان في كتاب الرحمة وقد قرأته عليه فلم ينكره ورواه لي. انتهي.

أقول : وهذا الكلام ظاهر بل صريح في أنه لا يخرج شيئا من الأخبار في كتبه إلا وهو صحيح عنده لا يعتريه في صحته شك ولا شبهة ، ومتى كان غير ذلك نبه عليه ذيل الخبر.

ومنها ما في الفقيه (٢) في باب من أفطر أو جامع في شهر رمضان بعد أن أورد خبرا يتضمن أن من جامع امرأته وهو صائم وهي صائمة أنه إن كان أكرهها فعليه كفارتان وإن كان طاوعته فعليه كفارة ما صورته : قال مصنف هذا الكتاب : لم أجد ذلك في شي‌ء من الأصول ، وإنما تفرد بروايته علي بن إبراهيم بن هاشم.

ومنها في كتاب الغيبة بعد أن أورد حديثا عن أحمد بن زياد قال : قال مصنف هذا الكتاب لم أسمع هذا الحديث إلا من أحمد بن زياد بعد منصرفي من حج بيت الله الحرام ، وكان رجلا ثقة دينا ، إلى آخره.

ومنها في الكتاب المذكور بعد نقل حديث عن علي بن عبد الله الوراق قال : قال مصنف هذا الكتاب : لم أسمع هذا الحديث إلا عن علي بن عبد الله الوراق ، ووجدته بخطه مثبتا فسألته عنه فرواه لي عن سعد بن عبد الله عن أحمد ابن إسحاق كما ذكرته.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٠ طبع النجف الأشرف ، الوسائل ج ١٨ ص ٨١ ح ٢١.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٢٤٢ ح ١٢ ، التهذيب ج ١٠ ص ١٤٥ ح ٥ ، الفقيه ج ٢ ص ٧٣ ح ٦ ، الوسائل ج ٧ ص ٣٧ ب ١٢ ح ١.

٥٥٠

وفي هذه المواضع الثلاثة دلالة على أن جميع أخباره التي ينقلها ساكتا عليها موجودة في الأصول العديدة ثابتة الصحة عنده مروية من طرق عديدة ، وإذا ضممت هذه المواضع بعضا إلى بعض عرفت أن نقله لهذا الخبر وكذا غيره من الأخبار التي يجمد عليها ليس إلا لأنها صحيحة صريحة معمول عليها عنده ومعتمد عليها لديه.

ثم أقول : ظاهر الشيخ القول بهذا الخبر ونحوه وإن لم يصرح بالحكم بخصوصه ، حيث إنه في كتاب العدة وصدر كتاب الاستبصار قد صرح بأن الخبر إذا لم يكن متواترا أو تعرى عن إحدى القرائن الملحقة له بالتواتر فإنه خبر واحد ، ويجوز العمل به إذا لم يعارضه خبر آخر ولم يعلم فتوى الأصحاب على خلافه ، وهذا الخبر كما ترى ليس له معارض فيما دل عليه ، ولم يقع من أحد من الأصحاب فتوى بخلافه فيجوز العمل به حينئذ.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن المانع من هذا الحكم إما أن يتطرق نزاعه إلى سند الخبر المذكور أو متنه ، فأما السند فالكلام فيه مفروع منه على رأينا في عدم العمل بهذا الاصطلاح المحدث ، ومع التسليم فإن الرواية صحيحة بنقل الصدوق كما هو المشهور بين الأصحاب من عد أخبار هؤلاء المذكورين في الصحيح ، عن أبان بن عثمان الذي ربما ناقش في صحة خبره من لا يلتفت إليه ولا يعول عليه كما لا يخفى على الممارس ، ومحمد بن علي ماجيلويه الذي هو من عمد مشايخ الإجازة وقد عد حديثهما في الصحيح العلامة وغيره في غير موضع.

وأما متن الخبر فإنه لا يخفى أن قوله ـ لا يحل من الألفاظ الصريحة في التحريم ـ إذ هو المتبادر منه عند الإطلاق والتبادر إمارة الحقيقة ، كما صرح به محققو الأصوليين ، ويؤكده التعليل بالمشقة ، وأن ذلك يشق عليها (صلوات الله عليها) ، ومن الظاهر البين أن الأمر الذي يشق عليها يؤذيها ، وإيذاؤها محرم بالاتفاق ، لأنه إيذاء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالخبر المتفق عليه بين الخاصة

٥٥١

والعامة «فاطمة بضعة مني ، يؤذيني ما يؤذيها» (١).

ولو قيل : إن لفظ «لا يحل» قد ورد في مواضع عديدة بمعنى الكراهة ، فلا يكون نصا في التحريم لما رواه الكليني والصدوق (٢) «عطر الله مرقديهما» عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله «قال : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تدع عانتها فوق عشرين يوما». مع أن ذلك غير واجب بالإجماع.

وحينئذ فيمكن حمل الخبر المذكور على ذلك ، وإذا قام الاحتمال بطل الاستدلال كما ذكروه ، ولفظ «المشقة» لا يستلزم الإيذاء ، وحينئذ فلا ينهض الخبر دليلا على التحريم.

قلنا : لا يخفى عن الفطن ـ اللبيت والموفق المصيب ومن أخذ القواعد الشرعية والضوابط المرعية بأدنى نصيب ـ أن الواجب هو حمل الألفاظ على حقائقها متى أطلقت ، وإنما تحمل على مجازاتها بالقرائن الحالية أو المقالية لا بمجرد التخرص والتخمين ، إذ لو ساغ ذلك لبطلت جملة القواعد الشرعية ، واختلت تلك الأحكام النبوية ، ومن الظاهر لمتتبع الأحكام أن لفظ «لا يحل» من الألفاظ الصريحة في التحريم حيثما يطلق إلا مع قرينة خلافه.

ومن أمثلته القرآنية قوله تعالى «لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً (٣)» وقوله «لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ» (٤) وقوله «فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» (٥) وقوله «لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ» (٦).

__________________

(١) العلل ص ١٨٦ طبع النجف الأشرف؟ اما الأحاديث العامة فراجع الغدير ج ٧ ص ٢٣١.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٥٠٦ ح ١١ ، الفقيه ج ١ ص ٦٧ ح ٣٦ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٣٩ ح ١.

(٣) سورة النساء ـ آية ١٩.

(٤) سورة الأحزاب ـ آية ٥٢.

(٥) سورة البقرة ـ آية ٢٣٠.

(٦) سورة الممتحنة ـ آية ١٠.

٥٥٢

وأما السنة فأكثر من أن يأتي عليه قلم الإحصاء أو يدخله العد والاستقصاء والعرف العام والخاص من أقوى الدلائل التي لا يناضلها مناضل.

وأما حديث العانة فإن الحمل على الكراهة إنما وقع من حيث القرينة الدالة على ذلك ، وهي أولا ما دل على استحباب حلقها من الأخبار والإجماع وأن تركها مكروه.

وثانيا قوله في الخبر «مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» فإنه يؤذن بأن ترك العانة المدة المذكورة مناف لكمال الايمان ، وهذا معنى الكراهة والقرينة موجودة في الخبر.

وأما قوله ـ وإذا قام الاحتمال بطل الاستدلال ـ فكلام شعري وإلزام جدلي ، وتخريج سوفسطائي لا يصح النظر إليه ولا التصريح في مقام التحقيق عليه ، وإلا لانسد بذلك باب الاستدلال واتسعت دائرة القيل والقال ، وانفتح باب الخصام والجدال ، إذ لا قول إلا ولقائل فيه مقال ، ولا دليل إلا وللمنازع فيه مجال فإن باب المجاز أوسع من أن ينتهي إلى حد أو يدخل أفراده الحصر والعد وإن تفاوتت قربا وبعدا وظهورا وخفاء ، وللزم بذلك انسداد باب إثبات الصانع والنبوة والإمامة ، وقامت الحجة لأصحاب الملل والمخالفين فيما يبدونه من التأويلات في الأدلة التي تقيمها الشيعة والبراهين ، بل الحق الحقيق بالقبول هو ما صرح به جملة من علماء الأصول من أن المدار في الاستدلال على النص والظاهر ، ولا يلتفت إلى الاحتمال في مقابلة شي‌ء منها.

نعم ربما يصار إليه في مقام تعارض الأدلة وأرجحية المعارض فإنه يرتكب التأويل والاحتمال جمعا بين الأدلة وإن كان خلاف الظاهر كما هو مطرد بينهم.

وأما قوله ـ إن لفظ المشقة لا يستلزم الإيذاء ـ فهو كلام ناش عن عدم التأمل في المقام والتدبر لما ذكره العلماء الاعلام في هذا المقام فإنه لا يخفى أن المشقة لغة بمعنى الثقل والشدة والصعوبة فيقال أمر شاق : أي شديد ثقيل صعب.

٥٥٣

وقال في القاموس (١) : شق عليه الأمر شقا صعب ، وقال ابن الأثير في النهاية (٢) وفيه «لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء» : أي لو لا أن أثقل عليهم من المشقة وهي الشدة.

وقال المفسرون في قوله عزوجل «وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ» (٣) : أي لأحملك من الأمر ما يشتد عليك.

وقال الهروي في كتاب الغربيين : قوله تعالى (٤) «لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» قال قتادة : أي بجهد النفس.

أقول : وإن كانت المشقة كما ذكره هؤلاء الأعلام عبارة عن هذا المعنى وهو الذي ذكروه ، وهو ما يصعب تحمله ويشتد على النفس تحمله والقيام به ويبلغ به الجهد ، فكيف لا تكون مستلزما للأذى ، مع أن الأذى إنما هو الضرر اليسير كما صرح به في القاموس مثل التهديد والغيبة ونحو ذلك.

وقد صرح المفسرون في قوله سبحانه (٥) «لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلّا أَذىً» أي ضررا يسيرا ، وعلى هذا فيكون الأذى إنما هو أقل مراتب المشقة ، فكيف لا تكون لازما للمشقة؟ وهل يشك عاقل في أن من وقع في شدة وأمر صعب لا يتأذى بذلك؟ ولكن من منع ذلك إنما بنى على مقتضى هواه وعقله بغير ارتياب ، من غير مراجعة لكلام العلماء في هذا الباب فضل عن سواء الطريق وأوقع نفسه وغيره في لجج المضيق.

لا يقال : هذا الخبر قد روته العلماء في كتبهم واطلع عليه الفضلاء منهم

__________________

(١) قاموس المحيط ج ٣ ص ٢٥٨.

(٢) النهاية ج ٢ ص ٤٩١.

(٣) سورة القصص ـ آية ٢٧.

(٤) سورة النحل ـ آية ٧.

(٥) سورة آل عمران آية ـ ١١١.

٥٥٤

ولم يصرح أحدهم بما دل عليه من هذا الحكم في محرمات النكاح من الكتب الفروعية كما صرحتم به ، بل أعرضوا عن التعرض له بالكلية ، ولو كان ذلك حقا لذكروه وفي مصنفاتهم سطروه.

لأنا نقول : هذا القائل إما أن يسلم ما ذكرناه من صحة الخبر وصراحته كما نقوله أم لا؟ وعلى الثاني يكون الكلام معه في إثبات الدليل وصحته وصراحته ، وهذا خارج عن موضع السؤال فلا وجه لهذا السؤال حينئذ ، وعلى الأول فإن كلامه هذا مردود بما صرح به غير واحد من العلماء المحققين ، منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك في غير موضع من الكتاب المذكور من جواز مخالفة الفقيه لما يدعونه من الإجماع إذا قام الدليل على خلافه ، فكيف لو لم يكن ثمة إجماع ولا قائل بخلافه بالكلية ، فإنه قال في مسألة ما لو أوصى له بأبيه فقبل الوصية بعد الطعن في الإجماع : وبهذا يظهر جواز مخالفة الفقيه المتأخر لغيره إذا قام له الدليل على ما يقتضي خلافهم ، وقد اتفق ذلك لهم كثيرا ، ولكن زلة المتقدم متسامحة بين الناس دون المتأخرين. انتهى.

وقد قدمنا كلامه بطوله في كتاب الوصايا ، وحينئذ فإذا شاع مخالفتهم في المسائل الإجماعية مع أن الإجماع عندهم أحد الأدلة الشرعية متى قام الدليل على خلاف ذلك الإجماع ، فكيف لا يجوز القول بما لم يتعرضوا له نفيا ولا إثباتا إذا قام الدليل عليه ، ومجرد رؤيتهم الخبر وروايتهم الخبر وروايتهم له في كتب الأخبار مع عدم ذكرهم حكمه في الكتب الفروعية لا يصلح لأن يكون دليلا على رد ذلك الخبر ولا ضعفه ، مع عدم تصريحهم بالرد والتضعيف وبيان الوجه فيه ، فكم خبر رووه ولم يتعرضوا للتنبيه على حكمه في الكتب الفروعية ، وهل هذا الكلام إلا مجرد تمويه على ضعفة العقول ، ومن ليس له قدم ثابت في معقول ومنقول.

على أنه لا يشترط عندنا في الفتوى بحكم من الأحكام تقدم قائل به من

٥٥٥

متقدمي العلماء الأعلام ، كما صرح به جملة من محققي أصحابنا ، وإن ادعاه شذوذ منهم.

نعم المشهور بينهم اشتراط عدم مخالفة الإجماع على ما عرفت فيه من عدم ما يوجب الالتفات إليه والسماع ، وكيف ولو تم هذا الشرط لما اتسعت دائرة الخلاف وتعدد الأقوال في المسائل الشرعية على ما هي عليه الآن ، كما لا يخفى على ذوي الإنصاف ، حتى أنك لا تجد حكما من الأحكام إلا وقد تعددت فيه أقوالهم كما لا يخفى على من راجع كتاب المختلف ، وهذه الأقوال كلها تجددت بتجدد العلماء عصرا بعد عصر.

وقد نقل بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) انحصار الفتوى زمن الشيخ (رحمة الله عليه) فيه ، وكذا ما بعد زمانه ولم يبق إلا حاك عنه وناقل ، حتى انتهت النوبة إلى ابن إدريس ففتح باب الطعن على الشيخ والخلاف له ، ثم اتسع الباب وانتشر الخلاف ، فإذا كان الأمر كذلك فكيف استجاز هذا القائل المنع من الفتوى بشي‌ء لم يتعرض له الأصحاب نفيا ولا إثباتا إذا قام الدليل الشرعي عليه ، هذا.

وممن جرى على هذا المنوال الذي جرينا عليه في هذا المقال المحدث الكاشاني (قدس‌سره) فإنه صرح في المفاتيح بتحريم كتابة القرآن على المحدث لصحيحة علي بن جعفر أن أخيه (١) موسى عليه‌السلام «أنه سأله عن الرجل أيحل له أن يكتب القرآن في الألواح والصحيفة وهو على غير وضوء؟ قال : لا».

مع اعترافه بأنه لم يجد به قائلا ، وهذه الرواية التي أفتى بمضمونها وأعتمد عليها بمرأى ومنظر من العلماء قبله ، مع أنه لم يصرح أحد بما دلت عليه ولم يقل بما دلت عليه قائل ، ولم ير ما ذكره هذا القائل مانعا له عن القول بما دلت عليه ، ولا موجبا للطعن على القائل المذكور بما ذهب إليه.

وهذا المحدث الأمين الأسترآبادي (عطر الله مرقده) في حواشيه على

__________________

(١) البحار ج ١٠ ص ٢٧٧ ط جديد ، التهذيب ج ١ ص ١٢٧ ح ٣٦ ، الوسائل ج ١ ص ٢٧٠ ح ٤.

٥٥٦

كتاب المدارك على ما وجدته بخطه صرح بعدم العفو عن نجاسة دم الغير وإن كان أقل من درهم ، إلحاقا له بدم الحيض ، لمرفوعة البرقي (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «دمك أنظف من دم غيرك ، إذا كان في ثوبك شبه النضح من دمك فلا بأس ، وإن كان من دم غيرك قليلا كان أو كثيرا فاغسله».

ولم يقل بمضمون هذه الرواية أحد قبله مع أن الرواية مذكورة في كتب الأصحاب إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع الماهر والخبير الباهر.

فإن قيل : إن عمومات الآيات مثل قوله سبحانه «وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ» (٢) وقوله «وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ» (٣) وقوله «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» (٤) وكذلك عمومات السنة مخالفة لهذا الخبر ، وهو قاصر عن معارضتها ، والعمل عليها أرجح ، والقول بها أولى.

قلنا : هذا القائل أيضا إما أن يوافقنا على صحة هذا الخبر وصراحته فيما ندعيه أو لا؟ وعلى الثاني فكلامه هذا لا وجه له ، بل الواجب عليه أن يقول هذا الخبر غير صحيح ولا صريح فيما تدعونه فيكون محل البحث هنا.

وعلى الأول فكلامه هذا ساقط أيضا لاتفاق أجلاء الأصحاب ومعظمهم قديما وحديثا على تخصيص عمومات الكتاب والسنة وتقييد مطلقاتهما بالخبر الصحيح الصريح تعدد أو اتحد ، وها نحن نتلو عليك جملة من تلك المواضع إجمالا.

فمنها مسألة التخيير في المواضع الأربعة بين القصر والإتمام مع دلالة الآية والأخبار على وجوب التقصير على المسافر مطلقا.

ومنها مسألة الحبوة. ودلالة الآيات والروايات على أن ما يخلفه الميت

__________________

(١) الكافي ج ٣ ص ٥٩ ح ٧ ، الوسائل ج ٢ ص ١٠٢٨ ح ٢.

(٢) سورة النساء ـ آية ٢٤.

(٣) سورة النور ـ آية ٣٢.

(٤) سورة النساء ـ آية ٣.

٥٥٧

يقسم على جميع الورثة على الكتاب والسنة ، مع استثناء أخبار الحبوة لتلك الأشياء المخصوصة واختصاص أكبر الولد بها.

ومنها منع من ثبت له الإرث بالآيات والروايات من الوالد والولد والزوجة ونحوهم بالموانع المنصوصة من القتل والكفر والرقية واللعان ، فإنه لا خلاف في منعهم مع دلالة الآيات والروايات على إرثهم مطلقا.

ومنها ميراث الزوجة غير ذات الولد على المشهور ، ومطلقا على المختار ، فإن مقتضى إطلاق الآيات والروايات على إرثها من كل شي‌ء من عينه منقول أو غير منقول ، مع دلالة الأخبار ، وبها قال الأصحاب على الحرمان من الرباع على التفصيل المذكور في محله.

ومنها قولهم بعد نشر حرمة الرضاع بين الأجنبيين إذا ارتضعا من امرأة مع تعدد الفحل لأخبار دلت على ذلك ، مع دلالة الآية وهي «وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ» (١) وجملة من الأخبار على نشر الحرمة بذلك.

ومنها مسألة الخمس ودلالة الآية والروايات الكثيرة على وجوب إخراجه مع دلالة جملة من الأخبار على السقوط مطلقا ، أو بخصوص الأرباح.

ومنها ميراث زوجة المريض إذا طلقها في مرضه وخرجت من العدة فإنها ترثه إلى سنة ، مع دلالة الآيات والروايات على أن الميراث لا يكون إلا بسبب أو نسب ، وهذه بعد الخروج من العدة تصير أجنبية.

إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها الماهر البصير ، ولا ينبئك مثل خبير.

وحينئذ فإذا ثبت جواز تخصيص عمومات الكتاب والسنة بالخبر الصحيح في هذه المواضع ونحوها ، فما المانع منه فيما نحن فيه لولا زيغ الأفهام وزلل الإقدام في ميدان النقض والإبرام.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ما يفهم من كلام شيخنا المحدث الصالح المتقدم

__________________

(١) سورة النساء ـ آية ٢٣.

٥٥٨

ذكره وما نقله عن شيخه العلامة (أجزل الله إكراهما في دار الإقامة) من أن المخرج من هذه المسألة بعد عقده على اثنتين أنه يطلق واحدة فإنه لا يخلو من إشكال ، لا شعاره بصحة عقد الثانية.

والتحقيق أن هذه المسألة مثل مسألة الجمع بين الأختين حذو النعل بالنعل ، وحينئذ فالمخرج منها هنا كما تقدم ثمة ، وهو أنه يفارق الثانية ، وإن طلقها فهو أولى وأحوط ويتجنب الاولى حتى تخرج الثانية من العدة ، وإن أراد الثانية اعتزلها وطلق الاولى. ومتي خرجت من العدة عقد الثانية عقدا مستأنفا. والله العالم بحقائق أحكامه.

المسألة الرابعة : الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أنه يجوز للحر نكاح الأمة لمن لا يجد الطول إلى نكاح الحرة وخشي العنت ، والصبر أفضل ، وبذلك صرحت الآية في قوله عزوجل (١) «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ـ إلى قوله ـ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ».

والطول لغة : الزيادة والفضل ، والمراد هنا الزيادة في المال على وجه يتمكن من المهر والنفقة ولو بالقوة كأصحاب الحرف ، إلا أن الظاهر من بعض الروايات الآتية التخصيص بالمهر ، وهو الأقرب ، فإن الرزق مضمون.

والعنت لغة : المشقة الشديدة ، والمراد به هنا المشقة باعتبار تحمل ضرر العزوبة أو الوقوع في الزنا الذي تؤدي إليه غلبة الشهوة الحيوانية عليه وإنما الخلاف فيما إذا فقد أحد الشرطين المذكورين على أقوال ثلاثة.

أحدها : التحريم والظاهر أنه المشهور بين المتقدمين ذهب إليه الشيخ في المبسوط والخلاف وابن البراج وابن الجنيد وابن أبي عقيل والشيخ المفيد.

وربما ظهر من عبارة ابن أبي عقيل دعوى الإجماع على ذلك ، حيث قال :

__________________

(١) سورة النساء ـ آية ٢٥.

٥٥٩

لا يحل للحر المسلم عند آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتزوج الأمة متعة ولا نكاح إعلان إلا عند الضرورة ، وهو إذا لم يجد مهر حرة وضرت به الغروبة وخاف على نفسه منها الفجور ، وإذا كان كذلك حل له نكاح الأمة.

وإذا كان يجد السبيل إلى تزويج الحرة ولم يخش على نفسه الزنا الحرام لم يحل له أن يتزوج الأمة متعة ولا إعلانا ، فإن تزوجها على هذه الحال فالنكاح باطل ، قال الله تعالى «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ» يعني الحرائر «فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ» يعني الإماء ثم قال «ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ» والعنت الزنا ، فأحل تزويج الإماء لمن لا يجد طولا أن ينكح الحرائر وحرم نكاحهن على واجدي الطول.

وقد أجاز قوم من العامة تزويج الإماء في حال الضرورة وغير الضرورة لو أجدى الطول وغير واحدي الطول ، وكفى بكتاب الله عزوجل ردا عليهم دون ما سواه ، انتهى.

وهؤلاء القائلون بالتحريم منهم من قال بصحة العقد مع المخالفة وإنما يأثم خاصة ، وبه صرح الشيخ المفيد وابن البراج ، وظاهر الباقين البطلان وهو صريح عبارة ابن أبي عقيل المذكورة ، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.

وثانيهما : الجواز علي كراهة ، وهو مذهب الشيخ في النهاية وابن حمزة وابن إدريس والمحقق والعلامة ، والظاهر أنه المشهور بين المتأخرين.

وثالثها : تحريم الأمة لمن عنده حرة خاصة ، نقله الشيخ في الخلاف قولا في المسألة ، والذي يدل على القول الأول ظاهر الآية المتقدمة ، والتقريب فيها أنه تعالى شرط في نكاح الإماء عدم الطول ، لأن «من» للشرط ، وشرط خوف العنت بقوله «ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ» والمشروط عدم عند عدم شرطه ، ويدل على ذلك الأخبار الكثيرة.

٥٦٠