الحدائق الناضرة - ج ٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٤

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الباب الثاني

في الصلوات اليومية وما يلحق بها من قواطعها وسهوها وشكوكها ، والبحث فيه يقع في مقصدين :

(الأول) ـ في الصلاة والواجب على عادتنا في الكتاب ان نذكر هنا جملة من الأخبار المشتملة على أفعال الصلاة وآدابها :

فمن ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) في الكافي والتهذيب والفقيه والمجالس وغيرها ، رووا في الصحيح والحسن عن حماد بن عيسى (١) قال : «قال لي أبو عبد الله (عليه‌السلام) : يوما يا حماد تحسن ان تصلي؟ قال فقلت يا سيدي أنا أحفظ كتاب حريز في الصلاة ، قال لا عليك يا حماد قم فصل قال فقمت بين يديه متوجها إلى القبلة فاستفتحت الصلاة فركعت وسجدت فقال يا حماد لا تحسن ان تصلي ما أقبح بالرجل منكم يأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فلا يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة. قال حماد : فأصابني في نفسي الذل فقلت : جعلت فداك فعلمني الصلاة ، فقام أبو عبد الله

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من أفعال الصلاة.

٢

(عليه‌السلام) مستقبل القبلة منتصبا فأرسل يديه جميعا على فخذيه قد ضم أصابعه وقرب بين قدميه حتى كان بينهما قدر ثلاث أصابع منفرجات واستقبل بأصابع رجليه جميعا القبلة لم يحرفهما عن القبلة وقال بخشوع : «الله أكبر» ثم قرأ الحمد بترتيل و «قل هو الله أحد» ثم صبر هنيهة بقدر ما يتنفس وهو قائم ثم رفع يديه حيال وجهه وقال «الله أكبر» وهو قائم ثم ركع وملأ كفيه من ركبتيه منفرجات ورد ركبتيه إلى خلفه حتى استوى ظهره حتى لو صب عليه قطرة من ماء أو دهن لم تزل لاستواء ظهره ومد عنقه وغمض عينيه ثم سبح ثلاثا بترتيل فقال : «سبحان ربي العظيم وبحمده» ثم استوى قائما فلما استمكن من القيام قال «سمع الله لمن حمده» ثم كبر وهو قائم ورفع يديه حيال وجهه ثم سجد وبسط كفيه مضمومتي الأصابع بين يدي ركبتيه حيال وجهه وقال «سبحان ربي الأعلى وبحمده» ثلاث مرات ولم يضع شيئا من جسده على شي‌ء منه وسجد على ثمانية أعظم : الكفين والركبتين وأنامل إبهامي الرجلين والجبهة والأنف ، وقال : سبعة منها فرض يسجد عليها وهي التي ذكرها الله عزوجل في كتابه وقال «وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً» (١) وهي الجبهة والكفان والركبتان والإبهامان ، ووضع الأنف على الأرض سنة. ثم رفع رأسه من السجود فلما استوى جالسا قال : «الله أكبر» ثم قعد على فخذه الأيسر وقد وضع ظاهر قدمه الأيمن على بطن قدمه الأيسر فقال : «استغفر الله ربي وأتوب إليه» ثم كبر وهو جالس وسجد السجدة الثانية وقال كما قال في الاولى ولم يضع شيئا من بدنه على شي‌ء منه في ركوع ولا سجود وكان مجنحا ولم يضع ذراعيه على الأرض ، فصلى ركعتين على هذا ويداه مضمومتا الأصابع وهو جالس في التشهد فلما فرغ من التشهد سلم فقال يا حماد هكذا صل».

وروى ثقة الإسلام في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٢)

__________________

(١) سورة الجن ، الآية ١٨.

(٢) الوسائل الباب ١ من أفعال الصلاة.

٣

قال : «إذا قمت في الصلاة فلا تلصق قدمك بالأخرى ودع بينهما فصلا إصبعا أقل ذلك إلى شبر أكثره ، واسدل منكبيك وأرسل يديك ولا تشبك أصابعك وليكونا على فخذيك قبالة ركبتيك وليكن نظرك إلى موضع سجودك ، فإذا ركعت فصف في ركوعك بين قدميك تجعل بينهما قدر شبر وتمكن راحتيك من ركبتيك وتضع يدك اليمنى على ركبتك اليمنى قبل اليسرى ، وبلع أطراف أصابعك عين الركبة وفرج أصابعك إذا وضعتها على ركبتيك فان وصلت أطراف أصابعك في ركوعك إلى ركبتيك أجزأك ذلك ، وأحب الي ان تمكن كفيك من ركبتيك فتجعل أصابعك في عين الركبة وتفرج بينها وأقم صلبك ومد عنقك وليكن نظرك إلى ما بين قدميك ، فإذا أردت أن تسجد فارفع يديك بالتكبير وخر ساجدا وابدأ بيديك فضعهما على الأرض قبل ركبتيك تضعهما معا ولا تفترش ذراعيك افتراش السبع ذراعيه ولا تضعن ذراعيك على ركبتيك وفخذيك ولكن تجنح بمرفقيك ولا تلصق كفيك بركبتيك ولا تدنهما من وجهك بين ذلك حيال منكبيك ولا تجعلهما بين يدي ركبتيك ولكن تحرفهما عن ذلك شيئا وابسطهما على الأرض بسطا واقبضهما إليك قبضا وان كان تحتهما ثوب فلا يضرك وان أفضيت بهما إلى الأرض فهو أفضل ، ولا تفرجن بين أصابعك في سجودك ولكن ضمهن جميعا ، قال وإذا قعدت في تشهدك فألصق ركبتيك بالأرض وفرج بينهما شيئا وليكن ظاهر قدمك اليسرى على الأرض وظاهر قدمك اليمنى على باطن قدمك اليسرى وأليتاك على الأرض وطرف إبهامك اليمنى على الأرض ، وإياك والقعود على قدميك فتتأذى بذلك ولا تكن قاعدا على الأرض فتكون انما قعد بعضك على بعض فلا تصبر للتشهد والدعاء».

بيان : الظاهر ان إنكار الصادق (عليه‌السلام) على حماد في صلاته وتعليمه انما هو بالنسبة إلى سنن الصلاة وآدابها لا بالنسبة إلى واجباتها وإلا لأمره بقضاء ما مضى من صلواته ، على ان مثل حماد (رضوان الله عليه) أجل قدرا من ان يجهل الواجب عليه كما يشير اليه قوله : «انا أحفظ كتاب حريز في الصلاة» وبذلك يظهر لك

٤

ما في كلام السيد المحدث السيد نعمة الله الجزائري (قدس‌سره) في مسألة معذورية الجاهل من دعواه جهل حماد بالأحكام الواجبة وان الامام (عليه‌السلام) لم يأمره بالقضاء من حيث معذورية الجاهل. وقد نقلنا كلامه في كتاب الدرر النجفية في الدرة التي في مسألة معذورية الجاهل.

ويؤيد ما ذكرناه ما صرح به شيخنا الشهيد في الذكرى ، قال : والظاهر ان صلاة حماد كانت مسقطة للقضاء وإلا لأمره بقضائها ولكنه عدل به إلى الصلاة التامة. والظاهر ان صلاته (عليه‌السلام) لم تكن صلاة حقيقية بل كانت لمجرد التعليم للكلام في أثنائها كما حكاه الراوي إلا ان يحمل على ان الكلام انما كان بعدها ولكن حماد حكاه في أثنائها للبيان وربطه بما يتعلق به.

قوله : «ما أقبح بالرجل منكم.» قال شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين : فصل بين فعل التعجب وبين معموله وهو مختلف فيه بين النحاة فمنعه الأخفش والمبرد وجوزه المازني والفراء بالظرف ونقلا عن العرب انهم يقولون «ما أحسن بالرجل ان يصدق» وصدوره من الامام (عليه‌السلام) من أقوى الحجج على جوازه ، والجار في قوله (عليه‌السلام) «منكم» حال من الرجل أو وصف له فان المعرف بلام العهد الذهني في حكم النكرة ، والمراد ما أقبح بالرجل من الشيعة أو من صلحائهم.

قوله : «وقرب بين قدميه حتى كان بينهما قدر ثلاث أصابع منفرجات» هذا هو المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) حيث صرحوا بأنه يستحب ان يكون بينهما ثلاث أصابع منفرجات إلى شبر إلا ان ظاهر صحيحة زرارة المتقدمة وقوله في صدرها «إصبعا أقل ذلك إلى شبر» ربما نافى هذا الخبر. وأجاب عنه شيخنا البهائي في الحبل المتين بأنه لعل المراد به طول الإصبع لا عرضه. والظاهر من الصحيحة المذكورة ان التحديد بالإصبع إلى قدر شبر انما هو في حال القيام واما حال الركوع فإنه يكون بينهما قدر شبر ، والمفهوم من كلام الأصحاب العموم.

٥

قوله : «ثم قرأ الحمد بترتيل» الترتيل لغة التأني وتبيين الحروف بحيث يتمكن السامع من عدها مأخوذ من قولهم «ثغر رتل ومرتل» إذا كان مفلجا وبه فسر قوله تعالى «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً» (١) وعن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) (٢) «انه حفظ الوقوف وبيان الحروف». اي مراعاة الوقف التام والحسن والإتيان بالحروف على الصفات المعتبرة من الهمس والجهر والاستعلاء والإطباق والغنة وأمثالها ، والترتيل بكل من هذين التفسيرين مستحب ، ومن حمل الأمر في الآية على الوجوب فسر الترتيل بإخراج الحروف من مخارجها على وجه تتميز ولا يندمج بعضها في بعض.

قوله «صبر هنيهة» في بعض نسخ الحديث «هنية» بضم الهاء وتشديد الياء بمعنى الوقت اليسير تصغير «هنة» بمعنى الوقت ، وربما قيل «هنيهة» بإبدال الياء هاء واما «هنيئة» بالهمزة فغير صواب نص عليه في القاموس ، كذا أفاد شيخنا البهائي في الحبل المتين إلا ان شيخنا المجلسي نقل ان أكثر النسخ هنا بالهمزة وفي المجالس وبعض نسخ التهذيب بالهاء.

قوله «بقدر ما يتنفس» في بعض النسخ «بقدر ما تنفس» فيكون الضمير راجعا له (عليه‌السلام) وفي بعضها «يتنفس» بالمضارع المبني للمجهول ، وفيه دلالة على استحباب السكتة بعد السورة وان حدها بقدر النفس ، قال في الذكرى : من المستحبات السكوت إذا فرغ من الحمد والسورة وهما سكتتان لرواية إسحاق بن عمار عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) المشتملة على ان أبي بن كعب قال «كانت لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) سكتتان : إذا فرغ من أم القرآن وإذا فرغ من السورة». وفي رواية حماد تقدير السكتة بعد السورة بنفس. وقال ابن الجنيد روى سمرة وأبي بن كعب عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٤) ان السكتة الأولى بعد تكبيرة الافتتاح والثانية بعد

__________________

(١) سورة المزمل الآية ٤.

(٢) الوافي باب سائر أحكام القراءة.

(٣) الوسائل الباب ٤٦ من القراءة.

(٤) تيسير الوصول ج ٢ ص ٢٢٩.

٦

الحمد ، ثم قال والظاهر استحباب السكوت عقيب الحمد في الأخيرتين قبل الركوع وكذا عقيب التسبيح. انتهى. وسيجي‌ء تمام الكلام في ذلك ان شاء الله تعالى في مستحبات القراءة.

قوله «ثم سجد وبسط كفيه مضمومتي الأصابع بين يدي ركبتيه حيال وجهه»

ربما نافاه قوله (عليه‌السلام) في صحيح زرارة المتقدم «ولا تجعلهما بين يدي ركبتيك ولكن تحرفهما عن ذلك شيئا» والجواب عن ذلك ما افاده شيخنا البهائي (عطر الله مرقده) قال : وقوله (عليه‌السلام) «ولا تجعلهما بين يدي ركبتيك» اي لا تجعلهما في نفس قبلة الركبتين بل احرفهما عن ذلك قليلا. ولا ينافي هذا ما في حديث حماد من انه (عليه‌السلام) بسط كفيه بين يدي ركبتيه لأن المراد بكون الشي‌ء بين اليدين كونه بين جهتي اليمين والشمال وهو أعم من المواجهة الحقيقية والانحراف اليسير إلى أحد الجانبين ويستعمل ذلك في كل من المعنيين. فاستعمل في هذا الحديث في الأول وفي الآخر في الثاني ، قال صاحب الكشاف في قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ» (١) حقيقة قولهم : «جلست بين يدي فلان» ان يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريبا منه فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعا كما يسمى الشي‌ء باسم غيره إذا جاوره وداناه. انتهى

قوله «فصلى ركعتين على هذا» قال شيخنا في البحار قال الشيخ البهائي (قدس‌سره) هذا يعطي انه (عليه‌السلام) قرأ سورة التوحيد في الركعة الثانية أيضا وهو ينافي ما هو المشهور بين أصحابنا من استحباب مغايرة السورة في الركعتين وكراهة تكرار الواحدة فيهما إذا أحسن غيرها كما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٢) ويؤيده ما مال اليه بعضهم من استثناء سورة الإخلاص من هذا الحكم وهو جيد

__________________

(١) سورة الحجرات الآية ١.

(٢) الوسائل الباب ٦ من القراءة في الصلاة.

٧

ويعضده ما رواه زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (١) من «ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صلى ركعتين وقرأ في كل منهما قل هو الله أحد». وكون ذلك لبيان الجواز بعيد. انتهى كلام شيخنا المشار اليه.

قوله في صحيح زرارة «وبلع أطراف أصابعك عين الركبة» ضبطه شيخنا البهائي (زاده الله بهاء وشرفا) باللام المشددة والعين المهملة من البلع أي اجعل أطراف أصابعك بالعة عين الركبة ، وقال : وهذا كما سيجي‌ء في بحث الركوع من قوله (عليه‌السلام) (٢) «وتلقم بأطراف أصابعك عين الركبة». اي تجعل عين الركبة كاللقمة لأطراف الأصابع. وربما يقرأ «وبلغ» بالغين المعجمة وهو تصحيف. انتهى.

قوله في الحديث المذكور «واقبضهما إليك قبضا» قال شيخنا البهائي (قدس‌سره) ولعل المراد بقبض الكفين في قوله (عليه‌السلام) «واقبضهما إليك قبضا» انه إذا رفع رأسه من السجدة الأولى ضم كفيه اليه ثم رفعهما بالتكبير لا انه يرفعهما بالتكبير وعن الأرض برفع واحد ، وفي كلام الشيخ الجليل علي بن بابويه (قدس‌سره) ما يفسر ذلك فإنه قال : إذا رفع رأسه من السجدة الأولى قبض يديه اليه قبضا فإذا تمكن من الجلوس رفعهما بالتكبير. انتهى كلام شيخنا المشار اليه.

وفي نظري القاصر ان ما ذكره في معنى العبارة المذكورة لا يخلو من بعد وقياسه على عبارة الشيخ المذكور قياس مع الفارق فان سياق عبارة الخبر ان الأمر بقبضهما اليه قبضا انما هو حال السجود فان ما قبل هذه الجملة وما بعدها كله في آداب حال السجود ولا تعلق له بالرفع من السجود ، وحمل هذه الجملة من بين هذه الجمل التي قبلها وبعدها على

__________________

(١) الوسائل الباب ٧ من القراءة في الصلاة.

(٢) يشير «قدس‌سره» الى صحيح زرارة الذي سيذكره المصنف «قدس‌سره» في مستحبات الركوع والمروي في الوسائل في الباب ١ من أبواب الركوع وقد ضبطه هناك كذلك كما في التهذيب ج ١ ص ١٥٦.

٨

المعنى الذي ذكره خروج عن ظاهر السياق والنظام بل من قبيل الألغاز الذي يبعد تصوره عن الافهام ، ولا إشارة في هذه العبارة إلى التكبير فضلا عن التصريح كما وقع التصريح به في عبارة الشيخ المذكور. واما عبارة الشيخ المذكور فإنها صريحة في الرفع من السجود والتكبير بعده.

ثم انه (قدس‌سره) كتب في الحاشية على هذا الموضع : كان قدماء علمائنا (قدس الله أرواحهم) يحافظون على لفظ الرواية أو ما قرب منه في كتب الفروع. انتهى.

أقول : مراده بهذا الكلام الإشارة إلى ان الشيخ علي بن بابويه انما ذكر هذه العبارة أخذا من الحديث المذكور وان الشيخ المذكور فهم منه ما فهمه هو (قدس‌سره) وهو غلط محض (أما أولا) فلما ذكرناه. و (اما ثانيا) فلان كلام الشيخ المذكور انما أخذه من عبارة كتاب الفقه الرضوي على الطريقة التي عرفت في غير موضع مما تقدم حيث قال (عليه‌السلام) في الكتاب المذكور (١) «ثم ارفع رأسك من السجود واقبض إليك قبضا وتمكن من الجلوس. الحديث». ومراده قبض يديه اليه قبضا بعد الرفع إلى ان يجلس ولكنه لم يذكر التكبير بعد الجلوس كما ذكره الشيخ المذكور.

والظاهر عندي من معنى الكلام المذكور في صحيحة زرارة انما هو قبض الكفين اليه حال السجود بمعنى ان لا يباعدهما عنه بل يدنيهما منه ويجعلهما محاذيين للمنكبين كما تضمنته الرواية.

وروى ثقة الإسلام (عطر الله مرقده) في الكافي عن زرارة (٢) قال : «إذا قامت المرأة في الصلاة جمعت بين قدميها ولا تفرج بينهما وتضم يديها إلى صدرها لمكان ثدييها فإذا ركعت وضعت يديها فوق ركبتيها على فخذيها لئلا تطأطئ كثيرا فترتفع عجيزتها ، فإذا جلست فعلى ألييها ليس كما يقعد الرجل ، وإذا سقطت للسجود بدأت بالقعود بالركبتين قبل اليدين ثم تسجد لاطئة بالأرض ، فإذا كانت في جلوسها ضمت فخذيها ورفعت

__________________

(١) ص ٨.

(٢) الوسائل الباب ١ من أفعال الصلاة.

٩

ركبتيها من الأرض ، وإذا نهضت انسلت انسلالا لا ترفع عجيزتها أولا». قال في الذكرى هذه الرواية موقوفة على زرارة لكن عمل الأصحاب عليها. انتهى.

وروى في الكافي والتهذيب عن ابن أبي يعفور في الموثق عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا سجدت المرأة بسطت ذراعيها».

وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن جلوس المرأة في الصلاة؟ قال تضم فخذيها».

وروى ابن بكير عن بعض أصحابنا (٣) قال : «المرأة إذا سجدت تضممت والرجل إذا سجد تفتح».

وقال في كتاب الفقه الرضوي (٤) : والمرأة إذا قامت إلى صلاتها ضمت برجليها ووضعت يديها على صدرها من مكان ثدييها فإذا ركعت وضعت يديها على فخذيها ولا تطأطئ كثيرا لئلا ترتفع عجيزتها ، فإذا سجدت جلست ثم سجدت لاطئة بالأرض فإذا أرادت النهوض تقوم من غير ان ترفع عجيزتها ، فإذا قعدت للتشهد رفعت رجليها وضمت فخذيها. انتهى.

أقول : قد ذكر الشيخ وجمع من الأصحاب ان حكم المرأة في الصلاة حكم الرجل إلا في الجهر والإخفات وفي مواضع أخرى مذكورة في صحيحة زرارة.

وروى في الكافي في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٥) قال : «إذا قمت في الصلاة فعليك بالإقبال على صلاتك فإنما يحسب لك منها ما أقبلت عليه ولا تعبث فيها بيدك ولا برأسك ولا بلحيتك ولا تحدث نفسك ولا تتثأب ولا تتمط ولا تكفر فإنما يفعل ذلك المجوس ، ولا تلثم ولا تحتفز ولا تفرج كما يتفرج البعير ولا تقع على قدميك ولا تفترش ذراعيك ولا تفرقع أصابعك فإن ذلك كله نقصان من

__________________

(١ و ٣) الوسائل الباب ٣ من السجود.

(٢) الوسائل الباب ١ من التشهد.

(٤) ص ٩.

(٥) الوسائل الباب ١ من أفعال الصلاة.

١٠

الصلاة ، ولا تقم إلى الصلاة متكاسلا ولا متناعسا ولا متثاقلا فإنها من خلال النفاق فان الله تعالى نهى المؤمنين ان يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى (١) يعني سكر النوم. وقال للمنافقين (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلّا قَلِيلاً)» (٢).

وقال (عليه‌السلام) في كتاب الفقه الرضوي (٣) : فإذا أردت ان تقوم إلى الصلاة فلا تقم إليها متكاسلا ولا متناعسا ولا مستعجلا ولا متلاهيا ولكن تأتيها على السكون والوقار والتؤدة ، وعليك بالخشوع والخضوع متواضعا لله عزوجل متخاشعا عليك خشية وسيماء الخوف راجيا خائفا بالطمأنينة على الوجل والحذر ، فقف بين يديه كالعبد الآبق المذنب بين يدي مولاه فصف قدميك وانصب نفسك ولا تلتفت يمينا ولا شمالا وتحسب كأنك تراه فان لم تكن تراه فإنه يراك ، ولا تعبث بلحيتك ولا بشي‌ء من جوارحك ولا تفرقع أصابعك ولا تحك بدنك ولا تولع بأنفك ولا بثوبك ، ولا تصل وأنت متلثم ، ولا يجوز للنساء الصلاة ومن متنقبات ، ويكون بصرك في موضع سجودك ما دمت قائما ، وأظهر عليك الجزع والهلع والخوف وارغب مع ذلك إلى الله عزوجل ولا تتكى‌ء مرة على رجلك ومرة على الأخرى ، وتصلي صلاة مودع ترى انك لا تصلي أبدا واعلم انك بين يدي الجبار ولا تعبث بشي‌ء من الأشياء ولا تحدث لنفسك وافرغ قلبك وليكن شغلك في صلاتك وأرسل يديك ألصقهما بفخذيك ، فإذا افتتحت الصلاة فكبر وارفع يديك بحذاء أذنيك ولا تجاوز بإبهاميك حذاء أذنيك ، ولا ترفع يديك بالدعاء في المكتوبة حتى تجاوز بهما رأسك ولا بأس بذلك في النافلة والوتر ، فإذا ركعت فألقم ركبتيك راحتيك وتفرج بين أصابعك واقبض عليهما ، وإذا رفعت رأسك من الركوع فانتصب قائما حتى ترجع مفاصلك كلها إلى المكان ثم اسجد وضع جبينك على الأرض وأرغم على راحتيك واضمم أصابعك وضعهما مستقبل القبلة ، وإذا جلست فلا تجلس

__________________

(١) سورة النساء الآية ٤٦.

(٢) سورة النساء الآية ١٤١.

(٣) ص ٧.

١١

على يمينك لكن انصب يمينك واقعد على ألييك ، ولا تضع يديك بعضهما على بعض ولكن أرسلهما إرسالا فإن ذلك تكفير أهل الكتاب ، ولا تتمط في صلاتك ولا تتجشأ وامنعهما بجهدك وطاقتك ، فإذا عطست فقل «الحمد لله» ولا تطأ موضع سجودك ولا تتقدم مرة ولا تتأخر أخرى ، ولا تصل وبك شي‌ء من الأخبثين وان كنت في الصلاة فوجدت غمزا فانصرف إلا ان يكون شيئا تصبر عليه من غير إضرار بالصلاة ، واقبل على الله بجميع القلب وبوجهك حتى يقبل الله عليك ، وأسبغ الوضوء وعفر جبينيك في التراب ، وإذا أقبلت على صلاتك اقبل الله عليك بوجهه وإذا أعرضت أعرض الله عنك. واروي عن العالم (عليه‌السلام) انه قال ربما لم يرفع من الصلاة إلا النصف أو الثلث أو السدس على قدر إقبال العبد على صلاته وربما لا يرفع منها شي‌ء ترد في وجهه كما يرد الثوب الخلق وتنادي ضيعتني ضيعك الله كما ضيعتني ولا يعطي الله القلب الغافل شيئا. وروى إذا دخل العبد في صلاته لم يزل الله ينظر اليه حتى يفرغ منها. وقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) إذا أحرم العبد في صلاته اقبل الله عليه بوجهه ويوكل به ملكا يلتقط القرآن من فيه التقاطا فإن أعرض أعرض الله عنه ووكله إلى الملك. انتهى كلامه في الكتاب المذكور.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الصلاة تشتمل على الواجب والمستحب ونحن نذكر سياقها حسب ما ذكره أصحابنا (رضوان الله عليهم) من جعل مطرح البحث فيها الواجبات الثمانية المشهورة ونزيد بذكر القنوت في أثنائها وان كان مستحبا عندنا ، وننبه على مستحباتها كل في موضعه من غير ان نفردها بعنوان على حدة كما فعله جملة من الاعلام فإن هذا أليق بالترتيب والنظام ، ونفرد ذكر الأخيرتين بالبحث على حدة لا كما ذكره أصحابنا من جعله في بحث القراءة والسبب في مخالفتنا لهم في ذلك هو ان الظاهر انهم انما جعلوه في بحث القراءة من حيث ان القراءة في الأخيرتين هي الأصل عندهم والتسبيح انما هو فرع عليها كما لا يخفى على من لاحظ كلامهم ، ونحن لما كان الظاهر عندنا ان الواجب في الأخيرتين انما هو

١٢

التسبيح اما عينا كما هو اختيار بعض متأخري متأخرينا (رضوان الله عليهم) أو تخييرا مع كونه الأفضل كما هو المقطوع به من اخبار أهل الذكر (عليهم‌السلام) كان افراد ذلك بالبحث هو الأليق بالترتيب والنظام كما لا يخفى على الفطن الأريب وجملة ذوي الأفهام ، ولطول البحث في المقام كما سنشرحه لك ان شاء الله تعالى بما لم يسبق اليه سابق من علمائنا الاعلام ، ولما يتعلق بذلك من الأحكام الخاصة التي لم تحم حولها الأقلام وحينئذ فالكلام في هذا المقصد يقع في فصول عشرة :

الفصل الأول في النية

وقد تقدم البحث فيها في كتاب الطهارة في نية الوضوء بما لم يسبق اليه سابق من علمائنا الأعلام بتحقيق وتدقيق ـ يكشف نقاب الإجمال عنها والإبهام بجميع أحكامها ومتعلقاتها ـ للنصوص مطابق وللاخبار موافق ، ولكن لا بأس بنقل بعض كلماتهم في هذا المقام وبيان ما فيها من الاختلال وعدم الانتظام في سلك ذلك النظام :

فنقول قال السيد السند (قدس‌سره) في مدارك الأحكام ـ بعد قول المصنف وحقيقتها استحضار صفة الصلاة في الذهن والقصد بها إلى أمور أربعة : الوجوب أو الندب والقربة والتعيين وكونها أداء أو قضاء ـ ما لفظه : اعلم ان النية عبارة عن أمر واحد بسيط وهو القصد إلى الفعل لكن لما كان القصد إلى الشي‌ء المعين موقوفا على العلم به وجب لقاصد الصلاة إحضار ذاتها في الذهن مطلقا وصفاتها التي يتوقف عليها التعيين ثم القصد إلى فعل هذا المعلوم طاعة لله وامتثالا لأمره. وقد أحسن شيخنا الشهيد في الذكرى حيث قال بعد ان ذكر نحو ذلك : وتحقيقه انه إذا أريد نية الظهر مثلا فالطريق إليها إحضار المنوي بمميزاته عن غيره في الذهن فإذا حضر قصد المكلف إلى إيقاعه تقربا إلى الله تعالى ، وليس فيه ترتيب بحسب التصور وان وقع ترتيب فإنما هو بحسب التعبير عنه بالألفاظ إذ من ضرورتها ذلك ، فلو ان مكلفا احضر في ذهنه الظهر الواجبة المؤداة

١٣

ثم استحضر قصد فعلها تقربا وكبر كان ناويا. إذا عرفت ذلك فنقول انه يعتبر في نية الصلاة القربة وهي الطاعة لله ، ثم ساق الكلام في تلك الأمور الأربعة التي ذكرها المصنف بنقض وإبرام ، إلى ان قال. وبالجملة فالمستفاد من الأدلة الشرعية سهولة الخطب في أمر النية وان المعتبر فيها قصد الفعل المعين طاعة لله تعالى خاصة ، وهذا القدر أمر لا يكاد ينفك عنه عاقل متوجه إلى إيقاع العبادة ومن هنا قال بعض الفضلاء لو كلف الله تعالى بالصلاة أو غيرها من العبادات بغير نية لكان تكليفا بما لا يطاق. وقال بعض المحققين لو لا قيام الأدلة على اعتبار القربة وإلا لكان ينبغي ان يكون هذا من باب «اسكتوا عما سكت الله عنه» (١). وذكر الشهيد (قدس‌سره) في الذكرى ان المتقدمين من علمائنا ما كانوا يذكرون النية في كتبهم الفقهية بل كانوا يقولون أول واجبات الوضوء غسل الوجه وأول واجبات الصلاة تكبيرة الإحرام. وكأن وجهه ان القدر المعتبر من النية أمر لا يكاد يمكن الانفكاك عنه وما زاد عليه فليس بواجب ، ومما يؤيد ذلك عدم ورود النية في شي‌ء من العبادات على الخصوص بل خلو الأخبار الواردة في صفة وضوء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وغسله وتيممه (٢) من ذلك ، وكذا الرواية المتضمنة لتعليم الصادق (عليه‌السلام) (٣) لحماد الصلاة حيث قال فيها : انه (عليه‌السلام) قام واستقبل القبلة وقال بخشوع «الله أكبر» ولم يقل فكر في النية ولا تلفظ بها ولا غير ذلك من هذه الخرافات المحدثة ، ويزيده بيانا ما رواه الشيخان في الكافي والتهذيب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد بن عثمان عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال : «إذا افتتحت الصلاة فارفع كفيك ثم ابسطهما بسطا ثم كبر ثلاث تكبيرات.». ثم ساق الرواية كما سيأتي قريبا ان شاء الله تعالى.

__________________

(١) الشهاب في الحكم والآداب ص ١٥ وارجع أيضا إلى ج ١ ص ١٥٦.

(٢) الوسائل الباب ١٥ من الوضوء و ٣٢ من الجنابة و ١١ من التيمم.

(٣) ص ٢.

(٤) الوسائل الباب ٨ من تكبيرة الإحرام.

١٤

أقول : لقد أجاد في هذا الكلام الأخير بما أفاد وطابق السداد لكنه ناقض نفسه في ما صدر به الكلام وأيده بما استحسنه من كلام الذكرى في ذلك المقام وكذا بما ذكره بعد ذلك في مسألة مقارنة النية حيث احتذى حذو أولئك الاعلام.

وتوضيح ذلك ان مقتضى كلامه الأول الذي في صدر البحث أنه لا بد من إحضار المنوي أولا في الذهن بجميع مميزاته عن غيره فإذا احضر قصد إلى إيقاعه تقربا إلى الله تعالى ، ولا ريب في مدافعته لما ذكره أخيرا بقوله «وبالجملة فالمستفاد من الأدلة الشرعية. إلى آخر الكلام» فان مقتضى الكلام الأول كما عرفت انه لا بد لقاصد الصلاة عند التكبير من إحضار ذاتها وتصورها وتصور صفاتها التي يتوقف عليها التعيين ثم القصد بعد ذلك إلى فعل هذا المعلوم طاعة لله ، فلا بد على هذا من زمان يحصل فيه هذا التصور والاستحضار وملاحظة المميزات وتخليصها من شباك وساوس إبليس وما يوقعه في ذلك الوقت من الوسوسة والتلبيس حتى يكبر بعده ، واين هذا من مقتضى الكلام الأخير من ان النية أمر جبلي لا ينفك عنه العاقل حتى لو كلف الله العمل بغير نية لكان تكليفا بما لا يطاق ، ثم أيد ذلك بعدم ذكر النية في كلام المتقدمين وكذا في الأخبار؟ وعلى هذا فأين ما ذكره أولا من وجوب إحضار المنوي في ذلك الوقت واين تصوره وتصور مميزاته ثم القصد اليه وانه لا يجوز له الدخول في الصلاة إلا بعد هذه التصورات ونحوها مما اعترف أخيرا بأنه من الخرافات؟ وبالجملة فإن ظاهر كلامه الأخير يعطي ان ما ذكره أولا من جملة تلك الخرافات التي أشار إليها وان كانت أقل مما ذكره غيره.

وتحقيق هذا المقام بما لا يحوم حوله النقض والإبرام وان تقدم في كتاب الطهارة كما أشرنا اليه إلا انه ربما تعذر على الناظر في هذا المقام الرجوع اليه لعدم وجود الكتاب عنده مع ان ما ذكرناه هنا فيه مزيد إيضاح على ما تقدم :

فنقول وبالله سبحانه الثقة والهداية لإدراك المأمول ونيل المسؤول : لا ريب ان أفعال العقلاء كلها من عبادات وغيرها لا تصدر إلا عن تصور الدواعي الباعثة على الإتيان

١٥

بها وهي المشار إليها في كلامهم بالعلل الغائية ، مثلا ـ يتصور الإنسان ان دخوله على زيد وزيارته له وخدمته له موجب لإكرامه له ، وكتابة هذا الكتاب موجب لانتفاعه به ، وتزويجه امرأة موجب لكسر الشهوة الحيوانية أو حصول النسل ، ونحو ذلك من الدواعي الحاملة على الأفعال ، فإذا تصورت النفس هذه الأغراض انبعث منها شوق إلى جذبها وتحصيلها فقد يتزايد هذا الشوق ويتأكد ويسمى بالإرادة ، فإذا انضم إلى القدرة التي هي هيئة للقوة الفاعلة انبعثت تلك القوة لتحريك العضلات إلى إيقاع تلك الأفعال وإيرادها وتحركت إلى إصدارها وإيجادها لأجل غرضها الذي تصورته أولا ، فانبعاث النفس وتوجهها وقصدها إلى ما فيه غرضها هو النية ، نعم قد يحصل بسبب تكرار الفعل والاعتياد عليه نوع ذهول عن تلك العلة الغائية الحاملة على الفعل إلا ان النفس بأدنى توجه والتفات تستحضر ذلك كما هو المشاهد في جملة أفعالنا المتكررة منا ، وحينئذ فليست النية بالنسبة إلى الصلاة إلا كغيرها من سائر أفعال المكلف من قيامه وقعوده واكله وشربه ومغداه ومجيئه ونكاحه ونومه ونحو ذلك من الأفعال التي تتكرر منه ، ولا ريب ان كل عاقل غير غافل ولا ذاهل لا يصدر عنه فعل من هذه الأفعال إلا بقصد ونية سابقة عليه مع انه لا يتوقف شي‌ء من ذلك على هذا الاستحضار الذي ذكروه والتصوير الذي صوروه.

وان أردت مزيد إيضاح لما قلناه فانظر إلى نفسك إذا كنت جالسا في مجلسك ثم دخل عليك رجل عزيز حقيق بالقيام له تواضعا ففي حال دخوله قمت له إجلالا وإكراما كما هو الجاري في رسم العادة فهل يجب عليك ان تتصور أولا في ذهنك وخيالك معنى من المعاني وقصدا من القصود بان تقصد إني أقوم لهذا الرجل إجلالا له وإعظاما لقدره وإلا لكان قيامك وتواضعك بغير نية فلا يسمى تواضعا ولا تستحق عليه مدحا ولا ثوابا أم يكفي مجرد قيامك في تلك الحال ويصدق انه وقع منك التعظيم له والإجلال؟ وهذا شأن الصلاة وان المكلف إذا دخل عليه وقت الظهر مثلا وهو عالم بوجوب ذلك

١٦

الفرض عليه وعالم بكيفيته وكميته وكان الحامل له على الإتيان به هو التقرب إلى الله عزوجل ثم قام من مكانه وسارع إلى الوضوء ثم توجه إلى مسجده ووقف في مصلاه واذن واقام ثم قال «الله أكبر» ثم استمر في صلاته فان صلاته صحيحة شرعية مشتملة على النية ، وهذا هو الذي دلت عليه الأخبار كما أشار إليه في آخر كلامه.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الذي أوقع الناس بالنسبة إلى النية في شباك الوسواس الخناس هو ان جملة من المتأخرين عرفوا النية شرعا بأنها القصد المقارن للفعل ، قالوا فلو تقدمت عليه ولم تقارنه سمى ذلك عزما لا نية ، ثم اختلفوا في المقارنة فما بين من فسرها بامتداد النية بامتداد التكبير وما بين من فسرها بجعل النية بين الالف والراء وما بين من فسرها بأن يأتي بالنية أولا ثم يبتدئ بالتكبير بلا فصل بينهما وهذا كله يعطي ان مرادهم بالنية انما هو الكلام النفسي والتصوير الفكري الذي يحدثه المكلف في نفسه ويتصوره في فكره بما يترجمه قوله «أصلي فرض الظهر ـ مثلا ـ أداء لوجوبه قربة إلى الله تعالى» وقد عرفت ان النية ليست حقيقة إلا ما ذكرناه أولا ، وبذلك يظهر لك ما في كلامه الأول من قوله : «لكن لما كان القصد إلى الشي‌ء المعين موقوفا على العلم به وجب لقاصد الصلاة إحضار ذاتها. إلى آخره» من عدم الملازمة فإنا لا نمنع من وجوب القصد ومعرفة المقصود بجميع ما يتوقف عليه ولكنا نقول ان الجميع قد صار معلوما للمكلف قبل ذلك فمتى دخل عليه الوقت وقام قاصدا للصلاة على الوجه الذي قدمناه فإنه يكفي مجرد ذلك القصد والعلم الأولين لاستمراره عليهما وعدم تحوله عنهما فلا يتوقف على استحضار آخر كما في سائر أفعال المكلف ، ولا فرق بين سائر أفعاله وبين عبادته إلا باعتبار اشتراط القربة في العبادة وهو لا يوجب هذا الاستحضار بل هو كأصل النية مستحضر من أول الأمر مقارن له غير مفارق.

وكأنهم توهموا انه ما لم يحصل الاستحضار المذكور والمقارنة بهذه النية التي ذكروها يصير الدخول في الصلاة عاريا عن النية لأن النية السابقة غير كافية عندهم لإمكان

١٧

تجدد الغفلة بعدها فيصير الفعل بغير نية. وفيه ـ مع قطع النظر عن انه لا يكون كليا ـ انه ليس العبادة إلا كسائر أفعال المكلف كما عرفت والقدر المعلوم فيها هو ما ذكرناه لا ما ذكروه ، فإنه لا يجب في جملة الأفعال بعد تصور الدواعي الحاملة عليها ان يكون ذلك حاضرا في باله وجاريا على خياله لا يغيب عن تصوره في تلك المدة فإنه وان زال لكن الذهن متى التفت اليه وجده كذلك وان اشتغل بفكر آخر أو كلام في البين فإنه لا ينافي حضور ذلك في باله.

قال بعض المحققين من متأخري المتأخرين ـ ونعم ما قال ـ انه لما كانت النية عبارة عن القصد إلى الفعل بعد تصور الداعي والحامل عليه ـ والضرورة قاضية بما نجده في سائر أفعالنا بأنه قد يعرض لنا مع الاشتغال بالفعل الغفلة عن ذلك القصد والداعي في أثناء الفعل بحيث انا لو رجعنا إلى وجداننا لرأينا النفس باقية على القصد الأول ومع ذلك لا نحكم على أنفسنا ولا يحكم علينا غيرنا بان ما فعلناه وقت الذهول والغفلة بغير نية وقصد بل من المعلوم أنه أثر ذلك القصد والداعي السابقين ـ كان الحكم في العبادة كذلك إذ ليس العبادة إلا كغيرها من الأفعال الاختيارية للمكلف والنية ليست إلا عبارة عما ذكرناه. انتهى وهو جيد رشيق.

هذا ، واما باقي الأبحاث المتعلقة بالنية في هذا المقام مما ذكره أصحابنا (رضوان الله عليهم) فقد تقدم الكلام فيه في بحث نية الوضوء مستوفى فليراجع.

الفصل الثاني

في تكبيرة الإحرام

وفيه مسائل (الأولى) لا خلاف بين الأصحاب بل أكثر علماء الإسلام في ان تكبيرة الإحرام جزء من الصلاة وركن فيها تبطل الصلاة بتركها عمدا وسهوا.

١٨

ويدل على ذلك جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة (١) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن الرجل ينسى تكبيرة الافتتاح قال يعيد».

وما رواه في الكافي عن أبي العباس البقباق وابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) انه قال : «في الرجل يصلي فلم يفتتح بالتكبير هل تجزئه تكبيرة الركوع؟ قال لا بل يعيد صلاته إذا حفظ انه لم يكبر».

وما رواه الشيخ في التهذيب في الموثق عن عبيد بن زرارة (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل اقام الصلاة ونسي أن يكبر حين افتتح الصلاة؟ قال يعيد الصلاة».

وعن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٤) «في الذي يذكر انه لم يكبر في أول صلاته؟ فقال إذا استيقن انه لم يكبر فليعد ولكن كيف يستيقن».

وعن ذريح في الحسن عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٥) : «سألته عن الرجل ينسى ان يكبر حتى قرأ؟ قال يكبر».

وعن الحسن بن علي بن يقطين عن أخيه عن أبيه في الصحيح (٦) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الرجل ينسى ان يفتتح الصلاة حتى يركع؟ قال يعيد الصلاة».

وفي الموثق عن عمار (٧) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل سها خلف الامام فلم يفتتح الصلاة؟ قال يعيد الصلاة ولا صلاة بغير افتتاح. الحديث».

فهذه جملة من الأخبار الصريحة في الدلالة على المطلوب إلا انه قد ورد أيضا بإزائها ما يدل على خلاف ذلك :

ومنه ـ ما رواه الشيخ والصدوق في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٨) قال : «سألته عن رجل نسي أن يكبر حتى دخل في الصلاة؟ فقال أليس

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦ و ٧ و ٨) الوسائل الباب ٢ من تكبيرة الإحرام.

١٩

كان من نيته ان يكبر؟ قلت نعم. قال فليمض في صلاته».

وما رواه في الفقيه مرسلا عن الصادق (عليه‌السلام) (١) انه قال : «الإنسان لا ينسى تكبيرة الافتتاح».

وما رواه في التهذيب والفقيه في الصحيح عن احمد بن محمد بن أبي نصر عن ابي الحسن الرضا (عليه‌السلام) (٢) قال : «قلت له رجل نسي أن يكبر تكبيرة الافتتاح حتى كبر للركوع؟ فقال أجزأه».

وما رواه الشيخ عن أبي بصير في الموثق أو الضعيف أو الصحيح (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل قام في الصلاة ونسي أن يكبر فبدأ بالقراءة؟ فقال ان ذكرها وهو قائم قبل ان يركع فليكبر وان ركع فليمض في صلاته».

وما رواه في الفقيه في الصحيح وكذا في التهذيب في الصحيح أيضا عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٤) قال : «قلت له الرجل ينسى أول تكبيرة من الافتتاح؟ فقال ان ذكرها قبل الركوع كبر ثم قرأ ثم ركع وان ذكرها في الصلاة كبرها في قيامه في موضع التكبيرة قبل القراءة أو بعد القراءة. قلت فان ذكرها بعد الصلاة؟ قال فليقضها ولا شي‌ء عليه».

وأجاب الشيخ عن هذه الأخبار بالحمل على من لا يتيقن الترك بل شك فيه. أقول : وهذا الحمل وان أمكن في بعضها ولو على بعد إلا انه في بعض آخر لا يخلو من تعسف والوجه على ما ظهر في ذلك انما هو الجمل على التقية وان لم يعلم به قائل منهم كما حققناه في المقدمة الاولى من مقدمات الكتاب ، لان عمل الطائفة المحقة على الأخبار الأولة فيتعين ان يكون ذلك مذهبهم (عليهم‌السلام) ولا وجه لهذه الأخبار بعد ذلك إلا ما قلناه لأنها متى ثبتت عنهم والمعلوم من مذهبهم خلافها فلا وجه لخروجها عنهم إلا

__________________

(١ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٢ من تكبيرة الإحرام.

(٢) الوسائل الباب ٣ من تكبيرة الإحرام.

٢٠