الحدائق الناضرة - ج ٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٩

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المقصد الثالث ـ في التكفين

ولا خلاف فيه نصا وفتوى من كافة المسلمين ، وفيه فضل جزيل ، فروى في الكافي في الصحيح عن سعد بن ظريف عن الباقر (عليه‌السلام) (١) قال : «من كفن مؤمنا كان كمن ضمن كسوته الى يوم القيامة». ورواه الشيخ والصدوق مثله. ويستحب إعداد الإنسان كفنه لما رواه في الكافي عن السكوني عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «إذا أعد الرجل كفنه فهو مأجور كلما نظر اليه». وعن محمد بن سنان عمن أخبره عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «من كان كفنه معه في بيته لم يكتب من الغافلين وكان مأجورا كلما نظر اليه». وروى الصدوق في الأمالي عن إسماعيل بن مسلم عن الصادق عن آبائه (عليهم‌السلام) (٤) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : إذا أعد الرجل كفنه كان مأجورا كلما نظر اليه».

وفي هذا المقصد مسائل (المسألة الأولى) ـ المشهور بين الأصحاب ان الكفن المفروض ثلاثة أثواب : مئزر وقميص وإزار. والمراد بالمئزر عندهم ـ وهو بكسر الميم ثم الهمزة الساكنة ـ ما يستر ما بين السرة والركبة ويجوز كونه الى القدم بإذن الورثة أو

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب التكفين.

(٢ و ٣ و ٤) رواه في الوسائل في الباب ٢٧ من أبواب التكفين.

٢

وصية الميت النافذة ، قالوا ويحتمل الاكتفاء فيه بما يستر العورة لأنه موضع ابتداء سترها ويستحب ان يكون يستر ما بين صدره وقدمه. والمراد عندهم بالقميص ما يصل الى نصف الساق لانه المتعارف ويجوز الى القدم بمراعاة ما تقدم ، ويحتمل جوازه مطلقا. والمراد بالإزار بكسر الهمزة ثوب شامل لجميع البدن ، قالوا ولا بد من زيادته على ذلك بحيث يمكن شده من قبل رأسه ورجليه ، والواجب فيه عرضا ان يشمل البدن ولو بالخياطة ، وينبغي زيادته بحيث يمكن جعل أحد جانبيه على الآخر كما تشهد به الأخبار. ونقل عن سلار الاكتفاء بثوب واحد اختيارا.

وأنت خبير بان ما ذكره الأصحاب من هذه الأثواب الثلاثة المعينة لم يوجد له مستند ظاهر من الاخبار الواردة في المسألة وانما الموجود ثوبان وقميص أو ثلاثة أثواب والمتبادر منها كونها شاملة للبدن كملا ، ولهذا صرح جملة من متأخري المتأخرين ان الكفن المفروض انما هو هذا وان ما ذهب إليه الأصحاب من المئزر الذي يربط من السرة أو الصدر إلى الركبة أو الى القدم لا مستند له في الأخبار ، قال في المدارك بعد البحث في المسألة : «واما المئزر فقد ذكره الشيخان وأتباعهما وجعلوه أحد الأثواب الثلاثة المفروضة ولم أقف في الروايات على ما يقتضي ذلك بل المستفاد منها اعتبار القميص والثوبين الشاملين للجسد أو الثواب الثلاثة» وعلى هذه المقالة تبعه من تأخر عنه من محققي متأخري المتأخرين.

وعندي فيه نظر يحتاج بيانه الى تقديم كلام في المقام لينجلي به غياهب الإبهام ، وهو ان الظاهر ان الإزار شرعا ولغة انما هو عبارة عما يشد في وسط الإنسان وان المئزر بمعناه وربما أطلق في اللغة على الشامل للبدن ، قال في مجمع البحرين : وقد تكرر في الحديث ذكر الإزار بالكسر وهو معروف يذكر ويؤنث ، ومعقد الإزار من الحقوين. وفي كلام البعض من أهل اللغة الإزار بالكسر ثوب شامل لجميع البدن. وفي الصحاح وغيره المئزر والإزار يلتحف به ، وفي كتب الفقه يذكرون المئزر مقابل الإزار ويريدون به غيره ، وحينئذ لا بعد في الاشتراك ويعرف المراد بالقرينة ، وفي الخبر «أزره المؤمن الى نصف

٣

الساق ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين» الازرة بالكسر الحالة والهيئة الاتزار كالركبة والجلسة انتهى ملخصا. واما الاخبار الدالة على ان الإزار شرعا عبارة عما ذكرناه فهي كثيرة وأكثرها في باب الحمام وما ورد من الأمر بالإزار متى دخله ، ومنها ـ ما رواه في الكافي مسندا الى الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وفي الفقيه مرسلا قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر». وروى في الكافي عن علي بن الحكم عن رجل من بني هاشم ثم ساق الخبر عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (٢) الى ان قال : «قلت ما تقول في الحمام؟ قال لا تدخل الحمام إلا بمئزر. الحديث». وعن حمزة بن احمد عن ابي الحسن الأول (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته أو سأله غيري عن الحمام؟ قال ادخله بمئزر.». وروى في التهذيب عن مسمع عن الصادق عن أمير المؤمنين (عليهما‌السلام) (٤) : «أنه نهى ان يدخل الرجل الماء إلا بمئزر». وعن حماد ابن عيسى عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم‌السلام) (٥) قال : «قيل له ان سعيد بن عبد الملك يدخل مع جواريه الحمام؟ قال وما بأس إذا كان عليه وعليهن الأزر لا يكونون عراة كالحمير. الحديث». وفي التهذيب والفقيه عن سعدان بن مسلم (٦) قال : «كنت في الحمام في البيت الأوسط فدخل علي أبو الحسن (عليه‌السلام) وعليه النورة وعليه إزار فوق النورة. الحديث». وروى في الكافي في الموثق عن حنان بن سدير عن أبيه (٧) قال : «دخلت انا وابي وجدي وعمي حماما بالمدينة فإذا رجل في بيت المسلخ فقال لنا ممن القوم؟ فقلنا من أهل العراق. فقال واي العراق؟ فقلنا كوفيون.

__________________

(١ و ٢ و ٦ و ٧) رواه في الوسائل في الباب ٩ من آداب الحمام.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ١١ من أبواب الماء المضاف.

(٤) رواه في الوسائل في الباب ١٠ من آداب الحمام.

(٥) رواه في الوسائل في الباب ١ من آداب الحمام.

٤

فقال مرحبا بكم يا أهل الكوفة أنتم الشعار دون الدثار ، ثم قال ما يمنعكم من الأزر؟ فإن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : عورة المؤمن على المؤمن حرام. قال فبعث الى أبي كرباسة فشقها بأربعة ثم أخذ كل واحد منا واحدا ، ثم ساق الخبر الى ان قال : سألنا عن الرجل فإذا هو علي بن الحسين ومعه ابنه محمد بن علي (صلوات الله عليهما)». الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة التي يقف عليها المتتبع. وبالجملة فالمستفاد من الأخبار على وجه لا يزاحمه الشك ولا الريب اتحاد الإزار والمئزر وان المراد من كل منهما هو ما ذكرناه لا ما شمل البدن ، وحينئذ فما اشتهر في كلام متأخري أصحابنا ـ من الفرق بين المئزر والإزار وان الأول عبارة عما يشد في الوسط والثاني ما يكون شاملا لجميع البدن ـ لا اعرف له وجها لا من الاخبار ولا من كلام أهل اللغة كما عرفت.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الواجب بمقتضى ما قلناه انه حيثما وجد المئزر والإزار في شي‌ء من اخبار الكفن أو كلام متقدمي الأصحاب حمله على ما ذكرناه الا مع قرينة صارفة عن معناه الحقيقي ، واما ما لم يشتمل على لفظ الإزار والمئزر وانما اشتمل على الثوب فهو ظاهر في الإجمال القابل للاحتمال على ما ذكروه من الشمول للبدن وما ذكرناه من معنى الإزار ، وبالجملة فهو مجمل وقضية الحمل على الروايات المفصلة تساعد ما ذكرناه ، وها أنا أسوق لك ما وقفت عليه من اخبار المسألة مذيلا كلا منها بالبيان الساطع البرهان والله الموفق الهادي لمن يشاء.

فمنها ـ ما رواه الكليني والشيخ عن معاوية بن وهب عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «يكفن الميت في خمسة أثواب : قميص لا يزر عليه وإزار وخرقة يعصب بها وسطه وبرد يلف فيه وعمامة يعمم بها ويلقى فضلها على صدره».

أقول : هذا الخبر ـ كما ترى ـ واضح الظهور في القول المشهور لا يعتريه نقص ولا قصور وقد اشتمل على واجب الكفن ومستحبه ، فالواجب القميص والإزار الذي

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢ من أبواب التكفين.

٥

يشد في وسطه كما عرفت من الاخبار وكلام أهل اللغة وعليه العرف العام والبرد الذي يلفه والباقي مستحب.

ومنها ـ موثقة سماعة (١) قال : «سألته عما يكفن به الميت؟ قال ثلاثة أثواب وانما كفن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في ثلاثة أثواب : ثوبين صحاريين وثوب حبرة ـ والصحارية تكون باليمامة ـ وكفن أبو جعفر (عليه‌السلام) في ثلاثة أثواب».

وعن يونس عن بعض رجاله عن الصادق والباقر (عليهما‌السلام) (٢) قالا :«الكفن فريضته للرجال ثلاثة أثواب ، والعمامة والخرقة سنة. الحديث».

وعن زرارة في الموثق عن الباقر (عليه‌السلام) (٣) قال : «كفن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في ثلاثة أثواب : ثوبين صحاريين وثوب يمنة عبري أو أظفار».

وعن محمد بن سهل عن أبيه (٤) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الثياب التي يصلي فيها الرجل ويصوم أيكفن فيها؟ قال أحب ذلك الكفن يعني قميصا. قلت يدرج في ثلاثة أثواب؟ قال لا بأس به والقميص أحب الي».

وروى في الفقيه (٥) قال : «سئل موسى بن جعفر (عليه‌السلام) عن الرجل يموت أيكفن في ثلاثة أثواب بغير قميص؟ قال لا بأس بذلك والقميص أحب الي».

الى غير ذلك من الأحاديث المشتملة على لفظ الأثواب الثلاثة أو ثوبين وقميص

وأنت خبير بأنه لا منافاة في حمل الثوب الذي هو أحد هذه الأثواب على الإزار بالمعنى الذي ذكرناه ، ودعوى كون الثوب انما يطلق على ما يشمل البدن ممنوعة لصدق الثوب على السراويل وثوبي الإحرام اللذين أحدهما الإزار ، ولا ينافي ذلك لفظ الإدراج في بعضها لصدقه في الإزار أيضا بالمعنى المذكور.

ومنها ـ ما رواه في الكافي في الصحيح عن عبد الله بن سنان (٦) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) كيف اصنع بالكفن؟ قال تأخذ خرقة فتشد على مقعدته ورجليه. قلت

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦) رواه في الوسائل في الباب ٢ من أبواب التكفين.

٦

فالإزار؟ قال انها لا تعد شيئا إنما تصنع لتضم ما هناك لئلا يخرج منه شي‌ء وما يصنع من القطن أفضل منها ثم يخرق القميص إذا غسل وينزع من رجليه ، قال ثم الكفن قميص غير مزرور ولا مكفوف وعمامة يعصب بها رأسه ويرد فضلها على رجليه».

أقول : الظاهر ان لفظ «رجليه» هنا وقع سهوا عن «صدره» وهذا الخبر ظاهر فيما دل عليه الخبر الأول إلا انه لم يذكر فيه الثوب الثالث وهو الذي يلف فيه وانما اشتمل على الإزار والقميص وكأنه لظهوره استغنى عن ذكره ، وقد عرفت معنى الإزار. بقي الكلام في قوله : «قلت فالإزار؟ قال انها لا تعد شيئا» والمعنى فيه ان الظاهر انه لما أمر (عليه‌السلام) بالخرقة المذكورة توهم الراوي انها تغني عن الإزار لحصول ستر العورة بها فأجابه (عليه‌السلام) بأنها لا تعد من اجزاء الكفن الواجب وانما تصنع لهذه الفائدة والإزار من اجزاء الكفن الواجب لا بد منه فلا تغني هذه عنه.

ومنها ـ ما رواه في الكافي في الصحيح عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه‌السلام) (١) قال : «يكفن الرجل في ثلاثة أثواب والمرأة إذا كانت عظيمة في خمسة : درع ومنطق وخمار ولفافتين».

أقول : وهذه الرواية ايضا ظاهرة الدلالة على القول المشهور لأنها وان أجملت في كفن الرجل ثلاثة أثواب إلا انها فصلت في كفن المرأة في الأثواب الخمسة ، ولا ريب في تساوي المرأة والرجل في الواجب ، والواجب هنا من هذه الخمسة القميص المعبر عنه بالدرع ، والإزار المعبر عنه بالمنطق فإنه بكسر الميم الإزار ، ولفافة ، والخمار واللفافة الأخرى مما انفردت به المرأة.

ومنها ـ ما رواه في الكافي أيضا عن يونس عنهم (عليهم‌السلام) (٢) في تحنيط الميت وتكفينه قال : «ابسط الحبرة بسطا ثم ابسط عليها الإزار ثم ابسط القميص

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢ من أبواب التكفين.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ١٤ من أبواب التكفين.

٧

عليه وترد مقدم القميص عليه ، ثم اعمد الى كافور مسحوق فضعه على جبهته موضع سجوده ، وامسح بالكافور على جميع مفاصله من قرنه الى قدمه ، وفي رأسه وعنقه ومنكبه ومرافقه وفي كل مفصل من مفاصله من اليدين والرجلين وفي وسط راحتيه ، ثم يحمل فيوضع على قميصه ويرد مقدم القميص عليه ويكون القميص غير مكفوف ولا مزور ، وتجعل له قطعتين من جريد النخل رطبا قدر ذراع ، تجعل له واحدة بين ركبتيه نصفا مما يلي الساق ونصفا مما يلي الفخذ وتجعل الأخرى تحت إبطه الأيمن ، ولا تجعل في منخريه ولا في بصره ولا مسامعه ولا على وجهه قطنا ولا كافورا ، ثم يعمم فيؤخذ وسط العمامة فيثنى على رأسه بالتدوير ثم يلقى فضل الشق الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن ثم يمد على صدره».

وهذه الأجزاء الثلاثة هي المذكورة في كلام الأصحاب وان غيروا العبارة فإنه متى حمل الإزار على المعنى الذي عرفته من كلام أهل اللغة والأخبار فإنه منطبق على القول المشهور بما هو أوضح واضح في الظهور ، ومقتضى ما ذكره أولئك الأفاضل من المناقشة حمل الإزار في هذه الأخبار المشتملة عليه على الشامل للبدن ، وقد عرفت انه لا مستند له من الأخبار بل الأخبار كلها متفقة على المعنى الذي ذكرناه ، وبعض أهل اللغة وان ذكره الا ان المشهور في كلامهم انما هو المعنى الذي ذكرناه والعرف العام مؤيد لما قلناه ، ويؤيده تأييدا ما ورد دالا على استحباب التكفين بما أحرم فيه كما رواه الصدوق في الصحيح عن معاوية بن عمار عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «كان ثوبا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) اللذان أحرم فيهما يمانيين عبري وأظفار وفيهما كفن». ورواه في الكافي في الصحيح عن معاوية بن عمار مثله. وروى في الكافي عن يونس بن يعقوب عن ابي الحسن الأول (عليه‌السلام) (٢) قال : «سمعته يقول اني كفنت أبي في ثوبين مطويين كان يحرم فيهما وفي قميص من قمصه. الحديث».

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٥ من أبواب التكفين.

٨

أقول : من الظاهر البين الظهور أن ثوبي الإحرام ـ كما سيأتيك بيانه ان شاء الله تعالى في كتاب الحج ـ إزار يتزر به ورداء يتردى به ، ومن اخبار الإحرام قوله (عليه‌السلام) في صحيحة عبد الله بن سنان : «والتجرد في إزار ورداء أو عمامة يضعها على عاتقه لمن لم يكن له رداء». وبذلك يثبت ان أحد أجزاء كفنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الإزار ، وعلى هذا الخبر يحمل إجمال اخبار تكفينه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في ثلاثة أثواب بأن يقال ان من جملتها الإزار ، ومنه يعلم انه لا يشترط في الثوب الشمول للبدن كما توهموه.

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الموثق عن عمار عن الصادق (عليه‌السلام) (١) في تكفين الميت وتحنيطه بعد ذكر ما تقدم منها في التغسيل قال : «ثم تغسل يديك الى المرافق ورجليك الى الركبتين ثم تكفنه : تبدأ وتجعل على مقعدته شيئا من القطن وذريرة وتضم فخديه ضما شديدا وجمر ثيابه بثلاثة أعواد ثم تبدأ فتبسط اللفافة طولا ثم تذر عليها شيئا من الذريرة ثم الإزار طولا حتى يغطى الصدر والرجلين ثم الخرقة عرضها قدر شبر ونصف ثم القميص تشد الخرقة على القميص بحيال العورة والفرج حتى لا يظهر منه شي‌ء ، واجعل الكافور في مسامعه واثر سجوده منه وفيه وأقل من الكافور واجعل على عينيه قطنا وفيه وأذنيه شيئا قليلا ثم عممه والق على وجهه ذريرة وليكن طرف العمامة متدليا على جانبه الأيسر قدر شبر ترمي بها على وجهه ، وليغتسل الذي غسله. وكل من مس ميتا فعليه الغسل وان كان الميت قد غسل ، والكفن يكون بردا وان لم يكن بردا فاجعله كله قطنا فان لم تجد عمامة قطن فاجعل العمامة سابريا ، وقال : تحتاج المرأة من القطن لقبلها قدر نصف من ، وقال : التكفين ان تبدأ بالقميص ثم بالخرقة فوق القميص على ألييه وفخذيه وعورته وتجعل طول الخرقة ثلاثة أذرع ونصفا وعرضها شبرا ونصفا ثم تشد

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١٤ من أبواب التكفين.

٩

الإزار أربعة أذرع ثم اللفافة ثم العمامة وتطرح فضل العمامة على وجهه وتجعل على كل ثوب شيئا من الكافور وتطرح على كفنه ذريرة.».

أقول : وهذا الخبر قد تضمن ما تضمنته الأخبار المتقدمة من ان اجزاء الكفن الواجب هي الإزار والقميص واللفافة إلا ان ظاهر كلامه في الإزار لا يخلو من خلل في المقام نسبته إلى الراوي المذكور اولى من نسبته الى الامام (عليه‌السلام) حيث ان المعهود من الإزار شرعا ولغة وعرفا هو ما عرفت وهو ما يشد من تحت السرة ومنتهاه الى نصف الساق الى القدم ، وهذا الخبر قد اشتمل صدره على ان الإزار يبسط طولا حتى يغطى الصدر والرجلين مع ان المعروف من شد الإزار انما هو بالعرض لا بالطول وفي آخره ان الإزار أربعة أذرع وهذا مما ينافي الكلام الأول لأنه متى كان طوله أربعة أذرع وبسط طولا فإنه يتجاوز الصدر الى ما فوق الرأس ، وهذا التهافت في المقام مما يجعل عنه كلام الإمام الذي هو امام الكلام ، وقد وقع للراوي المذكور مثله في الخبر وهو قوله : «وكل من مس ميتا فعليه الغسل وان كان الميت قد غسل» فإنه مخالف للإجماع واتفاق الأمة فضلا عن هذه الفرقة الناجية. وبالجملة فإني لا اعرف لما اشتمل عليه هذا الخبر في هذا المقام وجه استقامة يبنى عليه الكلام.

ومنها ـ ما ذكره مولانا الرضا (عليه‌السلام) في كتاب الفقه (١) من قوله :«ثم يكفن بثلاث قطع وخمس وسبع ، فاما الثلاث فمئزر وعمامة ولفافة ، والخمس مئزر وقميص وعمامة ولفافتان ، الى ان قال : وروي انه لا يقرب الميت من الطيب شيئا ولا البخور ، وساق (عليه‌السلام) جملة من الأحكام بطريق الرواية الى ان قال : وقال يأخذ خرقة فيشدها على مقعدته ورجليه. قلت الإزار؟ قال انها لا تعد شيئا وانما أمر بها لكي لا يظهر منه شي‌ء ، وذكر ان ما جعل من القطن أفضل وقال : ويكفن بثلاثة أثواب لفافة وقميص وإزار. إلى آخر كلامه». وظاهر صدر هذا الكلام يشعر بإفتائه

__________________

(١) ص ٢٠.

١٠

بالثلاث أو الخمس أو السبع ، ولا يخفى ما فيه من الإجمال ، إلا ان ما نقله أخيرا بطريق الرواية واضح فيما ادعيناه ، والظاهر ان هذه الرواية التي ذكرها عن الصادق (عليه‌السلام) بقرينة حديث الخرقة التي ذكر انها لا تعد شيئا فإنه قد تقدم بهذه الصورة في صحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه‌السلام) (١).

ومنها ـ ما رواه في الكافي عن الحلبي (٢) قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) في حديث : «ان ابي كتب في وصيته ان أكفنه في ثلاثة أثواب أحدها رداء له حبرة. وثوب آخر وقميص. الحديث». والتقريب فيه حمل الثوب الآخر على الإزار لذكره في تلك الأخبار المتقدمة فيحمل إطلاق هذا الخبر على تلك الأخبار.

نعم ربما دل على ما ذكروه ما رواه الشيخ في الحسن على الظاهر عن حمران بن أعين عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) في حديث قال فيه : «قلت فالكفن؟ قال يأخذ خرقة فيشد بها سفلية ويضم فخذيه بها ليضم ما هناك وما يصنع من القطن أفضل ثم يكفن بقميص ولفافة وبرد يجمع فيه الكفن».

فان ظاهر لفظ اللفافة الاختصاص بما يشمل البدن والبرد من حيث انه يجمع الكفن كما ذكره يجب ان يكون شاملا. والجواب عنه انه إذا ثبت بما قدمناه من الأخبار كون الإزار أحد أجزاء الكفن وان الإزار شرعا ولغة وعرفا انما يطلق على ما يشد في الوسط فالواجب تأويل هذه الرواية بما ترجع به الى تلك الاخبار وهو بحمل اللفافة على الإزار فإنه يلف ما يقع عليه من أسافل البدن ومثله في تأويل الأخبار غير عزيز.

أقول : وبما ذكرناه مما أشارت إليه هذه الاخبار صرحت عبائر جملة من متقدمي علمائنا الأبرار الذين عليهم المعتمد في الإيراد والإصدار : منهم ـ شيخنا المفيد (عطر الله مرقده) في المقنعة حيث قال : «ويعد الكفن وهو قميص ومئزر وخرقة يشد بها

__________________

(١) ص ٦.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٢ من أبواب التكفين.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ١٤ من أبواب التكفين.

١١

سفله الى وركيه ولفافة وحبرة وعمامة ، الى ان قال في صفة التكفين : وصار الى الأكفان التي كان أعدها له فبسطها على شي‌ء طاهر يضع الحبرة أو اللفافة التي تكون بدلا منها وهي الظاهرة وينشرها وينثر عليها شيئا من الذريرة التي كان أعدها ثم يضع اللفافة الأخرى عليها وينثر عليها شيئا من الذريرة ثم يضع الإزار ويضع القميص على الإزار وينثر عليه شيئا من الذريرة ويكثر منه ثم يرجع الى الميت فينقله من الموضع الذي غسله فيه حتى يضعه في قميصه ويأخذ شيئا من القطن فيضع عليه شيئا من الذريرة ويجعله على مخرج النجو ويضع شيئا من القطن وعليه الذريرة على قبله ويشده بالخرقة التي ذكرناها شدا وثيقا الى وركيه لئلا يخرج منه شي‌ء ويأخذ الخرقة التي سميناها مئزرا فيلفها عليه من سرته الى حيث تبلغ من ساقيه كما يأتزر الحي فتكون فوق الخرقة التي شدها على القطن» وعلى هذا النهج كلام الشيخ في النهاية. وقال ابن ابي عقيل : «الفرض إزار وقميص ولفافة ، والسنة ثوبان عمامة وخرقة وجعل الإزار فوق القميص ، وقال : السنة في اللفافة ان تكون حبرة يمانية فإن أعوزهم فثوب بياض» وقال علي بن بابويه في رسالته : «ثم اقطع كفنه تبدأ بالنمط وتبسطه وتبسط عليه الحبرة وتبسط الإزار على الحبرة وتبسط القميص وتكتب على قميصه وإزاره وحبرته» وقال الجعفي : «الخمسة لفافتان وقميص وعمامة ومئزر ، وقال وقد روى سبع : مئزر وعمامة وقميصان ولفافتان ويمنية ، وليس تعد الخرقة التي تجعل على مخرجه من الكفن ، قال وروي ليس العمامة من الكفن المفروض» وقال أبو الصلاح : «يكفنه في درع ومئزر ولفافة ونمط ويعممه ، قال : والأفضل ان تكون الملاف ثلاثا إحداهن حبرة يمنية وتجزي‌ء واحدة» وقال الصدوق في الفقيه : «وغاسل الميت يبدأ بكفنه فيقطعه يبدأ بالنمط فيبسطه ويبسط عليه الحبرة وينثر عليه شيئا من الذريرة ويبسط الإزار على الحبرة وينثر عليه شيئا من الذريرة ويبسط القميص على الإزار وينثر عليه شيئا من الذريرة ، ثم ساق الكلام الى ان قال في صفة التكفين ما ملخصه : ثم يضع الميت في أكفانه ، ثم ذكر موضع الجريدتين وقال : ثم يلفه في إزاره وحبرته ، الى ان قال : وقبل ان يلبسه قميصه يأخذ شيئا من القطن وينثر عليه ذريرة ويحشو به دبره ويجعل من القطن

١٢

شيئا على قبله ويضم رجليه جميعا ويشد فخذيه الى وركيه بالمئزر شدا جيدا لئلا يخرج منه شي‌ء فإذا فرغ من تكفينه حنطة ، الى ان قال بعد ذكر جملة من الأحكام : والكفن المفروض ثلاثة : قميص وإزار ولفافة سوى العمامة والخرقة فلا يعدان من الكفن» انتهى أقول : وهذا الكلام كله ما ذكرناه وما حذفناه مأخوذ من كتاب الفقه الرضوي.

فهذه جملة من عبائر المتقدمين متفقة الدلالة على ان الكفن المفروض هو القميص واللفافة والإزار ، وربما عبر بعضهم بالمئزر وهو المطابق لما قدمناه من الأخبار. ثم انه بالتأمل فيما نقلناه عن الصدوق هنا يظهر لك بطلان ما توهمه جملة من الاعلام الذاهبين الى ما ذهب اليه السيد في هذا المقام من الاستناد الى كلام الصدوق في الفقيه في التأييد لما ذهبوا اليه من ان المئزر الذي ذكره الأصحاب من جملة أجزاء الكفن الواجب الذي لا وجود له في الأخبار ، وان الصدوق قد فسره في الفقيه بالخرقة التي يشد بها الفخذان قال الأمين الأسترآبادي ـ وهو من جملة تلامذة السيد صاحب المدارك في تعليقاته على الفقيه ـ ما صورته : «أقول : وقد وقع من جمع من المتأخرين سهو عظيم حيث زعموا ان من جملة الكفن الواجب المئزر وفسروه بثوب يكون من السرة إلى الركبة مع انه لا دلالة في الأحاديث على ذلك. وكلام المصنف في هذا الباب صريح بخلاف قولهم وصريح بان المراد بالمئزر ما يشد به فخذاه ، وهو الحق» انتهى. أقول : بل السهو العظيم انما وقع منه وممن حذا حذوه في هذا المقام كما لا يخفى على من تأمل ما تلوناه وما سنذكره في المقام ، ونسبة ما زعمه من السهو لجمع من المتأخرين مع انه من كلام المتقدمين ـ كما عرفت وستعرف ـ سهو آخر منه ، وبيان ذلك انك قد عرفت مما قدمناه ترادف لفظ المئزر والإزار لغة وشرعا وان المراد منه ما يشد من الوسط كما عرفته من عبارة الشيخ المفيد المتقدمة وتعبيره عن ذلك تارة بالإزار وتارة بالمئزر ، وكلام الصدوق هنا في صدره صريح بأن أجزاء الكفن الواجب هو الحبرة والإزار والقميص ، اما النمط فالظاهر انه ذكره استحبابا كما سيأتي بيان القول فيه ان شاء الله تعالى ، وكذا قوله : «يلفه في إزاره

١٣

وحبرته» فإنه صريح في كون الإزار من اجزاء الكفن ، وكلامه الأخير أصرح صريح في ذلك ايضا كما لا يخفى ، وإذا ثبت ان أحد أجزاء الكفن الإزار والإزار ـ كما عرفت لغة وشرعا ـ انما هو عبارة عما يربط من الوسط فقد ثبت المطلوب ، غاية الأمر ان الأصحاب عبروا عن الإزار الذي ذكره الصدوق هنا بالمئزر وقد عرفت ترادفهما فأي فساد يلزم من ذلك؟ وكلام الصدوق هنا وان سمى الخرقة التي يشد بها المقعدة مئزرا فإنه لا دلالة فيه على انه المئزر الذي ذكره الأصحاب في اجزاء الكفن ، وغاية الشبهة نشأت هنا من شيئين : (أحدهما) ـ تعبير الأصحاب بالمئزر. و (ثانيهما) ـ تعبير الصدوق عن الخرقة المستحبة لشد المقعدة بالمئزر ، وأنت إذا تأملت ما ذكرناه ظهر لك ان المطلوب والمدعى من كون الكفن عبارة عن اللفافة والإزار والقميص ظاهر من كلام الصدوق في الفقيه ، وبتقريب ما قدمناه ـ من ان الإزار لغة وشرعا هو ما يشد من الوسط ـ يظهر انطباق كلام الصدوق والمفيد ونحوهما على كلام متأخري الأصحاب وان عبروا عن الإزار الذي ذكره هؤلاء بالمئزر فإنهما مترادفان فلا حرج.

بقي الكلام في تعبير الأصحاب عن اللفافة الشاملة لجميع البدن بالإزار وقد عرفت ما فيه وكان الاولى تعبيرهم بما عبر به متقدموهم كالشيخين المشار إليهما ونحوهما من الحبرة أو اللفافة أو نحوهما ، وكذا بقي الكلام في تعبير الصدوق عن هذه الخرقة بالمئزر فإنه وان كان غريبا إلا انك قد عرفت ان عبارته هذه وما قبلها وما بعدها إنما أخذت من الفقه الرضوي ، ومع كونها من عنده فإنه لا مشاحة في العبارة بعد ظهور المراد ، فعليك بالتأمل التام فيما حققناه في المقام.

وتمام القول في المقام يتوقف على بيان أمور (الأول) ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في انه لو تعذرت الأثواب الثلاثة ولم يوجد إلا ثوب واحد فإنه يكفن فيه ، قالوا لأن الضرورة تبيح دفنه بغير كفن فببعضه أولى. أقول : غاية ما يستفاد من هذا الكلام الجواز ولا ريب فيه ، واما الوجوب فمحل إشكال لأن الواجب انما

١٤

هو الثلاثة المتقدمة ومع فقد بعضها فهل يجب ما أمكن من الباقي أم لا؟ وجهان ، للأول مفهوم جملة من الأخبار الدالة على ان حرمة المؤمن ميتا كحرمته حيا (١). ونحوها من الأدلة العامة ، وللثاني عدم وجود نص في المسألة والاحتياط ظاهر.

واما مع وجود الجميع فقد عرفت انه لا مخالف في المسألة إلا سلار حيث اكتفى بثوب واحد اختيارا مستندا ـ كما نقل عنه ـ الى الأصل وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن زرارة ومحمد بن مسلم (٢) قالا : «قلنا لأبي جعفر (عليه‌السلام) العمامة للميت من الكفن؟ قال لا انما الكفن المفروض ثلاثة أثواب وثوب تام لا أقل منه يواري جسده كله. فما زاد فهو سنة الى ان يبلغ خمسة أثواب. فما زاد فهو مبتدع ، والعمامة سنة.».

أقول : هذا الخبر رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح ، وفيه «انما الكفن المفروض ثلاثة أثواب تام لا أقل منه. الى آخر الخبر» وذكر جملة من الأصحاب : منهم ـ شيخنا البهائي في الحبل المتين ان في بعض نسخ التهذيب كما في الكافي ، وظاهر الخبر على رواية الكليني يعطي أن الكفن أربعة أثواب ولا قائل به ، ويحتمل التخيير ـ بجعل الواو بمعني «أو» ـ بين الثلاثة والثوب الواحد وبه يصلح الاستدلال به للقول المذكور. واحتمل جملة من الأصحاب : منهم ـ الشهيدان في الذكرى والروض كونه بيانا لأحد الأثواب الثلاثة فيكون من باب عطف الخاص على العام وان المراد بذلك الواحد الإزار بناء على ما فسروه به من انه الساتر لجميع البدن. واحتمل في الذكرى حمل الخبر المذكور على التقية فإن معظمهم على الاجتزاء بالثوب الواحد (٣) وهذا كله على تقدير رواية الكافي

__________________

(١) رواها في الوسائل في الباب ٥٠ من أبواب الدفن.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٢ من أبواب التكفين.

(٣) في المهذب للشيرازي الشافعي ج ١ ص ١٢٩ «وأقل ما يجزئ من الكفن ما يستر العورة كالحي ، ومن أصحابنا من قال أقله ثوب يعم البدن لان ما دونه لا يسمى

١٥

واما على تقدير رواية التهذيب فلا حجة فيها إلا ان الأظهر هو سقوط لفظة الثوب من قلم الشيخ كما لا يخفى على من له انس بما وقع له من التحريف والسهو والزيادة والنقصان في متون الاخبار وأسانيدها. وبالجملة فالأظهر عندي هو طرح هذه الرواية من البين لما هي عليه من الاحتمالات وبذلك تصير من المتشابهات التي يجب الوقوف فيها. وكيف كان فالقول المذكور ضعيف لا يلتفت إليه في مقابلة الأخبار المتكاثرة وبها يجب الخروج عن الأصل الذي استند اليه. وما ذكره بعض متأخري المتأخرين من ضعف الاخبار المشار إليها وان المسألة محل اشكال فهو مما لا يلتفت إليه ، فإنها مع الإغماض عن المناقشة في هذا الاصطلاح قد تلقاها أصحابه بالقبول واتفقوا على العمل بها وهو جابر عندهم لضعفها.

(الثاني) ـ المشهور بين الأصحاب تعين القميص وضمها إلى الإزار واللفافة ، وقيل بالتخيير بينها وبين لفافة ثانية مع أفضلية القميص ، وهو مذهب ابن الجنيد ومال اليه المحقق في المعتبر وجملة من متأخري المتأخرين ، وهو الظاهر ، ويدل عليه ما تقدم في رواية محمد بن سهل عن أبيه ومرسلة الفقيه (١) قال المحقق الشيخ علي «ويراعى في جنس هذه الأثواب التوسط باعتبار اللائق بحال الميت عرفا فلا يجب الاقتصار على أدون المراتب وان ماكس الورثة أو كانوا صغارا حملا لإطلاق اللفظ على المتعارف» واستحسنه في الروض بعد نقله عنه قال : «لان العرف هو المحكم في أمثال ذلك مما لم يرد له تقدير شرعي» انتهى. وهو جيد لان الخطابات الشرعية انما تتعلق بالمكلفين باعتبار أحوالهم

__________________

كفنا والأول أصح» وفي الوجيز للغزالي ج ١ ص ٤٥ «وأقله ثوب واحد ساتر لجميع البدن والثاني والثالث حق الميت في التركة تنفذ وصيته بإسقاطهما» وفي المنهاج للنووي ص ١٣ «يكفن بماله لبسه حيا وأقله ثبوب» وفي بداية المجتهد ج ١ ص ٢١٣ «قال مالك لأحد في الكفن وانه يجزئ ثوب واحد في المرأة والرجل الا انه يستحب الوتر» وفي المغني ج ٢ ص ٤٦٤ و ٤٦٧ «يكفن في ثلاثة أثواب ويجوز التكفين في ثوبين وقال الأوزاعي أقل ما يجزئ ثوب واحد يستر جميعه».

(١) وإطلاق الأثواب الثلاثة في جملة من الاخبار ـ ص ٦.

١٦

التي هم عليها من قوة وضعف وعسر ويسر ونحو ذلك فلكل تكليف باعتبار حاله ، ألا ترى ان استطاعة الحج تتفاوت بتفاوت الأحوال والصلاة كيفية وكمية تتفاوت بتفاوتها ايضا سفرا وحضرا وصحة ومرضا ونحو ذلك.

(الثالث) ـ قال شيخنا الشهيد الثاني في الروض : «والمفهوم من خبر زرارة المتقدم الاكتفاء بمواراة البدن بالثلاثة فلو كان بعضها رقيقا بحيث لا يستر العورة ويحكى البدن لم يضر مع حصول الستر بالمجموع ، والأحوط اعتبار الستر في كل ثوب لانه المتبادر وليس في كلامهم ما يدل عليه نفيا ولا إثباتا» انتهى. أقول : الظاهر ان مراده بخبر زرارة المذكور هو ما تقدم في الأمر الأول (١) وقد عرفت اختلاف روايتي الكافي والتهذيب له والظاهر عندي من قوله : «يوارى جسده» انما هو باعتبار شمول الثوب البدن وإتيانه عليه بحيث لا يبقى شي‌ء من البدن عاريا لا مواراة البشرة بمعنى ان لا يكون رقيقا حاكيا للبشرة ، ويؤيده التأكيد بقوله «كله» وحينئذ فيكون قوله «يواري جسده» مؤكدا لقوله «تام لا أقل منه» وان لم يكن ما ذكرناه أظهر لا أقل ان يكون مساويا لما ذكره وبه لا يتم الاستدلال ، وحينئذ تبقى المسألة عارية عن النص ، وأصالة العدم ترجح الجواز مطلقا وبالجملة فالظاهر ان ما ذكره شيخنا المذكور لا يخلو من البعد ، ولو كانت الرواية المذكورة دالة على الحكم المذكور لما خفي على محدثي أصحابنا المتأخرين ولا سيما بعد الوقوف على كلامه ولنبهوا على ذلك في تصانيفهم سيما شيخنا البهائي في الحبل المتين وأمثاله ممن عادتهم تتبع هذه الدقائق والتنبيه عليها. والله العالم.

(الرابع) ـ الظاهر انه لا خلاف في عدم جواز التكفين بالحرير المحض ، قال في المعتبر : وهذا الحكم ثابت بإجماعنا ويدل عليه ما رواه في الكافي عن الحسن بن راشد (٢) قال : «سألته عن ثياب تعمل بالبصرة على عمل العصب اليماني من قز وقطن هل يصلح ان يكفن فيها الموتى؟ قال : إذا كان القطن أكثر من القز فلا بأس».

__________________

(١) ص ١٥.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٢٣ من أبواب التكفين.

١٧

ورواه في الفقيه مرسلا (١) قال : «سئل أبو الحسن الثالث (عليه‌السلام) عن ثياب تعمل بالبصرة. الحديث». أقول : ويشير الى ذلك جملة من الأخبار الدالة على النهي عن التكفين بكسوة الكعبة فإن الظاهر انه ليس إلا من حيث كونها حريرا محضا كما استظهره شيخنا الشهيد في الذكرى وإلا كان الأنسب الاستحباب للتبرك ، ومن تلك الأخبار ما رواه في التهذيب عن الحسين بن عمارة عن الباقر (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الرجل اشترى من كسوة البيت شيئا هل يكفن به الميت؟ قال : لا». ونحوها رواية عبد الملك بن عتبة الهاشمي (٣) وقال في الفقه الرضوي (٤) : «لا تكفنه في كتان ولا ثوب إبريسم وإذا كان ثوب معلم فاقطع علمه ولكن كفنه في ثوب قطن ولا بأس في ثوب صوف». انتهى. وقال في الفقيه : «ولا يجوز ان يكفن الميت في كتان ولا إبريسم ولكن في القطن» والظاهر انه مأخوذ من هذه العبارة كما عرفت في غير مقام.

والشيخ قد روى عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن علي (عليهم‌السلام) (٥) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : نعم الكفن الحلة ونعم الأضحية الكبش الأقرن». ثم حمله على التقية لموافقته لمذهب العامة (٦) قال : لان الكفن لا يجوز ان يكون من

__________________

(١ و ٥) رواه في الوسائل في الباب ٢٣ من أبواب التكفين.

(٢ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ٢٢ من أبواب التكفين. (٤) ص ١٨.

(٤) ص ١٨.

(٦) في المحلى لابن حزم ج ٥ ص ١٢٣ «لا يحل تكفين الرجل بما لا يحل لباسه من حرير أو مذهب أو معصفر وجائز تكفين المرأة في كل ذلك» وفي المنهاج للنووي على هامش شرحه تحفة المحتاج ج ١ ص ٥٣١ «يكفن الميت بعد غسله بما له لبسه حيا فلا يجوز الحرير والمزعفر للرجل والخنثى» وفي شرح النووي على صحيح مسلم بهامش إرشاد الساري ج ٤ ص ٢٦٦ «قال أصحابنا يحرم تكفين الرجل بالحرير ويجوز للمرأة فيه مع الكراهة وكره مالك وعامة العلماء التكفين في الحرير مطلقا ، قال ابن المنذر لا احفظ خلافه» وفي البحر الرائق ج ٢ ص ١٧٦ «لا يكفن بما لا يجوز لبسه حال الحياة كالحرير للرجال» وفي مجمع الانهر فقه الحنفية ج ١ ص ١٨١ «لا يكفن إلا فيما يجوز له لبسه حال

١٨

الإبريسم. وقيل عليه انه لا يعتبر في الحلة أن تكون من الإبريسم فإنها ربما تطلق على البرد وغيره ايضا وان لم يكن إبريسما ، قال في القاموس : «الحلة إزار ورداء برد أو غيره ولا يكون إلا من ثوبين أو ثوب له بطانة» فينبغي ان تحمل الحلة على البرد الذي لا يكون إبريسما. وقيد الحرير بالمحض احترازا عن الممتزج بغيره على وجه لا يستهلكه الحرير فإنه يجوز التكفين فيه كما يجوز الصلاة فيه. والظاهر انه لا فرق بين الرجل والمرأة في الحكم المذكور. وقال في الذكرى وعليه اتفاقنا ، ونقل عن العلامة في النهاية انه احتمل كراهته للمرأة للإباحة لها في حال الحياة. والظاهر ضعفه.

وفي جوازه بالجلود تردد لأصالة الجواز وعدم صدق الثوب عليها عرفا فان المتبادر منه انما هو المنسوج ، وبه صرح جملة من الأصحاب ، وأيدوا ذلك بوجوب نزعه عن الشهيد قالوا فهنا أولى.

أما المتخذ من الشعر والوبر فالظاهر المشهور الجواز لصدق الثوب عليه وانتفاء المانع كما صرح به في المعتبر ، ونقل عن ابن الجنيد المنع منه ، وقد تقدم في عبارة كتاب الفقه نفى البأس عن ثوب الصوف ، وجعل في المدارك اجتنابه اولى.

ولا يجوز التكفين بالنجس إجماعا كما في الذكرى ولوجوب إزالة النجاسة العارضة من الكفن. وكذا لا يجوز التكفين في المغصوب أيضا إجماعا كما نقله في الكتاب المشار اليه وللنهي عن إتلاف مال الغير.

هذا كله مع الاختيار اما مع الضرورة فظاهر هم الاتفاق على عدم الجواز بالمغصوب واما غيره من الحرير والجلد والنجس فأوجه ثلاثة : المنع لإطلاق النهي ، والجواز لئلا يدفن عاريا مع وجوب ستره ولو بالحجر ، ووجوب ستر العورة لا غير حالة الصلاة ثم ينزع

__________________

الحياة فلا يجوز الحرير ونحوه ويجوز للنساء الحرير» وفي نيل المآرب لعبد القادر الشيباني الحنبلي ج ١ ص ٥٤ «يحرم التكفين بحرير ومذهب الذكر والأنثى والخنثى ويجوز الحرير عند عدم ثوب واحد يستر جميعه».

١٩

(الخامس) ـ المفهوم من كلام أكثر الأصحاب في كيفية التكفين انه يبدأ بخرقة الفخذين فيشدها بعد وضع القطن في دبر الميت وقبل المرأة ثم يؤزره عليها كما يؤزر الحي ثم يلبسه القميص ثم يلفه في اللفافة ثم الحبرة التي هي مستحبة عندهم ، فمن ذلك عبارة المفيد المتقدمة (١) ومنها عبارة الشيخ في النهاية حيث قال ما هذا ملخصه : فإذا فرغ منه ـ يعنى من الغسل ـ عمد الى القطن ، ثم ذكر شد القطن بالخرقة الى ان قال : فيأخذ الإزار فيؤزره ، ثم ساق الكلام في صفة الإزار ووضع الحنوط الى ان قال : ثم يرد القميص عليه ، ثم ساق الكلام في العمامة الى ان قال : ثم يلفه في اللفافة. ونحوه عبارته في المبسوط وبذلك صرح ابن إدريس في السرائر فقال ما ملخصه : فيأخذ الخرقة التي هي الخامسة ، ثم ذكر شد فخذيه بها الى ان قال : ثم يؤزره ويلبسه القميص وفوق القميص الإزار وفوق الإزار الحبرة. ومراده بالإزار الذي فوق القميص هو اللفافة وهي الثوب الثالث من الكفن الواجب ، فإنك قد عرفت ان الفقهاء يطلقون على هذا الثوب الإزار ، ومراده بالحبرة هي المستحبة عندهم. وهكذا عبارة العلامة في المنتهى حيث قال ما ملخصه في كيفية التكفين من انه يحشو دبره بالقطن ثم يشده بخرقة الفخذين ثم يؤزره بالمئزر ثم يلبسه القميص ثم يضعه في الإزار ثم في الحبرة. وعلى هذا النهج عبارة الذكرى والدروس والبيان إلا انه في البيان لم يتعرض لذكر الخرقة هنا وانما ذكرها سابقا قبل ذلك. وبالجملة فالذي حضرني من عبائرهم كلها على هذه الكيفية إلا عبارة الصدوق فإنه لا تخلو من الإجمال ، وعبارة ابن ابي عقيل المتقدمة فإن ظاهرها البدأة بالقميص وان يكون الإزار فوقها. وكيف كان ففي فهم ما ذكره الأصحاب واشتهر بينهم من الأخبار خفاء وغموض. والذي وقفت عليه من الأخبار المتضمنة لذلك رواية يونس وموثقة عمار وعبارة كتاب الفقه الرضوي وقد تقدم الجميع (٢) فإما رواية يونس فان ظاهرها انه يلبسه القميص أولا ثم يؤزره بالإزار المذكور فيها ثم يلفه بالحبرة المذكورة. ولم يذكر الخرقة هنا وانما ذكرها في موضع آخر.

__________________

(١) ص ١١.

(٢) ص ٧ و ٩ و ١٠.

٢٠