الحدائق الناضرة - ج ٢٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٦

بقي الكلام في أنه لو اخترن أنفسهن فهل تحصل البينونة بمجرد الاختيار ، أم لا بد من الطلاق؟ علماءنا على الثاني كما تقدم في كلام صاحب المسالك ، والعامة على الأول كما يشعر به كلام المتقدم (١) أيضا ، والأخبار مختلفة ، وسيأتي تحقيق الكلام في هذا المقام في كتاب الطلاق إن شاء الله تعالى مستوفى.

وفي رواية محمد بن مسلم الثانية إشارة إلى حمل الأخبار الدالة على البينونة بمجرد الاختيار على التقية.

الرابع : تحريم نكاح الإماء عليه بالعقد ، ولم أقف له على دليل في أخبارنا وإنما علل ذلك بتعليلات اعتبارية ، علل بأن نكاح الأمة مشروط بالخوف من العنت ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله معصوم ، ومشروط بفقدان طول الحرة ، ونكاحه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستغن عن المهر ابتداء وانتهاء ، وبأن من نكح أمة كان ولدها منه رقيقا عند جماعة ، ومنصبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزه عن ذلك ، وبأن كون الزوجة مملوكة للغير محكوما عليها لغير الزوج مرذول ، فلا يليق ذلك بمنصبه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قيل : وفي كل واحدة من هذه العلل نظر ، لأن الأولى منقوضة بالإمام ، والثانية بإمكان فقد الطول بالنسبة إلى النفقة ، وإن انتفى المهر عنه ، وبالمنع من كون ولد الأمة رقيقا مطلقا ، لأنه عندنا يتبع أشرف الطرفين ، وبمنع رذالة التزويج بأمة الغير مطلقا ، وجوز بعض العامة نكاحه الأمة المسلمة بالعقد كما تحل بالملك لضعف المانع ، ولكن الأكثر على المنع.

أقول : الظاهر أن أصل القول المذكور إنما هو من العامة ، وتبعهم جملة من الأصحاب استحسانا لما ذكروه من التعليلات المذكورة كما عرفت في غير موضع من الكتب السابقة ، ونصوصنا خالية منه هذا.

وأما وطء الإماء بملك اليمين ـ مسلمة كانت الأمة أو كتابية ـ فهو مما

__________________

(١) حيث ذكر أن بعضهم يجعله كناية عن الطلاق ، وبعضهم يجعله طلاقا صريحا وعلى كل من الأمرين المذكورين ، فلا يتوقف على ذكر الطلاق بعده. (منه ـ رحمه‌الله ـ).

١٠١

لا إشكال في جوازه بالنسبة إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله لقوله عزوجل «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» (١) «وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ» (٢) وقد ملك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القبطية وكانت مسلمة ، وملك صفية وكانت مشركة فكانت عنده إلى أن أسلمت فأعتقها وتزوجها.

الخامس والسادس : تحريم الاستبدال بنسائه اللواتي كن عنده وقت نزول هذه الآية (٣) «لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ» الآية ، وكذلك تحرم عليه الزيادة عليهن للآية ، قيل : كان ذلك مكافأة لهن على حسن صنيعهن معه ، حيث أمر بتخييرهن في فراقه ، والإقامة معه على الضيق الدنيوي ، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، واستمر ذلك إلى أن نسخ بقوله تعالى السابقة عليها (٤) «إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ» الآية ، لتكون المنة له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بترك التزويج عليهن ، وقال بعض العامة أن التحريم لم ينسخ.

أقول : قد عرفت فيما تقدم من صدر هذا البحث ما في المقام من الإشكال ، فإن ما ذكر من التحريم في الموضعين المذكورين هو ظاهر سياق الآيات إلا أن أخبارنا قد شددت في إنكاره ، وعلى هذا فتزول هاتان الخصوصيتان من البين.

السابع : وهو ما ذكره العلامة في التذكرة أنه كان إذا رغب في نكاح امرأة فإن كانت خلية وجب عليها الإجابة ، وحرم على غيره خطبتها ، وإن كانت ذات زوج وجب عليه طلاقها لينكحها ، لقضية زينب امرأة زيد بن الحارثة التي حكاه الله تعالى في كتابه.

أقول : أما الثاني فهو ظاهر من جملة الأخبار التي وردت في تفسير الآيات بقضية زيد (٥).

وأما الأول فلم أقف فيه على خبر بعد التتبع ، إلا أن فحوى الأخبار المشار إليها

__________________

(١) سورة النساء ـ آية ٣.

(٢ و ٣ و ٤) سورة الأحزاب ـ آية ٥٠ و ٥٢ و ٥٠.

(٥) مجمع البيان ج ٨ ص ٣٥٩.

١٠٢

يفيد ذلك ، فإنه إذا وجب على المزوجة أن يفارقها زوجها لأجله ، وجب عليها إجابته لو كانت خالية بطريق أولى ، فإن مقتضى وجوب مفارقة الزوج لها هو تحريمها على جميع الأزواج عداه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتجب عليها إجابته لو كانت خالية من أول الأمر.

الثامن : تحريم زوجاته (ص) على غيره لقوله عزوجل (١) «وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً».

وللأخبار المتكاثرة.

ومنها : ما رواه في الكافي عن محمد بن مسلم (٢) عن أحدهما عليهما‌السلام «أنه قال : لو لم تحرم على الناس أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لقول الله عزوجل (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) ، حر من على الحسن والحسين (عليهما‌السلام) لقول الله تعالى (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ)» الحديث.

وما رواه في الكتاب المذكور عن ابن أذينة (٣) في الحسن قال : «حدثني سعيد بن أبي عروة عن قتادة عن الحسن البصري أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) تزوج امرأة من بني عامر بن صعصعة يقال لها سني وكانت من أجمل أهل زمانها ، فلما نظرت إليها عائشة وحفصة قالتا : لتغلبنا هذه على رسول الله بجمالها ، فقالتا لها : لا يرى منك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرصا ، فلما دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تناولها بيده ، فقالت : أعوذ بالله ، فانقبضت يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها فطلقها وألحقها بأهلها وتزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله امرأة من كندة بنت أبي الجون ، فلما مات إبراهيم بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ابن مارية القبطية قالت : لو كان نبيا ما مات ابنه ، فألحقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأهلها قبل أن يدخل بها ، فلما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وولى الناس أبو بكر

__________________

(١) سورة الأحزاب ـ آية ٥٣.

(٢ و ٣) الكافي ج ٥ ص ٤٢٠ ح ١ وص ٤٢١ ح ٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣١٢ ح ١ و ٤.

١٠٣

أتته العامرية والكندية ، وقد خطبتا ، فاجتمع أبو بكر وعمر فقالا لهما : إختارا إن شئتما الحجاب ، وإن شئتما الباه ، فاختارتا الباه ، وتزوجتا فجذم أحد الرجلين وجن الآخر ، وقال عمر بن أذينة : فحدثت بهذا الحديث زرارة والفضيل ، فرويا عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : ما نهى الله عزوجل عن شي‌ء إلا وقد عصي فيه حتى لقد نكحوا أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعده ، وذكر هاتين : العامرية ، والكندية ، ثم قال أبو جعفر عليه‌السلام : لو سألتهم عن رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أتحل لابنه؟ لقالوا : لا ، فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله) أعظم حرمة من آبائهم».

وعن زرارة (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام نحوه ، «وقال في حديثه : ولا هم يستحلون أن يتزوجوا أمهاتهم إن كانوا مؤمنين ، فإن أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحرمة مثل أمهاتهم».

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الحكم اتفاقي بالنسبة إلى المدخول بها ، وقالوا : لم يمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن زوجة في عصمته إلا مدخولا بها. وأما من لم يدخل بها كمن فارقها في حياته بفسخ أو طلاق ، كالتي وجد بكشحها بياضا والمستعيذة ، فإن فيها أقوالا.

والمشهور التحريم كالأولى ، لصدق نسبة زوجيتها إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد الفراق في الجملة ، فيدخل في عموم الآية والأخبار المذكورة.

وقيل : إنها لا تحرم مطلقا ، لأنه يصدق في حياته أن يقال : إنها ليست زوجته صلى‌الله‌عليه‌وآله الآن لا عراضه عنها ، وهذا القول مردود بالأخبار المذكورة.

وقيل : إنها إن كانت مدخولا بها حرمت ، وإلا فلا ، لما روي أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمان عمر فهم برجمها ، فأخبر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فارقها قبل أن

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٢١ ح ٤.

١٠٤

يمسها فخلاها ولم ينكر عليه أحد من الصحابة.

أقول : وهو في الضعف كسابقه ، وهذه الرواية المذكورة ـ مع كونها عامية ـ معارضة بما تقدم عن الحسن البصري من إذن أبو بكر وعمر للمستعيذة في الباه ، فكيف يهم برجمها عمر كما في هذه الرواية ، وهو قد أذن لها في الباه بتلك الرواية.

ثم إن من أنكر على عمر في تغيير شرائع الإسلام غير مقام ، حتى ينكر عليه هنا ، وبذلك يظهر لك قوة القول الأول ، حسبما دلت عليه الأخبار المذكورة.

ثم إنه ينبغي أن يعلم أن تحريم أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وآله على الأمة إنما هو للنهي الوارد في القرآن لا لتسميتهن بأمهات المؤمنين في قوله «وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» ولا لتسميته صلى‌الله‌عليه‌وآله والدا ، لأن هذه التسمية إنما وقعت على وجه المجاز لا الحقيقة ، كناية عن تحريم نكاحهن ووجوب احترامهن ، ومن ثم لم يجز النظر إليهن ، ولو كن أمهات حقيقة لجاز ، مع أنه ليس كذلك ، ولأنه لا يقال لبناتهن أخوات المؤمنين ، لأنهن لا يحر من على المؤمنين ، ولقد زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليا فاطمة عليهما‌السلام ، وعثمان البنتين الآخرين ، ولا يقال : لآبائهن وأمهاتهن أجداد المؤمنين وجداتهم أيضا.

هذا كله بالنسبة إلى القسم الأول وهو ما اختص به مما يتعلق بالنكاح.

وأما القسم الثاني وهو ما خرج عن النكاح فهي كثيرة ، ولنذكر منها ما وقفنا عليه في كلامهم :

الأول : وجوب السواك ، الثاني : وجوب الوتر ، الثالث : وجوب الأضحية.

واستدل عليه في المسالك قال : روي عنه (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : ثلاث كتبت علي ولم تكتب عليكم ، السواك ، والوتر ، والأضحية.

وفي حديث آخر (٢) «كتب علي الوتر ولم يكتب عليكم ، وكتب علي السواك ولم يكتب عليكم ، وكتبت علي الأضحية ولم تكتب عليكم».

__________________

(١ و ٢) سنن البيهقي ج ٧ ص ٣٩ مع اختلاف يسير.

١٠٥

قال : وبعض العامة منع وجوب الثلاثة عليه ، مع ورود هذه الروايات من جانبهم ، وكنا أولى بذلك منه. انتهى.

وفيه إشارة إلى أن أصل هذا القول والاستدلال عليه بهذه الأخبار إنما هو من العامة ، فإن الأصحاب جروا على مقالتهم بذلك ، ولهذا اعترض على هذا المانع من الوجوب ، بأنا نحن أولى بمنع الوجوب ، حيث إنه لم يرد عليه دليل عندنا.

وفيه أنه بأي جهة يسوغ لكم متابعتهم في ذلك ، والحال هذه وإثبات الأحكام الشرعية متوقف على الأدلة الواضحة الجلية ، من آية قرآنية أو سنة نبوية.

الرابع : قيام الليل والتهجد فيه ، لقوله عزوجل (١) «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ» وروى في التهذيب (٢) «عن الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن النوافل فقال : فريضة ، قال : ففزعنا وفزع الرجل ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنما أعني صلاة الليل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله».

الخامس : تحريم الصدقة الواجبة عليه ، وهي الزكاة المفروضة ، وقد تقدمت الأخبار الدالة على ذلك في كتاب الزكاة (٣) فإن قيل : إن الأئمة عليهم‌السلام شركاء في ذلك فلا يتحقق الاختصاص ، قلنا : حيث كان تحريمها عليهم إنما هو بسببه صلى‌الله‌عليه‌وآله فالخاصية عائدة إليه.

السادس : تحريم خائنة الأعين عليه ، وهي الغمز بها بمعنى الإيماء بها إلى مباح من ضرب وقتل على خلاف ما تشعر به الحال.

وفي كتاب معاني الأخبار (٤) «عن الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن معناها ، فقال :

__________________

(١) سورة الإسراء ـ آية ٧٩.

(٢) التهذيب ج ٢ ص ٢٤٢ ح ٢٨ ، الوسائل ج ٣ ص ٤٩ ح ٦.

(٣) ج ١٢ ص ٢١٥.

(٤) معاني الأخبار ص ١٤٧ ح ١ طبع إيران سنة ١٣٧٩.

١٠٦

ألم تر إلى الرجل ينظر إلى الشي‌ء وكأنه لا ينظر إليه ، فذلك خائنة الأعين.

وفي كتاب المجمع (١) في حديث ابن أبي سرج ، «فقال له عباد بن بشير : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن عيني ما زالت في عينك انتظارا أن تومئ إلى فأقتله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الأنبياء لا يكون لهم خائنة الأعين».

السابع : أنه أبيح له الوصال المحرم على أمته ، وهو عبارة عن الجمع بين الليل والنهار في الإمساك بالنية عن تروك الصوم ، أو تأخير عشائه إلى سحوره بالنية على الخلاف ، وقد تقدم في كتاب الصوم (٢).

الثامن : أنه تنام يمينه ولا ينام قلبه ، «قال : تنام عيني ولا ينام قلبي» ، بمعنى بقاء التفحص والإحساس ، ولهذا لا ينقض وضوءه بالنوم ، وبذلك تحصل له خاصية أخرى أيضا.

التاسع : أنه كان يبصر وراءه كما يبصر أمامه ، وفي أخبار الأمر بإقامة الصفوف في الجماعة ما يدل عليه ، إلى غير ذلك مما يضيق المقام عن نشره ، بل نشر عشر عشره كما لا يخفى على من راجع الأخبار الدالة على ما خص به صلى‌الله‌عليه‌وآله في الدنيا والآخرة.

تذنيب :

ومن خواص فاطمة (س) بالنسبة إلى النكاح أيضا أمور.

الأول : أن تزويجها من الله عزوجل ، لما رواه في الكافي عن أبان بن تغلب (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنما أنا بشر مثلكم أتزوج فيكم وأزوجكم إلا فاطمة فإن تزويجها نزل من السماء».

ونحوها غيرها أيضا

الثاني : أنه لا كفو لها إلا أمير المؤمنين (ع) من آدم ومن دونه ، ويدل

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٧ ص ٤٠.

(٢) ج ١٣ ص ٣٩٢.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٥٦٨ ح ٥٤.

١٠٧

عليه ما رواه في التهذيب عن المفضل (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لو لا أن الله خلق أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يكن لفاطمة سلام الله عليها كفو على ظهر الأرض من آدم فمن دونه».

الثالث : تحريم النساء على علي (ع) ما دامت فاطمة (س) حية ويدل عليه ما رواه في التهذيب عن أبي بصير (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «حرم الله النساء على علي عليه‌السلام ما دامت فاطمة عليها‌السلام حية ، قال : قلت : وكيف؟ قال : لأنها طاهر لا تحيض».

أقول : قد روت العامة أن عليا عليه‌السلام في حياتها عليها‌السلام خطب ابنة أبي جهل ، حتى أن الرسول أغاضه ذلك ، فخطب على المنبر بذلك وعاتبه.

وقد استقصينا الكلام معهم في هذا المقام في كتابنا سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد ، وقد وافقنا الشارح المذكور على كذب الخبر المشار إليه ، وهذا الخبر أصرح صريح في رده وكذبه.

الرابع : عدم جواز الجمع بين ثنتين من بناتها في النكاح لما رواه الشيخ في التهذيب عن ابن أبي عمير (٣) عن رجل من أصحابنا قال : «سمعته يقول : لا يحل لأحد أن يجمع بين ثنتين من ولد فاطمة سلام الله عليها ، إن ذلك يبلغها فيشق عليها ، قلت : يبلغها؟ قال : أي والله».

ورواه الصدوق في علل الشرائع (٤) بسند صحيح ، هذه صورته : حدثنا محمد بن علي ماجيلويه عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن عمار قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لا يحل لأحد أن يجمع بين ثنتين من ولد فاطمة (سلام الله عليها) إن ذلك يبلغها فيشق عليها ، قال : قلت : يبلغها؟ قال : أي والله».

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٧ ص ٤٧٠ ح ٩٠ وص ٤٧٥ ح ١١٦.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٤٦٣ ح ٦٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٨٧ ح ١.

(٤) علل الشرائع باب ٣٧٥ نوادر العلل ص ٥٩٠ ح ٣٨.

١٠٨

أقول : وهذه المسألة لم يجر لها ذكر في كلام أصحابنا متقدميهم ومتأخريهم وإنما اشتهر الكلام فيها في أعصارنا هذه ، من زمن الشيخ الحر العاملي ، حيث اختار القول بما دل عليه ظاهر الخبر من التحريم ، ونحوه جملة ممن تأخر عنه ، وأنكره جملة منهم.

ولنا في المسألة رسالة ، وعسى أن نحقق المسألة إن شاء الله في جملة مسائل هذا الكتاب في الموضع المناسب لذكرها ، والله العالم.

الفائدة الرابعة عشر : اختلف الفقهاء في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل كان يجب عليه القسم بين نسائه ، بمعنى أنه إذا بات عند واحدة منهن ليلة وجب عليه أن يبيت عند كل واحدة من الزوجات الباقيات كذلك أم لا يجب عليه ذلك؟ فقيل : بالأول ، وأن الحكم بالنسبة إليه كغيره ، لعموم الأدلة الدالة على وجوب القسم ، ولأنه قد علم من سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه كان يقسم بينهن حتى أنه في مرضه كان يطاف به عليهن ، وكان يقول : هذا قسمي فيما أملك وأنت أعلم بما لا أملك ، يعنى قلبه.

وقيل : بالثاني لقوله تعالى (١) «تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ».

والتقريب فيها أن الإرجاء بمعنى التأخير ، وعدم الإيواء الذي هو بمعنى ضمهن إليه ومضاجعتهن فقد خيره بين إرجائهن وعدم ضمهن إليه ومضاجعتهن وبين إيوائهن وضمهن إليه ومضاجعتهن ، وهو ظاهر في عدم وجوب القسمة عليه ولهذا نقل في كتاب مجمع البيان شيخنا أمين الإسلام الطبرسي أنه قيل : لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقهن ، فقلن : يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ، ودعنا على حالنا ، فنزلت الآية ، وكان ممن أرجى : سودة وصفية وجويرية وميمونة وأم حبيبة ، فكان يعتزلهن ما شاء ، وكان ممن آوى إليه عائشة

__________________

(١) سورة الأحزاب ـ آية ٥١.

١٠٩

وحفصة وأم سلمة وزينب ، فكان يقسم لهن على السواء لا يفضل بعضهن على بعض عن ابن رزين. انتهى.

وبالجملة فإن ظاهر الآية بالتقريب الذي ذكره هو عدم وجوب القسم عليه ، إلا أنه تعددت الرواية

عن الصادق عليه‌السلام (١) بأنه قال في تفسير هذه الآية : «من آوى فقد نكح ، ومن أرجى فلم ينكح».

وفي رواية أخرى : ومن أرجى فقد طلق ، وفي كتاب مجمع البيان (٢) «قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما‌السلام : من أرجى لم ينكح ، ومن آوى فقد نكح».

وأنت خبير بأن ظاهر هذا الكلام أن الإرجاء عبارة عن الطلاق وعدم النكاح بالكلية ، وأن الإيواء هو إبقاءها على نكاحها وإمساكها ، وعلى هذا فلا تعلق لذلك بالقسم ، كما يظهر من لفظ الآية.

ومن الظاهر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يفارق أحدا منهن بعد نزول هذه الآية بأن طلقها ولم ينكحها ، وإن جعل له ذلك ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد مات عن التسع وهن أزواجه ، وحينئذ فإنه لم يحصل ذلك ، وإن رخص له فيه.

والمحقق في الشرائع طعن في دلالة الآية المذكورة على ما قلناه ، قال : لأن في الآية احتمالا يدفع دلالتها ، إذ يحتمل أن يكون المشية في الإرجاء متعلقة بالواهبات ، وحاصله أنه كما يحتمل أن يكون المشية في الإرجاء والإيواء متعلقة بجميع نسائه ، يحتمل أن يكون المشية والإرجاء متعلقة بالواهبات أنفسهن ، فلا دلالة لها على التخيير مطلقا.

وما ذهب إليه المحقق المذكور يكون قولا ثالثا : وهو التفصيل بين من تزوجهن بالعقد فتجب القسمة لهن ، ومن تزوجهن بالهبة فلا تجب.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٨٧ في ضمن حديث ١.

(٢) مجمع البيان ج ٤ ص ٣٦٧.

١١٠

والشارح (قدس‌سره) في المسالك قد رد هذا القول فقال وأطال ونعم ما قال : وفي هذا عندي نظر لأن ضمير الجمع المؤنث في قوله «تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ» واللفظ العام في قوله «وَمَنِ ابْتَغَيْتَ» لا يصح عوده للواهبات ، لأنه لم يتقدم ذكر الهبة إلا لامرأة واحدة ، وهي قوله (١) «وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها» ، فوحد ضمير الواهبة في مواضع من الآية ثم عقبه بقوله «تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ» فلا يحسن عوده إلى الواهبات إذ لم يسبق لهن ذكر على وجه الجمع ، بل إلى جميع الأزواج المذكورات في هذه الآية وهي قوله تعالى (٢) «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ» الآية ، ثم عقبها بقوله «تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ» الآية ، وهذا ظاهر في عود ضمير النسوة المخير فيهن إلى ما سبق من أزواجه جمع.

وأيضا فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتزوج بالهبة إلا امرأة مؤمنة واحدة على ما ذكره المفسرون والمحدثون ، وهو المناسب لسياق الآية فكيف يجعل ضمير الجمع عائدا إلى الواهبات ، وليس له منهن إلا واحدة.

ثم لو تنزلنا وسلمنا جواز عوده إلى الواهبات لما جاز حمله عليه بمجرد الاحتمال مع وجود اللفظ العام الشامل لجميعهن ، وأيضا فإن غاية الهبة أن تزويجه صلى‌الله‌عليه‌وآله يصح بلفظ الهبة من جانب المرأة ومن الطرفين على ما مر من الخلاف وذلك لا يخرج الواهبة من أن تكون زوجة فيلحقها ما يلحق غيرها من أزواجه ، لا أنها تصير بسبب الهبة بمنزلة الأمة ، وحينئذ فتخصيص الحكم بالواهبات لا وجه له أصلا.

__________________

(١ و ٢) سورة الأحزاب ـ آية ٤٩ و ٥٠.

١١١

وقد نظر بعض العلماء في أحكام تزويجه ومخالفته لغيره نظرا مع ما فيه أقرب مما ذكره المصنف ، فبنى الحكم بوجوب القسمة وعدمها ، على أن النكاح في حقه هل هو كالتسري في حقنا أم لا؟ من حيث النظر إلى عدم انحصار أزواجه في عدد ، وانعقاد نكاحه بلفظ الهبة ، وبغير ولي ولا شهود ، وفي الإحرام ـ كما نقل ـ أنه نكح ميمونة محرما ، وهذا يدل على الأول فلا يجب عليه القسمة ، وإن كان نكاحه على حقيقته وجبت ، والحق الرجوع في مثل ذلك إلى النص ، وترك ما هو عين النزاع ، أو مصادرة على المطلوب.

والذي يستفاد من ظاهر الآية عدم وجوب القسمة عليه مطلقا ، وفعله له جاز كونه بطريق التفضل والإنصاف وجبر القلوب ، كما قال الله تعالى (١) «ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ» والله أعلم. انتهى كلامه ، وعلت في الخلد أقدامه.

وهو جيد نفيس ، إلا أن ما نقله عن بعض العلماء ، الظاهر كونه من علماء العامة ، كما يشعر به عدا النكاح بغير ولي ولا شهود من المخالفات ، وكيف كان فهو خيال ضعيف ، وإن اعتمد عليه في الدلالة لما صار إليه.

بقي الكلام في قوله : والذي يستفاد من ظاهر الآية عدم وجوب القسمة عليه مطلقا ، وظاهره ترجيح القول الثاني من الأقوال الثلاثة المتقدمة.

وفيه أنه جيد ، بناء على التقريب الذي قدمنا ذكره في معنى الآية المتضمنة للتخيير بين الإرجاء والإيواء ، إلا أن ظاهر الروايات التي قدمنا ذكرها إن الإرجاء والإيواء إنما هو بمعنى الطلاق ، وعدم النكاح بالكلية ، وإخراجها عن الزوجية ، والإمساك بالعقد السابق ، ونكاحها وجعلها زوجة كما كانت.

قال الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي في تفسيره (٢) : ثم أنزل الله تعالى

__________________

(١) سورة الأحزاب ـ آية ٥١.

(٢) تفسير القمي ج ٢ ص ١٩٢.

١١٢

هذه الآية ، وهي آية التخيير فقال «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ ـ إلى قوله ـ أَجْراً عَظِيماً» فقامت أم سلمة وهي أول من قامت وقالت قد اخترت الله ورسوله فقمن كلهن فعانقنه وقلن مثل ذلك ، فأنزل الله عزوجل «تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ» فقال الصادق عليه‌السلام : من آوى فقد نكح ، ومن أرجى فقد طلق. انتهى.

وهو ظاهر كما ترى في أنه بعد أن اختر أن الله ورسوله خيره فيهن ، بين طلاق من يريد منهن ونكاح من يريد ، وحينئذ فلا تعلق للآية بالقسم المدعى في المقام بالكلية ، وبذلك يبقى الحكم في قالب الاشكال ، وثبت بذلك القول الأول من هذه الأقوال ، لعدم ثبوت ما ادعي في دليله من العموم على وجه يتناوله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما لا يخفى على من راجعها. والله العالم.

الفائدة الخامسة عشر : المشهور في كلام الأصحاب جواز أكل ما ينثر في الأعراس من مأكول ، وهل يجوز أخذه واستصحابه مأكولا كان أو غيره؟ قالوا : نعم بشرط إذن أربابه نطقا أو بشاهد الحال ، وهل يملك بمجرد الأخذ أم لا ، أقوال : وتفصيل هذا الإجمال على وجه يتضح منه الحال يقع في مواضع.

الأول : أنه لا ريب في جواز نثر المال في الأعراس من مأكول وغيره كالجوز واللوز والسكر والزبيب والتمر والدراهم والدنانير ونحوها ، لأصالة الجواز ، ولما في ذلك من حصول السرور المطلوب في هذه المواضع ، وهل يوصف مع ثبوت الجواز بالمعنى الأعم بشي‌ء من الأحكام الخمسة؟ الظاهر العدم.

أما الوجوب فلا ريب في انتفائه لعدم دليل عليه ، وأما الاستحباب فكذلك أيضا ، لأنه حكم شرعي يتوقف على وجود دليل عليه ، وإن أثبته بعض العامة وحكم آخرون منهم بالكراهة ، لأنه يؤخذ باختلاس وانتهاب ، وهو يؤدي إلى الوحشة والعداوة ، ولأنه قد يأخذه غير من يحب صاحبه ، وفي إثبات الكراهة التي هي حكم شرعي بمثل هذه التعليلات نظر.

١١٣

وبالجملة فالثابت الجواز وأما غيره من الأحكام فيحتاج إلى دليل واضح.

الثاني : في الأكل ، قالوا : إنه يجوز الأكل من هذه المنثور عملا بشاهد الحال المستمر في سائر الأعصار ما لم تعلم الكراهة ، ولأنه نوع إباحة ، فأشبه إباحة الطعام للضيفان بوضعه بين أيديهم.

وظاهر هذا الكلام هو أن المستند في الجواز استمرار الناس في سائر الأعصار على الأكل من هذا الذي ينثر عليهم ونثرة عليهم بمنزلة وضع الطعام بين يدي الضيفان ، وفيه ما ستعرف إن شاء الله تعالى.

الثالث : في الأخذ ، وقد صرحوا (رضوان الله عليهم) بأنه لا يجوز أخذه واستصحابه من غير أن يؤكل في محله ، إلا بإذن أربابه صريحا أو بشاهد الحال وحينئذ فالمرجع في ذلك إلى شاهد الحال ، فإن دل على المنع من أخذه امتنع قالوا : وذلك بأن يوضع على خوان وشبهه بين يدي الآكلين ولا يرمى رميا عاما فإن ذلك قرينة على إرادة ضبطه ، وقصر الاذن على الأكل.

أقول : لا ريب أن هذا الفرض موجب للخروج عن محل البحث ، وذلك فإنه لا يفهم من النثار إلا ما رمي رميا عاما ، ونثر على الحاضرين ، وأنهم كانوا ينتهبونه لا ما وضع في آنية مخصوصة بين يدي الآكلين ، كوضع الطعام بين يدي الضعيف ، فإن هذا لا يسمى نثارا (١) ولا يتعلق به حكم النثار ، كما هو ظاهر.

قالوا : ولو اشتبه الأمران ، بمعنى أنه لم يعلم بشاهد الحال الاذن ولا عدمه ، فظاهر المحق في الشرائع المنع من أخذه ، لأنه قال : ولا يجوز أخذه إلا بإذن أربابه نطقا أو بشاهد الحال ، ومفهومه جعل الجواز مشروطا بالاذن ، ولو بشاهد الحال ، وهو هنا غير حاصل فلا يجوز ، واستحسنه الشارح في المسالك أيضا ، قال : لأصالة المنع من التصرف في مال الغير ، خرج منه ما إذا استفيد الاذن فيبقى

__________________

(١) ويدل على ما ذكرنا ما في المصباح قال : نثرته نثرا من باب قتل وذهب رميته متفرقا انتهى. (منه ـ رحمه‌الله ـ).

١١٤

الباقي ، وظاهر العلامة في التذكرة على ما نقله عنه في المسالك هو جواز الأخذ ما لم تعلم الكراهة.

قال : وقد روي (١) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حضر في أملاك فأتي بإطباق عليها جوز ولوز وتمر ، فنثرت فقبضنا أيدينا ، فقال : ما لكم لا تأخذون. قالوا : لأنك نهينا عن النهب (٢) ، فقال : إنما نهيتكم عن نهب العساكر ، خذوا على اسم الله تعالى فجاذبنا وجاذبناه.

أقول : والظاهر أنه إلى هذا الخبر استند العلامة فيما ذهب إليه من الجواز في الصورة المذكورة ، وإن كان عاميا ، وهو ظاهر في جواز انتهاب النثار بمجرد نثرة ، وهذا هو الذي جرت العادة به بين الناس ، ولكن أصحابنا قيدوا الجواز بما ذكروه ، لعدم قيام دليل عندهم على الحل بمجرد ذلك.

الرابع : في تملكه بعد الأخذ قالوا : حيث يجوز أخذه بأحد الوجوه المجوزة ، فهل يملكه الآخذ بمجرد الأخذ أم لا؟

قيل : بالأول اعتبارا بالعادة الدالة على إعراض المالك عنه ، فأشبه التقاط المباحات ، ونقل هذا القول عن العلامة في التذكرة ، وبه صرح المحقق في الشرائع.

وقيل : بالثاني وأن الأخذ إنما يفيد مجرد الإباحة ، لأصالة بقاء ملك مالكه عليه إلى أن يحصل سبب يقتضي النقل ، وما وقع إنما يعلم منه إفادة الإباحة ، قال في المختلف ـ وهذا هو الأقوى ـ قال : والفرق بينه وبين مباح الأصل واضح ، لأن ذلك لا ملك لأحد عليه ، فإثبات اليد عليه مع نية التملك كاف في تملكه. بخلاف المملوك إذا أبيح بالإذن ، فإن ذلك لا يخرج عن الملك ، وإثبات اليد المأذون له فيه ليس من الأسباب الناقلة للملك شرعا ، فيتمسك بالاستصحاب

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٧ ص ٢٨٨ مع اختلاف يسير.

(٢) قال في المصباح : والنهبة بالضم وزان غرفة ، والنهباء بزيادة الألف التأنيث اسم للمنهوب انتهى. (منه ـ رحمه‌الله ـ).

١١٥

إلى أن يعلم المزيل. انتهى وهو جيد ،

وأنت خبير بأن الأصحاب لم ينقلوا هنا شيئا من الروايات المتعلقة بهذه المسألة ، مع أن الروايات موجودة في كتب الأخبار المتداولة بينهم.

والذي حضرني من ذلك ما رواه في الكافي والتهذيب عن إسحاق بن عمار (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الاملاك يكون والعرس فينثر على القوم ، فقال حرام ولكن ما أعطوك منه فخذ» كذا في الكافي وفي التهذيب «ولكن كل ما أعطوك منه».

وما رواه في التهذيب عن وهب (٢) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام قال : «قال علي عليه‌السلام : لا بأس بنثر الجوز والسكر» ، وفي التهذيبين «أن جواز النثر لا ينافي عدم جواز أخذ المنثور ونهبه». فلا ينافي الخبر المتقدم.

وما رواه في الكافي والفقيه عن علي بن جعفر (٣) في الصحيح عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام قال : «سألته عن النثار من السكر واللوز وأشباهه يحل أكله؟ قال : يكره أكل ما انتهب».

وفي رواية الصدوق : «يكره أكل كل ما ينتهب» ، ورواه علي بن جعفر في كتابه انه قال : «يكره أكل النهب».

أقول : والكراهية هنا بمعنى التحريم ، كما هو شائع ذائع في الأخبار ، ولما كانت العادة في النثار في الأعراس هو رميه ونثره في المجلس ، وأن من عادتهم أنهم كانوا ينتهبونه ، كما يشير إليه قوله في صحيحة على بن جعفر «يكره أكل ما انتهب» بعد السؤال عن النثار ، وهكذا يشير إليه الحديث النبوي المتقدم وقوله فيه

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٢٣ ح ٨ ، التهذيب ج ٦ ص ٣٧٠ ح ١٩٢.

(٢) التهذيب ج ٦ ص ٣٧٠ ح ١٩٤.

(٣) الكافي ج ٥ ص ١٢٣ ح ٧ ، الفقيه ج ٣ ص ٩٧ ح ٢١.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٢ ص ١٢٢ ح ٤ و ٥ وص ١٢١ ح ٢.

١١٦

«وجاذبنا وجاذبناه» خرجت هذه الأخبار بتحريم الأخذ ، لاستفاضة الأخبار بتحريم النهبة والأخذ على هذه الكيفية ، وأصحابنا (رضوان الله عليهم) لعدم الوقوف على هذه الاخبار واعتمادهم على ما رواه في كتب العامة في هذه المسألة استنكروا جعل المواضع منها لخروجه عن مقتضى القواعد الشرعية ، وقيدوها بقيود خارجة كما تقدمت الإشارة إليها.

ونحن نوضح ما في بعض كلامهم المتقدم ، فمن ذلك قولهم في الموضع الثاني بجواز الأكل عملا بشاهد الحال ـ إلى آخره ـ فإن فيه أن الأخبار كما ترى صريحة في تحريم ذلك إلا أن يعطى بخصوصه.

وأما دعوى شهادة الحال وأنها مستمرة في جميع الأعصار لجواز الأكل ما لم يعلم الكراهة.

ففيه : أولا : أن صريح رواية إسحاق بن عمار التحريم كما عرفت ، فهذه الدعوى في مقابلتهما غير مسموعة.

وثانيا : أنك قد عرفت أن العادة في النثار هو الأخذ والأكل على جهة النهبة ، وقد علم تحريم النهبة بالأدلة الصحيحة ، وحينئذ فإن أريد بهذه الدعوى هو الجواز ، وإن كان بطريق النهبة ، فضعفها أظهر من أن ينكر ، وإن أريد لا مع النهبة فهو خروج عن موضوع المسألة كما عرفت ، ومن ذلك قولهم في الموضع الثالث بجواز الأخذ بشاهد الحال ، فإن شاهد الحال الذي ذكروه موجب للخروج عن محل المسألة كما تقدم بيانه ، فالقول بالتحريم في المسألة هو الأقوى لما عرفت في الأكل ، فكذا في الأخذ ، وأما ما صار إليه العلامة مع اشتباه الحال من الجواز إلا أن تعلم الكراهة ، فهو ضعيف مردود بالأخبار التي ذكرناها ، وإن دل على ما ذكره الخبر العامي الذي أورده.

وأما ما ذكروه في الموضع الرابع من التملك بمجرد الأخذ حيث يجوز الأخذ

١١٧

وعدمه ، فقد عرفت من الأخبار التي تلوناها أنه لا يجوز الأخذ إلا أن يعطي بخصوصه ، فإنه يجوز له ، وحينئذ فهل يملكه بمجرد ذلك أم لا؟ المشهور بينهم الثاني.

ومما فرعوا على ذلك ، جواز رجوع المالك فيه ما دامت عينه باقية في يد الآخذ على القول المشهور ، فلو أتلفه بالأكل أو البيع أو نحو ذلك ، زال ملك المالك عنه ، والذي اخترناه في بعض المباحث المتقدمة في جلد المعاملات هو الأول ، وأنه يملكه بمجرد الأخذ ، ومن ذلك الهدايا ونحوها.

ثم إنه بعد الوصول إلى هذا الموضع وقفت على خبر في كتاب البحار نقلا عن الأمالي (١) روى فيه عن الحسين بن أبي العلاء في الحسن عن الصادق عليه وعلى آبائه السلام قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام دخلت أم أيمن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي ملحفتها شي‌ء. فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما معك يا أم أيمن؟ فقالت : فلانة أملكوها ، فنثروا عليها ، فأخذت من نثارها ، ثم بكت أم أيمن وقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة زوجتها ولم تنثر عليها شيئا فقال رسول الله : يا أم أيمن لم تكذبين فإن الله عزوجل لما زوجت فاطمة عليا عليه‌السلام أمر أشجار الجنة أن تنثر عليهم من حليها وحللها ، وياقوتها ودرها وزمردها وإستبرقها فأخذوا منها ما لا يعلمون» الحديث.

وربما ظهر من هذا الخبر أن النثار سنة وتقريره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أم أيمن على ما أخذته من النثار ظاهر في حله ، ويمكن على هذا أن يقال في الجمع بين هذا الخبر وبينما تقدم من الأخبار ، أنه إن أخذ النثار على جهة الانتهاب من غير أن يعلم بشاهد الحال والإباحة والاذن في أخذه فهو محرم ، كما دلت عليه الأخبار المتقدمة ، وإليه يشير قوله في صحيحة علي بن جعفر «يكره كل ما انتهب» ، وإن أخذ مع العلم بالاذن والإباحة في أخذه فهو حلال ، وعليه يحمل هذا الخبر ، فيكون فيه دليل على ما قدمنا نقله عن الأصحاب ، والله العالم.

__________________

(١) مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٤٣٦ ب ٣٠ ح ١ ، أمالي الصدوق في المجلس ٤٨ ح ٣.

١١٨

الفائدة السادسة عشر : في جملة من حقوق الزوج على امرأته ، وحقوقها عليه روى في الكافي عن محمد بن مسلم (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : يا رسول الله ما حق الزوج على المرأة؟ فقال لها : أن تطيعه ولا تعصيه ولا تصدق من بيته إلا بإذنه ، ولا تصوم تطوعا إلا بإذنه ، ولا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب ، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه ، وإن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السموات وملائكة الأرض ، وملائكة الغضب ، وملائكة الرحمة ، حتى ترجع إلى بيتها ، فقالت : يا رسول الله من أعظم الناس حقا على الرجل؟ قال : والده قالت : فمن أعظم الناس حقا على المرأة؟ قال : زوجها ، قالت : فما لي عليه من الحق مثل ما له علي؟ قال : لا ، ولا من كل مائة واحدة ، فقالت : والذي بعثك بالحق لا يملك رقبتي رجل أبدا».

وعن عمر بن جبير العزرمي (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «جاءت امرأة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : يا رسول الله ما حق الزوج على المرأة؟ فقال : أكثر من ذلك ، قالت : فخبرني عن شي‌ء منه ، فقال : ليس لها أن تصوم إلا بإذنه ـ يعني تطوعا ـ ، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه ، وعليها أن تتطيب بأطيب طيبها ، وتلبس بأحسن ثيابها ، وتزين بأحسن زينتها ، وتعرض نفسها عليه غدوة وعشية ، وأكثر من ذلك حقوقه عليها».

أقول : إطلاق هذين الخبرين من حيث المنع من الصوم إلا بإذنه ، شامل لما لو كان الزوج حاضرا أو غائبا ، ويحتمل التخصيص بالحضور ، نظرا إلى أن العلة في المنع إنما هو من حيث منافاته للنكاح متى أراده ، وهذه العلة منتفية بالغيبة ، والظاهر الأول عملا بالإطلاق.

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٥٠٦ ح ١ وص ٥٠٨ ح ٧ ، الوسائل ج ١٤ ص ١١١ ح ١ وص ١١٢ ح ٢.

١١٩

وعن أبي بصير (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أتت امرأة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : ما حق الزوج على المرأة فقال : أن تجيبه إلى حاجته وإن كانت على ظهر قتب ، ولا تعطي شيئا إلا بإذنه ، فإن فعلت فعليها الوزر ، وله الأجر ، ولا تبيت ليلة وهو عليها ساخط ، فقالت ، يا رسول الله وإن كان ظالما ، قال : نعم ، قالت : والذي بعثك بالحق لا تزوجت زوجا أبدا».

وعن سعد بن أبي عمر والجلاب (٢) قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أيما امرأة باتت وزوجها عليها ساخط في حق ، لم تقبل لها صلاته حتى يرضى عنها ، وأيما امرأة تطيبت لغير زوجها لم تقبل منها صلاة حتى تغتسل من طيبها كغسلها من جنابتها».

وعن عبد الله بن سنان (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إن رجلا من الأنصار على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج في بعض حوائجه فعهد إلى امرأته عهدا أن لا تخرج من بيتها حتى يقدم ، قال : وإن أباها مرض فبعثت المرأة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : إن زوجي خرج وعهد إلى أن لا أخرج من بيتي حتى يقدم ، قالت : وإن أبي قد مرض ، فتأمرني أن أعوده ، فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك ، قال : فثقل ، فأرسلت إليه ثانيا بذلك ، قالت : فتأمرني أن أعوده؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك ، قال فمات أبوها فبعثت إليه إن أبي قد مات فتأمرني أن أصلي عليه؟ فقال : لا اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك ، قال : فدفن الرجل فبعث إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن الله تعالى قد غفر لك ولأبيك بطاعتك لزوجك».

وعن جابر الجعفي (٤) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم النحر إلى ظهر المدينة على جمل عاري الجسم ، فمر بالنساء فوقف عليهن ثم قال : يا معاشر

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الكافي ج ٥ ص ٥٠٨ ح ٨ وص ٥٠٧ ح ٢ وص ٥١٣ ح ١ وص ٥١٤ ح ٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ١١٢ ح ٣ وص ١١٣ ح ١ وص ١٢٥ ح ١ وص ١٢٦ ح ٣.

١٢٠