الحدائق الناضرة - ج ١٧

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٨

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المقصد الثالث

في نزول منى وما بها من المناسك

قال في القاموس : «منى كإلى : قرية بمكة وتصرف ، سميت لما يمنى بها من الدماء ، قال ابن عباس لأن جبرئيل (عليه‌السلام) لما أراد أن يفارق آدم (عليه‌السلام) قال : تمن. قال : انتمى الجنة ، فسميت به لأمنية آدم» انتهى.

والمروي من طرقنا ما رواه الصدوق (رحمه‌الله) في كتاب العلل عن محمد بن سنان (١) قال : «إن أبا الحسن الرضا (عليه‌السلام) كتب إليه : أن العلة التي من أجلها سميت منى منى أن جبرئيل قال هناك لإبراهيم (عليه‌السلام) : تمن على ربك ما شئت ، فتمنى إبراهيم في نفسه أن يجعل الله مكان ابنه إسماعيل كبشا يأمره بذبحه فداء له ، فأعطاه مناه».

هذا وقد عرفت مما تقدم (٢) الكلام في وقت الإفاضة من المشعر إلى منى

__________________

(١) علل الشرائع ـ ج ٢ ص ١٢٠ ط طهران. والبحار ـ ج ٩٩ ص ٢٧٢.

(٢) راجع ج ١٦ ص ٤٥٦ ـ ٤٥٩.

٣

وما فيه من الخلاف ، وأن الأحوط تأخير الإفاضة إلى طلوع الشمس وإن كان المشهور جوازه قبل الطلوع ، إلا أنه لا يجوز له أن يجوز وادي محسر الذي هو حد المشعر مما يلي منى إلا بعد طلوع الشمس.

ويدل عليه ما رواه الشيخ في الصحيح أو الحسن عن هشام بن الحكم (١) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لا يجاوز وادي محسر حتى تطلع الشمس».

والمتبادر من تحريم مجاوزته تحريم قطعه والخروج منه ، لأن الأصحاب (رضوان الله عليهم) صرحوا بعدم جواز قطعه ولا بعضه قبل طلوع الشمس ، لخروجه عن المشعر ، وهو مؤيد لما قدمناه من ترجيح عدم جواز الإفاضة قبل طلوع الشمس.

ويمكن أن يكون هذا وجه جمع بين الاخبار المتقدمة بأن تحمل الأخبار الدالة على أفضلية الإفاضة قبل الطلوع على الإفاضة من محله الذي بات فيه وان بقي في حدود المشعر إلى طلوع الشمس ، ولا يدخل في وادي محسر الذي هو حدها الخارج عنها من هذه الجهة إلا بعد طلوعها ، والأخبار الدالة على أنه لا يجوز له الإفاضة قبل طلوع الشمس وإن أفاض فعليه دم على الخروج من حدود المشعر قبل طلوع الشمس ، لا على الإفاضة من منزله الذي بات فيه ، وعلى هذا الوجه تجتمع الاخبار. إلا أن ظاهر عبارة

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوقوف بالمشعر ـ الحديث ٢.

٤

كتاب الفقه (١) يحتاج في قبوله إلى نوع تكلف وتأويل.

ويستحب السعي في وادي محسر بعد دخوله والدعاء بالمأثور ، وهو ما رواه الصدوق في الصحيح عن معاوية بن عمار (٢) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «إذا مررت بوادي محسر ـ وهو واد عظيم بين جمع ومنى ، وهو إلى منى أقرب ـ فاسع فيه حتى تجاوزه ، فان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حرك ناقته فيه ، وقال : اللهمّ سلم عهدي ، واقبل توبتي ، وأجب دعوتي ، واخلفني بخير فيمن تركت بعدي».

وفي الصحيح عن محمد بن إسماعيل (٣) عن أبي الحسن (عليه‌السلام) قال : «الحركة في وادي محسر مأة خطوة». قال الصدوق (ره) وفي حديث آخر (٤) «مائة ذراع».

وقال في كتاب الفقه الرضوي (٥) : «فإذا بلغت طرف وادي محسر فاسع فيه مقدار مأة خطوة ، وإن كنت راكبا فحرك راحلتك قليلا».

وروى في الكافي عن عمر بن يزيد (٦) قال : «الرمل في وادي محسر قدر مأة ذراع».

والظاهر أن هذه الرواية هي التي أشار إليها الصدوق فيما تقدم من عبارته ، إلا أن الرواية مقطوعة كما ترى.

__________________

(١) ص ٢٨ والمستدرك ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب الوقوف بالمشعر ـ الحديث ١.

(٢ و ٣ و ٤ و ٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ من أبواب الوقوف بالمشعر ـ الحديث ١ ـ ٣ ـ ٤ ـ ٥.

(٥) المستدرك ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الوقوف بالمشعر ـ الحديث ٢.

٥

ويستحب الرجوع للسعي لو تركه في الموضع المذكور ، لما رواه الكليني في الصحيح أو الحسن عن حفص بن البختري (١) وغيره عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) «أنه قال لبعض ولده : هل سعيت في وادي محسر؟ قال : لا فأمره أن يرجع حتى يسعى ، قال : فقال : إني لا أعرفه ، فقال له : سل الناس».

وعن الحجال عن بعض أصحابه (٢) قال : «مر رجل بوادي محسر فأمر أبو عبد الله (عليه‌السلام) بعد الانصراف إلى مكة أن يرجع فيسعى».

وإطلاق النص يقتضي عدم الفرق في الترك بين أن يكون نسيانا أو غيره ، فيستحب الرجوع في الجميع.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن مناسك منى يوم النحر ثلاثة : رمي جمرة العقبة ، ثم الذبح ، ثم الحلق. وتحقيق الكلام في ذلك يقتضي بسطه في فصول ثلاثة :

الفصل الأول

في رمي جمرة العقبة

وفيه مسائل

الأولى الأظهر الأشهر وجوب الرمي ، وظاهر العلامة في المنتهى والتذكرة أنه لا خلاف فيه ، قال في المنتهى : «إذا ثبت هذا فان رمي هذه الجمرة بمنى

__________________

(١ و ٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الوقوف بالمشعر ـ الحديث ١.

٦

يوم النحر واجب ، ولا نعلم فيه خلافا».

مع أنه في المختلف قد نقل جملة من الأقوال المختلفة في ذلك ، فنقل عن الشيخ في الجمل أنه ذهب إلى أن الرمي مسنون قال : «وكذا قال ابن البراج ، والمشهور الوجوب ، وعن الشيخ المفيد أنه قال : وفرض الحج الإحرام والتلبية والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وشهادة الموقفين وما بعد ذلك سنن ، بعضها أوكد من بعض ، وهو يشعر بالاستحباب ايضا ، ـ قال ـ : والشيخ لما عد فرائض الحج في كتابي النهاية والمبسوط لم يذكر الرمي وقال في الاستبصار : قد بينا أن الرمي سنة ، وليس بفرض في كتابنا الكبير وقال ابن حمزة : الرمي واجب عند أبي يعلى ، مندوب عند الشيخ أبي جعفر والخذف واجب عند السيد ، وقال ابن الجنيد : سنة ، ثم قال : ومن ترك رمى الجمار كلها متعمدا فقد روي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) انه لم يتم حجه ، وعليه الحج من قابل ، ولم تحل له النساء أيضا ، فإن كان جاهلا فعلم وهو بمكة رجع حتى يرميها متفرقا ، فان خرج من مكة أمر من يرمي عنه ،. وقال أبو الصلاح : فإن أخل برمي الجمار أو بشي‌ء منه ابتداء أو قضاء أثم بذلك ووجب عليه تلافي ما فرطه ، وحجه ماض ، وقال ابن إدريس : وهل رمي الجمار واجب أو مسنون؟ لا خلاف بين أصحابنا في كونه واجبا ، ولا أظن أحدا من المسلمين يخالف فيه ، وقد يشتبه على بعض أصحابنا ويعتقد أنه مسنون غير واجب ، لما يجده من كلام بعض المصنفين وعبارة موهمة أوردها في كتبه ويقلد المسطور بغير فكر ولا نظر ، وهذا غاية الخطأ وضد الصواب ، فان شيخنا (ره) قال في الجمل :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب العود إلى منى ـ الحديث ٥.

٧

والرمي مسنون فظن من يقف على هذه العبارة أنه مندوب ، وانما أراد الشيخ بقوله : مسنون أن فرضه عرف من جهة السنة ، لأن القرآن لا يدل على ذلك» ثم أطال في الاستدلال.

أقول : لا يخفى عليك بعد ملاحظة ما سمعت من الأقوال بعد ما تكلفه ابن إدريس من هذا الاحتمال ، ولو لم يكن ثمة إلا عبارة الشيخ في الجمل التي ذكرها لأمكن ما ذكره من التأويل ، إلا أن كلمات الشيخ وغيره متكثرة بذلك.

ولهذا قال شيخنا الشهيد في الدروس : «ذهب الشيخ والقاضي وهو ظاهر المفيد وابن الجنيد إلى استحباب الرمي. وقال ابن إدريس : لا خلاف عندنا في وجوبه ، ولا أظن أحدا من المسلمين يخالف فيه. وكلام الشيخ انه سنة محمول على ثبوته بالسنة. وقال المحقق : لا يجب قضاؤه في القابل لو فات مع قوله بوجوب أدائه ، والأصح وجوب الأداء والقضاء» انتهى.

وقال شيخنا أمين الإسلام الطبرسي طاب ثراه في كتاب مجمع البيان : «وأركان أفعال الحج : النية والإحرام والوقوف بعرفة والوقوف بالمشعر وطواف الزيارة والسعي بين الصفا والمروة ، وأما الفرائض التي ليست بأركان فالتلبية وركعتا الطواف وطواف النساء وركعتا الطواف له ، وأما المسنونات من أفعال الحج فمذكورة في الكتب المصنفة فيه. وأركان فرائض العمرة : النية والإحرام وطواف الزيارة والسعي وأما ما ليس بركن من فرائضها فالتلبية وركعتا الطواف وطواف النساء وركعتا الطواف له» انتهى.

وظاهره بل صريحه كما ترى أن ما عدا هذه المعدودة من المسنونات والمستحبات ، وأن ذلك هو الذي عليه متقدمو الأصحاب ممن سبقه وعاصره

٨

من غير خلاف يعرف ، حيث إنه لم يسنده إلى قائل مخصوص ولم ينقل فيه خلافا ، وظاهره أنه مسلم الثبوت. وهو مشكل أي إشكال ومعضل أي إعضال ، لما يفهم من الاخبار من وجوب الأمور المذكورة كما سنشرحه إنشاء الله تعالى كملا في موضعه.

فمما يدل على وجوب الرمي هنا قوله (عليه‌السلام) في صحيحة معاوية بن عمار أو حسنته (١) : «ثم ائت الجمرة القصوى التي عند العقبة فارمها من قبل وجهها» الحديث.

وما رواه في الكافي عن علي بن أبي حمزة (٢) عن أحدهما (عليهما‌السلام) قال : «أي امرأة أو رجل خائف أفاض من المشعر ليلا فلا بأس ، فليرم الجمرة ثم ليعض وليأمر من يذبح عنه» الحديث.

وعن أبي بصير (٣) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «رخص رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) للنساء والصبيان أن يفيضوا بليل وأن يرموا الجمار بليل وأن يصلوا الغداة في منازلهم ، فان خفن الحيض مضين إلى مكة ووكلن من يضحي عنهن».

وفي الصحيح أو الحسن عن حفص بن البختري وغيره عن أبي بصير (٤) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «رخص رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) للنساء والضعفاء أن يفيضوا من جمع بليل وأن يرموا الجمرة بليل ، فإن

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب رمي الجمرة العقبة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب رمي الجمرة العقبة ـ الحديث ٢.

(٣ و ٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الوقوف بالمشعر ـ الحديث ٣.

٩

أرادوا أن يزوروا البيت وكلوا من يذبح عنهم».

وعن سعيد السمان (١) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : إن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عجل النساء ليلا من المزدلفة إلى منى ، فأمر من كان عليها منهن هدي أن ترمي ولا تبرح حتى تذبح ، ومن لم يكن عليها منهن هدي أن تمضي إلى مكة حتى تزور».

وعن أبي بصير (٢) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سمعته يقول : لا بأس أن تقدم النساء إذا زال الليل ، فيقفن عند المشعر الحرام ساعة ثم ينطلق بهن إلى منى فيرمين الجمرة ، ثم يصيرن ساعة ثم ليقصرن ، وينطلقن إلى مكة فيطفن ، إلا أن يكن يردن أن يذبح عنهن فإنهن يوكلن من يذبح عنهن».

وعن سعيد الأعرج في الصحيح (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام): جعلت فداك معنا نساء فأفيض بهن بليل ، قال : نعم ـ إلى أن قال ـ ثم أفض بهن حتى تأتي بهن الجمرة العظمى ، فيرمين الجمرة ، فان لم يكن عليهن ذبح فليأخذن من شعورهن ويقصرن من أظفارهن» الحديث.

وبذلك يظهر أن القول بالاستحباب بعد ورود هذه الاخبار مما لا يلتفت إليه ، ولا يعرج في مقام التحقيق عليه.

المسألة الثانية

يجب فيه أمور أحدها ـ النية ، وقد تقدم الكلام فيها في غير مقام.

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الوقوف بالمشعر ـ الحديث ٥ ـ ٧ ـ ٢.

١٠

وثانيها ـ العدد ، وهو سبع حصيات ، وعليه اتفاق الخاصة والعامة ، ويدل عليه رواية أبي بصير (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام): ذهبت أرمي فإذا في يدي ست حصيات ، فقال : خذ واحدة من تحت رجلك».

واستدل على ذلك برواية عبد الأعلى (٢) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قلت له : رجل رمى الجمرة بست حصيات فوقعت واحدة في الحصى ، قال : يعيدها إن شاء من ساعته ، وان شاء من الغد إذا أراد الرمي ، ولا يأخذ من حصى الجمار».

وفي الدلالة تأمل ، لاحتمال أن تلك الواحدة التي وقعت من الست ، فلا يتم الاستدلال.

وقال في كتاب الفقه الرضوي (٣) : «وارم جمرة العقبة في يوم النحر بسبع حصيات». وهو صريح في المطلوب.

وما رواه في الكافي ومن لا يحضره الفقيه في الصحيح عن معاوية بن عمار (٤) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) «أنه قال في رجل أخذ احدى وعشرين حصاة فرمى بها ، فزاد واحدة فلم يدر من أيتهن نقصت؟ قال فليرجع فليرم كل واحدة بحصاة ، قال : وقال في رجل رمى الأولى بأربع والأخيرتين

__________________

(١ و ٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب العود إلى منى ـ الحديث ٢ ـ ٣.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب رمي الجمرة العقبة ـ الحديث ٤.

(٤) ذكر صدره في الوسائل في الباب ـ ٧ ـ من أبواب العود إلى منى ـ الحديث ١ وذيله في الباب ـ ٦ ـ منها ـ الحديث ١.

١١

بسبع سبع ، قال : يعود فيرمي الأولى بثلاث وقد فرغ ، الحديث. وسيأتي بتمامه قريبا إنشاء الله تعالى ، ونحوه غيره.

وثالثها ـ إيصالها بما يسمى رميا ، فلو وضعها وضعا من غير رمي لم يجز ، لقوله (عليه‌السلام) في صحيحة معاوية بن عمار أو حسنته المتقدمة (١) : «ثم ائت الجمرة القصوى التي عند العقبة فارمها من قبل وجهها ،. والأمر للوجوب ، والامتثال انما يحصل بإيجاد الماهية التي تعلق بها الأمر ، ولا ريب أن الوضع بالكف وطرحها لا يدخل تحت مفهوم الرمي ، فلا يكون مجزئا.

وقال العلامة في المنتهى : «ويجب إيصال كل حصاة إلى الجمرة بما يسمى رميا بفعله ، فلو وضعها بكفه في المرمي لم يجزه ، وهو قول العلماء» ثم استدل عليه بالأمر بالرمي في حديث معاوية المذكور وحديث آخر من طريق الجمهور (٢) ثم قال : «ولو طرحها قال بعض الجمهور : لا يجزؤه ، لأنه لا يسمى رميا ، وقال أصحاب الرأي : يجزؤه ، لأنه يسمى رميا. والحاصل أن الخلاف وقع باعتبار الخلاف في صدق الاسم ، فان سمي رميا أجزأ بلا خلاف ، وإلا لم يجز إجماعا» انتهى.

أقول : لا يخفى أن الظاهر من كلام أهل اللغة أن الطرح بمعنى الرمي قال في القاموس : «طرحه وبه كمنعه : رماه وأبعده».

وقال أحمد بن محمد الفيومي في كتاب المصباح المنير : «طرحته طرحا من باب نفع : رميت به ، ومن هنا قيل : يجوز أن يعدى بالباء فيقال :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب رمي الجمرة العقبة ـ الحديث ١.

(٢) سنن البيهقي ـ ج ٥ ص ١٢٨.

١٢

طرحت به ، لأن الفعل إذا تضمن معنى فعل جاز أن يعمل عمله ، وطرحت الرداء على عاتقي ألقيته عليه» انتهى.

وقال في كتاب شمس العلوم : «طرح الشي‌ء ألقاه ، يقال : طرحه وطرح به بمعنى ، والتحقيق المتسارع إلى الذهن أنه إذا قيل : رميت زيدا بالحجر ورميت الجمرة بالحصاة فلا معنى له إلا باعتبار القذف بها من بعد ورميها في الهواء حتى تصل إليه ، وإذا قيل : رميت الحجر أو رميت بالحجر فهو بمعنى إلقاؤه من يده وابعاده عنه ، وهذا المعنى هو الذي يطلق عليه الطرح ، فيقال : طرحته وطرحت به ، لا المعنى الأول ، وأما الوضع فهو أخص من ذلك».

ورابعها ـ إصابة الجمرة بها بفعله ، وهو مما لا خلاف فيه بين كافة العلماء.

وعليه يدل قوله (عليه‌السلام) في صحيحة معاوية بن عمار (١) : «إن رميت بحصاة فوقعت في محمل فأعد مكانها ، وإن أصابت إنسانا أو جملا ثم وقعت على الجمار أجزأك».

قال في الدروس : «والجمرة اسم لموضع الرمي ، وهو البناء أو موضعه مما يجتمع من الحصى ، وقيل : هو مجتمع الحصى لا السائل منه ، وصرح علي بن بابويه بأنه الأرض» انتهى.

وقال في المدارك : «وينبغي القطع بإصابة البناء مع وجوده ، لأنه المعروف الآن من لفظ الجمرة ، ولعدم تيقن الخروج عن العهدة بدونه ، أما مع زواله فالظاهر الاكتفاء بإصابة موضعه» انتهى. وهو جيد.

أقول : ولعل مستند ما نقل عن علي بن بابويه هنا قوله (عليه‌السلام)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب رمي الجمرة العقبة ـ الحديث ١.

١٣

في كتاب الفقه الرضوي (١) : «فإن رميت ووقعت في محمل وانحدرت منه الى الأرض أجزأ عنك ، وإن بقيت في المحمل لم تجز عنك ، وارم مكانها أخرى». فإن ظاهرها الاكتفاء بإصابة الأرض وإن كان من أول الرمي ، ولعله لو نقلت عبارته لكانت هي العبارة المذكورة كما عرفته غير مرة.

فلو وقعت على الأرض ثم وثبت إلى الجمرة بواسطة صدم الأرض أو المحمل أو نحو ذلك أجزأت كما سمعته من عبارة كتاب الفقه (٢) وصحيحة معاوية بن عمار (٣) والوجه فيه ظاهر ، لأنه مستند إلى رميه.

وكذا لو وقعت على ما هو أعلى من الجمرة ثم استرسلت إليها.

ولو شك في الإصابة أعاد ، لعدم تحقق الامتثال الموجب للبقاء تحت عهدة الخطاب.

وخامسها ـ أن يرميها متفرقة متلاحقة ، فلو رمى بها دفعة لم يجزه ، لأن المروي من فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأئمة (عليهم‌السلام) انما هو الأول ، وهي عبادة مبنية على التوقيف ، فلا يجزئ ما عدا ذلك ، وبذلك صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) أيضا.

قال في المنتهى : «ورمي كل حصاة بانفرادها ، فلو رمى الحصيات دفعة لم يجزء ، لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) رمى متفرقات ، وقال : خذوا عني مناسككم (٤)».

__________________

(١ و ٢) المستدرك ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب رمي الجمرة العقبة الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب رمي الجمرة العقبة ـ الحديث ١.

(٤) تيسير الوصول ـ ج ١ ص ٣١٢.

١٤

وفي الدروس أنها تحسب واحدة ، وفيه اشكال ، قال : «والمعتبر تلاحق الرمي لا الإصابة ، فلو أصابت المتلاحقة دفعة أجزأت ، ولو رمى بها دفعة فتلاحقت في الإصابة لم يجز» وفي الاجزاء في الصورة الأولى أيضا إشكال.

وبالجملة فالواجب الوقوف على الكيفية المنصوصة المعلومة من فعلهم (عليهم‌السلام) إذ لا مستند في أصل المسألة إلا ذلك كما عرفت ، والذي دلت عليه الاخبار ونقل من فعلهم (عليهم‌السلام) هو الرمي واحدة بعد واحدة.

وسادسها ـ مباشرة الرمي بنفسه ، فلو استناب غيره لم يجزه إلا مع الضرورة ، كما سيأتي بيانه إنشاء الله تعالى.

وسابعها ـ وقوع الرمي في وقته ، وهو من طلوع الشمس الى غروبها ، فلو رمى في ليلة النحر أو قبل طلوع الشمس لم يجز إلا لعذر ، كما تقدم وسيأتي بيانه إنشاء الله تعالى في المقام.

المسألة الثالثة

للرمي مستحبات (منها) الطهارة على الأشهر الأظهر ، ونقل عن الشيخ المفيد والمرتضى وابن الجنيد أنه لا يجوز الرمي إلا على طهر.

ويدل على المشهور ما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار (١) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في حديث قال : «ويستحب أن ترمي الجمار على طهر».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب رمي الجمرة العقبة ـ الحديث ٣.

١٥

وعن أبي غسان عن حميد بن مسعود (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رمي الجمار على غير طهر ، قال : الجمار عندنا مثل الصفا والمروة حيطان إن طفت بينهما على غير طهر لم يضرك ، والطهر أحب الي فلا تدعه وأنت قادر عليه».

وأما ما رواه الكليني في الصحيح عن محمد بن مسلم (٢) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن الجمار ، فقال : لا ترم الجمار إلا وأنت على طهر». وما رواه عبد الله بن جعفر الحميري في كتاب قرب الاسناد عن علي بن الفضل الواسطي (٣) عن أبي الحسن (عليه‌السلام) قال : «لا ترم الجمار إلا وأنت طاهر». فحملهما الأصحاب (رضوان الله عليهم) على الاستحباب كما هو صريح صحيح معاوية بن عمار.

ولعل من ذهب الى الوجوب استند إلى ظاهر هذين الخبرين ، الا أن وجه الجمع بينهما وبين غيرهما مما عرفت يقتضي الحمل على ما ذكروه (رضوان الله تعالى عليهم).

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب رمي الجمرة العقبة ـ الحديث ٥ عن أبي غسان حميد بن مسعود على ما في الطبع الحديث من الوسائل والاستبصار ج ٢ ص ٢٥٨. وفي التهذيب ج ٥ ص ١٩٨ الرقم ٦٦٠ ابن أبي غسان عن حميد بن مسعود وفي الوافي ج ٨ ص ١٦١ ابن أبي غسان حميد بن مسعود.

(٢ و ٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب رمي الجمرة العقبة ـ الحديث ١.

١٦

وقد تقدم في كتاب الطهارة في باب الأغسال المستحبة (١) أن بعض الأصحاب (رضوان الله تعالى عليهم) ذكر استحباب الغسل لرمي الجمار وقد قدمنا أنه لا دليل عليه.

ويؤيده أنه قد روى الكليني في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (٢) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الغسل إذا رمى الجمار ، قال : ربما فعلت ، فأما السنة فلا ، ولكن من الحر والعرق».

وعن الحلبي أيضا في الصحيح (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الغسل إذا أراد أن يرمي الجمار ، فقال : ربما اغتسلت ، فأما من السنة فلا».

وهذه الأخبار كما ترى ظاهرة في عدم استحباب الغسل ، وأنه ليس سنة وانما يقع لازالة العرق والحر ونحو ذلك.

و (منها) رمي جمرة العقبة مقابلا لها مستدبرا للقبلة ، وقال ابن أبي عقيل : «يرميها من قبل وجهها من أعلاها».

وقال الشيخ علي بن الحسين بن بابويه : «وتقف في وسط الوادي مستقبل القبلة يكون بينك وبين الجمرة عشر خطوات أو خمس عشرة خطوة وتقول وأنت مستقبل القبلة».

هكذا نقل عنه في المختلف بعد أن نقل عن المشهور انه يرمي هذه الجمرة من قبل وجهها مستدبر القبلة مستقبلا لها ، فان رماها عن يسارها

__________________

(١) ج ٤ ص ٢٣٦.

(٢ و ٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب رمي الجمرة العقبة الحديث ٢.

١٧

مستقبلا للقبلة جاز إلا أن الأول أفضل ، وهو اختيار الشيخ وابن أبي عقيل وأبي الصلاح وغيرهم ، وقال علي بن بابويه. ثم نقل العبارة المذكورة ، ثم قال : «لنا ما رواه معاوية بن عمار (١) عن الصادق (عليه‌السلام) ثم ائت الجمرة القصوى التي عند العقبة فارمها من قبل وجهها».

وظاهر كلامه قدس‌سره أنه فهم من كلام الشيخ علي بن بابويه المذكور هو رميها مستقبل القبلة ، فنسبه بهذا الى مخالفة المشهور من استحباب رميها مستدبر القبلة مقابلا لوجهها.

والشهيد في الدروس قد نقل عنه ما هذه صورته قال : «وقال علي بن بابويه يقف في وسط الوادي مستقبل القبلة ، ويدعو والحصى في يده اليسرى ، ويرميها من قبل وجهها لا من أعلاها ـ قال في الدروس ـ وهو موافق للمشهور إلا في موقف الدعاء» انتهى.

أقول : لا يخفى أن رسالة الشيخ المذكور لا تحضرني ، إلا أن عبارته المذكورة إنما أخذت من كتاب الفقه الرضوي على النمط الذي تكرر ذكره في غير مقام.

وهذه صورة عبارة الكتاب (٢) «وارم جمرة العقبة يوم النحر بسبع حصيات ، وتقف في وسط الوادي مستقبل القبلة يكون بينك وبين الجمرة عشر خطوات أو خمس عشرة خطوة ، وتقول وأنت مستقبل القبلة والحصى في كفك اليسرى اللهم هذه حصيات فاحصن لي عندك ، وارفعهن في عملي ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب رمي الجمرة العقبة ـ الحديث ١.

(٢) ذكر صدره في المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب رمي الجمرة العقبة ـ الحديث ٤ وذيله في الباب ـ ٣ ـ منها ـ الحديث ١.

١٨

ثم تتناول منها واحدة ، وترمى من قبل وجهها ، ولا ترمها من أعلاها ، وتكبر مع كل حصاة». انتهى.

وهو ظاهر فيما ذكره شيخنا الشهيد في الدروس من موافقة القول المشهور في رمي الجمرة العقبة من قبل وجهها ، والمخالفة في موقف الدعاء خاصة.

وبالجملة فإن صحيحة معاوية بن عمار قد دلت على أنه يرميها من قبل وجهها لا من أعلاها ، وهكذا عبارة كتاب الفقه المذكورة ، وهما ظاهرتان في الرد لما نقل عن ابن أبي عقيل ، ولم نقف له فيما نقل عنه على دليل.

وأما رمى الأولى والثانية فيرميهما عن يسارهما ويمينه مستقبل القبلة.

و (منها) البعد عن الجمرة بعشر خطوات أو خمس عشرة خطوة ، لما عرفت من عبارة كتاب الفقه ، وفي صحيحة معاوية بن عمار (١) «وليكن فيما بينك وبين الجمرة قدر عشرة أذرع أو خمسة عشر ذراعا». وهو قريب من الأول ، لأن ما بين الخطى لا يقصر عن الذراع ولا يزيد عليه غالبا.

و (منها) استحباب الدعاء ، ففي صحيحة معاوية بن عمار (٢) المتقدمة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «خذ حصى الجمار ثم ائت الجمرة القصوى التي عند العقبة فارمها من قبل وجهها. ولا ترمها من أعلاها ، وتقول والحصى في يدك : اللهم هؤلاء حصياتي فأحصهن لي ، وارفعهن في عملي ، ثم ترمي ، فتقول مع كل حصاة : الله أكبر ، اللهم أدحر عني الشيطان ، اللهمّ تصديقا بكتابك وعلى سنة نبيك ، اللهم اجعله حجا مبرورا وعملا مقبولا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا ، وليكن فيما بينك وبين الجمرة قدر عشرة أذرع أو خمسة عشر ذراعا ، فإذا أتيت رحلك ورجعت من الرمي فقل : اللهم بك وثقت وعليك توكلت ، فنعم

__________________

(١ و ٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب رمي الجمرة العقبة ـ الحديث ١.

١٩

الرب ونعم المولى ونعم النصير ، قال : ويستحب أن ترمي الجمار على طهر».

و (منها) استحباب التكبير مع كل حصاة ، كما في رواية كتاب الفقه (١) والتكبير مع الدعاء كما في صحيحة معاوية المتقدمة (٢).

وروى في الكافي في الصحيح عن يعقوب بن شعيب (٣) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في حديث قال : «ما أقول إذا رميت؟ قال : كبر مع كل حصاة».

و (منها) أن يكون الحصى في يده اليسرى ويرمي باليمنى ، وقد تقدم ما يدل على ذلك في عبارة كتاب الفقه (٤).

وفي رواية أبي بصير (٥) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : خذ حصى الجمار بيدك اليسرى وارم باليمنى».

و (منها) الرمي ماشيا على ما ذكره الأصحاب (رضوان الله تعالى عليه) وقد اختلف هنا كلام الشيخ.

فقال في كتاب النهاية : «لا بأس أن يرمي الإنسان راكبا ، وإن رمى ماشيا كان أفضل».

وقال في المبسوط لما ذكر رمي جمرة العقبة : «يجوز أن يرميها راكبا وماشيا ، والركوب أفضل ، لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) رماها راكبا» وهو اختيار ابن إدريس على ما نقله في المختلف.

__________________

(١ و ٤) المستدرك ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب رمي الجمرة العقبة ـ الحديث ١.

(٢) المتقدمة في ص ١٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب رمي الجمرة العقبة ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب رمي الجمرة العقبة ـ الحديث ٢.

٢٠