الحدائق الناضرة - ج ٢٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٦

نعم ، قال : قد زوجتك على ما تحسن من القرآن فعلمها إياه» (١).

وفي هذا الخبر مخالفات عديدة لقواعدهم منها : الموضع المذكور ، وهو وقوع القبول بلفظ الأمر ، مع أنهم أوجبوا أن يكون بلفظ الماضي ، ومنها : تقديم القبول على الإيجاب ، وجملة منهم يوجبون العكس.

وبالجواز كما دل عليه الخبر قاله الشيخ في المبسوط (٢) ومنعه ابن إدريس والعلامة في المختلف وجماعة واختلفوا في تنزيل الخبر ، فالشهيد في شرح الإرشاد نزله على أن الواقع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائم مقام الإيجاب والقبول لثبوت ولايته المستفادة من قوله عزوجل «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ».

ورد بأن الولي المتولي للعقد عنهما يعتبر وقوع كل من الإيجاب والقبول

__________________

(١) أقول : العجب أن شيخا الشهيد الثاني ـ رحمه‌الله عليه ـ في المسالك نقل الخبر بوضع آخر قال : كما ورد في خبر السهل الساعدي المشهور بين العامة والخاصة ورواه كل منهما في الصحيح ، وهو أن امرأة أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : يا رسول الله وهبت نفسي لك ، وقامت قياما طويلا ، فقام رجل وقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله زوجنيها ان لم يكن لك بها حاجة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هل لك من شي‌ء تصدقها إياه؟ فقال : ما عندي إلا إزاري هذا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ان أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك ، التمس ولو خاتما من حديد ، فلم يجد شيئا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هل معك من القرآن شي‌ء؟ قال : نعم سورة كذا وسورة كذا سماها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : زوجتك بما معك من القرآن. ويحتمل أنه أخذه من كتب العامة ، وأنه بهذه الكيفية في كتبهم والى ذلك تنبه سبطه في شرح النافع فاعترضه كما ذكرنا أيضا ، فقال ـ بعد نقلها ـ : قلت : ان هذه الرواية بهذا المتن لم أقف عليها في كتب روايات الأصحاب. انتهى (منه ـ رحمه‌الله ـ).

(٢) قال في المبسوط ج ٤ ص ١٩٤ : لو تقدم القبول في النكاح فقال الزوج : زوجنيها فقال : زوجتكها صح ، وان لم يعد الزوج القبول بلا خلاف لخبر سهل الساعدي. انتهى ، وفيه دلالة على جواز تقدم القبول مع كون القبول بلفظ الأمر ، وقال في المختلف ـ بعد نقل ذلك ـ : والوجه المنع ، لبعده من الإنشاء الموضوع له لفظ الماضي ، ولم يجب عن الخبر بشي‌ء. (منه ـ رحمه‌الله ـ).

١٦١

منه على حده ، ولا يكفي أحد من الفقهاء بلفظ واحد عنهما منه (١) وهو موضع وفاق ولا ضرورة إلى جعل ذلك من خصوصياته صلى‌الله‌عليه‌وآله مع وجود القبول اللفظي ، وقول جملة من العلماء به.

ومنهم من نزل الخبر على أن يكون الزوج قبل باللفظ بعد إيجاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن لم ينقل ، ولا يخفى ما فيه من التمحل والبعد من غير موجب لذلك إلا مجرد ما قدمناه عنهم من الدعاوي العارية عن الدليل والتخريجات التي لا توصل إلى سبيل.

ولو قامت مثل هذه التأويلات الباردة والتمحلات الشاردة لانسد أبواب الاستدلال إذ لا قول إلا وللتأويل فيه مجال ، فكيف يقوم لهم الاستدلال على مخالفيهم في الأصول وأصحاب الملل والأديان ، إذ أبدوا لهم مثل هذه الاحتمالات الغثة مع أنه لو تم لهم في هذا الخبر ، فإنه لا يتم في الخبر الأول.

ومنها الفصل الكثير بين الإيجاب والقبول ، وهم يوجبون المقارنة وفورية القبول.

وربما أجيب بأنه لا بأس بذلك إذا كان الكلام الفاصل لمصلحة العقد ، وإنما المانع تخلل الكلام الأجنبي.

وفيه أن الأصل لم يقم عليه دليل يلجئ إلى ارتكاب الحمل على ما ذكروا من التأويل على أن الظاهر من التذكرة جواز التراخي بين الإيجاب والقبول بما

__________________

(١) وهو موضع وفاق ولا ضرورة إلى جعل ذلك من خصوصياته صلى‌الله‌عليه‌وآله مع وجود القبول اللفظي وقول جملة من الفقهاء به ومنهم المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد قال ـ بعد ذكر المصنف الوقوع بلفظ الأمر ما لفظه ـ : وهو ظاهر المبسوط لخبر السهل الساعدي المشهور ، والأكثر لم يذكروه ، وفيه احتمال يدفع الدلالة وهو جواز أن يكون الواقع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إيجابا وقبولا عنهما لثبوت الولاية المستفادة من قوله تعالى «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» أو جواز أن يكون ملحوقا بقبول الزوج وان لم ينقل لنا مع أصالة عصمة الفرج فلا يثبت الا بمثبت. انتهى وفيه ما عرفت. (منه ـ قدس‌سره ـ).

١٦٢

يزيد على ما هنا ، فإنه قد اعتبر في الصحة وقوع الإيجاب والقبول في مجلس واحد وإن تراخى أحدهما عن الآخر.

وبالجملة فإن الظاهر من الخبر الاقتصار في العقد على ما وقع فيه كما وقع في الخبر المتقدم عليه وارتكاب هذه التأويلات الغثة والتمحلات البعيدة مع عدم الموجب لذلك غير مسموع ولا مقبول ، وهاتان الروايتان قد دلتا على انعقاده بلفظ الأمر.

ونحوهما رواية مؤمن الطاق (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : «يقول لها : زوجيني نفسك متعة على كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله نكاحا غير سفاح ـ الحديث».

وأما ما يدل على انعقاده بلفظ المستقبل المقترن بقصد الإنشاء ـ كأن يقول الزوج «أتزوجك» مريدا به الإنشاء فتقول «زوجتك» وبه قال ابن أبى عقيل والمحقق وجماعة ـ فجملة من الأخبار.

منها : رواية أبان بن تغلب (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : كيف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال : تقول : أتزوجك متعة على كتاب الله وسنة نبيه لا وارثة ولا موروثة كذا وكذا يوما ، وإن شئت كذا وكذا سنة بكذا وكذا درهما وتسمي من الأجر ما تراضيتما عليه قليلا كان أم كثيرا ، فإذا قالت نعم فقد رضيت فهي امرأتك ، وأنت أولى الناس بها ـ الحديث».

وما رواه الكليني في الحسن عن ثعلبة (٣) قال : «تقول ، أتزوجك متعة على كتاب الله وسنة نبيه نكاحا غير سفاح وعلى أن لا ترثيني ولا أرثك كذا وكذا يوما بكذا وكذا درهما وعلي أن عليك العدة».

وعن هشام بن سالم (٤) قال : «قلت : كيف يتزوج المتعة؟ قال : تقول :

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٦٣ ح ٦١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٦٧ ح ٥.

(٢ و ٣ و ٤) الكافي ج ٥ ص ٤٥٥ ح ٣ و ٤ و ٥ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٦٥ ح ٧٠ وص ٢٦٣ ح ٦٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٦٦ ح ١ و ٢ و ٣.

١٦٣

يا أمة الله أتزوجك كذا وكذا يوما بكذا وكذا درهما ، فإذا مضت تلك الأيام كان طلاقها في شرطها ولا عدة لها عليك».

وعن أبي بصير (١) في الموثق قال : «لا بد أن يقول فيه هذه الشروط : أتزوجك متعة كذا وكذا يوما بكذا وكذا درهما نكاحا غير سفاح على كتاب الله وسنة نبيه وعلى أن لا ترثيني ولا أرثك على أن تعتدي خمسة وأربعين يوما».

وإلى القول بالمنع ذهب العلامة ، ونقله عن ابن حمزة ، وبه صرح الشهيد في شرح الإرشاد (٢) ، والعلامة في المختلف نقل رواية أبان ولم يتعرض للجواب عنها ، والشهيد ردها بضعف الاسناد.

وفيه ما عرفت من أن الدليل غير منحصر في الرواية المذكورة بل الدال على ذلك جملة من الروايات ، وفيها الحسن باصطلاحهم ، وربما يتخيل أنه لا يلزم من وقوع المتعة بصيغة المستقبل وقوع الدائم بها ، لما بينهما من الاختلاف.

وفيه (أولا) أن الغرض من نقل هذه الأخبار ونحوها إنما هو بيان ما في قواعدهم المذكورة من الفساد والخروج عما وردت به أخبار سادات العباد ، فإنك قد عرفت أن من قواعدهم اشتراط هذه الشروط ، أعني ما ضوئه الإيجاب والقبول ونحوها مما تقدم في العقود اللازمة.

ولا ريب أن عقد المتعة من جملة العقود اللازمة مع أن الاخبار دلت على جواز القبول فيه بلفظ الأمر ولفظ الاستقبال وبه يعلم انخرام هذه القاعدة ، وعدم اشتراط الماضوية في العقود اللازمة كما ادعوه.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٦٣ ح ٦٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٦٧ ح ٤.

(٢) قال في شرح الإرشاد : والثاني وقوعه بلفظ المستقبل وهو قول ابن عقيل وظاهر المحقق نجم الدين عملا برواية أبان بن تغلب في المتعة ، وسيأتي أن كل لفظ صالح للمتعة صالح للدوام ، للنص على انقلاب المتعة دائما من دون لفظ الدوام ، وجوابه بعد التمسك بالأصل منع صحة السند أولا ومنع كلية الكبرى ثانيا ، وسيأتي الخلاف في انقلابه دائما أو بطلانه. انتهى. (منه ـ رحمه‌الله ـ).

١٦٤

ودعوى كون ذلك مختصا بعقد المتعة يتوقف على ثبوت دليل على أصل القاعدة المدعاة مع أنه لا دليل عليها إلا دعواهم المتقدمة وتخريجاتهم المنخرمة.

و (ثانيا) أنه لا ريب أن لفظ التزويج صالح للدائم والمنقطع ، وإنما يفترقان بذكر الأجل وعدمه ، ولهذا قيل : إنه لو قصد المتعة وأهمل ذكر الأجل انقلب دائما فدل على اشتراكهما في اللفظ الدال على العقد بل دل على جواز إيقاع الدائم بلفظ التمتع كما قيل.

وحينئذ فيلزم من صحة عقد التمتع بالمضارع صحة الدائم به.

قالوا : ولا يشترط في القبول مطابقته لعبارة الإيجاب ، بمعنى أن يكونا من مادة واحدة بل تصح إن اختلفا بأن يقال زوجتك فيقال قبلت النكاح أو رضيت به أو يقال أنكحتك فيقال قبلت التزويج أو تزوجت.

والوجه في ذلك أن المعتبر من القبول اللفظي ما دل على الرضا بالإيجاب أعم من أن يكون أحد اللفظين المشهورين أو غيرهما مما دل المعنى المقصود منهما.

ثم إنهم قد اختلفوا فيما لو قال : زوجت بنتك من فلان فقال : نعم فقال الزوج : قبلت ، فقيل : بالصحة ، ونقل عن الشيخ ـ رحمه‌الله ـ وبه جزم المحقق في النافع ، وتردد في الشرائع ، وعلله في النافع بأن «نعم» يتضمن السؤال بمعنى أنها وضعت لتصديق ما تقدم فتحذف الجملة بعدها وتقوم هي مقامها فإذا قصد بها الإنشاء فقد أوجب ، لأنه في قوة «نعم زوجت بنتي من فلان» فإذا قبل الزوج تم العقد ، ويعضده رواية أبان المتقدمة ، وكذا رواية عبيد بن زرارة السابقة أيضا.

وقيل بعدم الصحة ونسبه في المسالك إلى الأشهر بين الأصحاب نظر إلى ما تقدم من أن الموضوع شرعا في سببية النكاح وحصوله هو أحد اللفظين أو الثلاثة على الخلاف المتقدم فيجب الاقتصار عليها ، لأن الأسباب الشرعية لا يقاس عليها ، فجزء العقد غير مذكور وإن وجد ما يدل عليه ، والمسألة لا تخلو من تردد وإن كان القول الأول لا يخلو من قوة.

١٦٥

وظاهره في المسالك ما ذكرناه أيضا ، حيث إنه اقتصر على مجرد نقل حجج القولين ولم يرجح شيئا في البين ، إلا أنه قال : وقد تقدم في المسائل السابقة ما يؤيد الأول ، وأشار به إلى ما قدمناه أولا ، ونحوه سبطه السيد السند في شرح النافع حيث قال بعد ذكر القول الثاني : ثانيا : وهو أولى ، وإن كان الأول لا يخلو من قرب.

ووجه القوة والقرب فيه ما عرفت في غير مقام مما تقدم في الكتب المتقدمة ، أن ما ادعوه من وضع ألفاظ مخصوصة للعقود اللازمة بحيث لا يجوز تجاوزها ولا الخروج عنها مما لم يقم عليه دليل.

وإنما المستفاد من الأخبار هو كل ما أفهم المقصود ودل عليه في طرف الإيجاب كان أو القبول ، ومن الجائز أن خروج هذين اللفظين أو الثلاثة في هذا المقام إنما هو من حيث كونها هي الجارية في المحاورات ، لا من حيث الاختصاص ، ويؤيد ذلك بالروايتين المشار إليهما هنا.

هذا وما قدمنا نقله عنهم من وجوب الترتيب بتقديم الإيجاب وتأخير القبول هو أحد القولين في المسألة ، وهو المشهور بينهم ، وهو الذي صرح به الشيخ في المبسوط «العدم» (١) مدعيا عليه الإجماع ، وهو الأقوى لما عرفت من دلالة جملة من الأخبار المتقدمة عليه.

ويؤيده أيضا أن غاية ما يفهم من الأخبار هو وجوب اشتمال العقد على الإيجاب والقبول ، وأما وجوب الترتيب كما يدعونه فلا دليل عليه ، وحينئذ فيصح العقد لحصول المقتضي ، وهو العقد الجامع لشرائط الصحة.

وربما علل وجوب الترتيب بأن حقيقة القبول الرضاء بالإيجاب ، فإذا وجد قبل لم يكن قبولا ، وفيه أنه مع الإغماض عن المناقشة في عدم ثبوت الأحكام الشرعية بأمثال هذه التعليلات العقلية مسلم لو انحصر القبول في لفظ قبلت أو رضيت مثلا.

__________________

(١) أقول : قد تقدم عبارته بذلك في الحاشية المتقدمة فليلاحظ. (منه ـ قدس‌سره ـ).

١٦٦

أما مع كونه بلفظ تزوجت ونكحت أو أتزوجك ونحوه كما تقدم في الأخبار فلا ، لأنه في معنى الإيجاب ، وإن سمي قبولا اصطلاحا ، وفي الحقيقة أن كلا منهما موجب وقابل.

وربما صار بعض المانعين إلى الفرق بين النكاح وغيره ، فمنع من تقديم القبول في غير النكاح ، وجوز فيه ، مستندا إلى أن الإيجاب يقع من المرأة ، وهي تستحي غالبا فيمنعها الحياء من أن تبتدئ به فإذا ابتدء الزوج بالقبول المتضمن لكل ما يطلب في العقد من المهر والشروط السابقة خفت المئونة على المرأة ، ولم يفت المطلوب ، وتعدى الحكم إلى ما لو كان القبول من وكيلها أو وليها تبعا وطردا للباب ، ولا يخفى ما فيه ، والاعتماد على ما قدمناه أولا.

المسألة الثانية : المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) عدم جواز العدول عن العربية إلى الترجمة بالفارسية ونحوها إلا مع العجز.

وقيل : إن اعتبار العربية إنما هو على جهة الاستحباب ، وإلا فإنه يجوز الترجمة اختيارا ، والأول مذهب الشيخ في المبسوط حيث قال : إذا كان لا يحسن العربية صح العقد بلفظ التزويج بالفارسية ، وإن كان يحسنها لم ينعقد إلا بلفظ النكاح أو التزويج ، لأنه لا دلالة عليه ، وادعى عليه الإجماع.

وتبعه على هذه المقالة من تأخر عنه من الأصحاب إلا ابن حمزة ، فإنه قال : فإن قدر المتعاقدان على القبول والإيجاب بالعربية عقد بها استحبابا ، وهو ظاهر في جواز العقد بالترجمة وإن كان قادرا على العربية.

احتج الأصحاب على القول المشهور بأن هذين اللفظين ـ أعني زوجتك وأنكحتك ـ لما كانا متعينين في الإيجاب وهما عربيان قد ثبت شرعا التعبير بهما عن هذا المعنى ، وكونهما سببا في عقده لم يجز العدول عنهما إلى غيرهما من الألفاظ الدالة عليهما بغير العربية ، وقوفا على ما حده الشارع ونصبه سببا ، ولأصالة بقاء

١٦٧

الفروج على التحريم إلى أن يثبت المزيل ، ولأن غير العربية وإن أدت معناهما كالكنايات الدالة عليهما بالعربية ، فكما لا يصح العقد عندنا بالكنايات لا يصح بغير العربية ، ولأن العقود المتلقاة من الشارع كلها عربية ، فالعدول عنها عدول إلى ما لم يثبت شرعا كونه سببا لترتب الأحكام الخاصة.

أقول : ويرد على الوجه الأخير أنه من الجائز أن السبب في ذلك إنما هو من حيث إنه لما كانوا عربا ومحاوراتهم ومخاطباتهم وما يجري من الكلام بينهم إنما هو بالعربية ، من حيث إنها هي اللغة التي جبلوا عليها ، فجرت العقود الواقعة منهم على هذا المجرى ، فلا دلالة في ذلك على خصوصية العقود بذلك كما ادعوه.

احتج ابن أبي حمزة بأن المقصود من الألفاظ دلالتها على الرضا الباطني ، فكل ما دل عليه كفى.

ولأن غير العربية إذا دل عليه اللفظ المطلوب منها كالمترادف الذي يجوز إقامته مقام رديفه ، ولا نسلم أن تجويز ذلك يستلزم تجويز الكناية ، للفرق بينهما ، فإن ما دل على اللفظ الصريح صريح ، بخلاف الكناية الدالة بالفحوى ، كالبيع والهبة.

وربما أيد ذلك باتفاق الأصحاب ظاهرا على إجزاء الترجمة ممن لا يحسن العربية ، وأنه لا يوجب عليه التوكيل في العقد ، ولو لا ثبوت كون العقد الواقع بغير العربية سببا في الحل لما أجزأ ذلك ، والفرق بين القادر على العربية وغيره غير مستفاد من النقل.

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك التوقف في المسألة حيث اقتصر على نقل القولين ونقل حججهما كما ذكرناه ، ولم يرجح شيئا منهما ، ولا طعن في شي‌ء من دليلهما ، وهو أيضا ظاهر سبطه السيد السند في شرح النافع ، بل صريحه حيث قال بعد ذكر القولين ودليلهما : والمسألة محل إشكال. والظاهر أن منشأ

١٦٨

ذلك تأييد كلام ابن حمزة بما تقدم في غير مقام من الأبحاث المتقدمة من أن المدار في صحة العقود على التراضي من الطرفين والاتفاق من الجانبين ، فكل ما أشعر بذلك من الألفاظ كان كافيا في البين.

ودعوى أن للعقود اللازمة ألفاظا مخصوصة تدور الصحة معها وجودا وعدما مما لم يقم عليه دليل ، وهو جيدا كما عرفت فيما تقدم.

إلا أنه قد روى الثقة الجليل عبد الله بن جعفر الحميري (١) في كتاب قرب الاسناد عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة قال : «سمعت جعفر بن محمد عليهما‌السلام يقول : إنك قد ترى من المحرم من العجم لا يراد منه ما يرد من العالم الفصيح ، وكذلك الأخرس في القراءة للصلاة والتشهد وما أشبه ذلك فهذا بمنزلة العجم المحرم لا يراد منه ما يراد من العاقل المتكلم الفصيح ، ولو ذهب العالم المتكلم الفصيح حتى يدع ما قد علم أنه يلزمه ويعمل به ، وينبغي له أن يقوم به حتى يكون ذلك منه بالنبطية والفارسية ، فحيل بينه وبين ذلك بالأدب حتى يعود إلى ما قد علمه وعقله ، قال : ولو ذهب من لم يكن في مثل حال الأعجمي المحرم ففعل فعال الأعجمي والأخرس علي ما قد وصفنا إذا لم يكن أحد فاعلا لشي‌ء من الخير ولا يعرف الجاهل من العالم».

أقول : قال في النهاية الأثيرية (٢) «فأرسل إلى ناقة محرمة» المحرمة هي التي لم تركب ولم تذلل».

وفي الصحاح (٣) : جلد محرم أي لم تتم دباغته ، وسوط محرم : لم يلين بعد ، وناقة محرمة : أي لم تتم رياضتها بعد ، وقال : كل من لا يقدر على الكلام أصلا فهو معجم ومستعجم ، والعجم الذي لا يفصح ولا يبين كلامه. انتهى.

__________________

(١) قرب الاسناد ص ٢٤ ، الوسائل ج ٤ ص ٨٠٢ ح ٢.

(٢) النهاية الأثيرية ج ١ ص ٣٧٤.

(٣) ج ٥ ص ١٨٩٦.

١٦٩

ومنه يعلم إطلاق المحرم في هذا الخبر على من لم يمكنه التكلم بالعربية الفصيحة والإتيان بالقراءة والدعاء والعقود ونحوها على الوجه العربي ، لشبهه بالدابة التي لم تذلل ، ونحوها مما ذكر لعدم لين لسانه وتذليله بالنطق بالعربية والخبر ظاهر في التفصيل بين من لا يمكنه ذلك بالكلية ـ فيجزيه ما يأتي به من الفارسية ونحوها من اللغات ، ويصح ما يأتي به من القراءة والتشهد ونحوهما الفارسية ونحوها من اللغات ، ويصح ما يأتي به من القراءة والتشهد ونحوهما من التلبيات والعقود وإن لم يكن على نهج العربية ، وينبغي تقييده بما إذا ضاق الوقت عن التعلم أو عدم إمكانه بالكلية ، كالألكن والألثغ ونحوهما. ومن يمكنه الإتيان باللغة العربية الفصيحة ، فإنه لا يجزيه ذلك ولا يجوز له ، بل يحال بينه وبين ما يأتي به من غير اللغة العربية بالأدب والمنع.

إلا أن الظاهر أن مورد الخبر وما ذكر فيه من التفصيل إنما هو ما ثبت شرعا أن التكليف به إنما وقع باللغة العربية كالصلاة وقراءة القرآن والدعاء والتلبيات ونحو ذلك.

وأما ما لم يقم دليل على التكليف به باللغة المذكورة ، بل إنما هو من قبيل الألفاظ الجارية في المحاورات ، فليس من الخبر في شي‌ء ، لأن التأديب فيما لو خالف كما صرح به في الخبر إنما يترتب على ما ذكرنا ، وإليه يشير قوله «ولو ذهب العالم المتكلم الفصيح حتى يدع ما قد علم أنه يلزمه ويعمل به وينبغي أن يقوم به. إلى آخره».

وحينئذ فلو ثبت ما ادعاه أصحاب القول المشهور من تعيين هذه الألفاظ المدعاة شرعا لأمكن انصباب الحديث عليه وإدخال العقود فيه ، إلا أنك قد عرفت ما فيه ، وأنه لا دليل على ذلك إن لم يكن الدليل على خلافه.

وأما ما رواه وهب بن وهب (١) عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام قال : «كل

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٣٨ ح ٣١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٩٧ ب ١٧.

١٧٠

طلاق بكل لسان فهو طلاق». فإن قلنا : إنه لا يصح الطلاق شرعا إلا بتلك الصيغة المشهورة كما هو ظاهر الأصحاب ، وجب حمل الخبر على تعذر العربية ، ولهذا حمله جملة من الأصحاب علي ذلك ، وإلا جرى فيه ما نحن فيه من هذه المسألة ، وصح الطلاق بأي لسان كان ، وبالجملة فالمسألة غير خالية من الإشكال في المقام كما عرفت من كلام أولئك الأعلام.

بقي الكلام في الاعراب ، والظاهر أن كل من جوز التعبير بغير اللغة العربية اختيارا جوز اللحن لو أتى باللفظ العربي الذي لا يغير المعنى بالطريق الأولى.

وأما من اشترط الصيغة العربية ـ كما هو المشهور ـ فبعض منهم اقتصروا على ذلك ، ولم يذكروا وجوب الاعراب ، وظاهرهم عدم اشتراطه ، لأن تركه لا يخل بأصل اللفظ العربي ، والأصل عدمه ، وبعض منهم صرح باشتراطه مع القدرة لعين ما تقدم في اشتراط العربية ، فإن المنقول عن الشارع غير ملحون قطعا ، هذا كله مع الإمكان.

وأما مع العجز أو المشقة عادة : فالظاهر أنه لا خلاف في الصحة ، وهل يجب التوكيل؟ الظاهر العدم.

ويؤيده الاكتفاء بإشارة الأخرس في عقوده وإيقاعاته وأنه لا يجب عليه التوكيل ، وإذا اكتفى في ذلك بالإشارة فاللفظ الغير العربي بطريق أولى.

وأما مع إمكان التعلم بغير عسر ولا مشقة ، فإنه لا يصح بدونه ، قالوا : ولو عجز دون الآخر تكلم كل منهما بما يحسنه ، فإن كان الاختلاف في اللحن فأمره سهل لفهم كل منهما لغة الآخر ، وإن كان الاختلاف في أصل العربية اعتبر فهم كل منهما لغة الآخر ليتحقق التخاطب والقصد إلى مدلول ما عبر به الآخر ، ولو لم يفهم أحدهما كلام الآخر فلا بد من مترجم ثقة يعرفه المراد.

ولو عجزا معا عن النطق أصلا أو أحدهما اقتصرا أو أحدهما على الإشارة إلى

١٧١

العقد والإيماء به أعم من أن يكون العجز بخرس أصلي أو غيره ، وحينئذ فيكتفى بالإشارة كما يكتفى في أذكار الصلاة وسائر التصرفات القولية ، بشرط كون الإشارة مفهمة للمراد ، دالة على القصد القلبي بحسب ما يعرف حاله ، قاله المحقق الشيخ علي وكأنه لا خلاف فيه.

أقول : لم أقف في الأخبار على ما يدل على نكاح الأخرس وعقده ، نعم ورد في طلاقه جملة روايات دالة على صحة طلاقه بالإشارة كما ذكروه ، والظاهر أنه كذلك.

فمن الأخبار المذكورة ما رواه في الكافي (١) في الصحيح عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل تكون عنده المرأة ثم يصمت فلا يتكلم ، قال : يكون أخرس؟ قلت : نعم فيعلم منه بغض لامرأته وكراهته لها ، أيجوز أن يطلق عنه وليه؟ قال : لا ، ولكن يكتب ويشهد على ذلك ، قلت : أصلحك الله فإنه لا يكتب ولا يسمع كيف يطلقها ، قال : بالذي يعرف منه من أفعاله مثل ما ذكرت من كراهته وبغضه لها».

وفي خبر آخر (٢) طلاق الأخرس «يلف قناعها على رأسها ويجذبه».

وفي ثالث (٣) «يأخذ مقنعتها فيضعها على رأسها ويعتزلها».

وفي رابع (٤) «في رجل أخرس كتب في الأرض بطلاق امرأته فقال : إذا فعل ذلك في قبل الطهر بشهود وفهم عنه كما يفهم من مثله ويريد الطلاق جاز طلاقه على السنة.

المسألة الثالثة : الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في عدم انعقاد النكاح بعبارة الصبي ولا عبارة المجنون لا إيجابا ولا قبولا لنفسه أو لغيره ، لأن عبارة كل منهما مسلوبة في نظر الشارع إلا أن يكون الجنون أدوارا ، فيقع في حال الإفاقة.

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الكافي ج ٦ ص ١٢٨ ح ١ و ٢ و ٣ و ٤، الوسائل ج ١٥ ص ٢٩٩ ح ١ و ٢ و ٣ و ٤.

١٧٢

وبالجملة فالمعتبر قصد المكلف إلى العقد ، واختلفوا في عبارة السكران الذي لا يعقل ، والمشهور بينهم أنها باطلة كما تقدم ، قلا تعتبر ، لأن شرط صحة العقد القصد إليه ، والسكران الذي بلغ من السكر حدا أزال عقله وارتفع قصده ، نكاحه باطل كغيره من عقوده ، ولا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى.

وذهب الشيخ في النهاية إلى أنه إذا زوجت السكرى نفسها ثم أفاقت فرضيت أو دخل بها فأفاقت وأقرته كان صحيحا.

قال في الكتاب المذكور : وإذا عقدت المرأة على نفسها وهي سكرى كان العقد باطلا ، فإن أفاقت ورضيت بفعلها كان العقد ماضيا ، فإذا دخل بها الزوج حال السكر ثم أفاقت الجارية ، فأقرته كان ذلك ماضيا ، وتبعه ابن البراج.

وقال ابن إدريس : الذي يقوى عندي أن هذا العقد باطل ، فإذا كان باطلا فلا يقف على الرضاء والإجازة ، لأنه لو كان موقوفا وقف على الفسخ والإجازة.

وشيخنا قال : كان العقد باطلا ، فكيف يكون في نفسه بعد الإفاقة والرضاء ماضيا ، وأيضا العقد حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ولا دليل على ذلك من كتاب ولا سنة متواترة ولا إجماع ، ولا يرجع في مثل ذلك إلى أخبار الآحاد ، انتهى ، وإلى هذا القول ذهب من تأخر عنه.

أقول : والشيخ قد عول في هذه المسألة على ما رواه هو والصدوق في الفقيه عن محمد بن إسماعيل بن بريع (١) في الصحيح قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن امرأة ابتليت بشرب النبيذ فسكرت فزوجت نفسها رجلا في سكرها ثم أفاقت فأنكرت ذلك ثم ظنت أنه يلزمها ففزعت منه فأقامت مع الرجل على ذلك التزويج ، إحلال هو لها ، أم التزويج فاسد لمكان السكر ولا سبيل للزوج عليها؟ فقال : إذا

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٩٢ ح ٤٧ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٥٩ ح ١٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٢١ ح ١.

١٧٣

أقامت معه بعد ما أفاقت فهو رضا منها ، قلت : ويجوز ذلك التزويج عليها؟ فقال : نعم».

والمتأخرون عن ابن إدريس فمن دونه قد أطرحوا الرواية لما فيها من المخالفة لمقتضى القواعد.

وقال العلامة في المختلف ـ بعد أن اختار مذهب ابن إدريس وإيراد الخبر المذكور حجة للشيخ رحمة الله عليه ، ما لفظه ـ : والتحقيق أن نقول إن بلغ السكر بها إلى حد عدم التحصيل كان العقد باطلا ، ولا ينعقد بإقرارها ، لأن مناط صحة العقود وهو العقل منفي ، فينتفي هنا وإن لم يبلغ السكر إلى ذلك الحد صح العقد مع تقديرها إياه ، وعليه تحمل الرواية. انتهى.

وأورد عليه بأنه إذا لم يبلغ ذلك الحد فعقدها صحيح وإن لم تقرره وترضى به بعد ذلك فالجمع بين صحة عقدها واعتبار رضاها بعد ذلك غير مستقيم.

أقول : لا ريب أن مقتضى القواعد هو ما عليه القول المشهور ، لأن العقد مع زوال العقل وعدم الشعور بالكلية باطل ، لعدم تحقق القصد الذي هو المناط في صحة العقود ، ومتى حكم ببطلانه فالإجازة له بعد الإفاقة لا تؤثر صحة ، لأن الإجازة لا تصحح ما وقع باطلا من أصله وإنما محل الإجازة بالنسبة إلى الموقوف به كما ذكره ابن إدريس ، وهو الذي يكون صحيحا غير لازم ، إلا أنه لما كان سند الرواية المذكورة صحيحا باصطلاحهم ضاق على بعض الأصحاب ـ هذا الاصطلاح المحدث ـ المخرج منها والتفصي عن ذلك.

قال في المسالك بعد ذكر الخبر المذكور : وعمل بمضمون الرواية الشيخ في النهاية ومن تبعه ، وله عذر من حيث صحة سندها ، ولمن خالفه عذر من حيث مخالفتها للقواعد الشرعية ـ إلى أن قال بعد رد تأويل المختلف بما تقدم ـ : بل اللازم إما إطراح الرواية رأسا أو العمل بمضمونها ، ولعل الأول أولى.

١٧٤

وفيه أن ما اعتذر به عن الشيخ ليس في محله ، فإن صحة الأخبار عند المتقدمين من الشيخ وغيره ليس باعتبار الأسانيد كما هو ظاهر ، وسبطه السيد السند في شرح النافع لما كان من قاعدته التهافت على صحة الأسانيد إختار العمل بالرواية وأغمض النظر عما فيها من مخالفتها لقواعدهم ، بل انكسر دلالتها على المخالفة ، فقال : وهذه الرواية مروية في الفقيه بطريق صحيح أيضا ، وليس فيها ما يخالف الأدلة القطعية فيتجه العمل بها.

وفيه ما عرفت مما أوضحناه من مخالفتها الأدلة القطعية ، ولكنه لتهافته على صحة الأسانيد لا يبالي بما اشتمل عليه متن الروايات من المخالفات كما أوضحناه في غير موضع من كتب العبادات.

وكيف كان ففي ذلك تأييد لما قدمناه في غير موضع من أن الواجب العمل بالرواية وأن يخصص بها عموم ما دلت عليه تلك القواعد المذكورة.

ويمكن تأييد هذه الرواية بما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي (١) قال : «قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام الغلام له عشر سنين فيزوجه أبوه في صغره ، أيجوز طلاقه وهو ابن عشر سنين؟ قال : فقال : أما التزويج فهو صحيح ، وأما طلاقه فينبغي أن تحبس عليه امرأته حتى يدرك ، فيعلم أنه كان قد طلق ، فإن أقر بذلك وأمضاه فهي واحدة بائنة وهو خاطب من الخطاب ، وإن أنكر ذلك وأبى أن يمضيه فهي امرأته» الحديث.

والتقريب فيه أن المشهور بينهم أن عبارة الصبي كما تقدم غير معتبرة ولا صحيحة ، في طلاق كان أو نكاح ، بل هي باطلة في حكم العدم.

وهذا الخبر مع صحة سنده باصطلاحهم قد دل على أنه إذا طلق وهو ابن عشر سنين ثم بعد بلوغه أجاز الطلاق ورضي به ، فإن الطلاق يكون صحيحا وهو

__________________

(١) ما عثرنا بهذه الرواية في التهذيب ونقلناها عن الفقيه ج ٤ ص ٢٢٧ ح ٣ ، الوسائل ج ١٧ ص ٥٢٨ ح ٤.

١٧٥

خلاف مقتضى القواعد ، فإنه كيف يكون صحيحا بالرضاء به بعد البلوغ وهو باطل من أصله كما عرفت.

وتزويج الأب له صحيح لازم له ، وطلاقه في حال الصغر غير صحيح عندهم وإجازته بعد البلوغ غير موجبة لصحة ما كان باطلا من أصله فهو عين ما تقدم في خبر السكرانة ، لا يقال : إنه قد وردت أخبار في صحة طلاق ابن عشر ، وبها قال بعض الأصحاب ، فيكون هذا منها أيضا.

لأنا نقول : نعم ، ولكن هذا الخبر لا يجري ذلك المجرى ، لأنه لم يحكم في هذا الخبر بصحة طلاقه في حال الصغر كما دلت عليه تلك الأخبار ، بل جعله موقوفا على الرضاء والإجازة بعد البلوغ.

وبالجملة فإن الكلام في هذا الخبر عين الكلام في ذلك الخبر فالواجب كما قدمنا ذكره هو العمل بالخبر وتخصيص القواعد المذكورة بالخبرين المذكورين فإنهما على نهج واحد في مخالفة القواعد المقررة بينهم وإطراحها سيما مع صحة السند باصطلاحهم مما لا سبيل إليه ، وإن كانوا قد أطرحوا ذلك الخبر في مقابلة القواعد المذكورة ، وقد عرفت اعتضاده بهذا الخبر كما أوضحناه ويعضدهما أيضا روايات كثيرة تقدمت في كتب المعاملات ظاهرة في مخالفة القواعد المقررة بينهم قد عمل بها الشيخ وأتباعه ، فناقش فيها ابن إدريس ومن تبعه كما لا يخفى على من جاس خلال الديار ، والتقط من لذيذ هذه الثمار ، والله العالم.

تذنيب :

قالوا : إذا أوجب ثم جن أو أغمي عليه بطل حكم الإيجاب ، فلو حصل القبول بعد ذلك كان لغوا ، وكذا لو سبق القبول وزال عقله ، فلو أوجب الولي بعده كان لغوا ، وعللوه بأن العقد اللازم قبل تمامه يكون بمنزلة الجائز ، يجوز لكل منهما فسخه فيبطل بما يبطل به الجائز ، ومن جملته الجنون والإغماء ولا فرق في ذلك بين النكاح والبيع وغيرهما من العقود اللازمة.

١٧٦

أقول : لم أقف لهم في هذا المقام علي دليل شاف يدل على البطلان كما ذكروه.

وما ادعوه من حمله على العقد الجائز وأن العقد الجائز كالوكالة ونحوها تبطل بالجنون والإغماء محل منع ، فإنا لم نقف لهم فيه أيضا على دليل إلا ما يظهر من دعوى بعضهم الإجماع على ذلك ، وقد عرفت ما في هذه الإجماعات وإلى ذلك أشرنا في كتاب الوكالة أيضا.

وبالجملة فإني لا أعرف هنا مانعا من صحة العقد لو عرض الجنون أو الإغماء بعد الإيجاب ، ثم حصل القبول بعد زوالهما من غير حاجة إلى تجديد إيجاب آخر ، لصدق حصول العقد الشرعي المشتمل على الإيجاب والقبول.

وما ربما يتخيل من الفصل بين الإيجاب والقبول وعدم الفورية في القبول فقد تقدم الكلام فيه ، وأنه لا دليل عليه ، بل الظاهر من الدليل خلافه كما تقدمت الإشارة إليه في المسألة الاولى في الكلام على حديث الساعدي.

ومما يعضد ما ذكرناه وجود النظير لذلك في مواضع من الأحكام.

منها ما صرحوا به من دخول الصيد الغائب في ملك المحرم بعد زوال الإحرام ، وأن من وكل محرما ثم صار محلا لم يحتج إلى تجديد الوكالة بعد تحلله من الإحرام ، والظاهر من ذلك أن ما وقع من العقد باق على الصحة ، وإن تخلف أثره لمانع ، وظاهرهم أن النوم هنا لا يقدح في الصحة ، كما لا يقدح في الوكالة ونحوها من العقود الجائزة ، لكن هل يصح الإتيان هنا بالقبول للآخر حالته؟ قيل : لا ، وبه قطع في التذكرة على ما نقله عنه في المسالك ، قال : لأن التخاطب بين المتعاقدين معتبرة ، وهو منتف مع نوم صاحبه ، ومن ثم لو خاطب شخصا بالعقد فقبل الآخر لم يصح به.

قال : ويحتمل الصحة هنا ، لأن الإيجاب توجه إلى هذا القابل قبل النوم ، والأصل الصحة ، مع أنه في التذكرة أيضا قال في موضع آخر على ما نقله الناقل

١٧٧

المتقدم ذكره : لو قال المتوسط للولي ، زوج ابنتك من فلان ، فقال زوجت ، ثم أقبل على الزوج فقال : قبلت نكاحها ، فالأقرب صحة العقد. وهو أصح وجهي الشافعية ، لوجود ركني العقد «الإيجاب والقبول» وارتباط أحدهما بالآخر ، والثاني لا يصح لعدم التخاطب بين المتعاقدين ، ولا يخفى ما بين هذين الكلامين من التنافي ، والله العالم.

المسألة الرابعة : إذا اعترف الزوج بزوجية امرأة ، أو الزوجة بزوجية الرجل ، وصدق كل منهما الآخر في الصورتين ، فإنه لا ريب في الحكم بالزوجية في ظاهر الشرع ، وكذا ما يترتب عليها من الأحكام لعموم «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» (١). والحق منحصر فيهما.

وأما إذا ادعى أحدهما الزوجية وأنكر الآخر فإن كان للمدعي بينة ، وإلا فالقول قول المنكر بيمينه ، ثم إنه لو أقام المدعي البينة ، أو حلف اليمين المردودة وثبت النكاح بذلك ظاهرا فإنه يجب عليهما فيما بينهما وبين الله عزوجل مراعاة الحكم الواقعي لو لم يوافق الظاهري ، فإن كان المثبت الزوج فله طلبها ظاهرا ، والواجب عليها مع عدم كونه واقعا الهرب منه ، وهكذا لو لم تكن بينة بل حلف المنكر انتفى النكاح ظاهرا ، فإن كان الواقع كذلك فلا إشكال ، وإلا لزم المدعي أحكام الزوجية.

فإن كان المدعي الرجل حرم عليه التزويج بأمها وابنتها وأختها وابنتي أختها وأخيها بغير رضاها ، والتزويج بخامسة ، وبالجملة فإنه يعتبر بالنسبة إليه كونها زوجة ، وكذا يحب عليه التوصل بإعطائها المهر ، أما النفقة فلا لاشتراطها بالتمكين.

وإن كانت المدعية المرأة لم يصح لها التزويج بغيره ، ولا فعل ما يتوقف على إذن الزوج بدونه ، كالسفر المندوب والعبادات المتوقفة على إذنه ، ولو أوقع

__________________

(١) الوسائل ج ١٦ ص ١١١ ح ٢.

١٧٨

الرجل المنكر الطلاق ولو معلقا ، بأن قال : إن كنت زوجتي فأنت طالق ، أو إن كانت فلانة زوجتي فهي طالق ، انتفت عنها الزوجية ، وجاز لها التزويج بغيره ، ولكن لا ينتفي عنها حرمة المصاهرة فلا يجوز لها التزويج بابنه ولا ابنته لاعترافها بالنكاح الموجب للحرمة.

هذا خلاصة ما ذكروه في المقام ولم أقف في المسألة على نص مخصوص إلا أن جميع ما ذكر فيها مطابق لمقتضى القواعد الشرعية والضوابط المرعية.

المسألة الخامسة : إذا كان لرجل عدة بنات فزوج واحدة منهن ولم يسمها عند العقد لكن قصدها بالنية ، فاختلف الأب والزوج بعد ذلك ، قال الشيخ في النهاية : إن كان الزوج قد رآهن كلهن كان القول قول الأب ، وعلى الأب أن يسلم إليه التي نوى العقد عليها عند عقدة النكاح ، وإن كان الزوج لم يرهن كان العقد باطلا ، وتبعه ابن البراج وجملة من المتأخرين منهم المحقق والعلامة وقال ابن إدريس (١) : إن النكاح باطل في الموضعين.

والوجه فيما ذهب إليه الشيخ هو ما رواه الكليني في الصحيح عن أبي عبيدة (٢) قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل كانت له ثلاث بنات أبكار ، فزوج واحدة منهن رجلا ، ولم يسم التي زوج للزوج ولا للشهود ، وقد كان الزوج فرض لها صداقها فلما بلغ إدخالها على الزوج بلغ الرجل أنها الكبرى من الثلاث ، فقال الزوج لأبيها : إنما تزوجت منك الصغرى من بناتك ، قال : فقال

__________________

(١) أقول : نقل الشيخ الفاضل شهاب الدين أحمد بن فهد بن إدريس الأحسائي في شرحه على الإرشاد هذا القول أيضا عن شيخه ، والمراد به الشيخ جمال الدين وقيل : فخر الدين الشيخ أحمد بن عبد الله بن المتوج البحراني تلميذ الشيخ فخر الدين بن العلامة ـ رحمه‌الله ـ لان الشيخ أحمد المذكور أحد تلامذته ، واليه يشير كثيرا في الكتاب المذكور بشيخنا. (منه ـ رحمه‌الله ـ).

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤١٢ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٩٣ ح ٥٠ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٦٧ ح ٥٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٢٢ ب ١٥.

١٧٩

أبو جعفر عليه‌السلام : إن كان الزوج رآهن كلهن ، ولم يسم له واحدة منهن فالقول في ذلك قول الأب ، وعلى الأب فيما بينه وبين الله عزوجل أن يدفع إلى الزوج الجارية التي كان نوى أن يزوجها إياه عند عقدة النكاح ، وإن كان الزوج لم يرهن كلهن ولم يسم واحدة منهن عند عقدة النكاح فالنكاح باطل».

ورواه الشيخ رحمه‌الله والصدوق أيضا مثله.

والوجه فيما ذهب إليه ابن إدريس هو أن من شروط صحة العقد تعيين كل واحد من الزوجين حال العقد ليتعلق القصد به ويقع التراضي عليه ويحصل التعيين بالاسم أو الوصف أو الإشارة إلى معين ، أو اتفاقهما على معين بل هو معتبر في كل عاقد ومعقود عليه.

وعلى هذا فلو زوجه إحدى بناته ولم يعينها عند العقد بأحد الأمور المذكورة بطل العقد لعدم القصد ، وإن قصدها الأب ولم يقصدها الزوج فكذلك هذا ما تقتضيه القواعد الشرعية.

والرواية المذكورة بحسب ظاهرها خارجة عن ذلك ومنافية لما ذكرنا ، لأنها تدل على أن رؤية الزوج لهن كافية في الصحة والرجوع إلى ما عينه الأب ، وإن اختلفا في القصد ، وعدم رؤيته كاف في البطلان مطلقا وإن اتفقا في القصد.

مع أن المدار في الصحة والبطلان إنما هو على التعيين وعدمه لا الرؤية.

ومن أجل ذلك أطرح ابن إدريس ومن تبعه الرواية المذكورة (١) حسبما مضى في رواية تزويج السكرانة نفسها حال سكرها.

ولكن الرواية لما كانت صحيحة السند بالاصطلاح المحدث اضطربت أفكار

__________________

(١) وبما ذكرنا من الوجه المذكور في كلام ابن إدريس صرح الشيخ في المبسوط فقال في فصل ما ينعقد به النكاح : لا يصح النكاح حتى يكون المنكوحة معروفة بعينها على صفة تكون متميزة عن غيرها ، وذلك بالإشارة إليها أو التسمية أو الصفة. انتهى. (منه ـ رحمه‌الله ـ).

١٨٠