الحدائق الناضرة - ج ٢٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٦

الأول : اعلم أن المستفاد من النصوص المتقدمة في صدر هذا المطلب هو أن المرتضع بالشروط المتقدمة يصير بالنسبة إلى المرضعة والفحل في حكم الولد النسبي في انتشار الحرمة منه إليهما ومنهما إليه ، فالتي انتشرت منه إليهما هو أنه صار في حكم ابنهما النسبي في تعدي الحرمة إليهما وإلى أصولهما وفروعهما ومن في طبقتهما سواء كانوا من جهة النسب أو الرضاع بمعنى أن المرضعة تصير اما والفحل أبا ، وآبائهما وأمهاتهما أجدادا وجدات ، وأولادهما إخوة وأولاد أولادهما أبناء الاخوة ، وإخوة المرضعة وأخواتها أخوالا وخالات وإخوة الفحل وأخواته أعماما وعمات ، وقد صرحت النصوص المتقدمة ونحوها بالتحريم عموما في بعض وخصوصا في بعض.

وأما انتشار الحرمة منهما إليه فهي مقصورة على المرتضع وفروعه ، لأنه صار لهما ابنا ، وأبناءه أبناء الابن : ولا يتعدى التحريم منهما إلى أصوله ومن كان في طبقته ، فحكم من كان من أصوله وفي طبقته مع المرضعة والفحل وأصولها وفروعهما ومن في طبقتهما حكم الأجانب ، ولا ترى في النصوص أثر التحريم في شي‌ء من هذه الصور ، سوى صورة واحدة يأتي التنبيه عليها إن شاء الله تعالى ، خرجت عن القاعدة بالنصوص.

وهذه قاعدة كلية ، وضابطة جلية يرجع عليها في الرضاع يعظم بها الانتفاع خلافا لمن ذهب إلى القول بالتنزيل في المسألة كما سيأتي ذكره إن شاء الله ، فإنهم حكموا بالتحريم أيضا بين الفحل والمرضعة ، وبين أصول المرتضع ومن كان في طبقته ، وسيأتي إن شاء الله الكلام في ذلك ، وتحقيق القول في بطلانه وهدم أركانه.

ثم إنه ينبغي أن يعلم أيضا أن المحرمات الرضاعية التي تضمنها قولهم عليهم‌السلام «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». هي التي حلت في الرضاع محل تلك المحرمات النسبية التي تضمنتها الآية حسبما حررناه في صدر هذا المطلب ،

٣٨١

فكل من دخل في الرضاع تحت واحدة من تلك الأفراد المعدودة في الآية لحقه التحريم : وكل من لم يدخل فلا يلحقه تحريم ، وهذه ضابطة أخرى في المقام ، وقد استثنى من هذه القاعدة أيضا الصورة المشار إليها آنفا ، وقد وقع الاشتباه في حكم نسوة كثيرة ، ولا سيما على القول بالمنزلة ، ومن راعى هاتين القاعدتين المذكورتين حق المراعاة لا يخفى عليه الحال ، ولا يعرض له الاشكال.

وقد استثنى العلامة في التذكرة من قاعدة «يحرم من النسب» أربع صور وليست محلا للاستثناء لعدم دخولها تحت القاعدة المتقدمة كما سيظهر لك إن شاء الله.

الأولى : قال أم الأخ والأخت في النسب حرام لأنها أم ، أو زوجة أب ، وأما في الرضاع فإن كانت كذلك حرمت أيضا ، وإن لم تكن كذلك لم تحرم ، كما لو أرضعت أجنبية أخاك أو أختك لم تحرم.

والتحقيق أن هذه لا تحتاج إلى الاستثناء لعدم دخولها تحت قاعدة يحرم من النسب : والاستثناء هو إخراج ما لولاه لدخل ، وهذه غير داخلة كما ذكرناه.

وتوضيحه : أن مقتضى القاعدة الثانية التي قدمناها أن كل امرأة حرمت باعتبار وصف في النسب من أمومة أو بنتية أو نحوهما حرمت نظيرتها في الرضاع ، وأم الأخ والأخت ليست من المحرمات السبع المعدودة في الآية ، لأن أم الأخ والأخت لا يخلو اما أن يكون اما فتحريمها إنما هو من حيث الأمومة كما تضمنته الآية ، لا من حيث كونها أم أخ أو أخت ، وإن لزمها في بعض الأحوال ، إلا أنه منفك من الجانبين فقد يكون إما خاصة إذا لم يكن لها ولد سواه ، وقد تكون أم أخ أو أخت ولا تكون اما ، وحينئذ فلا يدل تحريم الام على تحريم أم الأخ أو الأخت.

وأما أن يكون زوجة أب فتحريمها إنما هو من حيث المصاهرة لا من حيث النسب ، والرضاع إنما يتفرع على النسب لا على المصاهرة.

على أن هذه المصاهرة غير مؤثرة في التحريم لأنها ملائمة لما يحرم بالمصاهرة

٣٨٢

لا عينه ، فإن أم الأخ من حيث إنها أم الأخ ليست إحدى النسوة الأربع المحرمات بالمصاهرة ، وإنما المحرم منكوحة الأب وهي لا تستلزم كونه أم الأخ : كذا ذكره شيخنا في المسالك.

وأشار بالأربع المحرمات بالمصاهرة إلى قوله عزوجل (١) «وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ ـ إلى قوله ـ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ» فهذه الأربع التي وقع التحريم بالمصاهرة ، وأم الأخ ليست داخلة في شي‌ء منها وإن كانت مشابهة لها في ذلك.

الثانية : قال : أم ولد الولد حرام لأنها إما بنته أو زوجة ابنه ، وفي الرضاع قد لا تكون حراما ، مثل أن ترضع الأجنبية ابن الابن فإنها أم ولد الولد وليست حراما.

أقول : والكلام في هذه كسابقتها أيضا ، فإن أم ولد الولد ليست من المحرمات السبع التي تضمنتها الآية ، وقد عرفت بمقتضى القاعدة الثانية أن التحريم في الرضاع إنما هو بحلول المرأة بسبب الرضاع محل واحدة من تلك السبع.

وتحريمها على تقدير كونها بنتا ، إنما هو من حيث البنتية لا من حيث كونها أم ولد الولد ، مع أنه قد لا تكون لها ولد ، فلا يلزم من البنتية كونها أم ولد الولد.

وتحريمها على تقدير كونها زوجة ابنه إنما هو من حيث المصاهرة وقد عرفت أن الرضاع إنما يتفرع على النسب لا على المصاهرة ، على أن هذه المصاهرة كما عرفت آنفا أيضا غير مؤثرة في التحريم ، لكنها ملائمة لما يحرم بالمصاهرة لا عينه ، لأن أم ولد الولد من حيث هي كذلك ليست إحدى النسوة الأربع المحرمات بالمصاهرة في الآية ، وإنما المحرم منها زوجة الابن وحليلته ، ومن المعلوم أن هذه ليست كذلك ، وبذلك يظهر بطلان الاستثناء في هذه الصورة أيضا.

__________________

(١) سورة النساء ـ آية ٢٣.

٣٨٣

الثالثة : قال : جدة الولد في النسب حرام ، لأنها إما أمك أو أم زوجتك ، وفي الرضاع قد لا يكون كذلك كما إذا أرضعت أجنبية ولدك فأن أمها جدته ، وليست بأمك ولا أم زوجتك.

أقول : والكلام في هذه الصورة على نهج ما تقدم ، فإن جدة الولد ليست إحدى المحرمات السبع التي تضمنتها الآية ، وإن اتفق كونها اما فتحريمها إنما هو من حيث الأمومة لا من حيث كونها جدة الولد ليتم التفريع عليه في الرضاع.

وأما تحريم أم الزوجة ، فإنما هو بالمصاهرة ، على أنك قد عرفت ما في هذه المصاهرة كما في نظائرها المتقدمة ، فإن جدة الولد من حيث كونها كذلك ليست إحدى النسوة الأربع المحرمة في الآية بالمصاهرة ، إذ المحرم في تلك الأربع إنما هو أم الزوجة ، ومن المعلوم أن هذه ليست كذلك.

وبالجملة فإن التفريع على جدة الولد غير تام ، لأنها إن كانت اما فإنما هو من حيث الأمومة ، وإلا فلا وجه للتفريع.

قال في المسالك ـ بعد الكلام بنحو ما ذكرناه في ذلك ـ : ومن هذه الصورة أيضا يظهر حكم ما لو أرضعت زوجتك ولد ولدها ذكرا كان الولد أو أنثى ، فإن هذا الرضيع يصير ولدك بالرضاع بعد أن كان ولد ولدك بالنسب ، فتصير زوجتك المرضعة جدة ولدك وجدة الولد محرمة عليك كما مر ، لكن هنا لا تحرم الزوجة لأن تحريم جدة الولد ليس منحصرا في النسب ، ولا من حيث إنها جدة كما عرفت.

وكذا القول لو أرضعت ولد ولدها من غيرك ، فإن الرضيع يصير ولدك بالرضاع ، وإن لم يكن له إليك انتساب قبله ، وتصير زوجتك جدة ولدك ، ولا يحرم بذلك كما قررناه. انتهى.

أقول : وأصحاب التنزيل الذين وقعوا في شباك الالتباس في الرضاع يقولون بالتحريم في هذه الصور كلها كما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ بيانه.

٣٨٤

الرابعة : قال : أخت ولدك في النسب حرام عليك ، لأنها إما بنتك أو ربيبتك ، وإذا أرضعت أجنبية ولدك فبنتها أخت ولدك ، وليست ببنت ولا ربيبة.

أقول : والكلام هنا كما تقدم فإن أخت الولد ليست إحدى المحرمات السبع التي تضمنتها الآية ، ولم تحرم من حيث كونها أخت ولد ، وإنما حرمت إما من حيث البنتية فتكون جهة التحريم إنما هي البنتية وهي التي يتفرع عليها الرضاع ، وإما من حيث كونها ربيبة ، وتحريمها إنما هو بالمصاهرة فلا يتفرع عليها الرضاع بل هذه المصاهرة ليست مؤثرة في التحريم لكنها تلائم ما يحرم منها وليست عينه ، لأن أخت الولد من حيث أخت الولد ليست إحدى الأربع المحرمات بالمصاهرة إذ المحرم منها إنما هو الربيبة أعني بنت الزوجة ، وهذه ليست كذلك إلا أن التحريم هنا قد ثبت بدليل خارج عن مقتضى القاعدة المتقدمة على المشهور ، وهي الصورة التي تقدمت الإشارة إليها كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى ، وهي أنه لا ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن ولادة ولا رضاعا ، ولا في أولاد المرضعة ولادة.

وإذا تدبرت ما تلوناه وتأملت ما سطرناه ، تبين لك أن استثناء هذه الأربع الصور من القاعدة المستفادة من ذلك الخبر ليس في محله ، لعدم دخول ما استثنى في المستثنى منه ، لأن المراد من الخبر أن كلما يحرم بالنسب بأحد العنوانات والجهات المذكورة في الآية من الأمية والأختية والبنتية ونحوها تحرم نظيرها في الرضاع ، بأن تكون أما أو أختا أو بنتا من الرضاع ، وما في هذه الصور ليس شي‌ء منها من هذه السبع المعدودة كما لا يخفى.

وملخص ما ذكرناه في هذا المقام أنه متى ارتضع الولد من لبن امرأة وفحلها بالشروط المتقدمة ، فإنه تصير المرضعة اما ، والفحل أبا ، وأولاد الفحل ولادة ورضاعا إخوة وأخوات : وأولاد المرضعة ولادة خاصة على المشهور إخوة وأخوات ، وأولادها رضاعا على قول الطبرسي إخوة وأخوات أيضا.

٣٨٥

وأصول المرضعة والفحل وفروعهما ومن في طبقتهما كما هم للولد النسبي ، فينشر التحريم من الجميع على المرتضع بالشروط ، وينتشر منه عليهم.

وأما أصول المرتضع ومن كان في طبقته فلا يلحقهم تحريم مع أحد من هؤلاء المعدودين ، ولا خلاف بين أصحابنا المتقدمين والمتأخرين في ابتناء الرضاع ومسائله على هاتين القاعدتين كما قدمناه في صدر المسألة ، إلا أن هنا مواضع قد وقع الخلاف فيها دخولا في القاعدتين المذكورتين وخروجا باعتبار أدلة من خارج اقتضت خروجها كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن جملة من متأخري المتأخرين ممن يقرب من عصرنا هذا قد ذهبوا في الرضاع إلى القول بالتنزيل ، فحكموا بتحريم نسوة كثيرة في الرضاع بناء على ذلك ، ولم يقفوا على القاعدتين المذكورتين المتقدمتين.

منهم العلامة المحقق العماد مير محمد باقر المشهور بالداماد ، فإنه ممن صنف رسالة في ذلك وأكثر فيها من الدعاوي الباطلة ، والتخريجات العاطلة ، حتى ادعى أن ما ذهب إليه هو القول المشهور.

وقد كتبنا في المسألة رسالة في الرد عليه ، وأوضحنا فيها بطلان ما صار إليه ، وسميناها ب «كشف القناع عن صريح الدليل في الرد على من قال في الرضاع بالتنزيل».

ومنهم الفاضل الشريف المولى أبو الحسن محمد طاهر العاملي المجاور بالنجف الأشرف حيا وميتا ، فإنه أيضا صنف رسالة في ذلك ، وقد نقل أيضا هذا القول المحقق الثاني في رسالته عن بعض معاصريه ، ونقل أنهم أسندوه أيضا إلى شيخنا الشهيد (رحمه‌الله) قال (قدس‌سره) في الرسالة المذكورة : اعلم ـ أبقاك الله ـ أنه قد اشتهر على ألسن الطلبة في هذا العصر تحريم المرأة على بعلها برضاع بعض من سنذكره ، ولا نعرف لهم في ذلك أصلا يرجعون إليه من كتاب أو سنة ، أو إجماع أو قول لأحد من المعتبرين ، أو عبارة يعتد بها تشعر بذلك ، أو دليل مستنبط في

٣٨٦

الجملة يعول على نقله بين الفقهاء ، وإنما الذين شاهدناهم من الطلبة وجدناهم يزعمون أنه من فتاوي شيخنا الشهيد (قدس‌سره).

ونحن لأجل مباينة هذه الفتاوى لأصول المذهب استبعدنا كونها مقالة لمثل شيخنا على غزارة علمه وثقوب فهمه ، لا سيما ولم نجد لهؤلاء المدعين لذلك إسنادا يتصل لشيخنا في هذه الفتاوى ويعتد به ، ولا مرجع يركن إليه ، ولسنا نافين هذه النسبة عنه (رحمه‌الله) استعانة على القول بفساد هذه الفتاوى ، فإن الأدلة على ما هو الحق المبين ـ واختيارنا المتين بحمد الله ـ كثيرة جدا لا نستوحش منها من قلة الرفيق.

نعم اختلف أصحابنا في ثلاث مسائل قد يتوهم منها القاصر عن درجة الاستنباط أن يكون دليلا لشي‌ء من هذه المسائل أو شاهدا عليها إلى آخر كلامه زيد في إكرامه.

أقول : والمستفاد من كلام المحقق العماد ـ المتقدم ذكره في رسالته ـ أن منشأ الشبهة عنده فيما ذهب إليه من شيئين : (أحدهما) الحديث المشهور وهو قولهم عليهم‌السلام «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». فإنه ادعى أنه دال بعمومه على ذلك حيث لم يتعرض فيه للدلالة على جهة الحرمة أصلا بل إنما يدل بمنطوقه وعمومه أن كلما يحرم من النسب فهو يحرم من الرضاع ، ساكتا من جهة الحرمة وعلة التحريم رأسا.

و (ثانيها) الأخبار الواردة في نكاح أب المرتضع في أولاد صاحب اللبن كما سيأتي ذكرها إن شاء الله ، حيث إنه قال عليه‌السلام في بعض تلك الأخبار «فإن ولدها صارت بمنزلة ولدك» فقال الفاضل المذكور : فهذا التفصيل يعطي التعميم ، ويوجب تحريم كل من تصير بمنزلة محرم.

والجواب عن أولى الشبهتين المذكورتين أنك قد عرفت أن المحرمات النسبية معدودة مضبوطة في الآية الشريفة ، وحينئذ فيكون قوله عليه‌السلام «يحرم

٣٨٧

من الرضاع ما يحرم من النسب». مقيدا بتلك الآية ، بمعنى أنه يحرم من الرضاع ما حرمته الآية في النسب ، من السبع المذكور التي هي الأم والبنت والأخت إلى آخرها ، وحاصله : أن كل امرأة تصير بالرضاع موضع واحدة من هاتيك السبع النسبية فإنها تحرم بذلك.

وهو قد اعترف بذلك أيضا حيث قال في رسالته : ضابطة حرم الله تعالى بالنسب من النساء سبعا ويتبعهن في التحريم مضاهياتهن اللاتي صرن في منزلتهن بالرضاعة ، الأم وإن علت ، فامك من الرضاعة هي كل امرأة أرضعتك أو رجع نسب من أرضعتك أو نسب صاحب اللبن إليها ، ثم ساق الكلام في تعداد الباقي على هذا النحو إلى آخر المحرمات التي تضمنتها الآية.

وأنت خبير بأن مقتضى هذه الضابطة أن كل امرأة حرمت باعتبار وصف في النسب ككونها أما أو بنتا أو أختا حرمت نظيرتها في الرضاع ، وهي الأم الرضاعية والبنت الرضاعية والأخت مثلا ، ففرعية الرضاع على النسب إنما يقع مع الاتفاق في تلك الجهات المخصوصة التي باعتبارها حرمت المحرمات النسبية لا مع الاتفاق في وصف ما من الأوصاف وجهة ما من الجهات وإلا لزاد العدد على السبع مع أنه صرح في ضابطته بأنها سبع ، وليس إلا باعتبار ما ذكرناه مثلا : الام ثبتت لها جهات متعددة مثل كونها اما وكونها أم أخ وكونها زوجة أب ، وهكذا في باقي المحرمات النسبية ، فلو كان التحريم فيها باعتبار كل واحدة من هذه الجهات لزاد العدد البتة.

وحينئذ فتحريم الأم في النسب إنما وقع من حيث كونها اما لا من حيث كونها أم أخ أو أخت ، وإن لزمها ذلك في بعض الأحيان ، فتحريم الأم في الآية الشريفة إنما وقع من حيث الأمومة التي هي وصف لازم لها في جميع الأحوال بخلاف الثاني ، فإن لزومه منفك من الجانبين ، فقد تكون أم أخ وليست بأم كزوجة الأب التي له منها ولد ، وقد تكون اما وليست بأم أخ كما إذا لم يكن

٣٨٨

لها ولد سواه.

وحينئذ فلا يدل تحريم الام على تحريم أم الأخ والأخت لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما ، وتحريم أم الأخ من حيث كونها أم الأخ غير مدلول عليه في كلام الشارع بالمرة ، بل إنما حصل التحريم فيها من حيث كونها اما أو زوجة أب.

وبالجملة فإنه لا يخفى على من كان له الذوق الثاقب والفهم الصائب أن التحريم لم يتعلق بذات كل واحدة من هذه المعدودات ، وإنما تعلق بها باعتبار هذه الأوصاف التي اتصفت بها من الأمومة والبنتية والأختية ونحوها ، والتعليق على الوصف يشعر بالعلية ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لكل ذي فهم وروية.

والجواب عن ثاني شبهتيه : أولا : أنه ظاهر مما حققناه في الجواب عن الشبهة الأولى ، لأنه متى تقرر أنه لا يحرم من الرضاع إلا ما يحرم من النسب ، وأن المحرمات النسبية محصورة ، وجهات التحريم فيها مضبوطة محصورة أيضا ، وهي تلك الأوصاف المخصوصة ـ علم أن من وجد في الرضاع متصفا بشي‌ء من تلك الأوصاف ، فإنه يلحقه حكم التحريم ومن لا ، فلا.

نعم حيث ورد النص بذلك في هذه الصورة المخصوصة خصصنا به القاعدة المذكورة بالنسبة إلى ما ورد دون ما ضاهاه وشابهه ، جمعا بين الدليلين كما هو مقتضي القواعد الشرعية في البين.

وثانيا : انك قد عرفت أن المستفاد من الأخبار وكلام الأصحاب ـ من غير خلاف يعرف إلا من هؤلاء الذين لا يقدح خلافهم في الإجماع ـ أن انتشار الحرمة من المرتضع إلى المرضعة والفحل مخصوصة بالمرتضع وفروعه لا تتعداهما إلى أصوله ومن كان في طبقته ، فحكم أصوله ومن كان في طبقته مع الفحل والمرضعة وأصولهما وفروعهما ومن كان في طبقتهما حكم الأجانب.

ولا تكاد ترى في النصوص أثرا للتحريم في شي‌ء من هذه الصور سوى هذه

٣٨٩

الصورة المذكورة ، وعلى هذا اتفقت كلمة الأصحاب أيضا في ما سوى ثلاث صور يأتي التنبيه عليها إن شاء الله تعالى ، قد ذهب شذوذ منهم فيها إلى التحريم بناء على توهم سبق إلى ذهنه مع التزامهم بأصل القاعدة فجعلوا هذه الصور مستثنيات منها ، وسنبين إن شاء الله تعالى بطلان ما ذهبوا اليه وتوهموه :

وثالثا : أن الظاهر أن وجه ما ذكره ذلك الفاضل من التعميم في الخبر هو أنه لما نزل ذلك الأخ الرضاعي لولده منزلة ولده ، ومن المعلوم أن منزلة ولده منه توجب تحريمه عليه ، وتحريم كل من أقاربه عليه أيضا ، وتحريم بعضهم على بعض ، فكذا تثبت هذه المنزلة لهذا الأخ الرضاعي لولده.

وجوابه أن توهم العموم في المقام باطل وهو ظاهر عند المتأمل ، وذلك لأن مورد النص ـ كما ستقف عليه إن شاء الله ـ هو تحريم أولاد المرضعة على أب المرتضع ، معللا بما ذكره.

فالمراد بكونهن بمنزلة ولده يعني في التحريم عليه ، فكما أن ولده يحرمون عليه فكذا أولئك ، فإنك إذا قلت «أكرم زيدا فإنه بمنزلة أبيك» فإن المتبادر منه يعني في استحقاق وجوب الإكرام لا مطلقا ، فكذا هنا لما قال : «يحرم عليك نكاحهن لأنهن بمنزلة ولدك» ، يعني في التحريم عليك ، فالمنزلة إنما تثبت في التحريم عليه خاصة لا مطلقا حتى أنه يمتنع نكاح إخوة أحد المرتضعة إخوة الآخر كما هو مذهب الشيخ في الخلاف ، كيف والخطاب في الخبر إنما هو لأب المرتضع.

نعم لو ورد النص مطلقا في أن ولد الفحل بمنزلة ولد أب المرتضع لاتجه ما ادعاه ، والله العالم.

المورد الثاني : في ذكر المسائل التي وقع الخلاف فيها في البين ، وبيان ما هو الحق فيها من القولين.

الأولى : هل يجوز لأب المرتضع أن ينكح في أولاد صاحب اللبن ولادة

٣٩٠

ورضاعا ، وأولاد المرضعة ولادة ورضاعا على قول الطبرسي أم لا؟

ذهب الشيخ في المبسوط وجماعة إلى الأول وقوفا على القاعدة المتقدمة ، حيث إن أولاد الفحل بالنسبة إلى أبي المرتضع إنما صاروا بالرضاع إخوة ولده ، وأخت الولد ليست إحدى المحرمات النسبية التي حرمتها الآية ، وإنما حرمت في الآية لكونها بنتا أو ربيبة وشي‌ء منهما غير موجود فيما نحن فيه.

قال في المسالك ـ بعد ذكر الأخبار الآتية الدالة على التحريم ـ ما لفظه فهذه الروايات الصحيحة هي المخرجة للمسألة من أصل تلك القاعدة ، ومع ورود هذه الروايات في موضع النزاع ذهب جماعة من الأصحاب ، منهم الشيخ في المبسوط إلى عدم التحريم محتجا بما أشرنا إليه من أن أخت الابن من النسب إنما حرمت لكونها بنت الزوجة المدخول بها فتحريمها بسبب الدخول بأمها ، وهذا المعنى منتف هنا ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما قال «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (١). ولم يقل يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة ، ثم نقل عن المختلف أنه قال : وقول الشيخ في غاية القوة ، ولو لا الرواية الصحيحة لاعتمدت عليه. انتهى :

أقول : وعندي في المقام إشكال لم أر من تنبه له ولا نبه عليه ، وهو أن موضوع المسألة المبحوث عنها في كلامهم هو ما قدمنا ذكره من أنه هل يجوز لأب المرتضع أن ينكح في أولاد صاحب اللبن؟ إلى آخر ما تقدم.

ونقلوا عن الشيخ في المبسوط القول بالجواز كما سمعت ، والتعليل بما عرفت من كلامه في المسالك ، وعبارة المبسوط التي نقلها العلامة في المختلف إنما هي بهذه الصورة حيث قال الشيخ في المبسوط : يجوز للفحل أن يتزوج بأم المرتضع وأخته وجدته ، ويجوز لوالد هذا المرتضع أن يتزوج بالتي أرضعته ، لأنه لا نسب بينهما ولا رضاع ، ولأنه لما جاز أن يتزوج أم ولده من النسب ، فبأن يجوز أن يتزوج أم ولده من الرضاع أولى ، إلى آخر كلامه.

__________________

(١) الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٠ ح ١.

٣٩١

وهذه العبارة لا دلالة فيها على محل النزاع ولا تعرض فيها له بوجه ، وإنما تضمنت جواز تزويج الفحل الذي هو صاحب اللبن لأخت المرتضع التي هي ابنة أب المرتضع ، وهي مسألة أخرى عكس ما نحن فيه ، سيأتي إن شاء الله تعالى ذكرها ، فإن ما نحن فيه هو تزويج أب المرتضع في أولاد صاحب اللبن ، وهذه إنما تضمنت تزويج صاحب اللبن في أولاد أب المرتضع.

نعم ذكر أن أب المرتضع يجوز له تزويج المرأة التي أرضعت ابنه ، ولم يتعرض لأزيد من ذلك (١) وكتاب المبسوط لا يحضرني الآن ، فليتأمل ذلك.

ونحو ذلك ما نقلوه عن الخلاف من القول بالتحريم في هذه المسألة ، مع أن العبارة هنا كعبارة المبسوط الدالة على الجواز إنما تضمنت عكس المسألة المبحوث عنها ، فإنه قال على ما نقله في المختلف : إذا حصل الرضاع المحرم لم يحل للفحل نكاح أخت هذا المولود المرتضع ، ولا لأحد من أولاده من غير المرضعة. ومنها ، لأن إخوته وأخواته صاروا بمنزلة أولاده.

وهي كما ترى ظاهرة في أن المحرم إنما هو نكاح صاحب اللبن في أولاد أب المرتضع وقد أسندوا له بهذه العبارة القول بتحريم نكاح أب المرتضع في أولاد صاحب اللبن ، ولم ينقل في المختلف غير هاتين العبارتين في البين على أن كلامه في المختلف غير ظاهر في هذه المسألة ، وإنما تكلم على ما ذكره الشيخ وابن إدريس من حكم نكاح الفحل في جدة المرتضع وأخته.

وما نقله عنه في المسالك من قوله ـ وقول الشيخ في غاية القوة ولولا الرواية الصحيحة لاعتمدت عليه ـ إنما هو بالنسبة إلى نكاح الفحل في جدة المرتضع كما سيظهر لك إن شاء الله في المسألة الآتية لا في نكاح أب المرتضع في أولاد صاحب

__________________

(١) نعم قد صرح ابن البراج في المهذب بذلك فقال : وكذلك يتزوج بنات المرأة التي أرضعت ولده ، وبناتهن أيضا ، لأنهن لم يرضعن من لبنه ، ولا بينهن قرابة من رضاع ولا غيره ، وانما نكاحهن على المرتضع. انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٣٩٢

اللبن كما هو ظاهره في المسالك.

وبالجملة فإن العلامة لم يتعرض لهذه المسألة هنا بالكلية ، وإنما كلامه على عبارة الشيخ التي ذكرناه ، وقد عرفت أنها ليست من محل البحث في شي‌ء.

وبذلك يظهر لك أن نسبة القول بالجواز إلى المبسوط في هذه المسألة التي هي محل البحث لا يظهر له وجه ، إلا أن يكون في موضع آخر ، ولكن ظاهر كلامهم كما عرفت في عبارة المسالك ومثله غيره إنما هو من هذا الموضع الذي ذكرناه ، وهو عجب كما لا يخفى على المدقق المصيب.

وأما الروايات الواردة في المسألة المبحوث عنها ، فمنها ما رواه ثقة الإسلام والصدوق «عطر الله مرقديهما» في الصحيح عن عبد الله بن جعفر (١) «قال : كتبت إلى أبي محمد عليه‌السلام : امرأة أرضعت ولد الرجل ، هل يحل لذلك الرجل أن يتزوج ابنة هذه المرضعة أم لا؟ فوقع عليه‌السلام : لا ، لا تحل له».

وما رواه الشيخ والصدوق في الصحيح عن أيوب بن نوح (٢) قال : «كتب علي بن شعيب إلى أبي الحسن عليه‌السلام : امرأة أرضعت بعض ولدي ، هل يجوز لي أن أتزوج بعض ولدها؟ فكتب عليه‌السلام : لا يجوز ذلك ، لأن ولدها قد صار بمنزلة ولدك».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن علي بن مهزيار (٣) في الصحيح قال : «سأل عيسى بن جعفر بن عيسى أبا جعفر الثاني عليه‌السلام إن امرأة أرضعت لي صبيا فهل يحل لي أن أتزوج ابنة زوجها؟ فقال لي : ما أجود ما سألت من ههنا يؤتى أن يقول

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٤٧ ح ١٨ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٠٦ ح ٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٠٧ ب ١٦ ح ٢.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣٢١ ح ٣٢ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٠٦ ح ٨ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٠٦ ب ١٦ ح ١.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٤٤١ ح ٨ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٢٠ ح ٢٨ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٦ ح ١٠.

٣٩٣

الناس حرمت عليه امرأته من قبل لبن الفحل ، هذا هو لبن الفحل لا غيره. فقلت له : إن الجارية ليست ابنة المرأة التي أرضعت لي هي ابنة غيرها ، فقال : لو كن عشرا متفرقات ما حل لك منهن شي‌ء ، وكن في موضع بناتك».

والصحيحتان الأولتان دالتان على تحريم أولاد المرضعة ، والصحيحة الثالثة دالة على تحريم أولاد الفحل وإن لم يكونوا من تلك المرضعة.

والمفهوم من كلام السيد السند في شرح النافع أن تحريم أولاد الفحل لا مستند له من الأخبار ، حيث إنه إنما استند في ذلك إلى الأولوية ، فقال ـ بعد أن أورد الصحيحتين الأولتين ـ : حكم عليه‌السلام في هاتين الروايتين بتحريم أولاد المرضعة ، وإذا حرم أولاد المرضعة حرم أولاد صاحب اللبن بطريق أولى. انتهى.

والعجب منه أن الرواية منقولة في المسالك أيضا ، وسندها صحيح باصطلاحه ، فكيف غفل عن ذلك حتى التجأ إلى هذا التعليل العليل.

وكيف كان فالظاهر هو القول المشهور وقوفا على هذه الروايات الصحاح الصراح ، فيخصص بها عموم تلك القاعدة المتقدمة.

المسألة الثانية : هل يحل للفحل أن يتزوج بأم هذا المرتضع النسبية أم لا؟ المشهور الأول ، وبه صرح الشيخ في المبسوط حيث قال ـ بعد ذكر القاعدة التي تقدمت الإشارة إليها آنفا ـ : فيجوز للفحل أن يتزوج بأم هذا المرتضع ، وبأخته وبجدته ، ويجوز لوالد هذا المرتضع أن يتزوج بالتي أرضعته ، لأنه لا نسب بينهما ولا رضاع ، ولأنه لما جاز أن يتزوج بأم ولده من النسب : فبأن يجوز أن يتزوج بأم ولده من الرضاع أولى.

قالوا : أليس لا يجوز أن يتزوج بأم أم ولده من النسب ، ويجوز أن يتزوج بأم أم ولده من الرضاع؟ فكيف جاز هذا ، وقد قلتم إنه يحرم من الرضاع ما

٣٩٤

يحرم من النسب.

قلنا أم أم ولده من النسب ما حرمت بالنسب بل حرمت بالمصاهرة قبل وجود النسب ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما قال «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» ولم يقل : يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة. انتهى.

وبه قال ابن حمزة وابن البراج والعلامة في التحرير والقواعد ـ وهو المختار ـ والوجه فيه أنه لا مقتضى للتحريم ، والأصل عدمه ، وليس إلا كونها جدة ابنه وهو غير موجب للتحريم ، لأن جدة الابن لامه إنما حرمت بالمصاهرة أعني الدخول بابنتها ، وهذه العلة غير موجودة هنا.

وذهب العلامة في المختلف إلى القول بالتحريم ، ونقله فيه عن ابن إدريس ، قال في المختلف بعد نقل عبارة الشيخ في المبسوط المذكورة (١) الدالة على الجواز : وقال ابن إدريس : وأما تزويجه بأخته وجدته فلا يجوز بحال ، لأنا في النسب لا نجوز له أن يتزوج الرجل بأخت ابنه ولا بأم امرأته بحال ، وإنما الشافعي علل ذلك بالمصاهرة ، وليس هيهنا مصاهرة ، وكذا في قوله وسؤاله على نفسه «أليس لا يجوز له أن يتزوج أم ولده في النسب ، ويتزوج أم أم ولده في الرضاع».

وأجاب بأن أم أم ولده في النسب ما حرمت بالنسب ، وإنما حرمت بالمصاهرة قبل وجود النسب ، وعلل ذلك بالمصاهرة ، فلا يظن ظان بأن ما قلناه كلام الشيخ أبي جعفر.

__________________

(١) أقول : صورة عبارة الشيخ المشار إليها هكذا «والذي يدور عقد الرضاع عليه جملته أن امرأة الرجل إذا كان بها لبن منه فأرضعت مولودا رضعة على الصفة المتقدم ذكرها صار كأنه ابنها من النسب حرم على هذا ، لأن الحرمة انتشرت منه إليهما ومنهما إليه فالتي انتشرت إليهما أنه صار كأنه ابنهما من النسب ، والحرمة التي انتشرت منهما اليه وقفت عليه وعلى نسله ، دون من هو في طبقته من اخوته وأخواته أو أعلى منه من آبائه وأمهاته ، فيجوز للفحل الى آخر ما في الأصل. (منه ـ قدس‌سره).

٣٩٥

والذي يقتضي مذهبنا أن أم أم ولده من الرضاع محرمة عليه ، كما أنها محرمة عليه من النسب لأنه أصل في التحريم من غير تعليل ثم نقل كلام ابن حمزة في المسألة فقال بعده : والمعتمد تحريم أم أم الولد من الرضاع.

وقول الشيخ في المبسوط وإن كان قويا لكن الرواية الصحيحة على خلافه ، فإن علي بن مهزيار روى في الصحيح ثم ساق الرواية المذكورة كما قدمناها قريبا ، ثم قال : بعدها : فقد حكم عليه‌السلام هنا بتحريم أخت الابن من الرضاع وجعلها في منزلة البنت ، ولا ريب أن أخت البنت إنما تحرم بالنسب لو كانت بنتا أو بالسبب لو كانت بنت الزوجة ، فالتحريم هنا باعتبار المصاهرة ، وجعل الرضاع كالنسب في ذلك.

وقول الشيخ في غاية القوة ، ولو لا هذه الرواية الصحيحة لاعتمدت على قول الشيخ ، ونسبة ابن إدريس هذا القول للشافعي غير ضائر للشيخ ، وقوله لا يجوز أن يتزوج بأخت ابنه ولا بأم امرأته وليس هنا مصاهرة غلط لأنهما إنما حرمتا بالمصاهرة. انتهى كلام العلامة في الكتاب المذكور.

وقال شيخنا الشهيد في كتاب نكت الإرشاد ـ عند قول المصنف ولا يحرم أم أم الولد من الرضاع ـ ما هذا لفظه : أقول : ربما اشتبه صورة هذه المسألة بسبب اشتباه متعلق «من» وحكمها فأما صورتها فإن من يحتمل أن يتعلق بمحذوف حال من الأم الثانية لا من الولد والمحكوم عليه هو الوالد لا الفحل ، فالتقدير لا يحرم على أب المرتضع أم أم المرتضع كائنة من الرضاع وإن كانت أمها نسبا ومعناه أنه إذا أرضعت ولده امرأة لا تحرم على الوالد أم تلك المرأة ، وهذا الحكم صرح به ابن حمزة ، ووجهه أصالة الحل وعدم المصاهرة هنا.

ويحتمل أن يكون حالا من الأم الاولى ، والتحريم أيضا منفي عن الوالد ، ومعناه أن مرضعة أم ابنه لا تحرم عليه ، وهو بين.

والأولى والمناسب لما ذكره في المختلف وبقية كتبه أن يكون حالا من

٣٩٦

الولد ، والمحكوم عليه بنفي التحريم هو الفحل وهو الذي نص عليه في المبسوط ، وأورد على نفسه أم أم الولد من النسب فإنها تحرم فينبغي أن يكون أم امه من الرضاعة كذلك ، وأجاب بأن تحريم تلك ما كان بالنسب ، بل بالمصاهرة الحاصلة قبل النسب ، والذي يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، لا ما يحرم من المصاهرة.

وأنكره ابن إدريس ، وزعم أن هذا حكاية كلام الشافعي ، وليس مذهبا للشيخ بل تحرم أم أم الولد من الرضاع كما تحرم من النسب ، واختاره المصنف (طاب ثراه) عملا بصحيحة على بن مهزيار ، ثم نقل الصحيحة المشار إليها ، وقال بعدها : وجه الدلالة أنه عليه‌السلام حكم بتحريم أخت الابن من الرضاع ، وجعلها في موضع البنت.

وأخت البنت تحريمها بالنسب إذا كانت بنتا ، وبالسبب إذا كانت بنت الزوجة فالتحريم هنا بالمصاهرة ، وجعل الرضاع كالنسب في ذلك فيكون في أم الأم كذلك ، وليس قياسا لأنه نبه بجزئي من كلي على حكم الكلي ، ثم قال المصنف ولو لا هذه الرواية لاعتمدت على قول الشيخ لقوته ، واعتمد هنا وفي التلخيص على قوله ، وهو المختار. انتهى.

وأنت خبير بأن ما استدل به في المختلف من صحيحة علي بن مهزيار فإنه لا دلالة فيه لأن موردها هو المنع من نكاح أب المرتضع في أولاد الفحل ، وتعليله عليه‌السلام التحريم بكونهن في موضع بناته لا يوجب تعدي التحريم إلى أم أم المرتضع بالنسبة إلى الفحل ، وإلا لزم التحريم في كل من كانت في موضع محرم كما يدعيه أصحاب التنزيل ، وهو لا يقول به.

وبالجملة فالخروج عن موضع النص إلى ما شابهه وشاكله من هذه الصورة أو غيرها قياس محض لا يوافق أصول المذهب.

قال المحقق الثاني (قدس‌سره) في رسالته المتقدم ذكرها ـ بعد نقل كلام

٣٩٧

شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد ولنعم ما قال ـ :

وفيه نظر ، أما (أولا) فلأن المشار إليه في ذلك هو تحريم بنت الزوجة أي جعل الرضاع كالنسب في تحريم بنت الزوجة ، أي كما تحرم بالنسب تحرم بالرضاع ، ومعلوم أن تحريمها إذا لم تكن بنتا ليس بالنسب وإنما هو بالمصاهرة ، فلا يستقيم قوله جعل الرضاع كالنسب في ذلك.

وأما (ثانيا) فإنه لا يلزم من ثبوت التحريم في هذا الفرد المعين ـ مع خروجه عن حكم الأصل وظاهر القواعد المقررة لورود النص عليه بخصوصه ـ تعدية الحكم إلى ما أشبهه من المسائل ، فإن ذلك عين القياس ، وادعاؤه نفي القياس عنه واعتذاره بأنه نبه بجزئي من كلي على حكم الكلي لا يفيده شيئا ، لأن تعريف القياس صادق عليه ، فقد عرف بأنه تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لعلة متحدة فيهما.

والأصل فيما ذكره هو أخت الولد من الرضاع ، والفرع هو جدة الولد من الرضاع والحكم المطلوب بتأديته هو التحريم الثابت في الأصل بالنص وما يظن كونه علة التحريم هو كون أخت الولد من الرضاع في موضع من يحرم من النسب أعني البنت النسبية ، وهذا بعينه قائم في جدة الولد من الرضاع ، فإنه في موضع جدته من النسب ، بل ما ذكره أسوء حالا من القياس ، لأنك قد عرفت أن القياس تعدية الحكم من جزئي إلى آخر لاشتراكهما فيما يظن كونه علة التحريم وهو (رحمه‌الله) قد حاول تعدية الحكم من الجزئي إلى الكلي ، ونبه على العلة وثبوتها في الفرع أول كلامه وأغرب في عبارته فسمى ذلك تنبيها على الحكم ونفي عنه القياس ، وذلك لا يحصنه من الإيراد والاعتراض ولا يلتبس على الناظر المتأمل كونه قياسا. انتهى كلامه زيد مقامه ، وهو جيد متين وجوهر ثمين ، وبه يظهر لك قوة القول بالجواز كما هو القول المشهور والمؤيد المنصور.

المسألة الثالثة : هل لأولاد أب المرتضع الذين لم يرتضعوا من لبن هذا

٣٩٨

الفحل أن ينكح في أولاد الفحل ولادة ورضاعا ، وأولاد المرضعة ولادة أم لا؟

قولان : الأشهر الأظهر الأول ، واختار ثانيهما الشيخ في الخلاف والنهاية استنادا إلى ظاهر التعليل المذكور في تلك الروايات المتقدمة في المسألة الاولى ، وهو كونهم بمنزلة ولد الأب ، فإن ذلك يقتضي حصول الاخوة بينهم المانع من نكاح أحدهما في الآخر إذ كونهم بمنزلة ولد الأب يقتضي كونه كالاخوة للعلة ، فإنها منصوصة فيتعدى حكمها.

وأجيب بأن تعدي حكمها مشروط بوجودها في المعدى إليه وهنا ليس كذلك (١) لان كونهن بمنزلة ولد الأب ليس موجودا في محل النزاع ، وليس المراد بحجية منصوص العلة أنه حيث يثبت العلة أو ما جرى مجراها يثبت الحكم كذا نقله شيخنا الشهيد الثاني في المسالك وشرح اللمعة ، وهو متجه.

وما يقال من أنه يلزم من كونهن بمنزلة ولد أب المرتضع ثبوت اخوة بعضهم مع بعض فيكونون إخوة لأولاد أب المرتضع.

ففيه : أنا نقول قد قدمنا أن المراد من كونهن بمنزلة ولد أب المرتضع إنما هو في المحرم عليه ، بمعنى أنه كما تحرم أولاده عليه يحرم هؤلاء عليه أيضا وأما أنه يلزم من ذلك كونهما اخوة لأولاده فيحرم نكاح بعضهم في بعض فهو ممنوع كما سيأتي توضيح ذلك في كلام المحقق الثاني في الرسالة.

ورد ابن إدريس هنا على الشيخ فيما اختاره من التحريم واختار القول الأول ولننقل كلامهما على ما نقله في المختلف فنقول :

__________________

(١) توضيح الجواب المذكور أنه إذا قال الشارع : حرمت الخمر لإسكاره ، فإنه بمقتضى العمل بمنصوص العلة يتعدى التحريم ، حيث وجد الإسكار ، وحينئذ فلا بد في المعدى اليه من وجود العلة التي هي هنا الإسكار حتى يترتب عليه التحريم ، ومحل البحث هنا ليس كذلك ، فإن العلة في الأصل هي كونهم بمنزلة ولد الأب ، وهي غير موجودة في الإخوة بعضهم من بعض كما لا يخفى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٣٩٩

قال العلامة : قال الشيخ في الخلاف : إذا حصل الرضاع المحرم لم يحل للفحل نكاح أخت هذا المولود المرتضع بلبنه ، ولا لأحد من أولاده من غير المرضعة ومنها ، لأن إخوته وأخواته صاروا بمنزلة أولاده.

ونحوه قال في النهاية حيث قال : وكذلك تحرم جميع إخوة المرتضع على هذا الفحل وعلى جميع أولاده من جهة الولادة والرضاع.

وقال ابن إدريس : قول شيخنا في ذلك غير واضح وأي تحريم حصل بين أخت هذا المولود المرتضع ، وبين أولاد هذا الفحل ، وليس هي أختهم لا من أمهم ولا من أبيهم ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل النسب أصلا للرضاع في التحريم ، فقال «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». وفي النسب لا يحرم على الإنسان أخت أخيه التي لا من امه ولا من أبيه ، ثم أمر بالتأمل والملاحظة.

وهذا قول ابن إدريس لا بأس به ، فإن النظر يقتضيه ، لكنه لا يجامع ما قاله أولا في المسألة السابقة التي حكم فيها بتحريم أم أم الولد وأخته ، كما حرمتا في النسب ، وقد عرفت هناك أن التحريم ليس من جهة النسب بل من جهة المصاهرة.

ثم إن الأئمة عليهم‌السلام حكموا بالتحريم في الرضاع وإن اختلفت العلة ، وقد قال أبو جعفر الثاني عليه‌السلام (١) : «لو كن عشرا متفرقات ما حل لك منهن شي‌ء وكن في موضع بناتك».

وما رواه أيوب بن روح (٢) ثم ساق الرواية كما قدمناه ، ثم قال : وهذا التعليل يعطي صيرورة أولادها إخوة لأولاده فينشر الحرمة ، ونحن في ذلك من المتوقفين. انتهى كلامه (قدس‌سره).

أقول : ما أورده علي ابن إدريس ـ من جزمه بالتحريم في تلك المسألة ،

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٤٤١ ح ٨ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٢٠ ح ٢٨ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٦ ح ١٠.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣٢١ ح ٣٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٠٦ ح ١.

٤٠٠