الحدائق الناضرة - ج ٢٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٦

من المكروه أيضا التزويج في الأيام السبعة المشهورة في الشهر ، ونحوس الشهر ، ففي العشر الأولى الثالث والخامس ، وفي العشر الثانية الثالث عشر والسادس عشر ، وفي العشر الثالث ، الحادي والعشرون ، والرابع والعشرون ، والخامس والعشرون.

فقد دلت الأخبار على التحذير من العمل فيها بأي عمل كان ، ولزوم الإنسان بيته ، وعدم الحركة لشدة نحوستها ، كما رواه السيد رضي الدين علي بن طاوس في كتاب الدروع الواقية عن الصادق (عليه‌السلام). والطبرسي في كتاب مكارم الأخلاق (١) عنه (عليه‌السلام) ، ونحوه أيضا في كتاب زوائد الفوائد.

وأما اليوم الثالث ففي الدروع عنه (عليه‌السلام) يوم نحس مستمر فاتق فيه البيع والشراء وطلب الحوائج والمعاملة ، وفي المكارم عنه (عليه‌السلام) ردي لا يصلح لشي‌ء.

وفي الزوائد عنه (عليه‌السلام) يوم نحس قتل فيه قابيل هابيل. لا تسافر فيه ولا تعمل عملا ولا تلق أحدا.

أما اليوم الخامس ففي الدروع عنه (عليه‌السلام) أنه يوم نحس مستمر فلا تعمل فيه عملا ولا تخرج عن منزلك وفي المكارم عنه (عليه‌السلام) ردي نحس ، وفي الزوائد عنه (عليه‌السلام) هو يوم نحس وهو يوم نكد عسر لا خير فيه ، فاستعذ بالله من شره.

وأما الثالث عشر ففي الدروع يوم نحس فاتق فيه المنازعة والخصومة وكل أمر ، وفي رواية أخرى يوم نحس لا تطلب فيه حاجة ، وفي المكارم يوم نحس فاتقوا فيه جميع الأعمال وفي الزوائد يوم نحس وهو يوم مذموم في كل حال ، فاستعذ بالله من شره.

وأما السادس عشر ففي الدروع يوم نحس لا يصلح لشي‌ء سوى الأبنية ، ومن سافر فيه هلك ، وفي المكارم ردي مذموم لكل شي‌ء ، وفي الزوائد يوم نحسن ردي مذموم لا خير فيه فلا تسافر فيه ، ولا تطلب حاجة ، وتوق ما استطعت ، وتعوذ بالله من شره.

__________________

(١) المكارم ص ٢٧٦ طبع النجف الأشرف.

٤١

وأما الحادي والعشرون ففي الدروع أنه يوم نحس ردي فلا تطلب فيه حاجة ، وفي المكارم يوم نحس مستمر ، وفي الزوائد يوم نحس مذموم فاحذره ، ولا تطلب فيه حاجة ، ولا تعمل عملا ، وأقعد في منزلك ، واستعذ بالله من شره.

وأما الرابع والعشرون ففي الدروع أنه يوم نحس ولد فيه فرعون فلا تطلب فيه أمرا من الأمور ، وفي المكارم يوم شؤم ، وفي الزوائد يوم نحس مستمر مكروه لكل حال وعمل فأحذره ولا تعمل فيه عملا ، ولا تلق أحدا واقعد في منزلك واستعذ بالله من شره.

وأما الخامس والعشرون ففي الدروع يوم نحس ردي فاحفظ نفسك فيه ولا تطلب فيه حاجة ، فإنه شديد البلاء ، وفي المكارم ردي مذموم تحذر فيه من كل شي‌ء ، وفي الزوائد يوم نحس مكره ثقيل نكد فلا تطلب فيه حاجة ولا تسافر فيه واقعد في منزلك واستعذ بالله من شره.

الفائدة السابعة : قد صرح جملة من الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) بأنه يجوز للرجل النظر إلى امرأة يريد تزويجها ، وإن لم يستأذنها ، ويختص الجواز بوجهها وكفيها ، وله أن يكرر النظر إليها ، وأن ينظرها قائمة وماشية ، قالوا : وروي جواز النظر إلى شعرها ومحاسنها وجسدها من فوق الثياب.

أقول : والذي وقفت عليه من الأخبار الواردة عن الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم منها : ما رواه في الكافي عن محمد بن مسلم (١) في الصحيح أو الحسن قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن الرجل يريد أن يتزوج المرأة ، أينظر إليها؟ قال : نعم ، إنما يشتريها بأغلى الثمن».

وعن هشام بن سالم وحماد بن عثمان وحفص بن البختري (٢) في الصحيح أو الحسن «عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : لا بأس بأن ينظر إلى وجهها ومعاصمها إذا أراد أن يتزوجها» ، أقول : والمعصم كمنبر موضع السوار من اليد.

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٣٦٥ ح ١ و ٢، الوسائل ج ١٤ ص ٣٠ ح ١ و ٢.

٤٢

وعن الحسن بن السري (١) في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : الرجل يريد أن يتزوج المرأة يتأملها وينظر إلى خلفها وإلى وجهها؟ قال : نعم ، لا بأس بأن ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها ينظر إلى خلفها وإلى وجهها».

وعن الحسن بن السري (٢) «عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) أنه سأله عن الرجل ينظر إلى المرأة قبل أن يتزوجها؟ قال : نعم فلم يعطي ماله».

وعن عبد الله بن الفضل (٣) عن أبيه عن رجل «عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : قلت له : أينظر الرجل إلى المرأة يريد تزويجها فينظر إلى شعرها ومحاسنها؟ قال : لا بأس بذلك إذا لم يكن متلذذا».

ومنها ما رواه في الفقيه والتهذيب عن عبد الله بن سنان (٤) في الصحيح من الأول قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : الرجل يريد أن يتزوج المرأة فينظر إلى شعرها؟ فقال : نعم ، إنما يريد أن يشتريها بأغلى الثمن».

وما رواه في التهذيب عن غياث بن إبراهيم (٥) «عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) في رجل ينظر الى محاسن امرأة يريد أن يتزوجها ، قال : لا بأس ، إنما هو مستام فإن تقيض أمر يكون».

، تقيض : أي يقدر ويسبب ، بمعنى أنه إن قدره الله تعالى فإنه يكون ، ورواه الحميري في قرب الاسناد ، وفيه «وإن يقض أمر يكن» ، وهو واضح.

وعن يونس بن يعقوب (٦) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يريد أن يتزوج المرأة ، فأحب أن ينظر إليها ، قال : تحتجز ، ثم لتقعد ، وليدخل فلينظر ، قال : قلت : تقوم حتى ينظر إليها؟ قال : نعم ، قلت : فتمشي بين يديه؟ قال : ما أحب أن تفعل».

__________________

(١ و ٢ و ٣) الكافي ج ٥ ص ٣٦٥ ح ٣ و ٤ و ٥.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ٤٣٥ ح ١ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٦٠ ح ٢٤.

(٥ و ٦) التهذيب ج ٧ ص ٤٣٥ ح ٢ وص ٤٤٨ ح ٢. الوسائل ج ١٤ ص ٦٠ ح ٨.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٤ ص ٥٩ ح ٣ و ٤ و ٥ والوسائل ج ١٤ ص ٦٠ ح ٧ و ٨ و ١٠.

٤٣

وما رواه الصدوق في العلل عن يونس بن يعقوب (١) في الموثق قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : الرجل يريد أن يتزوج المرأة ، يجوز له أن ينظر إليها؟ قال : نعم ، ويرقق له الثياب ، لأنه يريد أن يشتريها بأغلى الثمن».

أقول : والمفهوم من هذه الأخبار بعد ضم بعضها إلى بعض ، أنه يجوز النظر إلى الوجه والكفين ، ظاهرا وباطنا ، وإليه يشير تجويز النظر إلى معاصمها ، وهو كما عرفت موضع السوار من اليد ، فإن فيه زيادة تحديد الكفين ، الذين هما إلى مفصل الزند ، ولذا يجوز النظر إلى شعرها ومحاسنها. وفسرت بمواضع الزينة منها ، وهو أوسع دائرة من الوجه والكفين ، وربما قيل : بتخصيصها بهما ، والظاهر الأول.

قال في كتاب مجمع البحرين : ومحاسن المرأة : المواضع الحسنة من بدنها ، وقوله التي أمر الله بسترها.

وقال في القاموس : والمحاسن : المواضع الحسنة من البدن وهو ظاهر في المعنى الأول ، وظاهر موثقة يونس بن يعقوب ، وقوله «تحتجز» (٢) بالزاي أخيرا أي تتزر بإزار أنه يجوز النظر إلى ما فوق الإزار من بدنها وهي عارية ، وهو أبلغ في النظر والمعرفة ، وفي رواية العلاء أنها تلبس ثوبا رقيقا يرى من تحته الجسد ، ويؤيدهما إطلاق النظر في صحيحة محمد بن مسلم أو حسنته.

وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام هنا يقع في مواضع : الأول : ظاهر كلام الأصحاب ، الاقتصار في النظر على الوجه والكفين ، ولهذا أنهم نسبوا جواز النظر إلى شعرها ومحاسنها إلى الرواية إيذانا بالتوقف فيه.

قال : في المسالك ، والذي يجوز النظر إليه اتفاقا هو الوجه والكفان ، من

__________________

(١) علل الشرائع ج ٢ ب ٢٦٠ ، الوسائل ج ١٤ ص ٦١ ح ١١.

(٢) قال في المصباح : واحتجز الرجل بإزاره شده في وسطه وحجزة الإزار ، معقده وحجزة السراويل ، مجمع شده ، والجمع حجز ، مثل غرفة وغرف (منه ـ رحمه‌الله ـ).

٤٤

مفصل الزند ظهرا وبطنا ، لأن المقصود يحصل بذلك فيبقى ما عداه على العموم.

ثم نقل رواية عبد الله بن الفضل الدالة على جواز النظر الى الشعر والمحاسن ، ورواية عبد الله بن سنان الدالة على النظر إلى الشعر. ورواية غياث بن إبراهيم الدالة على المحاسن.

وردها بضعف الأسانيد ، وقال : إنها من حيث السند لا تصلح حجة في جواز ما دل الدليل على تحريمه.

وفيه : أولا : أن رواية عبد الله بن سنان ، وإن كانت ضعيفة برواية الشيخ ، إلا أنها صحيحة برواية الصدوق في الفقيه ، لأنه رواها عن عبد الله بن سنان وطريقه إليه في المشيخة صحيح ، كما لا يخفى على من راجعه.

وثانيا : إنا لا نراهم يقفون على هذا الاصطلاح دائما ، حتى يتجه طعنه هنا بذلك ولو اقتصروا في الأحكام الشرعية على القسم الصحيح ، الذي لا يعدونه ، لانسدت عليهم طرق إثبات الأحكام ، وانغلقت دونها أبواب معالم الحلال والحرام ، ولذا تراهم يرجعون إلى أمثال الأخبار ، ويغمضون العين عن هذا الاصطلاح ، أو يعتذرون بأعذار واهية ، لا يقبل الإصلاح ، كما تقدم الكلام في ذلك في جملة من مواضع كتب العبادات.

ولهذا أن ظاهر سبطه السيد السند في شرح النافع ، هو الميل إلى ما دلت عليه هذه الأخبار ، حيث قال بعد ذكر رواية عبد الله بن الفضل عن أبيه (١) : وهذه الرواية ضعيفة بالإرسال ، لكنها موافقة لمقتضى الأصل ، وتؤيد بالروايتين المتقدمتين ، فيتجه العمل بها ، وأشار بالروايتين المتقدمتين إلى حسنتي محمد بن المتقدمتين ، فيتجه العمل بها ، وأشار بالروايتين المتقدمتين إلى حسنتي محمد بن مسلم ، وهشام بن سالم ، ومن معه ، ثم قال : ويعضدها أيضا صحيحة الحسن بن السري : ثم أورد الرواية الثانية من الروايتين المتقدمتين ، ثم قال : ويدل على جواز النظر صريحا ما رواه ابن بابويه في الصحيح عن عبد الله بن سنان ، ثم ساق

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٦٥ ح ٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٩ ح ٥.

٤٥

الرواية ، وأنت خبير بأن عده هنا رواية الحسن بن السري المذكورة في الصحيح لا يخلو من سهو ، فإن الصحيحة إنما هي الأولى منها ، وأما هذه فهي ضعيفة باصطلاحهم ، لأن سندها في الكافي الحسن بن محمد عن معلى بن محمد عن بعض أصحابنا عن أبان عن الحسن ، ثم إنه لا يخفى عليك أن ما ذكره السيد المذكور ، من العذر عن العمل برواية عبد الله بن الفضل جار على ما ذكرناه في كلامنا على جده (قدس الله روحهما) ، وبما ذكرنا يظهر قوة القول بجواز النظر إلى ما زاد على الوجه والكفين كما ذكروه ، سيما روايتي يونس بن يعقوب الدالة إحداهما على الاحتجاز ، والثانية على ترقيق الثياب المؤيدتين بإطلاق حسنة محمد بن مسلم أو صحيحته ، فالقول بجواز النظر مطلقا هو الظاهر من الأخبار المذكورة ، كما لا يخفى على المتأمل المنصف.

الثاني : أنه قد صرح شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، ومثله في الروضة ، بأنه كما يجوز النظر للرجل ، كذا يجوز للمرأة قال : لاشتراكهما في المقصود ، وعندي فيه نظر ، لأن الأصل في الموضعين هو التحريم ، وجواز النظر للرجل قد دل الدليل على جوازه ، وعلل في الأخبار المذكورة بأنه في معنى المشتري للمرأة ، والمستام بها ، ومن شأن القاصد لشراء شي‌ء ، النظر إليه ليرتفع عنه الغبن والغرر وهذه العلة لا تجري في نظر المرأة للرجل كما لا يخفى ، فقياسها على الرجل قياس مع الفارق ، وحكم المنصوص وغيره غير مطابق ، كما لا يخفى على الممارس الحاذق.

وبالجملة فالأصل التحريم ، ولا يجوز الخروج عنه إلا بدليل واضح ، والاشتراك الذي ذكره ممنوع لما عرفت ، مع أنه مع تسليمه لا يصح لأن يكون دليلا شرعيا يخصص به الأصل المذكور.

الثالث : المفهوم من الأخبار وهو الذي صرح به الأصحاب ، هو جواز النظر ، وقال في المسالك : وربما قيل : باستحبابه نظرا إلى ظاهر الأمر الذي أقل مراتبه

٤٦

ذلك ، ويمكن منع دلالته عليه لجواز إرادة الإباحة ، فإنها بعض مستعملاته. حيث لا يراد به الوجوب ، كقوله تعالى (١) «وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» ، انتهى.

أقول : ما ادعاه (قدس‌سره) من وجود الأمر بالنظر في الأخبار ، لا أعرف له وجها ، فإن غاية ما اشتملت عليه بأجمعها هو السؤال عن النظر ، والجواب بنفي البأس ، وليس في شي‌ء منها على تعددها ما يدل على الأمر بالنظر (٢) كما ادعاه ، ومقتضي ما اشتملت عليه مما ذكرناه. إنما هو الجواز كما ينادي به نفي البأس ، بمعنى أنه يباح له ذلك ، ولا يكون محرما.

الرابع : قال في المسالك : اعلم أنه سيأتي جواز النظر إلى وجه المرأة الأجنبية وكفيها في الجملة ، فالواجب الاقتصار هنا على هذا القدر ، بقي الفرق بينها وبين الأجنبية وهو من وجوه :

الأول : أن جوازه في الأجنبية موضع خلاف ، وهنا موضع وفاق.

الثاني : أنه في الأجنبية مشروط بعدم خوف الفتنة ، وهنا لا يشترط ، لأنه يريد التزويج ، اللهم إلا أن يخافها قبل وقوع العقد ، وفي التذكرة أطلق الجواز مع خوف الفتنة وبدونها ، معللا بأن الغرض إرادة النكاح ومقتضاه أن ذلك ، مناف للفتنة.

الثالث : أنه في الأجنبية مقصور على أول نظرة فلا يجوز التكرار وهنا يجوز.

الرابع : أنه في الأجنبية مكروه وهنا لا كراهة إن لم يكن مستحبا ، انتهى.

__________________

(١) سورة المائدة ـ آية ٢.

(٢) غير خفي أن رواية يونس بن يعقوب قد ورد فيها لفظ الأمر صريحا لانه قال في الجواب : تحتجز ، ثم لتقعد فليدخل فلينظر ، فكيف يقول رحمه‌الله ليس في شي‌ء منها ، على تعددها ما يدل على الأمر بالنظر ، لا يقال : ليس فيه أمر استحبابي ، وهذا ليس كذلك ، قلنا كونه للاستحباب هنا ، غير خفي على المنصف ويمكن أن يراد في الاخبار الصحيحة ، وهذه ليست كذلك وفيه بعد من العبارة. (منه ـ رحمه‌الله).

٤٧

أقول : لا يخفى أنه حيث لحظ (قدس‌سره) هنا إشكالا فيما ذهبوا إليه ، من التخصيص بالوجه والكفين ، أراد التفصي في الخروج عنه ، ودفعه بهذه الوجوه التي ذكرها ، وهي لا تسمن ولا تغني من جوع ، كما لا يخفى على من له الإنصاف بأدنى رجوع.

وذلك فإن وجه الإشكال الذي ألجأه إلى هذا المقال هو أنه إذا ثبت شرعا ، أنه يجوز النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها ، وإن لم يرد تزويجها ، فأي وجه للاقتصار عليهما في هذه المسألة ، وتعليل ذلك في الأخبار ، بأنه مستام ، وأنه بمنزلة المشتري لها.

وأنت خبير بأنه لا وجه للفرق بين المقامين إلا على ما اخترناه من جواز النظر مطلقا ، من غير تخصيص بما ادعوه من الوجه والكفين ، إذ مع التخصيص بهما فإنه لا وجه لهذه التعليلات المتكررة في الأخبار بأنه مستام ، وأنه يريد أن يشتريها ، وأنه يشتري بأغلى الثمن.

وأما الفروق التي ذكرها فإنه لا وجود لها في الأخبار ، وإنما هي من كلامهم ، ونحن إنما نتكلم بناء على ما دلت عليه الأخبار.

وأما الفرق الأول ـ الذي ذكره من أن جواز النظر للأجنبية موضع خلاف وهنا موضع وفاق ، ففيه أن الكلام ليس مبنيا على الخلاف هنا والوفاق ، وإنما هو مبني على دلالة الأخبار ، في الأجنبية على جواز النظر للوجه والكفين ، فإذا جاز ذلك بمقتضى هذه الأخبار ، فأي معنى لهذه التعليلات في هذه الأخبار المذكورة ، مع أنه جائز مطلقا.

وأما الفرق الثاني : ففيه أيضا أن رواية عبد الله بن الفضل قد قيد نفي البأس بما لم يكن متلذذا ، وبها يقيد إطلاق غيرها ، وحينئذ فيستوي الأمران ، واشتراط عدم خوف الفتنة ، وما نقله عن التذكرة ، فهو مردود بالخبر المذكور.

٤٨

وأما الفرق الثالث ـ ففيه بعد الإغماض ، عن المناقشة فيما ادعاه ، من عدم جواز التكرار في الأجنبية ، والاقتصار على أول نظرة ، أن جواز التكرار هنا ، إنما وقع في كلامهم ، وأما الروايات فهي خالية منه ، وغاية ما تدل عليه ، جواز النظر بقول مطلق وهذه روايات المسألة كملا قد استوفينا ذكرها.

وأما الفرق الرابع ـ وهو أنه في الأجنبية مكروه فهو على إطلاقه ممنوع ، وسيأتيك تحقيق المسألة إن شاء الله تعالى في موضعها ، على ما يظهر لك منه حقيقة الحال ، وأما العلاوة التي ذكرها بكونه مستحبا فقد عرفت ما فيه.

وبالجملة فإنه لا مخرج من هذا الاشكال المذكور ، إلا على ما اخترناه من القول بجواز النظر مطلقا هنا ، وأما ما ذكروه من التخصيص في المقام فهو لازم لهم لزوم الطرق للحمام ، والله العالم.

الثالث : المشهور بين الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) بل صرح في المسالك بأنه موضع وفاق ، جواز النظر إلى الأمة ـ التي يريد شرائها ـ إلى وجهها ، وكفيها ، ومحاسنها ، وشعرها ، وإن لم يأذن له المولى صريحا ، قالوا : لأن عرضها للبيع قرينة للإذن في ذلك ، وإنما الخلاف فيما زاد على ذلك من باقي جسدها عدا العورة ، فقيل : بالجواز ، ونقل عن العلامة في التذكرة ، أنه قطع به مستندا إلى دعاء الحاجة إليه للتطلع إليها لئلا يكون بها عيب ، فيحتاج إلى الاطلاع عليه ، وقيده في الدروس بتحليل المولى ، ومعه يجوز إلى العورة أيضا.

والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة ، ما رواه الصدوق في الفقيه والشيخ في التهذيب عن أبي بصير (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يعترض الأمة ليشتريها ، قال : لا بأس بأن ينظر إلى محاسنها ، ويمسها ما لم ينظر إلى ما لا ينبغي النظر إليه».

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٧٥ ح ٣٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٨ ب ٢٠ ح ١.

٤٩

وما رواه في التهذيب عن حبيب بن معلى الخثعمي (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) إني اعترضت جواري بالمدينة ، فأمذيت ، فقال : أما لمن يريد الشراء فليس به بأس ، وأما لمن لا يريد أن يشتري فإني أكرهه».

وعن الحارث بن عمران الجعفري (٢) «عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : لا أحب للرجل أن يقلب جارية ، إلا جارية يريد شراءها».

وما رواه الحميري في كتاب قرب الاسناد عن الحسين بن علوان (٣) «عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم‌السلام) إنه كان إذا أراد أن يشترى الجارية يكشف عن ساقيها فينظر إليها».

قال في المسالك بعد ذكره رواية أبي بصير المذكورة : وظاهر الرواية جواز النظر إلى ما عدا العورة كما اختاره في التذكرة ، وإن لم يأذن المولى ، مع احتمال أن يريد بقوله ، ما لا ينبغي له النظر اليه ، ما هو أعم من العورة ، ولم يتعرض المصنف بجواز اللمس ، وفي الرواية تصريح بجوازه ، وهو حسن مع توقف الغرض عليه ، وإلا فتركه أحسن ، إلا مع التحليل ، والحكم هنا مختص بالمشتري ، فلا يجوز للأمة النظر إليه زيادة على ما يجوز للأجنبي ، بخلاف الزوجة ، والفرق أن الشراء لا اختيار لها فيه بخلاف التزويج ، انتهى.

أقول : انظر أيدك الله تعالى إلى عمله بالرواية المذكورة ، إذ لم يورد سواها مع ضعف سندها بأبي بصير ، فإنه يحيى بن القاسم ، بقرينة رواية علي بن أبي حمزة عنه ، مع ضعف علي المذكور وضعف الراوي عن علي ، وهو الجوهري ، فأغمض عن

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٣٦ ح ٤٩ و ٥٠.

(٣) قرب الاسناد ص ٤٩.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٤٧ ب ٢٠ ح ٢ و ٣ و ٤.

٥٠

ذلك كله ، واستند إليها (١) في المسألة ، ونسي مناقشاته التي صدر عنه في غير مقام ، ورده الأخبار بضعف الاسناد ومنه ما تقدم في هذه الفائدة ، مما أوضحنا ما فيه ، وكلامه هنا مؤيد ، لما أوردناه عليه ثم ، وكم مثله وأمثاله ، كما لا يخفى على المتتبع البصير ، والناقد الخبير.

وأما ما ذكره بقوله : والحكم هنا مختص بالمشتري الى آخره ، فلا أعرف له وجها وجيها ، لأن ظاهره جواز نظر الأمة إلى الأجنبي ، وأنه يجوز نظرها للمشتري حسبما يجوز لها في الأجنبي ، من غير زيادة على ذلك ، وإن جاز ذلك في الزوجة بالنسبة إلى من يريد التزويج بها ، وقد عرفت الكلام في الزوجة ، وأن ما حكم به من جواز نظرها لمن يريد التزويج بها ، لا دليل عليه ، بل الدليل الواضح في خلافه ، وكذلك الأمة ، فإني لم أقف على دليل يدل على جواز نظرها للأجانب من مستام : يريد شراءها أو غيره ، بل مقتضى عموم الأدلة هو التحريم ، وجواز نظر المشتري لها عند إرادة شرائها بالأخبار المذكورة ، لا يستلزم جواز نظرها له ، حتى أنه يتكلف للفرق بينها وبين الزوجة بما ذكره.

إذا عرفت ذلك ، فالظاهر من الأخبار المذكورة بعد ضم بعضها الى بعض ، هو ما استظهره (قدس‌سره) من رواية أبي بصير ، وهو جواز النظر ، إلى ما سوى العورة ، بحمل ما لا ينبغي النظر إليه ، على العورة خاصة ، ولا ينبغي هنا ، بمعنى التحريم ، كما هو شائع ذائع في الأخبار ، واحتمال حمله على سائر الجسد ، بعد تجويز النظر إلى المحاسن ، وتجويز المس بعيد جدا وهو الظاهر أيضا من رواية

__________________

(١) فإن قيل : لعل اعتماده في ذلك انما هو على الاتفاق على الحكم المذكور كما ذكره ، والإجماع عنده في بعض المواضع حجة شرعية ، وان خالفه في مواضع اخركما تقدم ، قلنا فيه ـ مع الإغماض عن المناقشة في حجية الإجماع ـ : انه قد اعتمد عليها ، واستدل بها ، على ما لا إجماع فيه وهو اللمس ، فإنه حكم بجوازه بها ، وان قيده بتوقف الغرض عليه ، وهو كاف في توجه الطعن اليه. (منه ـ رحمه‌الله ـ).

٥١

الخثعمي ورواية الجعفري ، فإن الظاهر أيضا من اعتراض الجواري ، وتقليبهن على وجه يترتب عليه الإمذاء ، بحصول الشهوة ، إنما يكون غالبا بمطالعة الجسد وملامسته ، وأصرح من ذلك رواية قرب الاسناد الدالة على كشف ساقيها لينظر إليه ، والله العالم.

الفائدة الثامنة : لا خلاف بين الأصحاب (رضى الله عنهم) في تحريم النظر إلى الأجنبية ، وهي من ليست بمحرم ولا زوجة ولا مملوكة ، فيما عدا وجهها وكفيها بل قال في المسالك : إنه موضع وفاق بين المسلمين ، ولا فرق في التحريم بين قصد التلذذ وعدمه ، ويدل على ذلك من الأخبار ، زيادة على الإجماع المذكور ، ما رواه في الكافي عن علي بن عقبة (١) عن أبيه «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : النظر سهم من سهام إبليس مسموم ، وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة».

ورواه الصدوق في كتاب عقاب الأعمال والبرقي في المحاسن (٢) وروى في التهذيب عن أبي بريد العطار (٣) عن بعض أصحابنا قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إياكم والنظر فإنه سهم من سهام إبليس ، وقال : لا بأس بالنظر إلى ما وضعت الثياب».

وفي هذا الخبر دلالة على جواز النظر من وراء الثياب الرقيقة التي تحكي الجسد.

وروى في الكافي عن ابن أبي نجران عمن ذكره (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ويزيد بن حماد وغيره ، عن أبي جميلة «عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام قالا : ما من أحد إلا وهو يصيب حظا من الزنا ، فزنا العينين النظر ، وزنا الفم القبلة ، وزنا اليدين اللمس صدق الفرج ذلك أم كذب».

وروى في الكافي عن سعد الإسكاف (٥) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : استقبل شاب ،

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٥٥٩ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ١٣٨ ح ١.

(٢) المحاسن ج ١ ص ١٠٩ ح ١٠١ طبع طهران ، عقاب الأعمال ص ٣١٤.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٤٣٥ ح ٣.

(٤ و ٥) الكافي ج ٥ ص ٥٥٩ ح ١١ وص ٥٢١ ح ٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ١٣٨ ح ٢ و ٤.

٥٢

من الأنصار امرأة بالمدينة ، وكان النساء يتقنعن خلف آذانهن ، فنظر إليها وهي مقبلة ، فلما جازت ، نظر إليها ، ودخل في زقاق ، قد سماه يبني فلان ، فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط ، أو زجاجة ، فشق وجهه ، فلما مضت المرأة ، نظر فإذا الدماء تسيل على صدره وثوبه ، فقال : والله لآتين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأخبرنه قال : فأتاه فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له : ما هذا؟ فأخبره فهبط جبرئيل عليه‌السلام ، بهذه الآية (١) (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ».

أقول : فيه دلالة على جواز التقنع يومئذ ، على الوجه المذكور ، وعدم وجوب ستر الاذن ، ونحوها ، وجواز النظر لذلك ، وأن تحريم النظر إما مطلقا أو بقصد التلذذ ، أو خوف الفتنة ، إنما نزل على أثر هذه الواقعة ، إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي لا ضرورة إلى ذكرها ، مع الاتفاق على الحكم المذكور.

وأما الوجه والكفان فإنه لا خلاف أيضا بينهم في تحريم النظر إليهما ، مع قصد التلذذ أو خوف الفتنة ، وأما مع عدم الأمرين المذكورين ، فقد اختلف الأصحاب في ذلك ، فقيل بالجواز مطلقا ، وإن كان على كراهية ، ونقل عن الشيخ (رحمه‌الله) ، لقوله تعالى (٢) «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها» وهو مفسر بالوجه والكفين ، وإن ذلك مما يعم به البلوى ، ولا طباق الناس في كل عصر ، على خروج النساء على وجه ، يحصل منه بدو ذلك ، من غير نكير.

أقول : ويدل على هذا القول ما رواه في الكافي عن مروك بن عبيد (٣) عن بعض أصحابنا «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : ما يحل للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرما؟ قال : الوجه والكفان والقدمان» ، وهي صريحة في المراد ، وقد تضمنت زيادة القدمين ، مع أن ظاهر كلامهم ، تخصيص الاستثناء بالوجه

__________________

(١) سورة النور ـ آية ٣٠ و ٣١.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٥٢١ ح ٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ١٤٦ ح ٢.

٥٣

والكفين ، كما هو ظاهر المحقق في الشرائع ، والشارح في المسالك ، والسيد السند في شرح النافع ، حيث اقتصروا في الاستثناء على هذين الاثنين ، وظاهره عدم جواز النظر إلى القدمين ، والرواية كما ترى صريحة في استثنائه أيضا ويؤيده ما صرحوا به في كتاب الصلاة حيث إن المشهور بينهم ، أن بدن المرأة كله عورة ما خلا الوجه والكفين والقدمين ، فلم يوجبوا ستره في الصلاة ، وهو أظهر ظاهر في تجوزيهم النظر إلى هذه الثلاثة المذكورة.

ومن العجب أن السيد السند في شرح النافع ، نقل مرسلة مروك المذكورة ، عارية عن ذكر القدمين.

وما رواه في الكافي عن زرارة (١) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله تبارك وتعالى (٢) «إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها» قال : الزينة الظاهرة ، الكحل والخاتم» (٣).

وعن أبي بصير (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن قول الله عزوجل «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها» قال : الخاتم والمسكة وهي القلب».

أقول : والقلب : بالضم ، السوار.

وما رواه في الكافي عن الفضيل بن يسار (٥) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الذراعين من المرأة ، أهما من الزينة التي قال الله تبارك وتعالى «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ»؟ قال : نعم ، وما دون الخمار من الزينة ، وما دون السوارين». قوله عليه‌السلام : «وما دون الخمار» ، أي ما يستره الخمار ، من الرأس والرقبة ، فهو من

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٥٢١ ح ٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ١٤٦ ح ٣.

(٢) سورة النور ـ آية ٣١.

(٣) وفي هذا الخبر إشارة إلى الرد على بعض الفضلاء المعاصرين ، في بطلان الوضوء بالكحل في العينين ، فإنه أوجب إزالته في كل وضوء أو المنع من الاكتحال بالكلية وعلى هذا لم تحصل الزينة في جميع الأوقات ، وهو خلاف الاخبار. (منه ـ رحمه‌الله ـ).

(٤ و ٥) الكافي ج ٥ ص ٥٢١ ح ٤ وص ٥٢٠ ح ١ ، الوسائل ج ١٤ ص ١٤٦ ح ٤ وص ١٤٥ ح ١.

٥٤

الزينة ، وما خرج عن الخمار من الوجه ، فليس منها ، «وما دون السوارين» يعنى من اليدين ، وهو ما عدا الكفين ، وكأن «دون» هنا في قوله «دون الخمار» بمعنى تحت الخمار ، ودون السوار بمعنى تحت السوار ، يعنى الجهة المقابلة للعلو ، فإن الكفين أسفل ، بالنسبة إلى ما فوق السوارين من اليدين.

وفي تفسير الثقة الجليل علي بن إبراهيم قال : وفي رواية أبي الجارود (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها» فهي الثياب والكحل والخاتم وخضاب الكف والسوار» ، والزينة ثلاثة : زينة للناس ، وزينة للمحرم وزينة للزوج ، فأما زينة الناس ، فقد ذكرناه ، وأما زينة المحرم ، فموضع القلادة فما فوقها ، والدملج وما دونه ، والخلخال وما سفل منه ، وأما زينة الزوج فالجسد كله.

وفي هذه الأخبار دلالة ظاهرة على استثناء الوجه والكفين.

ومما يدل على الوجه بخصوصه ، ما رواه في الكافي عن جابر (٢) «عن أبي جعفر عليه‌السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد فاطمة عليها‌السلام وأنا معه فلما انتهينا إلى الباب ، وضع يده عليه فدفعه ، ثم قال : السلام عليكم ، فقالت فاطمة عليها‌السلام : السلام عليك يا رسول الله ، قال : أدخل؟ قالت : أدخل يا رسول الله ، قال أدخل أنا ومن معي فقالت : يا رسول الله ، ليس علي قناع فقال : يا فاطمة خذي فضل ملحفتك ، فقنعي به رأسك ، إلى أن قال : فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ودخلت فإذا وجه فاطمة عليها‌السلام أصفر كأنه بطن جرادة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما لي أرى وجهك أصفر ، قالت : يا رسول الله الجوع ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهم مشبع الجوعة ، ودافع الضيقة ، أشبع فاطمة ، بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال جابر : فوالله لنظرت الدم ينحدر من قصاصها ، حتى صار وجهها أحمر ، فما جاعت بعد ذلك اليوم».

__________________

(١) تفسير على بن إبراهيم ج ٢ ص ١٠١ ، المستدرك ج ٢ ص ٥٥٥ ب ٨٤ ح ٣.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٥٢٨ ح ٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ١٥٨ ح ٣.

٥٥

وأنت خبير بأن ما قدمنا ذكره عن أصحاب هذا القول من الكراهة على تقدير الجواز لا إشارة فيه في هذه الأخبار ، فضلا عن الدلالة عليه ، والظاهر أنهم استندوا فيه إلى خوف الفتنة ، وهو أمر آخر كما لا يخفى.

وقيل : بالتحريم مطلقا ونقل عن العلامة في التذكرة ، لعموم قوله تعالى (١) «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ» الآية ، ولاتفاق المسلمين على منع النساء ، أن يخرجن مسافرات ، ولو حل النظر لنزلن منزلة الرجال ، ولأن النظر إليهن مظنة الفتنة وهي الشهوة ، فالأليق بمحاسن الشرع حسم الباب ، لأن «الخثعمية (٢) أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجة الوداع تستفتيه ، وكان الفضل بن العباس رديف ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخذ ينظر إليها وتنظر إليه وصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجه الفضل عنها ، وقال : رجل شاب ، وامرأة شابة ، فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان».

وأورد على هذه الأدلة ، أن النهى مختص بما عدا محل البحث ، لقوله عزوجل «إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها» ، ودعوى اتفاق المسلمين عليه معارض بمثله ، كما تقدم في أدلة القول الأول ولو ثبت لم يلزم منه تحريم ، لجواز استناده إلى المروة والغيرة ، بل هو الأظهر ، أو على وجه الأفضلية ، وحديث الخثعمية بالدلالة على القول الأول أنسب ، وإليه أقرب ، لدلالته على جواز كشف الوجه يومئذ ، وعدم تحريم النظر ، وصرفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجه الفضل بن العباس ، إنما وقع لأمر آخر ، كما علله به من خوف الفتنة ولا كلام فيه ، كما عرفت لا من حيث حرمة النظر ، ولو كان النظر محرما ، لنهي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أول الأمر ، لوجوب النهي عن المنكر.

أقول : أنت خبير ، بأنهم في هذا المقام لم يلموا بشي‌ء من الأخبار ، ولم يطلعوا عليها بالكلية ، وإلا فهي الأولى بالاعتبار والاستدلال في الإيراد والإصدار ومن تأمل فيما قدمناه من الأخبار ونحوها غيرها لم يختلجه شك في ضعف القول

__________________

(١) سورة النور ـ آية ٣٠.

(٢) المسالك ج ١ ص ٤٣٦ ، المستدرك ج ٢ ٥٥٤ مع اختلاف في التعبير.

٥٦

المذكور ، وضعف ما بني عليه ، من التعليلات العليلة.

وقيل : بجواز النظر على كراهية مرة لا أزيد ، وهو اختيار المحقق ، والعلامة في أكثر كتبه.

ووجه الجواز ما تقدم في دليل القول الأول من الأدلة ، التي قدمنا نقلها عنهم ، والوجه في تحريم الزائد عن المرة ، أن المعاودة ودوام النظر ، مظنة الفتنة ، لأن شأنه أن يحدث عنه الميل القلبي ، ويترتب عليه الفتنة ، كما اتفق للفضل بن العباس.

وأنت خبير بما فيه ، أما أولا ـ فإنه قد تقدم ، أنه لا خلاف في التحريم في مقام الريبة ، وخوف الفتنة ، وإنما محل البحث مع عدم شي‌ء من ذلك ، فالتعلق بذلك ، خروج عن محل المسألة ، ومقام البحث ، وكون المعاودة ، مظنة للفتنة ، لا يوجب التحريم ، إلا مع حصول الفتنة بالفعل ، لا مجرد إمكان ترتب الفتنة وظنها إذ قد لا تحصل بالكلية.

وأما ثانيا ـ فإن ظاهر الأخبار التي قدمناها ، دالة على الجواز ، وهو جواز النظر مطلقا ، ولا سيما خبر نظر جابر بن عبد الله ، لوجه فاطمة صلوات الله عليها ، فهذا القول في الضعف كسابقه.

نعم هنا جملة من الأخبار ، دلت على الإباحة مرة ، وتحريم المعاودة ، بالنسبة إلى ما عدا هذه المواضع الثلاثة من سائر الجسد.

فروى الصدوق عن ابن عمير عن الكاهلي (١) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : النظرة بعد النظرة ، تزرع في القلب الشهوة ، وكفى بها لصاحبها فتنة».

وعن السكوني (٢) «عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما‌السلام «قال : لا بأس ـ إلى أن قال : ـ وقال عليه‌السلام : أول نظرة لك ، والثانية عليك لا لك ، والثالث فيها الهلاك ،.

__________________

(١ و ٢) الوسائل ج ١٤ ص ١٣٩ ح ٦ و ٧، الخصال ج ٢ ص ٦٣٢.

٥٧

قال : «وقال الصادق عليه‌السلام (١) : من نظر إلى امرأة فرفع بصره إلى السماء ، أو غض بصره ، لم يرتد إليه بصره ، حتى يزوجه الله ، من الحور العين» ، قال : وفي خبر (٢) «حتى يعقبه الله إيمانا ، يجد طعمه».

وروى في كتاب عيون الأخبار (٣) عن الرضا عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام في حديث قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تتبع النظرة النظرة ، فليس لك يا علي ، إلا أول النظرة».

وفي حديث الأربعمائة المروي في كتاب الخصال (٤) «عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : لكم أول نظرة إلى المرأة. فلا تتبعوها نظرة أخرى ، واحذروا الفتنة».

والظاهر أن المراد بالنظرة ، التي لا يترتب عليها عقاب ولا ذم ، هي ما حصلت له على جهة الاتفاق ، فلو أتبعها بنظرة ثانية ، ترتب عليه الذم والإثم ، والظاهر أن المراد بالنظرة الثانية ، هو الاستمرار على النظرة ، والمداومة بعد النظرة الأولى ، التي حصلت اتفاقا ، وكذا الثالثة ، وهي طول النظر ، زيادة على ذلك ، واحتمال صرفه بصره ، ثم عوده يمكن أيضا.

وهذه الأخبار ، وإن كانت مطلقة ، بالنسبة إلى الجسد وإلى تلك المواضع الثلاثة المتقدمة ، إلا أن تلك المواضع ، قد خرجت بالأخبار المتقدمة ، فوجب تخصيص إطلاق هذه الأخبار بها.

تنبيهات :

الأول : المشهور بين الأصحاب جواز النظر ، إلى نساء أهل الذمة وشعورهن ، وهو قول الشيخين في المقنعة والنهاية ، ما لم يكن ذلك على وجه التلذذ ، قال في النهاية : لا بأس بالنظر إلى نساء أهل الكتاب وشعورهن ، لأنهن بمنزلة الإماء ، إذا لم يكن النظر لريبة أو تلذذ ، وأما إذا كان كذلك. فلا يجوز النظر إليهن على حال

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل ج ١٤ ص ١٣٩ ح ٩ وص ١٤٠ ح ١٠ و ١١ وص ١٤١ ح ١٥ ، الخصال ج ٢ ص ٦٣٢ ..

٥٨

وقال في المقنعة : لا بأس بالنظر إلى نساء أهل الكتاب ، وشعورهن لأنهن بمنزلة الإماء ، ولا يجوز النظر إلى ذلك منهن لريبة.

وعلى هذا القول عمل الأصحاب ، ما عدا ابن إدريس ، وتبعه العلامة في المختلف ، وأما في باقي كتبه فهو موافق لمذهب الأصحاب

قال ابن إدريس : الذي يقوى في نفسي ترك هذه الرواية ، والعدول عنها ، والتمسك بقوله تعالى (١) «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ» وقوله (٢) «لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ» والشيخ أوردها في نهايته على جهة الإيراد لا الاعتقاد ، انتهى.

أقول : والذي وقفت عليه ، من الأخبار الواردة في هذا المقام ، ما رواه في الكافي عن السكوني (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا حرمة لنساء أهل الذمة أن ينظر إلى شعورهن وأيديهن».

وما رواه الحميري في كتاب قرب الاسناد عن أبي البختري (٤) «عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام : قال لا بأس بالنظر إلى رؤوس النساء من أهل الذمة ، وقال : ينزل المسلمون علي أهل الذمة في أسفارهم وحاجاتهم ، ولا ينزل المسلم على المسلم إلا بإذنه».

ويعضده ما رواه ، في الكافي عن عباد بن صهيب (٥) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لا بأس بالنظر إلى رؤوس نساء أهل التهامة ، والأعراب ، وأهل السواد والعلوج ، لأنهم إذا نهوا لا ينتهون ، قال : والمجنونة والمغلوبة على عقلها ، ولا

__________________

(١) سورة النور ـ آية ٣٠.

(٢) سورة الحجر ـ آية ٨٨.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٥٢٤ ح ١.

(٤) قرب الاسناد ص ٦٢.

(٥) الكافي ج ٥ ص ٥٢٤ ح ١.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٤ ص ١٤٩ ح ١ و ٢ وص ١٤٩ ب ١١٣ ح ١.

٥٩

بأس بالنظر إلى شعرها وجسدها ، ما لم يتعمد ذلك». ورواه في الفقيه إلا أنه قال : وأهل البوادي من أهل الذمة ، مكان أهل السواد والعلوج.

قوله عليه‌السلام «ما لم يتعمد ذلك» يعني على وجه التلذذ به ، والميل إليه ، وجملة من أصحابنا المتأخرين ، ومنهم صاحب المسالك وغيره ، قد جروا على القول المشهور ، واستدلوا بهذه الأخبار ، مع ما هي عليه من الضعف ، باصطلاحهم ، وغمضوا العين ، لانسداد طريق العذر عليهم ، وكل ذلك ناش من ضيق الخناق في هذا الاصطلاح ، الذي هو إلى الفساد ، أقرب منه إلى الإصلاح.

ثم إن الظاهر من رواية عباد بن صهيب ، هو تعليل الجواز ، بعدم امتثالهم النهي ، إذا نهوا عن ذلك ، والشيخان وتبعهما جملة من المتأخرين ، عللوا ذلك بأنهن بمنزلة الإماء.

ووجهه في المسالك حيث إن المصنف ممن علل بذلك ، قال : إنما كن بمنزلة الإماء ، لأن أهل الذمة في الأصل للمسلمين ، وإنما حرمهن التزام الرجال ، بشرائط الذمة ، فتبعهم النساء ، فكان تحريمهن عارضيا ، والإماء كذلك وإنما حرمهن ملك المسلمين لهن ، انتهى ، ولا يخفى ما فيه.

نعم ربما كان بناءهم في ذلك ، على ما رواه أبو بصير (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال «إن أهل الكتاب مماليك للإمام». وحينئذ فيكون نسائهم بمنزلة الإماء في الجملة.

وأما ما ذهب اليه ابن إدريس ، فهو جيد على أصله الغير الأصيل ، ومذهبه الذي خالف فيه العلماء ، جيلا بعد جيل ، والآية التي استند إليها مخصصة بالأخبار في هذا الموضع ، وغيره من المواضع المتقدمة ، كمسألة النظر إلى من يريد تزويجها أو شرائها ، ومسألة النظر إلى الوجه واليدين.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٥٨ ح ١١ ، وفي التهذيب عن زرارة برواية أخرى ج ٧ ص ٤٧٨ ح ١٢٦ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٢٠ ب ٨ ح ١ وج ١٥ ص ٤٧٧ ح ١.

٦٠