الحدائق الناضرة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي هدانا بواضح الدليل على سبيل معادن العلم والتأويل ، وسقانا بكأس رحيق السلسبيل من زلال عيون الوحي والتنزيل ، وعرج بنا الى معارج الهداية والدراية ، وفتح لنا مغلقات الأحكام بمحكمات الآية والرواية ، وشرح لنا مبهمات الحلال والحرام بلامعات الولاية الدامغة لدلهمات الغواية ، والصلاة على مؤسس قواعد الدين بالقواعد الباهرة والبراهين. وآله الرافعين لإعلام ما أسس والمشيدين ، صلاة توجب لنا الفوز بجوارهم في أعلى عليين.

(أما بعد) فيقول الفقير الى ربه الكريم ، والمتعطش الى فيض جوده العميم يوسف بن احمد بن إبراهيم أصلح الله تعالى له أمر داريه ، ورزقه حلاوة نشأتيه ، وثبته بالأمر الثابت لديه ، ووفقه لتدارك ذنوبه قبل أن يخرج الأمر من يديه ، وألحقه بأئمته مع جملة ولده وإخوانه ووالديه : اني كثيرا ما تشوقت نفسي إلى تأليف كتاب جامع للأحكام الفقهية المذيلة بالأخبار النبوية والآثار المعصومية ، مشتمل على أمهات المسائل وما يتبعها من الفروع المرتبطة بالدلائل ، فيعوقني عن ذلك تلاطم أمواج الفتن والغارات ، وتزاحم أفواج المحن والشتات ، وتراكم حنادس عوائق الزمان ، وتصادم

٢

بوائق الحدثان ، وانجذام يد الدين المنيف ، وخمود صيت الشرع الشريف ، في كل ناحية ومكان. وتشتت أهاليه في اقاصي البلدان ، بل اضمحلال الفضلاء منهم والأعيان ، حتى لقد أصبحت عرصات العلم دارسة الآثار ، ومنازله مظلمة الأقطار ، وعفت اطلاله ومعالمه ، وخلت دياره ومراسمه.

خلت من أهاليها الكرام وأقفرت

فساحتها تبكي عليهم تلهفا

وأوحش ربع الانس بالإنس بعدهم

كأن لم يكن بين الحجون الى الصفا

ولم تبق في ساحتها إلا قوم ببلدح عجفى. ولا من عرصاتها إلا دمنة لم تكلم من أم أوفى. وكنت ممن رمته أيدي الحوادث في الديار العجمية ، وقذفته في تلك الأقطار منجنيق الرزية ، على ما هي عليه من ترادف البلايا بلية اثر بلية ، واضمحلال اسم الشرع فيها بالكلية ، وتلبس الأغبياء بلباس الأفاضل. وتصدر الجهلاء لافتاء المسائل. فلم تزل تترامى بي أقطارها فأطوي هناك المراحل ، وأقصد اليم فتقذفني الأمواج إلى الساحل

يوما بحزوى ويوما بالعقيق وبالعذيب

يوما ويوما بالخليصاء

`حتى انخت ركابي بدار العلم شيراز ، ومن الله تعالى بالإكرام فيها والإعزاز ، فبقيت فيها برهة من السنين مع جملة الأهل والبنين ، في أرغد عيش وأصفاه ، وأهنأ شراب وأوفاه ، مشتغلا بمدارسة العلوم الدينية. وممارسة الاخبار المعصومية ، فخطر بي ذلك الخاطر القديم. وناداني المنادي أن يا إبراهيم ، فبقيت أقدم رجلا وأؤخر أخرى. وارى ان التقديم أحق وأحرى ، فكم استنهضت مطي العزم على السير فلم تساعد. وبئس السير على ذلك العير الغير المساعد. إلا اني قد أبرزت ضمن تلك المدة جملة من الرسائل في قالب التحقيق. ونمقت شطرا من المسائل على نمط أنيق وطرز رشيق ، حتى عصفت بتلك البلاد ريح عاصف حتت الورق ، وفرقت من عقد نظامها ما اتسق. ولعبت بها أيدي الحوادث التي لا تنيم ولا تنام ، وسقت أهلها من مرير علقمها كؤوس الحمام ، قتلا وسلبا وأسرا وهتكا ، كأنهم

٣

ممن خلع ربقة الإسلام ، واستبدل بها عبادة الأوثان والأصنام ، وحيث من الله تعالى بمزيد كرمه بالسلامة من تلك الأخطار ، والنجاة من أيدي أولئك الأشرار ، ركبت الفرار الى بعض النواحي ، وأغمضت عن عذل العذال واللواحي ، واتخذت العزلة عن أشباه الناس وطنا ، والوحدة من الدنفاس سكنا ، وفي ذلك سلامة الدنيا والدين ، والفوز بسعادة الحق واليقين ، وضربت صفحا عن الطموح الى زهرة هذه الدار ، وطويت كشحا دون النظر الى ما اسدته الأقدار ، من البأس حلل اليسار أو اطمار الإعسار ، وثوقا بضامن الأرزاق والمعطي على قدر الاستحقاق ، وعند ذلك هجس بفكري ما كنت أتمناه من ذلك الكتاب ، وان هذه الخلوة أعز من أن تصرف في غير هذا الباب ، ورأيت انتهاز الفرصة فإنها تمر مر السحاب ، ولم يثن عزمي قلة الطلاب ، ولا إشراف شموس الفضل على الغياب ، بل صار ذلك أقوى سبب لي على القدوم ، لما استفاض عن سدنة الحي القيوم من الحث الأكيد ومزيد التأكيد في إحياء هذا الدين ونشر شريعة سيد المرسلين ، وعسى الله سبحانه أن ينفع به بعض الاخوان المؤمنين ، والخلان الطالبين للحق واليقين ، وقد سميته ب (كتاب الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة) واليه سبحانه أرغب في التوفيق سيما للإتمام والعصمة من زلل أقدام الأقلام في ميادين الإحكام ، إنه تعالى أكرم من رغب اليه واكفى من توكل عليه.

وقد رأيت أن أبدأ أولا بتمهيد جملة من المقدمات التي يتوقف عليها الاستدلال ، ويرجع إليها في تحقيق الأحوال ، ليكون كتابنا هذا كافلا بتحقيق ما يحتاج اليه من أصول وفروع ، مغنيا عن الافتقار الى غيره والرجوع.

المقدمة الأولى

غير خفي ـ على ذوي العقول من أهل الايمان وطالبي الحق من ذوي

٤

الأذهان ـ ما بلي به هذا الدين من أولئك المردة المعاندين بعد موت سيد المرسلين ، وغصب الخلافة من وصيه أمير المؤمنين ، وتواثب أولئك الكفرة عليه ، وقصدهم بأنواع الأذى والضرر اليه ، وتزايد الأمر شدة بعد موته صلوات الله عليه ، وما بلغ اليه حال الأئمة صلوات الله عليهم من الجلوس في زاوية التقية ، والإغضاء على كل محنة وبلية. وحث الشيعة على استشعار شعار التقية ، والتدين بما عليه تلك الفرقة الغوية ، حتى كورت شمس الدين النيرة ، وخسفت كواكبه المقمرة ، فلم يعلم من أحكام الدين على اليقين إلا القليل ، لامتزاج اخباره باخبار التقية ، كما قد اعترف بذلك ثقة الإسلام وعلم الاعلام (محمد بن يعقوب الكليني نور الله تعالى مرقده) في جامعه الكافي ، حتى انه (قدس‌سره) تخطأ العمل بالترجيحات المروية عند تعارض الاخبار ، والتجأ إلى مجرد الرد والتسليم للأئمة الأبرار. فصاروا صلوات الله عليهم ـ محافظة على أنفسهم وشيعتهم ـ يخالفون بين الأحكام وان لم يحضرهم أحد من أولئك الأنام ، فتراهم يجيبون في المسألة الواحدة بأجوبة متعددة وان لم يكن بها قائل من المخالفين ، كما هو ظاهر لمن تتبع قصصهم واخبارهم وتحدى (١) سيرهم وآثارهم.

وحيث ان أصحابنا رضوان الله عليهم خصوا الحمل على التقية بوجود قائل من العامة. وهو خلاف ما أدى اليه الفهم الكليل والفكر العليل من اخبارهم صلوات الله عليهم ، رأينا أن نبسط الكلام بنقل جملة من الأخبار الدالة على ذلك ، لئلا يحملنا الناظر على مخالفة الأصحاب من غير دليل. وينسبنا الى الضلال والتضليل.

فمن ذلك ما رواه في الكافي (٢) في الموثق عن زرارة عن ابي جعفر عليه‌السلام قال : (سألته عن مسألة فأجابني ، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي ، فلما خرج الرجلان قلت :

__________________

(١) (حدي الشي‌ء وتحداه) تحدية وتحديا : تعمده. أقرب الموارد.

(٢) في باب اختلاف الحديث.

٥

يا ابن رسول الله رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان ، فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال : يا زرارة ان هذا خير لنا وأبقى لكم. ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا ولكان أقل لبقائنا وبقائكم. قال : ثم قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين ، قال : فأجابني بمثل جواب أبيه).

فانظر إلى صراحة هذا الخبر في اختلاف أجوبته عليه‌السلام في مسألة واحدة في مجلس واحد وتعجب زرارة ، ولو كان الاختلاف إنما وقع لموافقة العامة لكفى جواب واحد بما هم عليه ، ولما تعجب زرارة من ذلك ، لعلمه بفتواهم عليهم‌السلام أحيانا بما يوافق العامة تقية ، ولعل السر في ذلك أن الشيعة إذا خرجوا عنهم مختلفين كل ينقل عن امامه خلاف ما ينقله الآخر ، سخف مذهبهم في نظر العامة ، وكذبوهم في نقلهم ، ونسبوهم الى الجهل وعدم الدين ، وهانوا في نظرهم ، بخلاف ما إذا اتفقت كلمتهم وتعاضدت مقالتهم ، فإنهم يصدقونهم ويشتد بغضهم لهم ولإمامهم ومذهبهم ، ويصير ذلك سببا لثوران العداوة ، والى ذلك يشير قوله عليه‌السلام : (ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا. إلخ).

ومن ذلك ايضا ما رواه الشيخ في التهذيب (١) في الصحيح ـ على الظاهر ـ عن سالم أبي خديجة عن أبي عبد الله (ع) قال : (سأله إنسان وأنا حاضر فقال : ربما دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلي العصر ، وبعضهم يصلي الظهر؟ فقال : أنا أمرتهم بهذا ، لو صلوا على وقت واحد لعرفوا فأخذ برقابهم). وهو أيضا صريح في المطلوب ، إذ لا يخفى أنه لا تطرق للحمل هنا على موافقة العامة ، لاتفاقهم على التفريق بين وقتي الظهر والعصر ومواظبتهم على ذلك.

__________________

(١) في باب المواقيت.

٦

وما رواه الشيخ في كتاب العدة (١) مرسلا عن الصادق عليه‌السلام : انه (سئل عن اختلاف أصحابنا في المواقيت؟ فقال : انا خالفت بينهم).

وما رواه في الاحتجاج (٢) بسنده فيه عن حريز عن ابي عبد الله (ع) قال : (قلت له : انه ليس شي‌ء أشد علي من اختلاف أصحابنا. قال ذلك من قبلي).

وما رواه في كتاب معاني الاخبار (٣) عن الخزاز عمن حدثه عن ابي الحسن (ع) قال : (اختلاف أصحابي لكم رحمة وقال (ع) : إذا كان ذلك جمعتكم على أمر واحد). وسئل عن اختلاف أصحابنا فقال عليه‌السلام : (انا فعلت ذلك بكم ولو اجتمعتم على أمر واحد لأخذ برقابكم).

وما رواه في الكافي (٤) بسنده فيه عن موسى بن أشيم قال : (كنت عند ابي عبد الله عليه‌السلام فسأله رجل عن آية من كتاب الله عزوجل فأخبره بها ثم دخل عليه داخل فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبر به الأول ، فدخلني من ذلك ما شاء الله ، الى أن قال : فبينما أنا كذلك إذ دخل عليه آخر فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبرني وأخبر صاحبي ، فسكنت نفسي وعلمت ان ذلك منه تقية. قال : ثم التفت إلي فقال : يا ابن أشيم ان الله عزوجل فوض الى سليمان بن داود فقال (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ). وفوض الى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) في مبحث الخبر الواحد.

(٢) هذا الحديث مذكور في العلل باب ١٣١ (العلة التي من أجلها حرم الله الكبائر) ولم ينقله المجلسي في البحار إلا عن العلل.

(٣) هذا الحديث مذكور في العلل في الباب المتقدم ولم ينقله المجلسي في البحار إلا عن العلل.

(٤) في باب التفويض الى رسول الله (ص) والى الأئمة (ع) في أمر الدين.

٧

فقال : (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). فما فوض الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد فوضه إلينا).

ولعلك بمعونة ذلك تعلم ان الترجيح بين الاخبار بالتقية ـ بعد العرض على الكتاب العزيز ـ أقوى المرجحات. فان جل الاختلاف الواقع في أخبارنا بل كله عند التأمل والتحقيق إنما نشأ من التقية (١) ومن هنا دخلت الشبهة على جمهور متأخري أصحابنا رضوان الله عليهم ، فظنوا ان هذا الاختلاف إنما نشأ من دس أخبار الكذب في أخبارنا ، فوضعوا هذا الاصطلاح ليميزوا به صحيحها عن سقيمها وغثها من سمينها ، وقوى الشبهة فيما ذهبوا إليه شيئان : (أحدهما) رواية مخالف المذهب وظاهر الفسق والمشهور بالكذب من فطحي وواقفي وزيدي وعامي وكذاب وغال ونحوهم. و (ثانيهما) ما ورد عنهم عليهم‌السلام من ان لكل رجل منا رجلا يكذب عليه وأمثاله مما يدل على دس بعض الأخبار الكاذبة في أحاديثهم عليهم‌السلام ، ولم يتفطنوا نور الله ضرائحهم الى ان هذه الأحاديث التي بأيدينا إنما وصلت إلينا بعد أن سهرت

__________________

(١) أقول : وقد وفق الله تعالى الى الوقوف على كلام للمحدث الأمين الأسترآبادي (قدس‌سره) يطابق ما سنح لنا في هذه المقالة ، حيث قال في تعليقاته على كتاب المدارك في بحث البئر في بيان السبب في اختلاف اخبار النزح ما لفظه : واما الروايات المختلفة المتضمنة للنزح ففي سبب اختلافها احتمالات ، وذلك لتضمن كثير من الروايات انه من أنواع التقية صدور أجوبة مختلفة عنهم عليهم‌السلام في مسألة واحدة لئلا يثبت عليهم قول واحد ، ولنص كثير منها ان خصوصيات كثير من الأحكام مفوضة إليهم عليهم‌السلام كما كانت مفوضة إليه (ص) ، ليعلم المسلم لأمرهم من غيره ، الى آخر كلامه خصه الله بمزيد إكرامه. وانى سابقا كان يكثر تعجبي من عدم اهتداء أحد سيما من المحدثين الى ما ذكرنا ، حتى وفق الله سبحانه للوقوف على هذا الكلام ، وما ذكره (قدس‌سره) من خروج بعض الاختلافات عنهم (ع) من باب التفويض يدل عليه من الاخبار المذكورة هنا خبر موسى بن أشيم (منه رحمه‌الله).

٨

العيون في تصحيحها وذابت الأبدان في تنقيحها ، وقطعوا في تحصيلها من معادنها البلدان ، وهجروا في تنقيتها الأولاد والنسوان ، كما لا يخفى على من تتبع السير والأخبار ، وطالع الكتب المدونة في تلك الآثار ، فان المستفاد منها ـ على وجه لا يزاحمه الريب ولا يداخله القدح والعيب ـ انه كان دأب قدماء أصحابنا المعاصرين لهم (عليهم‌السلام) الى وقت المحمدين الثلاثة في مدة تزيد على ثلثمائة سنة ضبط الأحاديث وتدوينها في مجالس الأئمة ، والمسارعة إلى إثبات ما يسمعونه خوفا من تطرق السهو والنسيان ، وعرض ذلك عليهم ، وقد صنفوا تلك الأصول الأربعمائة المنقولة كلها من اجوبتهم (عليهم‌السلام) وانهم ما كانوا يستحلون رواية ما لم يجزموا بصحته ، وقد روي أنه عرض على الصادق (ع) كتاب عبيد الله بن علي الحلبي فاستحسنه وصححه ، وعلى العسكري (ع) كتاب يونس بن عبد الرحمن وكتاب الفضل بن شاذان فاثنى عليهما ، وكانوا (عليهم‌السلام) يوقفون شيعتهم على أحوال أولئك الكذابين ، ويأمرونهم بمجانبتهم ، وعرض ما يرد من جهتهم على الكتاب العزيز والسنة النبوية وترك ما خالفهما.

فروى الثقة الجليل أبو عمرو الكشي في كتاب الرجال (١) بإسناده عن محمد ابن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن : ان بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر فقال : يا أبا محمد ما أشدك في الحديث وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا ، فما الذي يحملك على رد الحديث (٢)؟ فقال : حدثني هشام بن الحكم انه سمع أبا عبد الله (ع) يقول : «لا تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق القرآن والسنة أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة ، فإن المغيرة بن سعيد (لعنه الله) دس في كتب (٣) أبي أحاديث لم يحدث بها أبي ، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا وسنة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله». قال يونس : وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر ووجدت أصحاب

__________________

(١) في أحوال المغيرة بن سعيد.

(٢) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المطبوعة والمخطوطة ، وفي رجال الكشي (رد الأحاديث).

(٣) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المطبوعة والمخطوطة ، وفي رجال الكشي (كتب أصحاب أبي).

٩

أبي عبد الله (ع) متوافرين ، فسمعت منهم ، وأخذت كتبهم وعرضتها من بعد على ابي الحسن الرضا (ع) ، فأنكر منها أحاديث كثيرة ان تكون من أحاديث أبي عبد الله ، وقال : «ان أبا الخطاب كذب على ابي عبد الله (ع) لعن الله أبا الخطاب وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب ابي عبد الله (ع) ، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنا إن تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة ، انا عن الله وعن رسوله نحدث ولا نقول قال فلان وفلان فيتناقض كلامنا ، ان كلام آخرنا مثل كلام أولنا. وكلام أولنا مصداق لكلام آخرنا ، فإذا أتاكم من يحدثكم بخلاف ذلك فردوه عليه وقولوا أنت أعلم وما جئت به ، فان لكلامنا حقيقة وعليه نورا ، فما لا حقيقة له ولا عليه نور فذلك قول الشيطان».

أقول : فانظر ـ أيدك الله تعالى ـ الى ما دل عليه هذا الحديث من توقف يونس في الأحاديث واحتياطه فيها. وهذا شأن غيره ايضا كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ، وأمرهم (عليهم‌السلام) بعرض ما يأتي من الأخبار من غير المؤتمن على الكتاب والسنة تحرزا من تلك الأحاديث المكذوبة ، فهل يجوز في العقول السليمة والطباع المستقيمة ان مثل هؤلاء الثقات العدول إذا سمعوا من أئمتهم مثل هذا الكلام ان يستحلوا بعد ذلك نقل ما لا يثقون بصحته ولا يعتمدون على حقيقته. بل من المقطوع والمعلوم عادة من أمثالهم انهم لا يذكرون ولا يروون في مصنفاتهم إلا ما اتضح لهم فيه الحال وانه في الصدق والاشتهار كالشمس في رابعة النهار كما سمعت من حال يونس ، وهذا كان دأبهم (عليهم‌السلام) في الهداية لشيعتهم. يوقفونهم على جميع ما وقع وما عسى أن يقع في الشريعة من تغيير وتبديل ، لأنهم (صلوات الله عليهم) حفاظ الشريعة وحملتها وضباطها وحرستها. ولهم نواب فيها من ثقات أصحابهم وخواص رواتهم ، يوحون إليهم أسرار الأحكام ، ويوقفونهم على غوامض كل حلال وحرام ، كما قد روي ذلك بأسانيد عديدة ، على ان المفهوم من جملة من تلك الأخبار ان تلك الأحاديث المكذوبة

١٠

كلها كانت من أحاديث الكفر والزندقة والاخبار بالغرائب.

فمن ذلك ما رواه في الكتاب المتقدم (١) عن يونس عن هشام بن الحكم : انه سمع أبا عبد الله (ع) يقول : «كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على ابي ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه المستترون بأصحاب ابي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة ، فكان يدس فيها كتب الكفر والزندقة ويسندها الى ابي (عليه‌السلام) ، ثم يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أن يبثوها في الشيعة. فكل ما كان في كتب أصحاب ابي (عليه‌السلام) من الغلو فذاك مما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم».

وبإسناده عن حماد عن حريز قال ـ يعني أبا عبد الله (ع) ـ : ان أهل الكوفة لم يزل فيهم كذاب ، اما المغيرة بن سعيد فإنه يكذب على ابي ـ يعني أبا جعفر (عليه‌السلام) ـ قال : حدثه ان نساء آل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إذا حضن قضين الصلاة. وكذب والله ما كان من ذلك شي‌ء ولا حدثه. واما أبو الخطاب فكذب علي وقال : اني أمرته هو وأصحابه ان لا يصلي المغرب حتى يروا الكواكب.» الحديث.

على ان مقتضى الحكمة الربانية وشفقة الأئمة (صلوات الله عليهم) على من في أصلاب الرجال من شيعتهم تمنع من ان يتركوهم هملا يمشون على غير طريق واضح ولا منار لائح ، فلا يميزون لهم الغث من السمين. ولا يهدونهم إلى جادة الحق المبين. ولا يوقفونهم على ما يقع في الشريعة من تغيير وتبديل. وما يحدثه الكذابون المفترون من البدع والتضليل ، كلا ثم كلا ، بل اوضحوا الدين المبين نهاية الإيضاح. وصفوه من شوب كل كدر ، حتى أسفر كضوء الصباح. الا ترى الى ما ورد عنهم من حثهم شيعتهم على الكتابة لما يسمعونه منهم. وأمرهم بحفظ الكتب لمن يأتي بعدهم. كما

__________________

(١) في أحوال المغيرة بن سعيد وكذا الخبر الآتي.

١١

ورد في جملة من الأخبار التي رواها ثقة الإسلام في جامعه الكافي وغيره في غيره. والى تحذيرهم الشيعة عن مداخلة كل من أظهر البدع وأمرهم بمجانبتهم ، وتعريفهم لهم بأعيانهم ، كما عرفت فيما تلونا من الاخبار.

ومن ذلك ايضا ما خرج عن الأئمة المتأخرين (صلوات الله عليهم أجمعين) في لعن جماعة ممن كانوا كذلك ، كفارس بن حاتم القزويني ، والحسن بن محمد بن بابا ، ومحمد بن نصير النميري ، وابي طاهر محمد بن علي بن بلال ، واحمد بن هلال ، والحسين بن منصور الحلاج. وابن ابي العزاقر ، وابي دلف ، وجمع كثير ممن يتسمى بالشيعة. ويظهر المقالات الشنيعة من الغلو والإباحات والتناسخ ونحوها ، وقد خرجت في لعنهم التوقيعات عنهم (عليهم‌السلام) في جميع الأماكن والبراءة منهم. وقد ذكر الشيخ (قدس‌سره) في كتاب الغيبة جمعا من هؤلاء ، وأورد الكشي اخبارا فيما أحدثوا. وما خرج فيهم من التوقيعات لذلك ، من أحب الوقوف عليها فليرجع اليه. وقد شدد أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) الأمر في ذلك ، حتى ربما تجاوزوا المقام. حتى انهم كانوا يجانبون الرجل بمجرد التهمة بذلك ، كما وقع لأحمد بن محمد ابن عيسى مع احمد بن محمد بن خالد البرقي من إخراجه من برقة قم لما طعن عليه القميون ، ثم اعاده إليها لما ظهر له براءته. ومشى في جنازته حافيا إظهارا لنزاهته مما رمي به ، وكما أخرج سهل بن زياد الأدمي. وأظهر البراءة منه ومنع الناس من السماع عنه ، وكما استثنى محمد بن الحسن بن الوليد جملة من الرواة ، منهم جماعة ممن روى عنهم محمد بن احمد بن يحيى الأشعري وغيرهم ، وقد عدوا جماعة من الرواة في الضعفاء. ونسبوهم الى الكذب والافتراء. ومنهم من خرجت التوقيعات فيه عنهم (عليهم‌السلام) ومنهم من اطلعوا على حاله الموجب لضعفه ، ومنهم محمد بن علي الصيرفي أبو سمينة. ومحمد بن سنان. ويونس بن ظبيان. ويزيد الصائغ وغيرهم ، وذلك ظاهر لمن تصفح كتب

١٢

الرجال واطلع على ما فيها من الأحوال. ومن الظاهر البين الظهور انه مع شهرة الأمر في هؤلاء المعدودين وأمثالهم ، فإنه لا يعتمد أحد ممن اطلع على أحوالهم على رواياتهم ، ولا يدونونها في أصولهم إلا مع اقترانها بما يوجب صحتها ويعلن بثبوتها (١) كما صرح

__________________

(١) ومن ذلك ما ذكره (قده) في كتاب الغيبة ، حيث نقل حديثا في الغيبة عن أحمد ابن زياد ، ثم قال : قال مصنف هذا الكتاب (رضى الله عنه) : لم أسمع هذا الحديث إلا من احمد بن زياد (رضى الله عنه) بعد انصرافه من حج بيت الله الحرام ، وكان رجلا ثقة دينا فاضلا (رحمة الله ورضوانه عليه) انتهى.

(ومنه) ايضا ما ذكره في الكتاب المذكور بعد نقل حديث عن علي بن عبد الله الوراق ، حيث قال : قال مصنف هذا الكتاب (رضى الله عنه) : لم أسمع هذا الحديث إلا من علي بن عبد الله الوراق ، ووجدته بخطه مثبتا فسألته عنه فرواه لي عن سعد بن عبد الله عن احمد بن إسحاق كما ذكرته. انتهى.

(ومنه) ما ذكره في معاني الاخبار في باب معنى ما جاء في لعن الذهب والفضة ، حيث قال : قال مصنف هذا الكتاب : هذا حديث لم أسمعه إلا من الحسن بن حمزة العلوي (رضى الله عنه) ولم اروه عن شيخنا محمد بن الحسن بن الوليد ، ولكنه صحيح عندي إلى آخر كلامه (ولا يخفى) على الفطن اللبيب والمنصف الأريب ان تخصيصه هذه الاخبار ونحوها مما ذكره يدل دلالة واضحة على ان ما لم يذكر فيه شيئا من ذلك كله مقطوع مجزوم على صحته كما لا يخفى.

ومنه ما ذكره (قدس‌سره) في كتاب من لا يحضره الفقيه في باب ما يجب على من أفطر أو جامع في شهر رمضان ، حيث روى عن المفضل بن عمر عن ابى عبد الله (ع) في رجل أتى امرأته وهي صائمة وهو صائم. فقال : ان كان أكرهها فعليه كفارتان ، وان كانت طاوعته فعليه كفارة. الحديث. ثم قال (قدس‌سره) قال مصنف هذا الكتاب : لم أجد ذلك في شي‌ء من الأصول وانما تفرد بروايته علي بن إبراهيم بن هاشم. وفيه كما ترى دلالة واضحة على ان جميع ما يرويه في هذا المقام وغيره انما هو من الأصول المقطوع على صحتها عنده ، كما صرح به في أول الفقيه ، وانه إذا نقل ما ليس كذلك نبه على ان الراوي له ثقة معتمد ، فكيف بعد أمثال هذا الكلام الذي لا يليق بأمثاله من أولئك الأعلام خلط الغث بالسمين حتى يحتاج الى ما ذكروه من هذا الاصطلاح العديم الاصطلاح (منه رحمه‌الله).

١٣

به شيخنا البهائي في كتاب مشرق الشمسين ، وقد نقل الصدوق (قدس‌سره) في كتاب عيون أخبار الرضا حديثا في سنده (محمد بن عبد الله المسمعي) ، ثم قال بعد تمام الحديث ما هذا لفظه : قال مصنف هذا الكتاب : كان شيخنا (محمد بن الحسن ابن الوليد) سي‌ء الرأي في (محمد بن عبد الله المسمعي) راوي هذا الحديث ، وانما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب لانه كان في كتاب الرحمة وقد قرأته عليه فلم ينكره ورواه لي ، انتهى. أقول : وكتاب الرحمة لسعد بن عبد الله. فانظر إلى شدة احتياطهم وتورعهم في عدم نقل ما لا يثقون به إلا مع انضمام القرائن الموجبة لصحته وثبوته. وبالجملة : فالخوض في كتب الرجال ـ والنظر في مصنفات المتقدمين والاطلاع على سيرتهم وطريقتهم ـ يفيد الجزم بما قلنا ، واما من أخذ بظاهر المشهور من غير تدبر لما هو ثمة مذكور فهو فيما ذهب اليه معذور. وكل ميسر لما خلق له ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

المقدمة الثانية

قد صرح جملة من أصحابنا المتأخرين بأن الأصل في تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة المشهورة هو العلامة أو شيخه جمال الدين بن طاوس نور الله تعالى مرقديهما ، واما المتقدمون فالصحيح عندهم هو ما اعتضد بما يوجب الاعتماد عليه من القرائن والأمارات التي ذكرها الشيخ (قدس‌سره) في كتاب العدة. وعلى هذا جرى جملة من أصحابنا المحدثين وطائفة من متأخري متأخري المجتهدين كشيخنا المجلسي رحمه‌الله وجمع ممن تأخر عنه. وقد اتسع خرق الخلاف بين المجتهدين من أصحابنا والأخباريين في جمل عديدة من مسائل الأصول التي تبنى عليها الفروع الفقهية ، وبسط كل من علماء الطرفين لسان التشنيع على الآخر ، والحق الحقيق بالاتباع ما سلكه طائفة من

١٤

متأخري المتأخرين كشيخنا المجلسي (طاب ثراه) وطائفة ممن أخذ عنه. فإنهم سلكوا من طرق الخلاف بين ذينك الفريقين طريقا وسطى بين القولين ونجدا أوضح من ذينك النجدين و (خير الأمور أوسطها). ونحن قد بسطنا الكلام في إيضاح هذا المرام في جملة من مؤلفاتنا ولا سيما كتاب المسائل ، فإنا قد أعطينا المسألة حقها من الدلائل ، ولا بأس بذكر طرف من ذلك في هذا الكتاب ، حيث انا قد قصدنا فيه ضرب الصفح غالبا عن الكلام في أسانيد الأخبار والطعن فيها بذلك. فربما يظن الناظر الغير العالم بطريقتنا ان ذلك عن عجز أو غفلة أو نحو ذلك ، فرأينا أن نبين هنا ان ذلك إنما هو من حيث ثبوت صحة تلك الاخبار عندنا والوثوق بورودها عن أصحاب العصمة (صلوات الله عليهم).

فنقول : قد صرح شيخنا البهائي في كتاب مشرق الشمسين وقبله المحقق الشيخ حسن (أعلى الله رتبتهما) في مقدمات كتاب المنتقى بما ملخصه : ان السبب ـ الداعي إلى تقرير هذا الاصطلاح في تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة ـ هو انه لما طالت المدة بينهم وبين الصدر الأول وبعدت عليهم الشقة وخفيت عليهم تلك القرائن التي أوجبت صحة الأخبار عند المتقدمين. وضاق عليهم ما كان متسعا على غيرهم ، التجأوا الى العمل بالظن بعد فقد العلم ، لكونه أقرب مجازا إلى الحقيقة عند تعذرها ، وبسبب التباس الأخبار غثها بسمينها وصحيحها بسقيمها التجأوا الى هذا الاصطلاح الجديد. وقربوا لنا البعيد ، ونوعوا الحديث إلى الأنواع الأربعة. وزاد في كتاب مشرق الشمسين : انهم ربما سلكوا طريقة القدماء في بعض الأحيان ، ثم عد (قدس‌سره) مواضع من ذلك. هذا خلاصة ما ذكروا في تعليل ذلك ، ونحن نقول : لنا على بطلان هذا الاصطلاح وصحة أخبارنا وجوه.

(الأول) ما قد عرفت في المقدمة الاولى من أن منشأ الاختلاف في أخبارنا إنما هو التقية من ذوي الخلاف لا من دس الاخبار المكذوبة حتى يحتاج الى هذا

١٥

الاصطلاح. على انه متى كان السبب الداعي إنما هو دس الأحاديث المكذوبة كما توهموه (رضوان الله عليهم) ففيه انه لا ضرورة تلجئ الى اصطلاحهم ، لأنهم (عليهم‌السلام) قد امرونا بعرض ما شك فيه من الاخبار على الكتاب والسنة فيؤخذ بما وافقهما ويطرح ما خالفهما ، فالواجب في تمييز الخبر الصادق من الكاذب مراعاة ذلك ، وفيه غنية عما تكلفوه ، ولا ريب ان اتباع الأئمة (عليهم‌السلام) اولى من أتباعهم.

(الثاني) ان التوثيق والجرح الذي بنوا عليه تنويع الاخبار إنما أخذوه من كلام القدماء ، وكذلك الأخبار التي رويت في أحوال الرواة من المدح والذم إنما أخذوها عنهم ، فإذا اعتمدوا عليهم في مثل ذلك فكيف لا يعتمدون عليهم في تصحيح ما صححوه من الاخبار واعتمدوه وضمنوا صحته كما صرح به جملة منهم ، كما لا يخفى على من لاحظ ديباجتي الكافي والفقيه وكلام الشيخ في العدة وكتابي الأخبار فإن كانوا ثقاتا عدولا في الاخبار بما أخبروا به ففي الجميع ، وإلا فالواجب تحصيل الجرح والتعديل من غير كتبهم وأنى لهم به (لا يقال) (١) إن أخبارهم بصحة ما رووه في كتبهم يحتمل الحمل على الظن القوي باستفاضة أو شياع أو شهرة معتد بها أو قرينة أو نحو ذلك مما يخرجه عن محوضة الظن (لأنا نقول) فيه (أولا) ان أصحاب هذا الاصطلاح مصرحون بكون مفاد الاخبار عند المتقدمين هو القطع واليقين وانهم إنما عدلوا عنه الى الظن لعدم تيسر ذلك لهم كما صرح به في المنتقى ومشرق الشمسين

__________________

(١) هذا أحد الأجوبة التي أجابوا بها فيما ذكرنا ، صرح به شيخنا أبو الحسن (قده) في كتاب العشرة الكاملة ، حيث انه في الكتاب المذكور كان شديد التعصب لهذا الاصطلاح وترويج القول بالاجتهاد ، الا ان مصنفاته الأخيرة تدل على عدوله عن ذلك وميله الى العمل بالاخبار ، وان كان دون طريقة الأخباريين بل من الجادة الوسطى التي قدمنا الإشارة إليها (منه رحمه‌الله).

١٦

(واما ثانيا) فلما تضمنته تلك العبارات مما هو صريح في صحة الاخبار بمعنى القطع واليقين بثبوتها عن المعصومين (فان قيل) تصحيح ما حكموا بصحته أمر اجتهادي لا يجب تقليدهم فيه ، ونقلهم المدح والذم رواية يعتمد عليهم فيها (قلنا) فيه ان أخبارهم بكون الراوي ثقة أو كذابا أو نحو ذلك إنما هو أمر اجتهادي استفادوه بالقرائن المطلعة على أحواله أيضا.

(الثالث) ـ تصريح جملة ـ من العلماء الاعلام وأساطين الإسلام ومن هم المعتمد في النقض والإبرام من متقدمي الأصحاب ومن متأخريهم الذين هم أصحاب هذا الاصطلاح أيضا ـ بصحة هذه الأخبار وثبوتها عن الأئمة الأبرار ، لكنا نقتصر على ما ذكره أرباب هذا الاصطلاح في المقام ، فإنه أقوى حجة في مقام النقض والإلزام.

فمن ذلك ما صرح به شيخنا الشهيد (نور الله مضجعه) في الذكرى في الاستدلال على وجوب اتباع مذهب الإمامية ، حيث قال ما حاصله : انه كتب من أجوبة مسائل أبي عبد الله (عليه‌السلام) أربعمائة مصنف لاربعمائة مصنف. ودون من رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل من أهل العراق والحجاز وخراسان والشام. وكذلك عن مولانا الباقر (ع) ، ورجال باقي الأئمة (ع) معروفون مشهورون أولوا مصنفات مشتهرة ، فالإنصاف يقتضي الجزم بنسبة ما نقل عنهم إليهم ، الى أن قال بعد عد جملة من كتب الاخبار وغيرها مما يطول تعداده بالأسانيد الصحيحة المتصلة المنتقدة والحسان والقوية : فالإنكار بعد ذلك مكابرة محضة وتعصب صرف. ثم قال : (لا يقال) فمن اين وقع الاختلاف العظيم بين فقهاء الإمامية إذا كان نقلهم عن المعصومين (ع) وفتواهم عن المطهرين (ع)؟ (لأنا نقول) محل الخلاف اما من المسائل المنصوصة أو مما فرعه العلماء ، والسبب في الثاني اختلاف الأنظار ومبادئها كما هو بين سائر علماء الأمة ، واما الأول فسببه اختلاف الروايات ظاهرا ، وقلما يوجد فيها التناقض بجميع شروطه ، وقد كانت الأئمة (ع) في زمن تقية واستتار من مخالفيهم. فكثيرا ما يجيبون

١٧

السائل على وفق معتقده أو معتقد بعض الحاضرين أو بعض من عساه يصل اليه من المناوئين ، أو يكون عاما مقصورا على سببه أو قضية في واقعة مختصة بها أو اشتباها على بعض النقلة عنهم أو عن الوسائط بيننا وبينهم (عليهم‌السلام). انتهى.

ولعمري انه كلام نفيس يستحق ان يكتب بالنور على وجنات الحور ، ويجب ان يسطر ولو بالخناجر على الحناجر. فانظر الى تصريحه بل جزمه بصحة تلك الروايات التي تضمنتها هذه الكتب التي بأيدينا ، وتخلصه من الاختلاف الواقع بين الاخبار بوجوه تنفي احتمال تطرق دخول الأحاديث الكاذبة في أخبارنا.

ومن ذلك ما صرح به شيخنا الشهيد الثاني (أعلى الله تعالى رتبته) في شرح الدراية ، حيث قال : «كان قد استقر أمر الإمامية على أربعمائة مصنف سموها أصولا فكان عليها اعتمادهم ، تداعت (١) الحال الى ذهاب معظم تلك الأصول ، ولخصها جماعة في كتب خاصة تقريبا على المتناول. وأحسن ما جمع منها : الكافي. والتهذيب والاستبصار. ومن لا يحضره الفقيه».

فانظر الى شهادته (قدس‌سره) بكون أحاديث كتبنا هي أحاديث تلك الأصول بعينها (٢) وحينئذ فالطاعن في هذه كالطاعن في تلك الأصول. ثم ان الظاهر ان تخصيصه هذه الكتب الأربعة بالأحسنية إنما هو من حيث اشتمالها على أبواب الفقه

__________________

(١) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المطبوعة والمخطوطة ، وفي المطبوع من شرح الدراية (ثم تداعت).

(٢) ويؤيد ذلك ما صرح به شيخنا البهائي (قدس‌سره) في أول كتاب مشرق الشمسين ، حيث عد من جملة الأمور الموجبة للقطع بصحة الأخبار عند المتقدمين وجودها في كثير من الأصول الأربعمائة المتصلة بأصحاب العصمة (عليهم‌السلام) ، قال : وكانت متداولة بينهم في تلك الأعصار مشتهرة بينهم اشتهار الشمس في رابعة النهار. انتهى. (منه رحمه‌الله).

١٨

كملا على الترتيب بخلاف غيرها من كتب الاخبار كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار. ولا يتوهم ـ من ظاهر قوله : تداعت الحال الى ذهاب معظم تلك الأصول ولخصها الى آخره ـ ان تلخيص تلك الجماعة لها إنما وقع بعد ذهاب معظمها ، فان ذلك باطل (أما أولا) فلأن التلخيص وقع عطفه في كلامه بالواو ، دون ـ ثم ـ المفيدة للترتيب. (واما ثانيا) فلان الظاهر ـ كما صرح به بعض فضلائنا ـ إن اضمحلال تلك الأصول إنما وقع بسبب الاستغناء عنها بهذه الكتب التي دونها أصحاب الأخبار ، لكونها أحسن منها جمعا وأسهل تناولا. وإلا فتلك الأصول قد بقيت الى زمن ابن طاوس (رضي‌الله‌عنه) ، كما ذكر ان أكثر تلك الكتب كان عنده ونقل منها شيئا كثيرا كما يشهد به تتبع مصنفاته. وبذلك يشهد كلام ابن إدريس في آخر كتاب السرائر. حيث انه نقل ما استطرفه من جملة منها شطرا وافرا من الاخبار. وبالجملة : فاشتهار تلك الأصول في زمن أولئك الفحول لا ينكره إلا معاند جهول.

ومن ذلك ما صرح به المحقق الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني. حيث قال في بحث الإجازة من المعالم ما صورته : «ان أثر الإجازة بالنسبة إلى العمل انما يظهر حيث لا يكون متعلقا معلوما بالتواتر ونحوه ككتب أخبارنا. فإنها متواترة إجمالا ، والعلم بصحة مضامينها تفصيلا يستفاد من قرائن الأحوال ولا مدخل للإجازة فيه غالبا».

ومن ذلك ما صرح به شيخنا البهائي (نور الله مضجعه) في وجيزته ، حيث قال : «جميع أحاديثنا ـ إلا ما ندر ـ ينتهي إلى أئمتنا الاثني عشر (عليهم‌السلام) وهم ينتهون فيها إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى أن قال : وكان قد جمع قدماء محدثينا ما وصل إليهم من كلام أئمتنا (عليهم‌السلام) في أربعمائة كتاب تسمى (الأصول) ثم

١٩

تصدى جماعة من المتأخرين (شكر الله سعيهم) لجمع تلك الكتب وترتيبها تقليلا للانتشار وتسهيلا على طالبي تلك الاخبار ، فالفوا كتبا مضبوطة مهذبة مشتملة على الأسانيد المتصلة بأصحاب العصمة (عليهم‌السلام) كالكافي ، ومن لا يحضره الفقيه ، والتهذيب ، والاستبصار. ومدينة العلم ، والخصال. والأمالي. وعيون الاخبار ، وغيرها».

هذا ما حضرني من كلامهم (نور الله تعالى مراقدهم) ، واما كلام المتقدمين ، كالصدوق في الفقيه ، وثقة الإسلام في الكافي ، والشيخ الطوسي في جملة من مؤلفاته ، وعلم الهدى وغيرهم ممن نقلنا كلامهم في غير هذا الكتاب ، فهو ظاهر البيان ساطع البرهان في هذا الشأن.

ثم العجب من هؤلاء الفضلاء الذين نقلنا كلامهم هنا انه إذا كان الحال على ما صرحت به عبائرهم من صحة هذه الاخبار عن الأئمة (عليهم‌السلام) فما الموجب لهم إلى المتابعة في هذا الاصطلاح الحادث؟ وأعجب من ذلك كلام شيخنا البهائي (ره) في كتاب مشرق الشمسين ، حيث ذكر ما ملخصه : ان اجتناب الشيعة لمن كان منهم ثم أنكر إمامة بعض الأئمة (عليهم‌السلام) كان أشد من اجتناب المخالفين في أصل المذهب. وكانوا يتحرزون عن مجالستهم والتكلم معهم فضلا عن أخذ الحديث عنهم ، فإذا نقل علماؤنا رواية رواها رجل من ثقات أصحابنا عن أحد هؤلاء وعولوا عليها وقالوا بصحتها مع علمهم بحاله. فقبولهم لها وقولهم بصحتها لا بد من ابتنائه على وجه صحيح لا يتطرق اليه القدح ، ولا الى ذلك الرجل الثقة الراوي عمن هذا حاله ، كأن يكون سماعه منه قبل عدوله عن الحق وقوله بالوقف ، أو بعد توبته ورجوعه إلى الحق ، أو ان النقل إنما وقع من أصله الذي ألفه واشتهر عنه قبل الوقف ، أو من كتابه الذي ألفه بعد الوقف ولكنه أخذ ذلك الكتاب عن شيوخ أصحابنا الذين عليهم الاعتماد ككتب علي بن الحسن الطاطري ، فإنه وان كان من أشد الواقفية عنادا للإمامية إلا أن

٢٠