الحدائق الناضرة - ج ١٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٢

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين

كتاب الصوم

وهنا فوائد ينبغي التنبيه عليها قبل الشروع في المقصود الأولى ـ الصوم لغة الإمساك ، قال في القاموس : صام صوما وصياما واصطام : أمسك عن الطعام والشراب والكلام والنكاح والسير. وقال في المصباح المنير : قيل هو مطلق الإمساك في اللغة ثم استعمل في الشرع في إمساك مخصوص ، وقال أبو عبيدة كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم ، قال خيل صيام وخيل غير صائمة ـ تحت العجاج واخرى تعلك اللجما. أى قيام بلا اعتلاف. انتهى. وقال ابن دريد : كل شي‌ء سكنت حركته فقد صام يصوم صوما. وفي الآية الشريفة حكاية عن مريم عليها‌السلام «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً» (١) أى صمتا. وكلماتهم متفقة على انه حقيقة في الإمساك وان كان عن كل شي‌ء بنسبته ، واما في الشرع فإنه عبارة عن إمساك مخصوص يأتي بيانه.

الثانية ـ قال العلامة في المنتهى : ان الصوم ينقسم الى واجب وندب ومكروه ومحظور ، فالواجب ستة : صوم شهر رمضان والكفارات ودم

__________________

(١) سورة مريم الآية ٢٨.

٢

المتعة والنذر وما في معناه من اليمين والعهد والاعتكاف على بعض الوجوه وقضاء الواجب ، والندب جميع أيام السنة إلا العيدين وأيام التشريق لمن كان بمنى ، والمؤكد منه أربعة عشر : صوم ثلاثة أيام في كل شهر وأيام البيض والغدير ومولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومبعثه ودحو الأرض وعرفة لمن لا يضعفه عن الدعاء وعاشوراء على جهة الحزن والمباهلة وكل خميس وكل جمعة وأول ذي الحجة ورجب وشعبان ، والمكروه أربعة : صوم عرفة لمن يضعفه عن الدعاء أو شك في الهلال والنافلة سفرا عدا ثلاثة أيام الحاجة بالمدينة والضيف نافلة بغير اذن مضيفه وكذا الولد من غير اذن الوالد والصوم ندبا لمن دعي إلى طعام ، والمحظور تسعة : صوم العيدين وأيام التشريق لمن كان بمنى ويوم الشك بنية الفرض وصوم نذر المعصية وصوم الصمت وصوم الوصال وصوم المرأة والعبد ندبا من غير اذن الزوج والمالك وصوم الواجب سفرا عدا ما استثنى. انتهى.

وروى ثقة الإسلام في الكافي والصدوق في الفقيه مسندا في الأول ومرسلا في الثاني عن الزهري عن على بن الحسين (عليهما‌السلام) (١) قال : «قال لي يوما يا زهري من أين جئت؟ فقلت من المسجد. قال فيم كنتم؟ قلت تذاكرنا أمر الصوم فاجمع رأيي ورأى أصحابي على انه ليس من الصوم شي‌ء واجب إلا صوم شهر رمضان. فقال : يا زهري ليس كما قلتم الصوم على أربعين وجها. وفي كتاب الفقه الرضوي (٢) قال : «اعلم ان الصوم على أربعين وجها» ونحن نسوق الحديث بالروايتين ونشير الى مواضع الزيادة والنقصان من أحدهما متى اتفق ـ فعشرة أوجه منها واجبة كوجوب شهر رمضان وعشرة أوجه منها صيامهن حرام وأربعة عشر وجها منها صاحبها بالخيار ان شاء صام وان شاء أفطر وصوم الاذن على ثلاثة أوجه وصوم التأديب وصوم الإباحة وصوم السفر والمرض.

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من بقية الصوم الواجب.

(٢) ص ٢٣.

٣

ففي حديث الفقه بعد ذلك «اما الصوم الواجب» وفي حديث الزهري «قلت جعلت فداك فسرهن لي» قال : اما الواجب فصيام شهر رمضان وصيام شهرين متتابعين في كفارة الظهار لقول الله تعالى (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا). الى قوله تعالى (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) (١) وصيام شهرين متتابعين في من أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا ، وصيام شهرين متتابعين في قتل الخطأ لمن لم يجد العتق واجب لقول الله تعالى (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ). إلى قوله تعالى (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (٢). وفي كتاب الفقه اقتصر على قوله «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ» وصوم ثلاثة أيام في كفارة اليمين واجب لمن لم يجد الإطعام قال الله تعالى (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) (٣) كل ذلك متتابع وليس بمتفرق ، وصيام أذى حلق الرأس واجب قال الله تبارك وتعالى (٤) (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (٥) فصاحبها فيها بالخيار فان صام صام ثلاثة أيام ، وصوم دم المتعة واجب لمن لم يجد الهدى قال الله تبارك وتعالى (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) (٦) الى قوله (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) (٧) وصوم جزاء الصيد واجب قال الله تبارك وتعالى (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) (٨) الى قوله(أَوْ عَدْلُ ذلِكَ

__________________

(١) سورة المجادلة الآية ٥ و ٦.

(٢) سورة النساء الآية ٩٥.

(٣) سورة المائدة الآية ٩٢.

(٤) «فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ ...» هكذا في كتب الحديث.

(٥ و ٧) سورة البقرة الآية ١٩٣.

(٦) «فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ...» هكذا في كتب الحديث.

(٨) في كتب الحديث هكذا «وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً».

٤

صِياماً) (١) ، ففي حديث الزهري هنا «أو تدري كيف يكون عدل ذلك صياما يا زهري؟ قال قلت لا أدرى فقال يقوم الصيد قيمة عدل ثم تفض تلك القيمة على البر ثم يكال ذلك البر أصواعا فيصوم لكل نصف صاع يوما» وفي كتاب الفقه الرضوي «واروى عن العالم عليه‌السلام انه قال : أتدرون كيف يكون عدل ذلك صياما؟ فقيل له لا. فقال يقوم الصيد قيمة ثم يشترى بتلك القيمة البر ثم يكال ذلك البر أصواعا فيصوم لكل نصف صاع يوما» وصوم النذر واجب وصوم الاعتكاف واجب. واما الصوم الحرام فصوم يوم الفطر ويوم الأضحى وثلاثة أيام التشريق وصوم يوم الشك أمرنا به ونهينا عنه : أمرنا أن نصومه من شعبان (٢) ونهينا عنه ان ينفرد الرجل بصيامه في اليوم الذي يشك فيه الناس. ففي كتاب الفقه «فان لم يكن صام من شعبان شيئا ينوي به ليلة الشك أنه صائم من شعبان» وفي حديث الزهري «فقلت له جعلت فداك فان لم يكن صام من شعبان شيئا كيف يصنع؟ قال ينوي ليلة الشك أنه صائم من شعبان فان كان من شهر رمضان أجزأ عنه وان كان من شعبان لم يضره» ففي حديث الزهري هنا «فقلت وكيف يجزئ صوم تطوع عن فريضة؟ فقال لو أن رجلا صام يوما من شهر رمضان تطوعا وهو لا يعلم انه من شهر رمضان ثم علم بعد ذلك لأجزأ عنه لأن الفرض إنما وقع على اليوم بعينه» وفي كتاب الفقه. ولو ان رجلا صام شهرا تطوعا في بلد الكفر فلما ان عرف كان شهر رمضان وهو لا يدرى ولا يعلم انه من شهر رمضان وصام بأنه من غيره ثم علم بعد ذلك أجزأ عنه من رمضان لأن الفرض إنما وقع على الشهر بعينه» وصوم الوصال حرام وصوم الصمت حرام وصوم نذر المعصية حرام وصوم الدهر حرام. واما الصوم الذي صاحبه فيه بالخيار فصوم يوم الجمعة والخميس والاثنين وصوم أيام البيض وصوم ستة أيام من شوال بعد الفطر بيوم. وفي

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٩٧.

(٢) في كتب الحديث هكذا : «مع صيام شعبان».

٥

حديث الزهري هنا «وصوم ستة أيام من شوال بعد شهر رمضان وصوم عرفة وصوم يوم عاشوراء» ولعل هذين اليومين سقط ذكرهما غلطا من النساخ (١) فان الكتاب غير خال من الغلط. فكل ذلك صاحبه فيه بالخيار ان شاء صام وان شاء أفطر. واما صوم الإذن فالمرأة لا تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها والعبد لا يصوم تطوعا إلا بإذن مولاه والضيف لا يصوم تطوعا إلا بإذن صاحب البيت (٢) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من نزل على قوم فلا يصومن تطوعا إلا بإذنهم. واما صوم التأديب فإنه يؤمر (٣) الصبي إذا بلغ سبع سنين بالصوم تأديبا وليس ذلك بفرض. وزاد في كتاب الفقه هنا «وان لم يقدر إلا نصف النهار يفطر إذا غلبه العطش» وكذلك من أفطر لعلة من أول النهار ثم قوى بقية يومه أمر بالإمساك عن الطعام بقية يومه تأديبا وليس بفرض ، وكذلك المسافر إذا أكل من أول النهار ثم قدم أهله أمر بالإمساك بقية يومه تأديبا وليس بفرض. وزاد في رواية الزهري «وكذلك الحائض إذا طهرت أمسكت بقية يومها» واما صوم الإباحة فمن أكل أو شرب ناسيا أو قاء من غير تعمد فقد أباح الله له ذلك وأجزأ عنه صومه. واما صوم السفر والمرض فإن العامة قد اختلفت في ذلك فقال قوم يصوم وقال آخرون لا يصوم وقال قوم ان شاء صام وان شاء أفطر (٤) واما نحن فنقول يفطر في الحالين جميعا فان صام في السفر أو في حال المرض

__________________

(١) في الفقه الرضوي المطبوع هكذا : «وصوم ستة أيام من شوال بعد الفطر بيوم ويوم عرفة ويوم عاشوراء وكل ذلك.

(٢) هكذا في الفقه ، وفي كتب الحديث الناقلة لحديث الزهري «إلا بإذن صاحبه».

(٣) هكذا في الفقيه ج ٢ ص ٤٨ ، وفي الفروع ج ١ ص ١٨٦ والتهذيب ج ١ ص ٤٣٠ «يؤخذ الصبي» وفي الجميع «إذا راهق» بدل «إذا بلغ سبع سنين» نعم ذلك في الفقه الرضوي.

(٤) المغني ج ٣ ص ١٤٩ والمحلى ج ٦ ص ٢٤٧ ونيل الأوطار ج ٤ ص ٢٣٧ وبداية المجتهد ج ١ ص ٢٨٥ ولم أقف ما في حضرني من كتب العامة على وجوب الصوم في المرض نعم في الفقه على المذاهب الأربعة قسم العبادات ص ٤٥٦ عن الشافعية

٦

فعليه القضاء فان الله تعالى يقول (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) (١) فهذا تفسير الصيام». انتهى.

أقول : وسيأتي تحقيق القول في كل من هذه الأشياء المعدودة هنا في محله ان شاء الله تعالى.

قال المحدث الكاشاني في كتاب الوافي بعد نقل حديث الزهري : بيان ـ محمد ابن مسلم بن شهاب الزهري راوي هذا الحديث وان كان خصيصا بعلي بن الحسين (عليهما‌السلام) وكان له ميل ومحبة إلا انه لما كان من العامة وفقهائهم أجمل عليه‌السلام معه في الكلام ولم يذكر له صيام السنة ولا صيام الترغيب لعدم اشتهار خصوصهما بين العامة ، وما زعمته العامة من صيام الترغيب والسنة سماه عليه‌السلام بالذي فيه الخيار لصاحبه تنبيها له على عدم الترغيب فيه فان أكثره من ما ترك صيامه أولى ولصيام بعضه شرائط كما يأتي في الأخبار إنشاء الله تعالى (٢) قوله عليه‌السلام : «أن ينفرد الرجل بصيامه» اضافة الى الفاعل وانفراده به عبارة عن افراده عن سائر أيام شعبان بالصيام فإنه مظنة لاعتقاده وجوبه وكونه من شهر رمضان ، أو المراد انفراده من بين جمهور الناس بصيامه من شهر رمضان مع عدم ثبوت كونه منه ، يدل على هذا حديث الزهري الآتي في باب صيام يوم الشك في هذا المعنى فإنه نص فيه وهو بعينه هذا الحديث إلا انه أورده بابين من هذا ، ويأتي تمام تحقيق هذا المقام في ذلك الباب مع معنى قوله عليه‌السلام : «وأمرنا به أن نصومه مع صيام شعبان» ان شاء الله تعالى. انتهى.

أقول : والظاهر ان الرضا عليه‌السلام جرى على ذلك في الكتاب المذكور تقية.

الثالثة ـ لا ريب ان الصوم من أفضل الطاعات وأشرف العبادات إذا وقع على الوجه المأمور به ، ولو لم يكن فيه إلا الارتقاء من حضيض حظوظ النفس

__________________

لا يجوز الفطر للصحيح الذي يظن بالصوم حصول المرض. إلا ان هذا يرجع الى اعتبار المرض بالفعل.

(١) سورة البقرة الآية ١٨١.

(٢) ارجع الى الاستدراكات في آخر الكتاب.

٧

البهيمية إلى ذروة النشبة بالملائكة الروحانية لكفى به فضلا ومنقبة ، وقد استفاضت الأخبار بفضله :

فروى ثقة الإسلام في الكافي في الصحيح أو الحسن بإبراهيم عن زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام (١) قال : «بني الإسلام على خمسة أشياء : على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية». وبهذا المضمون أخبار عديدة (٢).

وروى عمرو بن جميع (٣) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث طويل : الصيام جنة من النار».

وروى حفص بن غياث (٤) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول ان شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الأمم قبلنا. فقلت له فقول الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (٥)؟ قال إنما فرض الله صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم ففضل به هذه الأمة وجعل صيامه فرضا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى أمته».

وروى في الفقيه عن ابى عبد الله عليه‌السلام مرسلا وفي الكافي مسندا (٦) قال : «أوحى الله الى موسى عليه‌السلام ما يمنعك من مناجاتي؟ فقال يا رب أجلك عن المناجاة لخلوف فم الصائم. فأوحى الله إليه يا موسى لخلوف فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك».

وروى في الفقيه عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٧) قال : «للصائم فرحتان : فرحة عند إفطاره وفرحة عند لقاء ربه».

وروى فيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٨) قال : «قال الله الصوم لي وأنا أجزي به».

__________________

(١ و ٣ و ٦ و ٧ و ٨) الوسائل الباب ١ من الصوم المندوب.

(٢) الوسائل الباب ١ من مقدمة العبادات.

(٤) الوسائل الباب ١ من أحكام شهر رمضان.

(٥) سورة البقرة الآية ١٨٠.

٨

وروى في الكافي عن الكناني عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «ان الله تبارك وتعالى يقول الصوم لي وأنا أجزي عليه».

وروى الصدوق في الفقيه عن الصادق عليه‌السلام (٢) قال : «نوم الصائم عبادة وصمته تسبيح وعمله متقبل ودعاؤه مستجاب».

وروى في الكافي مسندا والفقيه مرسلا (٣) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام من صام لله يوما في شدة الحر فأصابه ظمأ وكل الله به الف ملك يمسحون وجهه ويبشرونه حتى إذا أفطر قال الله تعالى : ما أطيب ريحك وروحك ملائكتي اشهدوا انى قد غفرت له».

وروى في الفقيه (٤) قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما من صائم يحضر قوما يطعمون إلا سبحت له أعضاؤه وكانت صلاة الملائكة عليه وكانت صلاتهم استغفارا». الى غير ذلك من الأخبار التي يضيق عن ذكرها المقام.

الرابعة ـ قد أورد ههنا سؤال مشهور على حديثي الكناني والفقيه المتقدمين المتضمنين للحديث القدسي وقوله عزوجل : «الصوم لي وأما أجزي عليه» بان كل الأعمال الصالحة لله فما وجه تخصيص انه له تبارك وتعالى؟

وأجيب بوجوه : الأول ـ انه اختص بترك الشهوات والملاذ في الفرج والبطن وذلك أمر عظيم يوجب التشريف. وعورض بالجهاد فان فيه ترك الحياة فضلا عن الشهوات ، وبالحج فان فيه الإحرام ومحظوراته كثيرة.

الثاني ـ ان الصوم يوجب صفاء العقل والفكر بواسطة ضعف القوى الشهوانية بسبب الجوع ولذلك قال عليه‌السلام (٥) «لا تدخل الحكمة جوفا ملي‌ء طعاما». وصفاء العقل والفكر يوجبان حصول المعارف الربانية التي هي أشرف أحوال النفس الإنسانية.

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١ من الصوم المندوب.

(٣) الوسائل الباب ٣ من الصوم المندوب.

(٤) الوسائل الباب ٩ من آداب الصائم.

(٥) ارجع الى الاستدراكات في آخر الكتاب.

٩

ورد بأن سائر العبادات إذا واظب عليها المكلف أورثت ذلك خصوصا الجهاد ، قال الله تعالى «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» (١) وقال الله تعالى «اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ» (٢).

الثالث ـ ان الصوم أمر خفي لا يمكن الاطلاع عليه فلذلك شرف بخلاف الصلاة والحج والجهاد وغيرها من الأعمال. وعورض بان الايمان والإخلاص وأفعال القلوب خفية مع ان الحديث متناول لها ، ويمكن دفعه بتخصيص الأعمال بأفعال الجوارح لأنه المتبادر من اللفظ.

وقال بعض المحققين هب ان كل واحد من هذه الأجوبة مدخول بما ذكر فلم لا يكون مجموعها هو الفارق فان هذه الأمور لا تجتمع في غير الصوم. وهو جيد.

الخامسة ـ في علة فرض الصوم ، روى الصدوق في الصحيح عن هشام بن الحكم (٣) «انه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن علة الصيام فقال إنما فرض الله الصيام ليستوي به الغنى والفقير وذلك ان الغنى لم يكن ليجد مس الجوع فيرحم الفقير لأن الغني كلما أراد شيئا قدر عليه فأراد الله أن يسوى بين خلقه وأن يذيق الغنى مس الجوع والألم ليرق على الضعيف ويرحم الجائع». ورواه في كتاب العلل عن هشام ابن الحكم (٤) وزاد «ثم سألت أبا الحسن عليه‌السلام فأجابني بمثل جواب أبيه».

وبإسناده عن صفوان بن يحيى عن موسى بن بكر عن زرارة عن الصادق عليه‌السلام (٥) قال : «لكل شي‌ء زكاة وزكاة الأجسام الصيام».

وبإسناده عن محمد بن سنان عن ابى الحسن الرضا عليه‌السلام في ما كتب اليه من جواب مسائله (٦) «علة الصوم لعرفان مس الجوع والعطش ليكون ذليلا مستكينا مأجورا محتسبا صابرا ، ويكون ذلك دليلا له على شدائد الآخرة مع ما فيه من الانكسار له عن الشهوات واعظاً له في العاجل دليلا على الآجل ليعلم شدة مبلغ ذلك من أهل

__________________

(١) سورة العنكبوت الآية ٧٠.

(٢) سورة الحديد الآية ٢٩.

(٣ و ٤ و ٥ و ٦) الوسائل الباب ١ من وجوب الصوم ونيته.

١٠

الفقر والمسكنة في الدنيا والآخرة».

وبإسناده عن حمزة بن محمد (١) «انه كتب الى ابى محمد عليه‌السلام لم فرض الله الصوم؟ فورد في الجواب ليجد الغنى مس الجوع فيمن على الفقير» ورواه الكليني مثله (٢) إلا انه قال : «ليجد الغنى مضض الجوع فيحنو على الفقير».

وروى في الفقيه عن الحسن بن على بن ابى طالب عليه‌السلام (٣) قال : «جاء نفر من اليهود الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فسأله أعلمهم عن مسائل فكان في ما سأله انه قال له لأي شي‌ء فرض الله عزوجل الصوم على أمتك بالنهار ثلاثين يوما وفرض الله على الأمم أكثر من ذلك؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ان آدم عليه‌السلام لما أكل من الشجرة بقي في بطنه ثلاثين يوما ففرض الله على ذريته ثلاثين يوما الجوع والعطش والذي يأكلونه بالليل تفضل من الله عليهم وكذلك كان على آدم ففرض الله ذلك على أمتي. ثم تلا هذه الآية «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيّاماً مَعْدُوداتٍ» (٤) قال اليهودي صدقت يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فما جزاء من صامها؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ما من مؤمن يصوم شهر رمضان احتسابا إلا أوجب الله له سبع خصال : أولاها يذوب الحرام في جسده ، والثانية يقرب من رحمة الله ، والثالثة يكون قد كفر خطيئة أبيه آدم ، والرابعة يهون الله عليه سكرات الموت ، والخامسة أمان من الجوع والعطش يوم القيامة ، والسادسة يعطيه الله براءة من النار ، والسابعة يطعمه الله من طيبات الجنة. قال صدقت يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله».

السادسة ـ في آداب الصائم ، روى الكليني في الحسن عن محمد بن مسلم عن ابي جعفر عليه‌السلام (٥) قال : «إذا صمت فليصم سمعك وبصرك وشعرك وجلدك. وعدد

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١ من وجوب الصوم ونيته.

(٣) الوسائل الباب ١ من أحكام شهر رمضان.

(٤) سورة البقرة الآية ١٨٠ و ١٨١.

(٥) الوسائل الباب ١١ من آداب الصائم.

١١

أشياء غير هذا. وقال لا يكون يوم صومك كيوم فطرك».

وعن جراح المدائني عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «ان الصيام ليس من الطعام والشراب وحده. ثم قال : قالت مريم «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً» (٢) أى صمتا فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم وغضوا أبصاركم ولا تنازعوا ولا تحاسدوا. قال : وسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله امرأة تسب جارية لها وهي صائمة فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بطعام فقال لها كلى فقالت إني صائمة فقال كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك؟ ان الصوم ليس من الطعام والشراب. قال : وقال أبو عبد الله عليه‌السلام إذا صمت فليصم سمعك وبصرك من الحرام والقبيح ودع المراء وأذى الخادم وليكن عليك وقار الصائم ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك».

وعن جابر عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لجابر بن عبد الله الأنصاري يا جابر هذا شهر رمضان من صام نهاره وقام وردا من ليله وعف بطنه وفرجه وكف لسانه خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر. فقال جابر يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أحسن هذا الحديث فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا جابر ما أشد هذه الشروط».

وعن مسعدة بن صدقة عن ابى عبد الله عن آبائه (عليهم‌السلام) (٤) قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما من عبد صائم يشتم فيقول انى صائم سلام عليك لا أشتمك كما تشتمني إلا قال الرب تبارك وتعالى استجار عبدي بالصوم من شر عبدي قد أجرته من النار».

وفي كتاب الفقه الرضوي (٥) : واعلم رحمك الله ان الصوم حجاب ضربه الله

__________________

(١) الوسائل الباب ١١ من آداب الصائم.

(٢) سورة مريم الآية ٢٨.

(٣) الوسائل الباب ١١ من آداب الصائم. والرواية عن ابى جعفر (ع).

(٤) الفروع ج ١ ص ١٨٧ وفي الوسائل الباب ١٢ من آداب الصائم.

(٥) ص ٢٣.

١٢

عزوجل على الألسن والأسماع والأبصار وسائر الجوارح حتى يستر به من النار وقد جعل الله على كل جارحة حقا للصائم فمن أدى حقها كان صائما ومن ترك شيئا منها نقص من فضل صومه بحسب ما ترك منها.

السابعة ـ قد اختلف في رمضان فقيل انه علم للشهر كرجب وشعبان ومنع من الصرف للعلمية والألف والنون ، وقيل انه اسم من أسماء الله تعالى ، وعلى هذا فمعنى شهر رمضان شهر الله.

ويدل عليه ما رواه في الكافي عن هشام بن سالم في الصحيح عن سعد عن ابى جعفر عليه‌السلام (١) قال : «كنا عنده ثمانية رجال فذكرنا رمضان فقال لا تقولوا هذا رمضان ولا ذهب رمضان ولا جاء رمضان فان رمضان اسم من أسماء الله عزوجل لا يجي‌ء ولا يذهب وإنما يجي‌ء ويذهب الزائل ولكن قولوا (شَهْرُ رَمَضانَ) فان الشهر مضاف الى الاسم والاسم اسم الله عزوجل وهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن جعله مثلا وعيدا». ورواه الصدوق بإسناده عن البزنطي عن هشام بن سالم عن سعد الخفاف (٢) ورواه سعد بن عبد الله في كتاب بصائر الدرجات عن احمد بن محمد بن عيسى عن احمد بن محمد بن ابى نصر عن هشام بن سالم عن سعد بن طريف مثله (٣).

وروى في الكافي أيضا عن غياث بن إبراهيم عن ابى عبد الله عن أبيه (عليهما‌السلام) (٤) قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام لا تقولوا رمضان ولكن قولوا شهر رمضان فإنكم لا تدرون ما رمضان». ورواه الصدوق في الفقيه عن غياث مثله (٥) وكذا رواه في كتاب معاني الأخبار والذي قبله أيضا (٦).

وقال الفيومي في كتاب المصباح المنير : قال بعض العلماء يكره أن يقال جاء رمضان وشبهه إذا أريد به الشهر وليس معه قرينة تدل عليه وإنما يقال جاء شهر رمضان ، واستدل بحديث (٧) «لا تقولوا رمضان فان رمضان اسم من أسماء الله تعالى

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦) الوسائل الباب ١٩ من أحكام شهر رمضان.

(٧) سنن البيهقي ج ٤ ص ٢٠١ و ٢٠٢.

١٣

ولكن قولوا شهر رمضان». وهذا الحديث ضعفه البيهقي وضعفه ظاهر لأنه لم ينقل عن أحد من العلماء ان رمضان من أسماء الله تعالى فلا يعمل به. والظاهر جوازه من غير كراهة كما ذهب إليه البخاري وجماعة من المحققين لأنه لم يصح في الكراهة شي‌ء وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة ما يدل على الجواز مطلقا كقوله (١) «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين». وقال القاضي عياض : وفي قوله : «إذا جاء رمضان» دليل على جواز استعماله من غير لفظ شهر خلافا لمن كرهه من العلماء. انتهى.

وفيه دلالة على ان الحديث بذلك مروي من طرقهم أيضا ولكن بعضهم حكم بضعفه. وكيف كان فهو مرغوب عنه بعد ورود الأخبار عندنا بذلك. وما ورد في بعض أخبارنا أيضا من ذكره مجردا عن الشهر محمول على الجواز وهو لا ينافي الكراهة.

ويؤيد ما قلناه ما نقله في كتاب مجمع البحرين عن الأزهري قال : العرب تذكر الشهور كلها مجردة من لفظ شهر إلا شهري ربيع ورمضان.

قال شيخنا الشهيد (قدس‌سره) في كتاب نكت الإرشاد : فائدة ـ نهى عن التلفظ برمضان بل يقال شهر رمضان في أحاديث من أجودها

ما أسنده بعض الأفاضل إلى الكاظم عن أبيه عن آبائه (عليهم‌السلام) (٢) قال : «لا تقولوا رمضان فإنكم لا تدرون ما رمضان فمن قاله فليتصدق وليصم كفارة لقوله ولكن قولوا كما قال الله عزوجل (شَهْرُ رَمَضانَ)» (٣). انتهى.

أقول : ما نقله (قدس‌سره) من الخبر قد نقله السيد السعيد ذو المقامات

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٤ ص ٢٠٢ واللفظ فيه وفي المصباح «إذا جاء» ولذا أوردناه كذلك وان كان الوارد في رواية «إذا دخل» كما ذكر ذلك في المجموع ج ٦ ص ٢٤٨.

(٢) الوسائل الباب ١٩ من أحكام شهر رمضان.

(٣) سورة البقرة الآية ١٨٢.

١٤

والكرامات رضى الدين بن طاوس في كتاب الإقبال عن كتاب الجعفريات وهي ألف حديث بإسناد واحد الى مولانا موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام (١) والظاهر ان الكفارة فيه محمولة على الاستحباب وتغليظ الكراهة لما ثبت في كثير من الأخبار من وروده مجردا عن لفظ شهر.

ثم انه على تقدير ما هو المشهور من انه اسم للشهر فقد اختلفوا في اشتقاقه فعن الخليل (رحمه‌الله) انه من الرمض بسكون الميم وهو مطر يأتي وقت الخريف يطهر وجه الأرض من الغبار ، سمى الشهر بذلك لأنه يطهر الأبدان عن أوضار الأوزار. وقيل من الرمض بمعنى شدة الحر من وقع الشمس ، قال الزمخشري في الكشاف : رمضان مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء. سمى بذلك اما لارتماضهم فيه من حر الجوع كما سموه ناتقا لأنه كان ينتقهم أى يزعجهم لشدته عليهم أو لأن الذنوب ترمض فيه أى تحترق. وقيل انهم لما تقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق الشهر أيام رمض الحر فسمى بذلك.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان البحث في هذا الكتاب يقع في مقاصد ثلاثة :

المقصد الأول ـ في بيان الصوم وما يتحقق به وما يفسده ومن يصح منه والكفارة المترتبة على الإفساد :

وفيه مطالب المطلب الأول ـ في النية والكلام فيها يقع في مواضع الأول ـ لا ريب في وجوبها إذ لا عمل إلا بنية ، والأمر فيها عندنا سهل كما قدمناه في كتاب الطهارة ، والكلام في كونها شرطا أو شطرا لا ثمرة فيه لأن القدر المطلوب هو اعتبار النية في الصوم بحيث يبطل بتركها عمدا أو سهوا وهو ثابت على كل من التقديرين. ولم يقم لنا دليل على اعتبار ما ذكروه فيها من القيود في هذا المقام ولا غيره زائدا على القربة له عزوجل للآيات والروايات الصريحة في توقف صحة العبادة على ذلك (٢).

__________________

(١) الوسائل الباب ١٩ من أحكام شهر رمضان.

(٢) اما الآيات فكقوله تعالى في سورة البينة الآية ٥ «وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا

١٥

وقد وقع الخلاف هنا في مواضع ثلاثة أحدها ـ انه هل يكفي في شهر رمضان نية أنه يصوم غدا متقربا من غير اعتبار نية التعيين بكونه من شهر رمضان أم لا بد من نية التعيين؟ قولان أولهما منقول عن الشيخ وبه صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ المحقق والعلامة في جملة من كتبه ، ونقل عن بعض الأصحاب الثاني.

احتج المحقق على ما اختاره بان المراد من نية التعيين وقوع الفعل بها على أحد وجهيه فإذا لم يكن للفعل إلا وجه واحد استغنى عن نية التعيين كرد الوديعة وتسليم الأمانات ، قال ويمكن أن يحتج عليه بقوله تعالى «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» (١) فإذا حصل مع نية التقرب فقد حصل الامتثال وكان ما زاد منفيا.

واعترض عليه بما حاصله ان امتثال الأمر فرع تعقل المأمور أن الآمر أمره بذلك الفعل فإذا لم يعتقد ان الصوم غدا من ما أمر الشارع بالإتيان به فيه لم يكن ممتثلا للتكليف بالصوم غدا ، ونحن لا نعني بالتعيين سوى هذا إذ به يتعين كونه من رمضان.

أقول : وعندي في هذا الخلاف ـ والبحث الذي أطالوا به الكلام من ما ذكرنا وما أعرضنا عن نقله في هذا المقام من أصله ـ نظر فإنهم إن أرادوا بهذه النية التي اختلفوا في اشتراط التعيين فيها وعدمه ما هو عبارة عن التصوير الفكري ـ والحديث النفسي الذي يترجمه قول الصائم «أصوم غدا من شهر رمضان قربة الى الله» كما ذكروه في الصلاة والطهارة ونحوهما من التصوير المشتمل على القيود التي ذكروها ـ فهذا ليس هو النية كما حققناه في كتاب الطهارة بما لا مزيد عليه ، وان أريد بالنية هو المعنى الذي حققناه ثمة وأوضحناه ـ من أنه القصد البسيط الذي لا يكاد

__________________

اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» وقوله تعالى في سورة الزمر الآية ١٧ «قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي» واما الروايات فكالروايات الدالة على توقف العمل على النية وقد أوردها في الوسائل في الباب ٥ من مقدمة العبادات وفي أبواب متفرقة منها الباب ٢ من وجوب الصوم ونيته.

(١) سورة البقرة الآية ١٨٢.

١٦

ينفك عنه عاقل عند ارادة الفعل وانه أمر جبلي لو كلف الله بعدمه لكان تكليفا بما لا يطاق ـ فهذا الكلام لا معنى له ، وذلك لأن التكليف بصيام شهر رمضان من الضروريات الدينية ، وحينئذ فكل مكلف دخل عليه هذا الشهر وبادر الى صيامه قربة الى الله تعالى فان تعين كونه من شهر رمضان أمر لا يتصور انفكاكه عنه ولا خلوه منه حتى يصح أن يكون مطرحا للخلاف بأنه لو صام مع عدم تعيين كونه من شهر رمضان هل يصح صومه أم لا من ما يؤذن بأنه يمكن الإتيان بالصيام مع عدم اعتقاد كونه من شهر رمضان. نعم يمكن فرض ذلك نادرا ممن عرض له السهو عن كونه في شهر رمضان وهو خارج عن محل المسألة وغير صالح لمطرح الخلاف.

وثانيها ـ انهم اختلفوا أيضا في انه هل يشترط في نية صوم النذر المعين قصد التعيين أم لا؟ فنقل عن المرتضى وابن إدريس الثاني وقواه العلامة في المنتهى واعتمده في المدارك ، وقيل بالأول وهو منقول عن الشيخ وجماعة واختاره في المختلف.

حجة القول الثاني انه زمان تعين بالنذر للصوم فكان كشهر رمضان ، واختلافهما بأصالة التعين وعرضيته لا يقتضي اختلافهما في هذا الحكم.

واحتج في المختلف على القول الأول بأنه زمان لم يعينه الشارع في الأصل للصوم فافتقر الى التعيين كالنذر المطلق. وبان الأصل وجوب التعيين إذ الأفعال إنما تقع على الوجوه المقصودة ، ترك ذلك في شهر رمضان لأنه زمان لا يقع فيه غيره فيبقى الباقي على الأصالة.

ورد الأول بأنه مصادرة على المطلوب وإلحاقه بالنذر المطلق قياس مع الفارق والثاني بمنع أصالة الوجوب ، ولأن الوجه الذي لأجله ترك العمل بالأصل الذي ذكره في صوم شهر رمضان آت في النذر المعين ، فإنه ان أريد بعدم وقوع غيره فيه استحالته عقلا كان منفيا فيهما وان أريد امتناعه شرعا كان ثابتا فيهما.

أقول : لا يخفى أيضا ان هذا الخلاف انما يجرى في النية التي هي عبارة عن ذلك التصوير الفكري والحديث النفسي الذي أشرنا اليه وبينا أنه ليس هو النية

١٧

حقيقة ، واما النية بالمعنى الذي حققناه فإنه لا معنى لهذا الكلام بالكلية ، فإن من نذر صوما معينا ثم قصد الإتيان بذلك فإنه لا ريب في حصول التعيين عنده ، بل لو أراد الصوم على الوجه المذكور من غير التعيين لم يتيسر له ولهذا عد في تكليف ما لا يطاق من حيث انه جبلي لا يمكن الانفكاك عنه مع القصد المذكور إلا أن يكون ساهيا أو ذاهلا وهو خارج عن محل البحث.

وثالثها ـ انه هل يعتبر نية الوجه من الوجوب أو الندب؟ قولان وظاهر جماعة ممن قال باعتبار نية الوجه سقوطه هنا من حيث عدم إمكان وقوع شهر رمضان بنية الندب للمكلف به فلا يحتاج الى التمييز عنه. إلا أن يقال بوجوب إيقاع الفعل بوجهه من وجوب أو ندب كما ذكره المتكلمون فيحب ذلك وان لم يكن مميزا.

قال في المسالك بعد ذكر ذلك : ولا ريب ان اضافة الوجوب إلى القربة أحوط وضم التعيين إليهما أفضل والتعرض للأداء مع ذلك أكمل. انتهى. وفيه نظر وتحقيق البحث في المسألة قد مر مستوفى في كتاب الطهارة.

هذا في ما كان متعينا واما غيره كالقضاء والنذر المطلق والكفارة والنافلة فقد صرحوا بأنه لا بد من التعيين لوقوعه على وجوه متعددة فافتقر إلى نية التعيين ليتميز المنوي عن غيره. قال في المعتبر : وعلى ذلك فتوى الأصحاب.

أقول : ما ذكروه هنا متجه لا إشكال فيه لأن الفعل الواحد الواقع على أنحاء متعددة لا ينصرف إلى أحدها إلا بقصده ونيته ولكن يكفي في ذلك تعينه بأول القصد إلى إيقاعه ولا يحتاج بعده الى تصوير ولا حديث في النفس كما هو النية المشهورة بينهم.

الثاني ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه لا بد من إيقاع النية ليلا في أوله أو آخره ، وبعبارة أخرى لا بد من حصولها عند أول جزء من الصوم أو تبييتها ، لأن الإخلال بكل من الأمرين يقتضي مضى جزء من الصوم بغير نية

١٨

فيفسد لفوات شرطه والصوم لا يتبعض. ولو نسيها ليلا جددها ما بينه وبين الزوال فلو زالت الشمس زال محلها.

وقال ابن أبى عقيل : يجب على من كان صومه فرضا عند آل الرسول (عليهم‌السلام) أن يقدم النية في اعتقاد صومه ذلك من الليل. وهو ظاهر في وجوب تبييتها ، ويمكن حمله على تعذر المقارنة بها فان الطلوع لا يعلم إلا بعد وقوعه فتقع النية بعده وهو يستلزم فوات جزء من النهار بغير نية.

وقال ابن الجنيد : ويستحب للصائم فرضا وغير فرض أن يبيت الصيام من الليل لما يريد به ، وجائز أن يبتدئ بالنية وقد بقي بعض النهار ويحتسب به من واجب إذا لم يكن أحدث ما ينقض الصيام ، ولو جعله تطوعا كان أحوط. وظاهره جواز تجديد النية في الفرض وغيره بعد الزوال مع الذكر والنسيان ، وحمل كلامه على ان مراده بالفرض غير المعين وإلا فهو باطل.

وقال المرتضى (رضي‌الله‌عنه) : ووقت النية في الصيام الواجب من قبل طلوع الفجر الى قبل زوال الشمس. فان كان مراده بالامتداد الى وقت الزوال ما هو أعم من وقت الاختيار والاضطرار ليخص الامتداد الى الزوال بالناسي ونحوه فهو صحيح وإلا فهو مشكل. وظاهر الدليل الذي نقله عنه في المختلف هو ان مراده الامتداد ولو للمختار حسبما سيأتي في قضاء شهر رمضان ، وحينئذ فيكون كلامه مخالفا لما عليه الأصحاب في المسألة.

واما ان الناسي للنية ليلا يجددها ما بينه وبين الزوال فقال المحقق في المعتبر والعلامة في التذكرة والمنتهى انه موضع وفاق بين الأصحاب.

واستدلوا عليه بما روى (١) «ان ليلة الشك أصبح الناس فجاء أعرابي إلى النبي.

__________________

(١) لم أقف حتى في كتب الحديث للعامة على حديث بهذا اللفظ والمضمون وقد نقل البيهقي في السنن ج ٤ ص ٢١١ و ٢١٢ عدة أحاديث في هذا الموضوع : أولها عن عكرمة عن ابن عباس وهو يتضمن شهادة الأعرابي الواحد وفي آخره قال (ص) «يا بلال أذن في

١٩

صلى‌الله‌عليه‌وآله فشهد برؤية الهلال فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مناديا ينادى من لم يأكل فليصم ومن أكل فليمسك». قال في المنتهى فإذا جاز مع العذر وهو الجهل بالهلال جاز مع النسيان

__________________

الناس أن يصوموا غدا». والثاني أيضا عن عكرمة عن ابن عباس وقد تضمن مجي‌ء الأعرابي ليلة هلال رمضان وفي آخره : فنادى ان صوموا. والثالث عن عكرمة «أنهم شكوا في هلال رمضان مرة فأرادوا أن لا يقوموا ولا يصوموا فجاء أعرابي من الحرة فشهد انه رأى الهلال فاتى به النبي (ص). الى ان قال فأمر (ص) بلالا فنادى في الناس أن يقوموا وان يصوموا». ثم قال البيهقي : قال أبو داود : ورواه جماعة عن سماك عن عكرمة مرسلا ولم يذكر القيام أحد إلا حماد بن سلمة. ثم نقل من كتاب المستدرك لأبي عبد الله الحافظ نفس الحديث بطريق ينتهي إلى حماد بن سلمة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس. والرابع يتضمن رؤية ابن عمر الهلال واخباره رسول الله (ص) وانه صام وأمر الناس بصيامه. والخامس يتضمن رؤية الهلال بعد رسول الله (ص) والسادس عن فاطمة بنت الحسين يتضمن الشهادة عند على (ع). هذه أحاديث الباب. ولم يتعرض للحديث في كتبهم الفقهية في مقام التعرض لوجوب الإمساك وعدمه في يوم الشك لو ظهر انه من شهر رمضان نهارا والحديث المنقول في المتن من المعتبر يشبه ان يكون هو الحديث الثالث الذي نقلناه من غير طريق حماد بن سلمة إلا ان الحديث من غير هذا الطريق مشعر أيضا بأن دعوى الرؤية كانت في الليل إذ لم يشتمل على النداء بان من لم يأكل فليصم ومن أكل فليمسك. فالحديث المذكور بهذا المضمون لا وجود له في ما حضرني من كتب الحديث والفقه للعامة كما لا وجود له في كتب الحديث للخاصة. نعم النداء بالنحو المذكور فيه وارد في صوم عاشوراء بطريق العامة وقد نقل الأحاديث في هذا الموضوع في السنن ج ٤ ص ٢٨٨ باب (من زعم ان صوم عاشوراء كان واجبا ثم نسخ وجوبه) وفي أحدها «انه (ص) أمر رجلا من أسلم ان اذن في الناس ان من أكل فليصم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم فان اليوم يوم عاشوراء» وفي آخر : انه (ص) أرسل صبيحة عاشوراء الى قرى الأنصار التي حول المدينة ان من كان أصبح صائما فليتم صومه ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه. وكيف كان فلا يخفى ان الأحاديث الثلاثة الأول التي نقلناها من السنن في موضوع الشهادة بهلال شهر رمضان تضمنت سؤال النبي (ص) من الشاهد الشهادة بالتوحيد والنبوة واجابة الشاهد بالإثبات.

٢٠