الحدائق الناضرة - ج ٢٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٦

امرأة فأولدها فانطلقت امرأة أخي فأرضعت جارية من عرض الناس ، فيحل لي أن أتزوج تلك الجارية التي أرضعتها امرأة أخي؟ قال لا ، إنما يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».

وفي رواية مسمع (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ثمانية لا تحل مناكحتهم ـ إلى أن قال ـ : أمتك وهي عمتك من الرضاعة وأمتك وهي خالتك من الرضاعة» الحديث.

وفي رواية مسعدة بن زياد (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «يحرم من الإماء عشر لا يجمع بين الام والبنت ـ يعني في النكاح ـ ولا بين الأختين ـ إلى أن قال ـ : ولا أمتك وهي عمتك من الرضاعة ، ولا أمتك وهي خالتك من الرضاعة ، ولا أمتك وهي رضيعتك».

وفي صحيحة محمد بن مسلم (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام «في رجل فجر بامرأة ، أيتزوج أمها من الرضاعة أو ابنتها؟ قال : لا».

إلى غير ذلك من الأخبار ، ومرجعها إلى أن كل موضع ثبت فيه المحرمية بالنسب يثبت المحرمية بمثل ذلك في الرضاع ، فالام من الرضاع تحرم كالأم من النسب ، وكذا البنت والأخت والعمة والخالة ، وبنات الأخ وبنات الأخت ، والمحرمات النسبية قد فصلتها الآية بقوله سبحانه (٤) «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ».

وقد عرفت آنفا أن الأم من النسب هي كل امرأة ولدتك أو انتهى نسبك

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٤٧ ح ١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٠٠ ح ٤.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ١٩٨ ح ١ ، الخصال باب العشرة ص ٤٣٨ ح ٢٧ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٨٦ ح ٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٠١ ح ٩ ، وما نقله (قده) في المتن لا يوافق كملا مع ما ذكرناه من المآخذ ، فلاحظ.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٣٣١ ح ١٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٢٥ ح ٢.

(٤) سورة النساء ـ آية ٢٣.

٣٢١

إليها من العلو بالولادة لأب كان أم لأم ، وحينئذ فهي في الرضاع عبارة عن كل امرأة أرضعتك أو ولدت مرضعتك أو ولدت من ولدها أو أرضعتها أو أرضعت من ولدها أو ولدت من أرضعتها ولو بوسائط فهي بمنزلة أمك النسبية في التحريم عليك ، وكذا كل امرأة ولدت أباك من الرضاعة لو أرضعته أو أرضعت من ولدها أو ولدت من أرضعته ولو بوسائط.

والبنت النسبية وبنتها وإن نزلت وكذا بنت الابن فنازلا ، وضابطها من ينتهي إليها نسبه بالتولد ولو بوسائط.

وفي الرضاع هي كل ابنة أرضعت بلبنك أو لبن من ولدته وإن سفل ، أو أرضعتها امرأة ولدتها وإن سفلت ، وكذلك بناتها من النسب والرضاع ، فإن الجميع بمنزلة بمنزلة بنتك النسبية.

والأخت في النسب هي كل امرأة ولدها أبواك أو أحدهما ، وفي الرضاع هي كل امرأة أرضعتها أمك أو أرضعت بلبن أبيك ، وكذا كل بنت ولدتها المرضعة أو الفحل أو أرضعت بلبنهما.

والعمة فصاعدا من النسب كما تقدم أيضا هي كل أنثى هي أخت ذكر ولدك بواسطة أو غير واسطة من جهة الأب أو الأم أو منهما.

والخالة فصاعدا هي كل أنثى هي أخت أنثى ولدتك بواسطة أو بغير واسطة ، وفي الرضاع العمات والخالات هن أخوات الفحل والمرضعة وأخوات من ولدهما من النسب والرضاع وكذا كل امرأة أرضعتها واحدة من جداتك أو أرضعت بلبن واحد من أجدادك من النسب أو الرضاع.

وبنات الأخ وبنات الأخت في النسب كل امرأة تنتهي نسبها إلى من ولدها أبواك أو أحدهما بالتولد ، وفي الرضاع بنات أولاد المرضعة والفحل من النسب والرضاع ، وكذا كل أنثى أرضعتها أختك أو بنات أولادها من النسب والرضاع.

٣٢٢

وبنات كل ذكر أرضعته أمك أو أرضع بلبن أخيك وبنات أولاده من النسب والرضاع ، فكلهن بنات أخيك وأختك.

فهذه هي المحرمات النسبية التي دلت عليها الآية ، وما ينزل منزلتها من الرضاع وهو المشار إليه بقولهم «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» والآية المتقدمة إنما تضمنت من المحرمات الرضاعية الام والأخت وباقي محرمات الرضاع إنما جاء تحريمه من قبل النصوص المتقدمة ونحوها.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن مطلق الرضاع لا يوجب نشر الحرمة بل له في ذلك شروط مذكورة في الأخبار وكلام الأصحاب ، وله أيضا أحكام كما صرح به علماءنا الأعلام ، وحينئذ فالكلام في هذا المطلب يقع في مقامين :

الأول : في الشروط وهي أمور :

الأول : أن يكون اللبن عن نكاح صحيح بشرط حصول الولد ، فلو در اللبن لا كذلك لم ينشر حرمة ، وكذا لو كان عن زنا.

والحكم المذكور مما لا خلاف فيه ، بل ادعى في المسالك عليه الإجماع ، قال : أجمع علماءنا على أنه يشترط في اللبن المحرم في الرضاع أن يكون من امرأة عن نكاح ، والمراد به الوطي الصحيح ، فيندرج فيه الوطي بالعقد دائما ومتعة وملك يمين وما في معناه ، والشبهة داخلة فيه. انتهى.

أقول : ويدل على ما ذكروه ـ من عدم الحرمة باللبن الذي در من المرأة من غير نكاح ـ ما رواه في الكافي عن يونس بن يعقوب (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن امرأة در لبنها من غير ولادة فأرضعت جارية وغلاما بذلك اللبن ، هل يحرم بذلك اللبن ما يحرم من الرضاع؟ قال : لا». ورواه الصدوق بإسناده

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٤٦ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٠٢ ب ٩ ح ١.

٣٢٣

عن ابن أبي عمير عن يونس عن يعقوب (١) مثله.

وما رواه الشيخ في الصحيح عن يعقوب بن شعيب (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : امرأة در لبنها من غير ولادة فأرضعت ذكرانا واناثا ، أيحرم من ذلك ما يحرم من الرضاع؟ فقال لي : لا».

وعلى ما ذكرنا من اشتراط النكاح الصحيح فلا تثبت الحرمة باللبن الذي عن الزنا ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن لبن الفحل ، فقال : هو ما أرضعت امرأتك من لبنك ولبن ولدك ولد امرأة أخرى فهو حرام».

والتقريب فيها أنه خص عليه‌السلام لبن الفحل بما يحصل من امرأته وهو ظاهر في أنه لا يكون إلا عن النكاح الصحيح ولبن نكاح الشبهة وإن لم يكن عن نكاح صحيح أيضا إلا أن دخوله قد جاء بدليل آخر.

وقريب من الرواية المذكورة ما رواه في الكافي عن بريد العجلي (٤) في حديث قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، فسر لي ذلك؟ قال : فقال : كل امرأة أرضعت من لبن فحلها ولد امرأة أخرى من جارية أو غلام ، فذلك الرضاع الذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» الحديث.

والتقريب فيه أن المتبادر من الفحل هنا هو الزوج ، فلا يدخل فيه الزاني والمشهور في كلام الأصحاب إلحاق اللبن الذي عن نكاح الشبهة باللبن الذي عن النكاح الصحيح ، لأن نكاح الشبهة موجب لثبوت النسب كالنكاح الصحيح ، واللبن

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٣٠٨ ح ٢٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٠٢ ب ٩ ح ١.

(٢ و ٣) التهذيب ج ٧ ص ٣٢٥ ح ٤٧ وص ٣١٩ ح ٢٤، الوسائل ج ١٤ ص ٣٠٢ ح ٢ وص ٢٩٤ ح ٤.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٤٤٢ ح ٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٣ ح ١.

٣٢٤

تابع للنسب ، وحينئذ فيدخل في قوله عزوجل (١) «وَأُمَّهاتُكُمُ اللّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ».

ولابن إدريس هنا كلام لا يخلو من اضطراب وتردد ، قال : وإنما التأثير للبن الولادة من النكاح المباح المشروع فحسب ، دون النكاح الحرام والفاسد ووطئ الشبهة ، لأن نكاح الشبهة عند أصحابنا لا يفصلون بينه وبين الفاسد إلا في إلحاق الولد ودفع الحد فحسب ، ثم قال : وإن قلنا في وطئ الشبهة بالتحريم كان قويا لأن نسبه عندنا صحيح شرعي وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». فجعله أصلا للرضاع ، ثم قال : ولي في ذلك نظر وتأمل.

قال في المختلف ـ بعد نقل ذلك عنه وهو يدل على تردده في ذلك ـ : والوجه ما قاله الشيخ عملا بالعموم وقول ابن إدريس ممنوع ولا حجة عليه سوى الإباحة الأصلية ، وهي لا تخلو من منع انتهى ، وهو جيد.

وقد تقرر مما ذكرنا أنه لا بد من كون اللبن المذكور عن نكاح صحيح مع حصول الولد ، لكن يبقى الكلام في أنه هل يشترط انفصال الولد وخروجه أم يكفي مع كونه حملا؟ فلو در اللبن في صورة كونه حملا هل ينشر الحرمة؟ قولان.

جزم العلامة في القواعد بالأول فاكتفى بالحمل وقطع بعدم اشتراط الولادة وإليه مال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك والروضة ، وحكاه في التذكرة قولا عن بعض أصحابنا ، وحكى عن الشيخ في المبسوط نحوه ، ثم حكى أنه قال قبل ذلك ما ينافيه ، وأن الذي نزل عن الأخبار لا حرمة له ، وإنما الحرمة لما نزل عن الولادة.

__________________

(١) سورة النساء ـ آية ٢٣.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٣٠٥ ح ٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٣ ح ١.

٣٢٥

وبالثاني جزم في التحرير فقال : ولا من در لبنها من غير ولادة ، ومال إليه في التذكرة قال : لأن اللبن الذي ينزل عن الأحبال لا حرمة له ، وإنما الحرمة فيما ينزل على الولادة.

وإلى هذا القول مال السيد السند في شرح النافع معللا له بالاقتصار فيما خالف الأصل على موضع اليقين ، وحملا للرضاع المحرم على ما هو المتعارف منه أعني ما بعد الولادة.

أقول : ويدل عليه ما تقدم في رواية يعقوب بن شعيب من السؤال عمن در لبنها من غير ولادة فأرضعت ذكرانا وإناثا ، فأجاب عليه‌السلام بأنه «لا يحرم» والخبر بإطلاقه شامل لما لو كان ثمة حبل أم لا ، وظاهر في تعليق الحكم على الولادة (١).

وبهذا الخبر استدل في التذكرة على أن لبن الأحبال لا حرمة له ، لقوله «من غير ولادة» ونحو ذلك خبر يونس بن يعقوب المتقدم أيضا ، والتقريب في الجميع ما عرفت.

وما أشار إليه السيد السند (قدس‌سره) أيضا من قوله «وحملا للرضاع المحرم على ما هو المتعارف» جيد وجيه ، كما تقدمت الإشارة إليه في غير موضع من أن الإطلاق إنما ينصرف إلى الأفراد المتكررة الغالبة ، دون الفروض النادرة ، وبذلك يظهر قوة القول المذكور ، وأن ما خالفه بمحل من القصور.

قال في المسالك ـ بعد نقل قول التحرير ـ : ولعله نظر إلى ظاهر رواية عبد الله بن سنان السابقة حيث قال «ولبن ولدك» فإنه لا يصدق عليه اسم الولد إلا مع الوضع ، وفيه نظر. انتهى.

وفيه أنه إنما نظر إلى ظاهر الروايتين اللتين ذكرناهما حسبما أوضحناه

__________________

(١) أقول والى هذا القول الثاني مال المحقق الثاني في شرح القواعد استنادا إلى رواية يعقوب بن شعيب قال : وهذا أصح وقوفا مع الرواية التي لا معارض لها. انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٣٢٦

ولكنه (قدس‌سره) لم تحضره الروايتان المذكورتان ، فإنه لم ينقلهما في المقام وتبقى الرواية التي ذكرها مؤيدة لكن لا بالتقريب الذي ذكره بل من حيث عدم صدق لبن الولد إلا بعد الولادة ، فلو كان قبلها فإنما هو من قبيل من در لبنها من غير حمل بالكلية لدلالة الأخبار على أن غذاء الطفل في بطن أمه إنما هو بدم الحيض ، وبعد الولادة يحيله الله تعالى إلى اللبن فيغذوه به بعد الولادة ، فنسبته إلى الولد إنما يتم بعد الولادة.

تفريع

حيث علم أن اللبن تابع للنكاح الصحيح الحاصل منه الولد ، وحينئذ فإن اتحد فلا كلام في تبعيته له ، وإن تعدد بأن طلق الزوج الأول أو مات عنها وله منها لبن أو كانت حاملا منه فوضعت وصارت ذات لبن ، ثم تزوجت ودخل بها الزوج الثاني وأحبلها ، فقد ذكر جملة من الأصحاب وعلماء العامة أنه قد يلحق بالأول ، وقد يلحق بالثاني ، وقد يحتمل الأمرين ،

وذكروا في المقام صورا الاولى : أن يكون إرضاعا بهذا اللبن قبل أن تنكح زوجا غيره ، والحكم ظاهر ، فإن اللبن للأول قطعا كما لو كانت في حبالة فيكون المرتضع منسوبا إلى صاحب اللبن الذي هو الأول حيا كان أو ميتا (١) كما أنه بذلك صار أب المرضعة ، إذ الموت أو الطلاق لا يقطع نسبة اللبن عنه.

قالوا : ولا فرق بين أن يرضع في العدة أو بعدها ، ولا بين أن ينقطع اللبن ثم يعود وعدمه ، لأنه لم يحدث ما يحال اللبن عليه ، فهو على استمراره منسوب إليه ، لكن إن اشترطنا كون الرضاع وولد المرضعة في الحولين اعتبر كون

__________________

(١) قوله «حيا كان أو ميتا» إشارة الى ما تقدم من قوله «طلقها الزوج الأول أو مات عنها وله منها لبن» (منه ـ قدس‌سره ـ).

٣٢٧

الرضاع قبل مضي حولين من حين الولادة ، وإلا فلا.

الثانية : أن يكون الإرضاع بعد أن تزوجت بآخر إلا أنها لم تحمل منه ، فإنه في حكم ما لو لم تتزوج ، سواء زاد أو نقص أو انقطع ثم عاد.

الثالثة : أن يكون بعد الحمل من الثاني وقبل الولادة واللبن بحاله لم ينقطع ولم تحدث فيه زيادة ، فهو للأول أيضا ، قال في المسالك : عملا بالاستصحاب حيث لم يتجدد ناقل.

قال في التذكرة : ولا نعلم فيه خلافا ، وعلله مع ذلك بأن اللبن كان للأول ولم يتجدد ما يجعله للثاني فيبقى للأول.

واعترضه في المسالك بأن هذا التعليل إنما يتم لو شرطنا في اللبن كونه عن ولادة.

أما لو اكتفينا فيه بالحمل وإن لم تضعه كما تقدم من مذهبه لم يتم التعليل لتجدد ما يمكن معه جعله للثاني ، ثم قال : نعم ، ما ذكرناه من التعليل أسلم ، من حيث الشك في كون ذلك ناقلا لما كان حقه ثابتا بالاستصحاب ، فيبقى الأول على حكمه إلى أن يثبت المزيل.

أقول : لا يخفى أن ما نقله عن التذكرة من التعليل زيادة على دعوى الإجماع لا يخرج عن التعليل الذي ذكره هو (قدس‌سره) إلا من حيث العبارة ، وإلا فمرجع كلام العلامة إلى التمسك بالاستصحاب الذي ذكره.

ثم إن ما يشعر به كلامه من أن مذهب العلامة الاكتفاء بالحمل في اللبن إن أراد مذهبه في التذكرة فليس كذلك ، لما تقدم ذكره وإن أراد في الجملة ـ باعتبار كون ذلك مذهبه في القواعد ، ـ فالإيراد غير تام لأن هذا الكلام إنما جرى على مذهبه في التذكرة ، وهو جيد.

الرابعة : أن يكون الإرضاع بعد أن حملت من الثاني وقبل الوضع ، كما

٣٢٨

تقدم في سابقتها ، لكن تجدد في اللبن زيادة يمكن استنادها إلى الحمل من الثاني ، فاللبن عندهم للأول أيضا ، وبه قطع في التذكرة استصحابا لما كان ، والحمل لا يزيل ما علم استناده إليه ، والزيادة قد تحدث من غير إحبال.

ثم نقل عن الشافعي في ذلك قولين : أحدهما كما قطع به ، والثاني أنه إن زاد بعد أربعين يوما من الحمل الثاني فهو لهما عملا بالظاهر (١) ، من أن الزيادة بسبب الحمل الثاني فيكون اللبن للزوجين ، وإلا فهو للأول.

قال في المسالك بعد نقل ذلك : وهذا موجه على القول بالاكتفاء بالحمل وأن العمل على الأول.

الخامسة : أن ينقطع اللبن عن الأول انقطاعا بينا يعني مدة طويلة لا يتخلل مثلها اللبن الواحد ، ثم يعود في وقت يمكن أن يكون للثاني وذلك بعد مضي أربعين يوما من الحمل الثاني.

وقد قطع الأصحاب من الشيخ ومن تأخر عنه بأن يكون للثاني ، لأنه لما انقطع على الوجه المذكور ، ثم عاد كان سببه الحمل فأشبه ما إذا نزل بعد الولادة ، كذا علله في المسالك.

وعلله المحقق الثاني في شرح القواعد بأنه لما انقطع زال حكم الأول فإذا عاد وقد وجد سبب يقتضيه وجب إحالته عليه لزوال حكم الأول بالانقطاع وعوده يحتاج إلى دليل بخلاف ما لو تجدد سبب آخر يحال عليه ، فإنه يكون للأول لانتفاء ما يقتضي خلافه ، والمرجع إلى أمر واحد.

__________________

(١) والوجه في ظهوره أن الزيادة بسبب الحمل الثاني هو أن بلوغ الحمل المدة المذكورة يستدعي وجود اللبن غالبا ، قال في شرح القواعد : ولا اعتبار بهذا التفصيل عندنا وهو أقرب بما استجوده في المسالك كما نقلناه عنه في الأصل لعدم صحة بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التخرصات. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٣٢٩

وللعامة هنا اختلاف وأقوال هذا (أحدها).

و (الثاني) أنه للأول ما لم تلد من الثاني مطلقا لأن الحمل لا يقتضي اللبن وإنما يخلقه الله للولد عند وجوده ، لحاجته إليه ، وهو هذا الولد لا غذاء الحمل.

و (الثالث) أنه لهما مع انتهائه إلى حال ينزل معه اللبن وأقله أربعين يوما لأن اللبن كان للأول ، فلما عاد بحدوث الحمل فالظاهر أن الأول رجع بسبب الحمل الثاني فكان مضافا إليهما كما لو لم ينقطع.

أقول : وفيه تأييد لما قدمنا ذكره في غير موضع من أن أصل هذه التفريعات إنما هي للعامة ، وجرى عليها الشيخ ومن تأخر عنه ، واختاروا منها ما ترجح في أنظارهم وقوى في أفكارهم ، وقد اختاروا مع هذه الأقوال المذكورة الأول لما قدمنا عنهم من الدليل كما عرفت.

السادسة : أن يكون الإرضاع بعد الوضع وهو للثاني خاصة نقل فيه العلامة في التذكرة الإجماع عن الخاصة والعامة سواء زاد أو لم يزد ، انقطع أو اتصل ، قالوا : لأن لبن الأول انقطع بولادة الثاني ، فإن حاجة المولود إلى اللبن يمنع كونه لغيره.

الثاني من الشروط المتقدمة ذكرها : الكمية ، وقد اتفق الأصحاب على أن مجرد الرضاع كيف كان غير كاف في الحرمة ، بل لا بد فيه من قدر معين ، وقد اتفق الأصحاب على التقدير بالأثر أو الزمان أو العدد ، فالكلام يقع هنا في مواضع ثلاثة :

(أحدها) الأثر وهو ـ عند الأصحاب وعليه دلت الأخبار ـ عبارة عما أنبت اللحم وشد العظم ، وفي المسالك أنه لا خلاف في أن ذلك ناشر للحرمة.

وأما الأخبار بذلك فهي مستفيضة ، ومنها ما رواه في الكافي عن عبد الله بن

٣٣٠

سنان (١) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وشد العظم».

وعن عبيد بن زرارة (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن الرضاع ما أدنى ما يحرم منه؟ قال ما أنبت اللحم أو الدم ، ثم قال : ترى واحدة تنبته ، فقلت : أصلحك الله اثنتان؟ قال : لا ، فلم أزل أعد عليه حتى بلغت عشر رضعات».

وعن حماد بن عثمان (٣) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم والدم».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الله بن سنان (٤) عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «قلت له : يحرم من الرضاع الرضعة والرضعتان والثلاثة؟ فقال : لا ، إلا ما اشتد عليه العظم ونبت اللحم».

وعن مسعدة بن صدقة (٥) في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا يحرم من الرضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم ، وأما الرضعة والرضعتان والثلاث حتى بلغ عشرا إذا كن متفرقات فلا بأس».

وعن عبيد بن زرارة (٦) في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنا

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٣٨ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٣١٢ ح ١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٩ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٣٨ ح ٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٧ ح ٢١.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٤٣٨ ح ٥ ، التهذيب ج ٧ ص ٣١٢ ح ٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٩ ح ١.

(٤ و ٥ و ٦) الكافي ج ٥ ص ٤٣٨ ح ٦ وص ٤٣٩ ح ١٠ و ٩، التهذيب ج ٧ ص ٣١٢ ح ٣ وص ٣١٣ ح ٥ و ٤، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٨ ح ٢٣ وص ٢٨٧ ح ١٩ و ١٨.

٣٣١

أهل بيت كثير فربما كان الفرح والحزن الذي يجتمع فيه الرجال والنساء ، فربما استحيت المرأة أن تكشف رأسها عند الرجل الذي بينها وبينه الرضاع ، وربما استحى الرجل أن ينظر إلى ذلك ، فما الذي يحرم من الرضاع؟ فقال : ما أنبت اللحم والدم ، فقلت : وما الذي ينبت الدم واللحم؟ فقال : كان يقال عشر رضعات قلت : فهل تحرم عشر رضعات؟ فقال : دع ذا ، وقال : ما يحرم من النسب فهو يحرم من الرضاع». وفي هذا الحديث كلام يأتي ذكره إن شاء الله.

وما رواه في التهذيب في الصحيح عن ابن رئاب (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت : ما يحرم من الرضاع؟ قال : ما أنبت اللحم وشد العظم ، قلت : فيحرم عشر رضعات؟ قال : لا ، لأنها لا تنبت اللحم ولا تشد العظم عشر رضعات».

ويجب التنبيه هنا على أمور :

(أحدها) أنه هل اشتداد العظم أو نبات اللحم أمران متلازمان فيكفي أحدهما مع ظهوره أم لا ، فلا بد من ظهورهما؟ صرح بالثاني شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، فقال : ومقتضى النصوص والفتاوى اعتبار اجتماع الوصفين وهما اشتداد العظم ونبات اللحم فلا يكفي أحدهما وفي بعض عبارات الشهيد ما يدل على الاجتزاء بأحدهما : وهو شاذ لا دليل عليه ، والبناء في ذلك على تلازمهما غير معلوم. انتهى.

وبالأول صرح سبطه السيد السند في شرح النافع ، فقال : والظاهر حصول التلازم بين ما أنبت اللحم وشد العظم ، ومن ثم اكتفى جمع من الأصحاب بأحد الأمرين. انتهى.

أقول : لا يخفى أن جملة من النصوص المذكورة هنا وإن تضمنت اشتداد

__________________

(١) قرب الاسناد ص ٧٧ ، التهذيب ج ٧ ص ٣١٣ ح ٦ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٣ ح ٢.

٣٣٢

العظم وإنبات اللحم إلا أن جملة اخرى إنما تضمنت إنبات اللحم والدم ولم يتعرض فيها لاشتداد العظم.

والظاهر أن وجه الجمع بينما دل على الوصفين وبينما دل على إنبات اللحم خاصة هو التلازم ، وأنه حيث يذكر أحدهما يلزمه الآخر ، ولعل تخصيص إنبات اللحم بالذكر في الأخبار من حيث إنه أظهر في الحسن وأبين للناظر الخبير.

وبذلك يظهر لك أن دعوى شيخنا في المسالك ـ أن مقتضى النصوص اجتماع الوصفين ـ ليس في محله لأن جملة منها كما عرفت إنما تضمن أحدهما خاصة ولا وجه للجمع بين الجميع إلا ما ذكرناه.

(ثانيها) هل يعتبر العدالة والعدد في المخبر إذا كان من أهل الخبرة والمعرفة بذلك لأنها شهادة فلا تثبت إلا بذلك ، ولأن الأصل استصحاب الحل السابق إلى أن يثبت المحرم ، أو يكون ذلك من باب الخبر فيكفي فيه الواحد وإن كان فاسقا إذا كان من أهل الخبرة والبصيرة كما في المرض المسوغ للإفطار والتيمم ونحو ذلك.

الذي صرح به جملة من الأصحاب كشيخنا في المسالك والسيد السند في شرح النافع (١) وهو الأول ، إلا أنه في المسالك احتمل الثاني أيضا ، وفي شرح النافع قطع بنفيه جزما.

(ثالثها) ظاهر الأخبار المذكورة من حيث حصر التحريم بالرضاع فيما أنبت اللحم وشد العظم أن التحريم بالرضاع يوم وليلة وكذا بالخمس عشرة ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ إنما هو من حيث كونهما كذلك ، وأن هذا الأثر مترتب

__________________

(١) قال في شرح النافع : ويشترط التعدد والعدالة ليثبت به التحريم ولا يكفى فيه اخبار الواحد قطعا بخلاف المرض المبيح للفطر والتيمم حيث اكتفى فيه بواحد آلى الظن ويحصل بأخبار الواحد وان كان فاسقا. انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٣٣٣

على كل منهما وحاصل به.

وإلى ذلك يشير ما تقدم في صحيحة علي بن رئاب (١) من قوله «عشر رضعات لا تحرم لأنه لا ينبت اللحم ولا يشد العظم عشر رضعات».

وكذا رواية عبيد بن زرارة (٢) وقوله بعد سؤال الراوي عن أدنى ما يحرم من الرضاع وأنه «ما أنبت اللحم والدم ثم قال : أترى واحدة تنبته إلخ».

وحينئذ فيكون روايات التقادير الثلاثة كلها مطابقة المقدار متوافقة أصل المعيار ويكون الأصل في التقدير هو إنبات اللحم واشتداد العظم.

والمشهور في كلام أصحابنا المتأخرين أن كلا من هذه الثلاثة أصل برأسه فأيهما حصل كفى في الحكم وترتب عليه التحريم ، فإذا رضع يوما وليلة بحيث يكون راويا في جميع الوقت كفى وإن لم يتم العدد.

ونقل عن الشيخ في المبسوط أن الأصل هو العدد ، والباقيان إنما يعتبران عند عدم انضباطه وهو اللائع من كلام العلامة في التذكرة حيث قال : الرضاع المحرم ما حصل بأحد التقادير الثلاثة ، فإرضاع يوم وليلة لمن لم يضبط العدد إلى آخره.

أقول : الظاهر أن الخلاف هنا قليل الجدوى لدلالة النصوص مما تقدم ويأتي على أن أي هذه الثلاثة وجد ثبت التحريم ، إلا أن المفهوم منها ـ كما أشرنا إليه ـ أن حصول التحريم بالعدد والزمان إنما هو من حيث حصول نبات اللحم أو اشتداد العظم بكل منهما كما يشير إليه الحصر فيه وبهذا صار أصلا لهما والله العالم.

و (ثانيها) الزمان ، والأشهر الأظهر أن أقله يوم وليلة بحيث يرتضع كلما

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣١٣ ح ٦ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٣ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٣٨ ح ٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٧ ح ٢١.

٣٣٤

تقاضاه واحتاج إليه بمعنى أن غذائه في هذه المدة من اللبن خاصة لا يداخله شي‌ء من المأكول والمشروب وإن لم يتم العدد ولم يحصل الأثر ، ولا فرق بين اليوم الطويل والقصير.

وهل يكفي الملفق منهما لو ابتدأ في أثناء أحدهما؟ إشكال في صدق الشرط وتحقق المعنى المراد.

ومما يدل على أصل الحكم موثقة زياد بن سوقة (١) قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : هل للرضاع حد يؤخذ به؟ فقال : لا يحرم الرضاع أقل من رضاع يوم وليلة ، أو خمس عشرة رضعات متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد لم يفصل بينها رضعة امرأة غيرها» الحديث ، وسيأتي بتمامه في الموضع الآتي.

وقال الصدوق في المقنع (٢) «لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وشد العظم ، قال (٣) وسئل الصادق عليه‌السلام : هل لذلك حد؟ فقال : لا يحرم من الرضاع أقل من رضاع يوم وليلة ، أو خمس عشرة رضعة متواليات لا يفصل بينهن ، قال : وروي (٤) أنه لا يحرم من الرضاع إلا رضاع خمس عشرة يوما ولياليهن ليس بينهن رضاع ، وبه كان يفتي شيخنا محمد بن الحسن (رحمه‌الله) ، قال : وروي (٥) أنه لا يحرم من الرضاع إلا ما كان حولين كاملين ، وروي أنه لا يحرم من الرضاع إلا ما ارتضع من ثدي واحد سنة». انتهى.

أقول : ما نقله هنا من رواية خمسة عشرة يوما لم تصل إلينا ولا نقلها ناقل غير ما في هذا الكتاب وهو قد أفتى بها في كتاب الهداية ، فقال : ولا يحرم من الرضاع إلا رضاع خمسة عشر يوما ولياليهن ليس بينهن رضاع. انتهى.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣١٥ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٣ ح ١.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٦ ح ١٤ و ١٥ و ١٦ و ١٧.

٣٣٥

وأما رواية الحولين فهي ما رواه في الفقيه والتهذيب عن عبيد بن زرارة (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن الرضاع ، فقال : لا يحرم من الرضاع إلا ما ارتضعا من ثدي واحد حولين كاملين».

ونحوها صحيحة الحلبي (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا يحرم من الرضاع إلا ما كان حولين كاملين». وهما محمولتان عند الأصحاب على أن الحولين ظرف للرضاع لما اتفقوا عليه من أنه «لا رضاع بعد فطام» وعليه دلت الأخبار أيضا.

وأما رواية السنة فهي ما رواه في الفقيه والتهذيب عن العلاء بن رزين (٣) في الصحيح برواية الفقيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن الرضاع ، فقال : لا يحرم من الرضاع إلا ما ارتضع من ثدي واحد سنة». وهذا الخبر نسبه الشيخ والأصحاب إلى الشذوذ والمتروكية.

وقد استشكل في هذا المقام السيد السند في شرح النافع من حيث صحة هاتين الروايتين ، وأن عادته التهالك على صحة الأسانيد ، والدوران مدارها : وإن اشتملت متون تلك الأخبار على علل ظاهرة ، وتبعه في ذلك الفاضل المولى الخراساني في الكفاية ، كما هي عادته غالبا في كتب العبادات مضافا إلى ما هو عليه في كثير من التشكيكات ، وتوسيع دائرة الاحتمالات بأدنى شبهة من الشبهات.

وفيه (أولا) أن هذه الأخبار معارضة بأخبار المواضع الثلاثة كملا ، لما عرفت من أنها متطابقة المقدار متوافقة المعيار.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣١٧ ح ١٨ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٠٧ ح ١٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٢ ح ٨.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٣٠٧ ح ١٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٩٢ ح ١٠.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٣١٨ ح ٢٣ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٠٧ ح ١٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٨٦ ح ١٣.

٣٣٦

ولا ريب في ترجيح تلك الأخبار وقوتها سندا وعددا ودلالة ، واعتضادها بعمل الطائفة سلفا وخلفا.

و (ثانيا) أن هذه الأخبار مطرحة للإجماع ، وإن صح سند بعضها كما ذكره في المسالك حيث قال ـ بعد نقل جملة من أخبار المسألة ـ : بقي في هذا الباب أخبار نادرة تدل على اعتبار سنة وسنتين لا يعول عليها بالإجماع. انتهى.

ولا ريب أن شهرة الحكم بين الأصحاب متقدميهم ومتأخريهم فضلا عن الإجماع عليه متى عارض الخبر وجب طرح ذلك الخبر إن لم يمكن تأويله ، وذلك فإن الأخبار قد خرجت عنهم عليهم‌السلام على وجوه متعددة وأنحاء مبتددة ، ولا سيما وجوه التقية التي هي أوسع تلك الأبواب وبها وقع الاختلاف فيها والاضطراب.

وأما اتفاق شيعتهم على حكم من الأحكام فهو مؤذن بكون ذلك مذهبهم (عليهم الصلاة والسلام) لأن مذهب كل إمام إنما يعلم بنقل أصحابه وشيعته وعملهم به ، ألا ترى أن مذهب أبي حنيفة إنما يعلم من الحنفية ، ومذهب الشافعي إنما يعلم من الشافعية قولا وفعلا وعملا ، ومن هنا خرجت الأخبار بالترجيح بالشهرة بين الأصحاب في مقام الاختلاف بين الروايات ، فقالوا عليهم‌السلام (١) «خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذ النادر ـ وقالوا ـ إن المجمع عليه لا ريب فيه». وسر ذلك ما ذكرناه.

و (ثالثا) أنه لا يخفى على من تلجج بحور الاستنباط والاستدلال وشرب بكأس ذلك العذب الزلال أنه قد وردت جملة من الأخبار في أحكام متعددة مخالفة لما عليه كافة الأصحاب ، فأعرضوا عنها وأطرحوها وإن كانت صحيحة الاسناد ، ولم يقل بها قائل منهم ، ولم ينكر ذلك هذان الفاضلان ، بل سلماه ووافقا عليه كالأخبار الواردة بنجاسة الحديد ، والأخبار الدالة على عدم وجوب غسل الجنابة على المرأة

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٦٧ ح ١٠ ، التهذيب ج ٦ ص ٣٠١ ح ٥٢ ، الفقيه ج ٣ ص ٥ ، الوسائل ج ١٨ ص ٧٥ ح ١.

٣٣٧

بالاحتلام ونحو ذلك ، فما بالهما يضطربان في هذا المقام ويخرجان عما عليه كافة العلماء الأعلام.

وليت شعري أي حكم من أحكام الفقه قد خلا من اختلاف الأخبار ، وسلم من تصادم الآثار ، ولكن متى كان المخالف مما أعرض عنه الأصحاب ، فإنه يجب طرحه عندهم بلا ارتياب.

ولله در المحقق (رحمه‌الله) في أوائل كتاب المعتبر حيث قال ونعم ما قال : أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد حتى انقادوا لكل خبر ، وما فطنوا ما تحته من التناقض ، فإن من جملة الأخبار قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) «ستكثر بعدي القالة على». ـ إلى أن قال ـ : واقتصر بعض عن هذا الإفراط فقال : كل سليم السند يعمل به.

وما علم أن الكاذب قد يصدق ، والفاسق قد يصدق ، ولم يتنبه إلى أن ذلك طعن في علماء الشيعة ، وقدح في المذهب ، إذ لا مصنف إلا وهو يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر الواحد المعدل ، ـ إلى أن قال ـ : وكل هذه الأقوال منحرفة عن السنن ، والتوسط أقرب ، فما قبله الأصحاب أو دلت القرائن على صحته عمل به وما أعرض الأصحاب عنه أو شذ يجب إطراحه. انتهى وهو قوي متين وجوهر ثمين ، وأنت قد عرفت أن هذه الأخبار التي استشكلوا بسببها لم يذهب إليها ذاهب.

وما توهمه صاحب الكفاية ـ من أن نقل الصدوق لها في كتابه يؤذن بقوله بها بناء على ما ذكره من القاعدة في صدر كتابه ـ مردود بما بيناه في شرحنا على الكتاب المذكور من المواضع العديدة الخارجة عن هذه القاعدة الموجبة للتناقض في كلامه لو أريد بها ظاهرها ، وهو هنا أظهر ظاهر أيضا ، فإنه روى فيه رواية السنة ورواية السنتين ، والتناقض بينهما ظاهر.

__________________

(١) ما عثرنا على قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد التتبع في مظانه.

٣٣٨

والتحقيق أن رواية الحولين غير ظاهرة في المخالفة ، لأن ما ذكره الشيخ والجماعة في تأويلها أقرب قريب ، فلم يبق إلا رواية السنة ، وهي لا تبلغ قوة في مقابلة جملة تلك الأخبار ، مع إمكان احتمال التقية (١) فيها وكذا في الروايتين الأخيرتين إن حملتا على ظاهرهما.

وقد عرفت في مقدمات الكتاب من الجلد الأول في الطهارة أن الحمل على التقية لا يتوقف على وجود القائل من العامة وإن كان خلاف ما هو المشهور بين الأصحاب والله العالم.

و (ثالثها) العدد ، وقد اختلف الأصحاب في أقل ما يحرم به من العدد ، فقيل؟ بعشر رضعات وهو المشهور بين المتقدمين كالشيخ المفيد وابن أبي عقيل وسلار وابن البراج وأبي الصباح وابن حمزة ، واختاره من المتأخرين العلامة في المختلف ، وولده فخر المحققين والشهيد في اللمعة.

وقيل : بخمسة عشرة وهو المشهور بين المتأخرين ، وإليه ذهب الشيخ في النهاية وكتابي الأخبار ، واضطرب كلام ابن إدريس فاختار أول هذين القولين أولا ثم اختار ثانيهما ثانيا ، فقال في أول كتاب النكاح : المحرم عشر رضعات متواليات في الصحيح في المذهب.

وذهب بعض أصحابنا إلى خمس عشرة رضعة معتمدا على خبر واحد رواه عمار بن موسى الساباطي وهو فطحي المذهب مخالف للحق مع أنا قد قدمنا

__________________

(١) أقول : وبالحمل على التقية في هذه الاخبار صرح المحدث الشيخ الحر في كتاب الوسائل فقال بعد نقل كلام الصدوق في المقنع : أقول : لعل الوجه في هذا الاختلاف التقية لاضطراب مذهب العامة هنا وكثرة اختلافهم. انتهى.

وكلامه هذا جرى على مقتضى كلام أصحابنا من تخصيص الحمل على التقية بوجود المخالف من العامة ، وأما على ما اخترناه فلا ، كما أوضحناه في المكان المشار إليه في الأصل. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٣٣٩

أن أخبار الآحاد لا يعمل بها ولو رواها العدل ، فالأول مذهب السيد المرتضى وخيرته وشيخنا المفيد ، والثاني خيرة شيخنا أبي جعفر الطوسي.

والأول هو الأظهر الذي يقتضيه أصول المذهب ، لأن الرضاع يتناول القليل والكثير فالإجماع حاصل على العشر وتخصيصها ، ولأن بعض الأصحاب على أنه يحرم من الرضاع ، بالقليل من الرضاع وبالكثير ، ويتعلق بالعموم والأظهر ما اخترناه ففيه الاحتياط.

ثم قال في أول باب الرضاع : الذي يحرم ما أنبت اللحم وشد العظم على ما قدمناه فإن علم ذلك وإلا كان الاعتبار بخمس عشرة رضعة على الأظهر من الأقوال ، وقد حكينا الخلاف فيما مضى إلا أنا اخترنا هناك التحريم بعشر رضعات وقويناه.

والذي أفتي به وأعمل عليه الخمس عشرة رضعة ، لأن العموم قد خصصه جميع أصحابنا المحصلين والأصل الإباحة ، والتحريم طارئ ، فالإجماع من الكل يحرم بخمس عشرة رضعة ، فالتمسك بالإجماع أولى وأظهر فإن الحق أحق أن يتبع. انتهى.

قال العلامة في المختلف بعد نقل ذلك عنه : وهذا يدل على اضطرابه وقلة مبالاته بما يقول ، ونسبته المشايخ إلى الخطأ في الفتوى والاستناد الى غير دليل.

ثم أي تواتر حصل له بين فتواه بالعشر ، وفتواه بخمس عشرة رضعة حتى نسب الثاني أولا إلى أنه خبر واحد رواه غير الثقة ، ثم اعتمد عليه وأفتى به. انتهى وهو جيد.

وقيل : بالاكتفاء برضعة واحدة تملأ جوف الولد بالمص أو بالوجور ، وإلى هذا القول ذهب ابن الجنيد قال على ما نقل عنه في المختلف : وقد اختلف الرواية من الوجهين جميعا في قدر الرضاع المحرم إلا أن الذي أوجبه الفقه عندي واحتياط

٣٤٠