الحدائق الناضرة - ج ٢٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٦

أقول : وكيف كان فلا أقل أن يكون ما ذكرناه في معنى الرواية مساويا لما ذكروه من الاحتمال ، وبه يبطل الاعتماد عليها في الاستدلال.

و (ثانيها) ما رواه الشيخ عن منصور بن حازم (١) في الصحيح قال : «تستأمر البكر وغيرها ، ولا تنكح إلا بأمرها». وأورد على الاستدلال بهذه الرواية كما ذكره السيد السند وقبله جده (عطر الله مرقديهما) بأن أقصى ما تدل عليه عدم استقلال الأب بالولاية ، لا جواز انفرادها واستقلالها كما هو المدعى ، وحينئذ فلا تنفي التشريك الذي هو أحد الأقوال في المسألة.

واحتمل بعض المحققين حملها على بكر ليس لها أب جمعا بينها وبينما تقدم من الأخبار الصحيحة الصريحة في استقلاله كما عرفت ، وهو جيد.

ويمكن الجمع أيضا بما ذكره الشيخ في التهذيب من الحمل على الاستحباب فإنه قال بعد نقل الخبر المذكور : فهذا الخبر محمول على الأفضل فيما يختص الأب من أمر البكر ، وما يختص غيره محمول على ظاهره من الوجوب وأنه لا يجوز العقد عليها إلا بأمرها. انتهى.

وهذا الحمل أيضا لا بأس به في مقام معارضته ما ترجح عليه سندا وعددا ودلالة (٢).

و (ثالثها) ما رواه الشيخ في التهذيب عن زرارة (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا كانت المرأة مالكة أمرها تبيع وتشتري وتعتق وتشهد وتعطي من مالها ما شاءت

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٨٠ ح ١١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٠٣ ح ١٠.

(٢) قال في المسالك بعد البحث في الرواية وذكر ما يرد عليها وما أجاب به وطول الكلام فيه : وقد ظهر من جميع ما حققناه أن دلالة الرواية قريبة الأمر ، الا أنها مشتملة على شبهات كثيرة لا يقاوم ما سيأتي مما يدل صريحا على ثبوت الولاية من النصوص الصحيحة. انتهى وفيه إشارة إلى صحة القول الذي اخترناه وترجيحه له. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٣٧٨ ح ٦ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢١٥ ح ٦.

٢٢١

فإن أمرها جائز ، تزوج إن شاءت بغير إذن وليها ، وإن لم يكن كذلك فلا يجوز تزويجها إلا بأمر وليها».

وهذه الرواية ظاهرة في أن المالكة أمرها هي المرفوع عنها حجر التصرف المالي بناء على أن جملة «تبيع وتشتري. إلى آخره» وقعت تفسيرا لقوله «مالكة أمرها» وحينئذ فيكون رفع الولاية عنها في النكاح يدور وجودا وعدما مدار رفع الولاية عنها في المال ، وبذلك يتم الاستدلال بها هنا ، إلا أن بعض المحققين من متأخري المتأخرين احتمل أن تكون جملة «تبيع وتشري. إلى آخره» خبرا ثانيا لكان ، لا تفسيرا كما قيل ، فعلى هذا لا يكفى ارتفاع الحجر المالي بل لا بد من مالكية الأمر الذي هو عبارة عما قدمناه من كونها ثيبا أو غير ذات أب ، وهو ينتظم مع ما تقدم في أخبار القول الأول من أن البكر البالغة الرشيدة ليس لها مع أبيها أمر ، فكيف تكون مالكة أمرها ، وهو جمع حسن بين الأخبار ، وإن كان الأول أنسب بالسياق.

وعلى تقدير تسليم أن المالكية عبارة عن ارتفاع الحجر المالي كما هو مطلوب المستدل (١) ، فإنه يمكن أن يقال : إن موضوع هذا الخبر أعم من موضوع تلك الأخبار الصحيحة المتقدمة لأن موضوعه حينئذ المرأة المرتفع عنها الحجر المالي ، وموضوع تلك الأخبار الصحيحة البكر التي بين أبويها.

ومقتضى القاعدة تخصيص العموم المذكور بتلك الأخبار ، وحينئذ فيخص عموم هذه الرواية بما عدا البكر التي بين أبويها كالثيب والبكر التي لا أب لها ، وهذا بحمد الله واضح لا سترة عليه.

__________________

(١) توضيحه : أن المرأة التي ارتفع عنها الحجر المالي شاملة للبكر البالغ الرشيدة التي بين أبويها والثيب والبكر البالغ التي لا أب لها. وقد صرح الخبر بأن أمرها بيدها ، وتلك الاخبار الصحاح صرحت بأن البكر البالغة الرشيدة إذا كانت بين أبويها فلا أمر لها ولا اختيار فيجب تخصيص هذا العموم بما عداها من الفردين الآخرين (منه ـ قدس‌سره ـ).

٢٢٢

وبالجملة فإنه لما صرحت تلك الأخبار المتقدمة باستقلال الأب على وجه لا يمكن دفعه وتأويله مع كثرتها وصحتها فالواجب تطبيق هذا الخبر عليها لضعفه عن المعارضة سندا وعددا ودلالة.

و (رابعها) ما رواه في الكافي عن أبي مريم (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الجارية البكر التي لها أب لا تتزوج إلا بإذن أبيها ، وقال : إذا كانت مالكة أمرها تزوجت من شاءت». وجه الاستدلال بها أن تحمل البكر في صدر الرواية على الصغيرة أو غير الرشيدة ، والمالكة أمرها في عجز الرواية على البكر البالغة الرشيدة.

وفيه أن الأول تخصيص لعموم اللفظ من غير دليل ، بل الدليل كما عرفت على خلافه واضح السبيل ، والثاني مصادرة على المطلوب ، فالأظهر في معنى الرواية إنما هو إبقاء صدرها على عمومه ، وحمل «المالكة أمرها» على الثيب أو البكر التي لا أب لها بقرينة المقابلة بالبكر التي لها أب لما عرفت من النصوص على أنها لا تزوج إلا بإذن أبيها فهي بالدلالة على ما تدعيه من استقلال الأب أنسب ، وإلى ما ذكرناه أقرب.

وكيف كان فإنه لا يتم الاستدلال بها مع هذا الإجمال ، وقيام ما ذكرناه من الاحتمال الذي إن لم يكن هو الأظهر فلا أقل أن يكون مساويا ، وبه يبطل الاستدلال.

و (خامسها) ما رواه الشيخ عن سعدان بن مسلم (٢) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا بأس بتزويج البكر إذا رضيت من غير إذن أبيها».

أقول : وهذه الرواية وإن كانت صريحة فيما يدعونه ، وليس في أخبار هذا القول سواها ، إلا أنها لضعف السند وقوة المعارض لها في الباب لا تبلغ قوة المعارضة فلا يترك لأجلها تلك الأخبار المتكاثرة الصحيحة.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٩١ ح ٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٠٢ ح ٧.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣٨٠ ح ١٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢١٤ ح ٤.

٢٢٣

على أن من قاعدة أصحاب هذا الاصطلاح من المتأخرين أنهم لا يجمعون بين الأخبار إلا مع التعارض ، ومتى ضعف أحد الطرفين عن المعارضة أطرحوه أو حملوه على ما ينتظم به مع ذلك الطرف الراجح.

وحينئذ فالواجب بمقتضى هذه القاعدة ، إما طرح هذه الرواية أو تأويلها بما يرجع به إلى تلك الأخبار.

والشيخ (رحمه‌الله) حملها تارة : على المتعة كما سيأتي إن شاء الله تعالى من الأخبار الدلالة على الرخصة بذلك بالشرائط المقررة ، وتارة : على ما إذا عضلها الأب ، ولم يزوجها من كفو ، وثالثا : على التقية ولعله الأقرب.

لا يقال : إن مذهب جمهور العامة استمرار الولاية على البالغة الرشيدة ، وحينئذ فيمكن حمل أخبار القول باستقلال الأب على التقية فإن ذلك مذهب الشافعي ومالك وأحمد كما قدمنا ذكره وعلى هذا تبقى أخبار القول الثاني سالمة من المعارض.

لأنا نقول فيه أولا : أن مذهب الشافعي وأحمد عدم الفرق في استمرار الولاية بين البكر والثيب ، ومذهب أبي حنيفة أنه بالبلوغ تستقل بالولاية بكرا كانت أو ثيبا ، فالأول قائل باستمرار الولاية إلى ما بعد البلوغ مطلقا ، والثاني ناف للاستمرار مطلقا.

وأنت قد عرفت من جملة الأخبار التي قدمناها في أدلة القول الأول ، التفرقة بين البكر والثيب كصحيحة عبد الله بن الصلت (١) وصحيحة الحلبي (٢) وموثقة الفضل بن عبد الملك (٣) ، ورواية إبراهيم بن ميمون (٤) ، ورواية عبيد بن زرارة (٥)

__________________

(١ و ٢ و ٣) الكافي ج ٥ ص ٣٩٤ ح ٦ و ٤ و ٥. الوسائل ج ١٤ ص ٢٠٧ ح ٣.

(٤ و ٥) التهذيب ج ٧ ص ٣٨٠ ح ١٢ وص ٣٨٥ ح ٢٣. الوسائل ج ١٤ ص ٢٠٢ ح ٦.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٤ ص ٢٠٧ ح ٣ وص ٢١٥ ح ٧ وص ٢١٤ ح ٣ وص ٢٠٢ ح ٦ وص ٢٠٤ ح ١٣.

٢٢٤

وحينئذ فهذه الروايات لا يمكن حملها على مذهب القائل منهم بالاستقلال مطلقا ولا الاستمرار مطلقا.

وأما احتمال التقية باعتبار أنه مذهب المالك ، وإن احتمل إلا أن العمل بما خالف الثلاثة وإن وافق واحدا منهم أقرب إلى جادة الرشاد وأدخل في قالب السداد ، كما دلت عليه مقبولة عمر بن حنظلة من قوله «ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر».

وثانيا : أنه من القواعد المقررة عندهم أنه إنما يصار إلى الترجيح عند حصول المعارضة على وجه لا يمكن تطبيق الأخبار بعضها على بعض بوجه من الوجوه.

وأنت قد عرفت ـ بما ذيلنا به أكثر أخبار القول الثاني ـ أنه لا منافاة بينها وبين أخبار القول الأول وأنه لا صراحة بل ولا ظاهرية في شي‌ء منها في المعارضة سوى رواية سعدان التي قد عرفت القول فيها ، وأنها لا تبلغ قوة ولا تنهض حجة بمعارضة تلك الأخبار وحملها على التقية كما ذكره الشيخ أقرب فإن أبا حنيفة قائل بارتفاع الولاية بالبلوغ في جميع التصرفات حتى النكاح.

ولا يخفى على المتتبع للسير أن مذهب أبي حنيفة في وقته كان في غاية القوة بخلاف باقي المذاهب الأربعة ، وهو جار في كل ما أوهم استقلال البكر أو توقف التزويج على رضاها.

وثالثا : أن الترجيح بالتقية وإن ورد في الأخبار ، إلا أنه بهذا المعنى (١) المشهور بين أصحابنا في مثل هذه الأعصار لا يخلو من الاشكال ، وذلك فإن مذهب العامة في الصدر الأول كانت على وجه يعسر ضبطها وتتعذر الإحاطة بها لما ذكره علماء الفريقين من أن مدار مذاهبهم في الأعصار السابقة على من نصبه خلفاء الجور

__________________

(١) إشارة إلى أنه بالمعنى الأخر الذي قدمنا ذكره في مقدمات الكتاب في صدر جلد كتاب الطهارة ، وهو أنهم (عليهم‌السلام) يوقعون المخالفة بين الشيعة تقية وان لم يكن ذلك مذهب أحد من العامة لا اشكال فيه (منه ـ رحمه‌الله ـ).

٢٢٥

للقضاوة فترجع إليه الفتوى في جميع أقطار البلدان ولهذا قيل : إن المعتمد في زمن هارون الرشيد على فتاوي أبي يوسف تلميذ أبي حنيفة ، قالوا قد استقضاه الرشيد واعتنى به حتى لم يقلد في بلاد العراق والشام ومصر إلا من أشار إليه أبو يوسف.

وفي زمن المأمون على يحيى بن أكثم القاضي ، وفي زمن المعتصم على أحمد بن داود القاضي ، وهكذا ، وهذه الأربعة المشهورة الآن ليست في الزمن السابق إلا كغيرهم من المجتهدين الذين ليس لهم مزيد ذكر ، ولا مذهب منتشر ، والاجتماع على هؤلاء الأربعة إنما وقع في حدود سنة خمس وستين وستمائة باصطلاح خليفة ذلك الوقت واستمرت إلى الآن ، وحينئذ فكيف يمكن الترجيح بالتقية والحال هذه.

الثالث : القول بالتشريك ، والظاهر أن وجهه عند القائل به هو الجمع بين الأخبار ، وهي في رده وعدم قبوله كالشمس في دائرة النهار ، وهو أضعف الأقوال في المسألة لعدم الدليل الواضح عليه ، مع أن أخبار القولين المتقدمين صريحة في رده لتصريح الاولى منهما باستقلال الأب النافي للشركة واستقلال البكر ، وتصريح الثانية بحسب ظاهرها باستقلال البكر الموجب لعدم شركة الأب واستقلاله ، نعم فيه احتياط بالخروج عن مخالفة أخبار كل من الطرفين ، ولعله لهذا توهم القائل به أن فيه جمعا بين الأخبار ، وهو غلط محض ، فإن أحدهما غير الآخر.

وربما توهم الاستدلال عليه ببعض الأخبار مثل موثقة صفوان (١) قال : «استشار عبد الرحمن موسى بن جعفر عليه‌السلام في تزويج ابنته لابن أخيه؟ فقال : افعل ويكون ذلك برضاها ، فإن لها في نفسها نصيبا ، قال : واستشار خالد بن داود موسى بن جعفر عليه‌السلام في تزويج ابنته على بن جعفر عليه‌السلام؟ فقال : افعل ويكون ذلك

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٧٩ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢١٤ ح ٢.

٢٢٦

برضاها فإن لها في نفسها حظا».

وفيه أن الخبر مطلق في كون الابنة بكرا أو ثيبا ، والأخبار المتقدمة صريحة في حكم البكر ومختصة بها وأنها ليس لها مع الأب أمر ، كما في أخبار القول الأول ، وأنها تتزوج بغير إذن أبيها كما في أخبار القول الثاني.

ومقتضى القاعدة تقديم العمل بالخاص وتقييد العام به ، وحينئذ فيجب حمل عموم هذا الخبر أو إطلاقه على تلك الأخبار جمعا فيحمل على الثيب حينئذ المأمور باستئذانها ، وأنها لا تتزوج إلا برضاها.

ومثل صحيحة منصور بن حازم (١) المتقدمة في أدلة القول الثاني ، فإن البكر المأمور باستيمارها أعم من التي لها أب أو لا أب لها.

وأخبار القول الأول صريحة في أن التي لها أب ليس لها مع أبيها أمر ، فلا تستأمر حينئذ.

وطريق الجمع حمل إطلاق الخبر المذكور على ما صرحت به تلك الأخبار فيخص بالبكر التي لا أب لها ، وعليه حمل الخبر المذكور كما تقدم ، ووجهه ما ذكرناه.

والمراد بالاستيمار يعني استيمار من عدا الأب ، لأن الأب غير مذكور في الخبر بنفي ولا إثبات وإنما هو مطلق فيحمل على غير الأب.

ومثل صحيحة ابن أبي يعفور (٢) المتقدمة في أدلة القول الأول ، وغاية الأمر فيها أنها لا تدل على نفيه ، لا أنها تدل عليه ، ومرجع ذلك إلى احتمال التشريك وهذا احتمال ضعيف لا يقاوم ما دل صريحا من الروايات على نفيه واستقلال الأب بذلك.

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٧ ص ٣٨٠ ح ١١ وص ٣٧٩ ح ٧ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢١٤ ح ١ وص ٢٠٨ ح ٥.

٢٢٧

الرابع : القول باستمرار الولاية عليها في الدائم دون المنقطع ، والظاهر أن وجهه الجمع بين أخبار القول الأول الدالة على استمرار الولاية عليها مطلقا وبين ما دل من الأخبار على استقلالها في المنقطع كرواية أبي سعيد القماط عمن رواه (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جارية بكر بين أبويها تدعوني إلى نفسها سرا من أبويها ، أفأفعل ذلك؟ قال : نعم ، واتق موضع الفرج ، قال : قلت : وإن رضيت بذلك؟ قال : وإن رضيت بذلك ، فإنه عار على الأبكار».

ورواية الحلبي (٢) قال : «سألته عن التمتع من البكر إذا كانت بين أبويها بلا إذن من أبويها قال : لا بأس ما لم يقتض ما هناك لتعف بذلك».

ورواية أبي سعيد (٣) قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن التمتع من الأبكار اللواتي بين الأبوين ، فقال : لا بأس ، ولا أقول كما يقول هؤلاء الأقشاب».

وربما دل هذا الخبر على أن المنع من ذلك كان مذهب العامة يومئذ ، وبهذه الأخبار يخصص عموم تلك الأخبار المتقدمة فيخص القول باستمرار الولاية بالعقد الدائم كما ذهب إليه القائل المذكور ، إلا أن ذلك لا يخلو من نوع إشكال لأن هذه الأخبار لضعفها لا تقوم بمعارضة تلك الأخبار الكثيرة الصحيحة فيما دلت عليه من العموم.

سيما مع معارضتها بصحيحة أبي مريم (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «العذراء التي لها أب لا تتزوج متعة إلا بإذن أبيها».

وصحيحة البزنطي عن الرضا عليه‌السلام قال : «البكر لا تتزوج متعة إلا بإذن أبيها».

وهذه الرواية رواها في كتاب قرب الاسناد (٥) عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عنه عليه‌السلام.

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) التهذيب ج ٧ ص ٢٥٤ ح ٢١ و ٢٣ و ٢٢ و ٢٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٥٨ ح ٧ وص ٤٥٩ ح ٩ وص ٤٥٨ ح ٦ وص ٤٥٩ ح ١٢.

(٥) قرب الاسناد ص ١٥٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٥٨ ح ٥.

٢٢٨

وفي هذين الصحيحتين أيضا رد للقول الثاني بالنسبة إلى المتعة ، ويمكن أن يقال في دفع ما ذكر من الإشكال بأن الطعن بضعف هذه الأخبار إنما يتجه عند أصحاب هذا الاصطلاح المحدث ، وأنتم لا تعملون عليه ، والأخبار كلها صحيحة عندكم والروايتان المذكورتان وإن كانتا صحيحتين إلا أن المفهوم من رواية أبي سعيد المذكورة أن القول بالتحريم بدون إذن الأب مذهب العامة ، ولهذا أن الشيخ حمل صحيحة أبي مريم على الكراهة ، وجوز الحمل على التقية لما عرفت.

وحينئذ فيمكن أن يقال في الجمع بين هذه الأخبار تحاشيا عن إطراح شي‌ء منها من البين ، وإعمالا بقدر المقدور للدليلين كما هو ظاهر طريقة الشيخ (رحمه‌الله) في الكتابين بإبقاء هذا القول المذكور على ما ذكره قائله ، وتخصيص تلك الأخبار المتقدمة بهذه الأخبار الثلاثة المذكورة ، وحمل الصحيحتين المذكورتين على التقية ، ولعله الأقرب ، أو على استحباب استئذان الأب ، وكراهة ذلك بدونه دفعا للعيب والعار على أهلها ، فمع رضا الأب لا بأس.

ويؤيد هذا التفصيل ما صرح به في صحيحة حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في الرجل يتزوج البكر متعة ، قال : يكره للعيب على أهلها».

ويؤيد الحمل على التقية رواية مهلب الدلال (١) «أنه كتب إلى أبي الحسن عليه‌السلام : امرأة كانت معي في الدار ثم إنها زوجتني نفسها سرا ، وأشهدت الله وملائكته على ذلك ، ثم إن أباها زوجها من رجل آخر فما تقول؟ فكتب عليه‌السلام التزويج الدائم لا يكون إلا بولي وشاهدين ، ولا يكون تزويج متعة ببكر ، استر على نفسك ، واكتم رحمك الله».

وحاصل جوابه عليه‌السلام ، أنه إن كان تزويجك هذا دواما فإن الدائم لا يكون إلا بولي وشاهدين ، وإن كان متعة فإن البكر لا يجوز تزويجها متعة ، فالنكاح باطل على التقديرين ، وهو ظاهر في أن هذه الفتوى إنما خرجت مخرج التقية

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٥٥ ح ٢٦ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٥٩ ح ١١.

٢٢٩

في كلا الموضعين ، فيجب حمل ما دل عليه الصحيحان المذكوران على التقية أيضا ، وكيف كان فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال ، والاحتياط لا يخفى على كل حال

الخامس : القول بثبوت الولاية لها في الدائم دون المنقطع ، وهو القول المجهول القائل.

والظاهر أن الوجه في ثبوت الولاية لها في الدائم هو أخبار القول الثاني بحملها على الدائم دون المنقطع ، وسلب الولاية عنها في المنقطع وهو صحيحتا أبي مريم (١) والبزنطي (٢) المتقدمتان وهو قول ضعيف مرغوب عنه لما عرفت في أخبار القول الثاني من عدم الدلالة ، ورجوع أكثرها إلى أخبار القول الأول ، ومع الإغماض عن ذلك وتسليم العمل بها فتخصيصها بالدائم بعد ما عرفت من الكلام في الصحيحتين المذكورتين ، ومعارضتهما بعموم الروايات المتقدمة في أدلة القول الأول ، وخصوص هذه الروايات الثلاثة المذكورة هنا وما حملا عليه لذلك محل إشكال.

وكيف كان فالاحتياط في أصل المسألة المذكورة بالرضا من الطرفين والإجازة من الجانبين مما لا ينبغي إهماله ، لما تكاثر في الأخبار من تشديد الأمر في الاحتياط في الفروج ، وأن منها يكون التناسل إلى يوم القيامة ، والله العالم بحقائق أحكامه ونوابه القائمون بمعالم حلاله وحرامه ، صلوات الله عليهم أجمعين.

تنبيهات

الأول : المفهوم من كلام أكثر الأصحاب فرض هذه المسألة في الأب والجد مع البكر ، والخلاف في أنهما متى كانا متصفين بشرائط الولاية ، فهل الولاية

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٥٤ ح ٢٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٥٩ ح ١٢.

(٢) قرب الاسناد ص ١٥٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٥٨ ح ٥.

٢٣٠

لهما أو لها؟ والأخبار التي وردت في هذا المقام أكثرها كما قدمنا ذكره إنما اشتملت على الأب خاصة ، وأن موضوع المسألة إنما هو الخلاف بينها وبينه دون الجد ، ولهذا ذهب بعضهم كما هو القول السادس في المسألة إلى الجمع بين أخبار المسألة (١) بتخصيص الحكم بالأب وقوفا على مورد هذه الاخبار ، وحمل أخبار ولايتها على ما عدا الأب ، فعلى هذا يكون أولى من الجد.

والمحقق في الشرائع فرض المسألة كما هو المشهور في الأب والجد ، وفي النافع خصها بالأب ، لأنه في هذا الكتاب كثيرا ما يدور مدار الأخبار وهو ظاهر السيد السند السيد محمد (قدس‌سره) في شرح الكتاب (٢) أيضا ، وبعض متأخري المتأخرين تكلف لا لإدخال الجد في هذا المقام بحمل قولهم عليهم‌السلام في تلك الأخبار «بين أبويها» على أن المراد الأب والجد ، فإن الجد أب شرعا.

أقول : قوله ـ يمكن أيضا حمل الأب في هذه الأخبار على ما هو أعم من الأب والجد لأنه قد ثبت بالآيات والروايات كون الجد أبا ـ لا يخلو من بعد إلا أنه في مقام الجمع والتأويل ليس ببعيد لأنه قد ثبت بالأخبار الواردة في اختلاف الأب والجد أن ولاية الجد أقوى ، وهي كما تدل على كون الجد وليا كالأب ، تدل

__________________

(١) وملخص ذلك أن الاخبار انما تعارضت في الأب خاصة بمعنى أنه هل الولاية له أولها؟ وذلك لان أخبار أولويتها دلت على أنها هي الاولى ، وأخبار أولويته دلت على أنه هو الأولى ، فينبغي أن يقيد أخبار أولويتها بما عدا الأب ، بمعنى أنها هي الاولى من كل أحد إلا الأب ، وفيه أن ما كان صريحا في ثبوت ولايتها مثل رواية سعدان الدالة على نفى البأس عن تزويجها بغير إذن أبيها لا يقبل هذا الحمل ، وما لم يكن صريحا كما عرفت فإنه يمكن حمله على الاخبار الدالة على القول الأول كما أوضحناه في الكتاب ، وبالجملة فهو قول ضعيف مرغوب عنه ، والله العالم. (منه ـ رحمه‌الله ـ).

(٢) حيث قال : أجمع الأصحاب على جواز انفراد البالغ الرشيدة بالعقد إذا لم يكن لها أب أو كان ولم يكن بشرائط الولاية ، وانما الخلاف مع وجود الأب الجامع لشرائط الولاية ، وهو ظاهر كما ترى في جعله محل الخلاف في المسألة انما هو الأب مع البكر دون الجد. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٢٣١

على كونه أرجح منه ومقدما عليه ، وحينئذ فإذا انتفت ولايتها مع الأضعف بناء على القول المختار في المسألة فانتفاؤها مع الأقوى بطريق أولى.

على أنه من المحتمل قريبا أن هذه الروايات المصرحة بالأب أو الأبوين إنما خرجت مخرج التمثيل لا الحصر.

ويؤيده ما تقدم في مسألة تزويج الصبي والصبية ، وأنه لا خيار لهما بعد البلوغ فإن مورد أخبارها (١) على كثرتها إنما هو الأب أو الأبوين ولم يذكر الجد في شي‌ء منها مع أنه لا قائل هنا بالانحصار في الأب.

الثاني : الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في أنه لو عضلها الولي سقط اعتبار رضاه ، وجاز لها الاستقلال بالعقد على نفسها ، بل نقل الإجماع على ذلك جملة من الأصحاب ، والعضل في اللغة : المنع ، والمراد هنا منعها من التزويج بالكفو إذا طلبت (٢) ذلك ، وفي معنى العضل الغيبة المنقطعة التي يحصل معها المشقة الشديدة من اعتبار استيذان الولي على ما ذكره الشيخ في الخلاف ، ولا بأس به

ويدل عليه خبر (٣) «لا ضرر ولا ضرار». ورفع الحرج ، وسعة الشريعة

__________________

(١) ونحو ذلك أيضا الأخبار الواردة في من بيده عقدة النكاح وأنه له العفو عن شي‌ء من المهر ، فإنها إنما اشتملت على الأب خاصة مع الوصي والأخ والوكيل ولم يذكر في شي‌ء منها الجد بالكلية مع أنه لا خلاف في كونه وليا له العفو أيضا كالأب بل هو أولى من هؤلاء المذكورين سيما ما عدا الأب ، وليس كذلك الا لما ذكرناه في الأصل ، اما من حيث إطلاق الأب على الجد أو من حيث ان الغرض من العد مجرد التمثيل دون الحصر في من ذكر. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) ثم انه قد صرح غير واحد منهم بأنه لا فرق بين تحقق العضل إذا منع الولي تزويجها من الكفو بين أن يكون النكاح بمهر المثل أم لا : لان المهر حقها فلا اعتراض للأب عليها ، ونحوه فيه ، ولهذا أنه لو أسقطته بعد ثبوته سقط كله فبعضه أولى وحينئذ فليس له أن يعضلها لتحصيل مهر المثل مع رضاها بدونه. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٩٢ ح ٢ ، الوسائل ج ١٧ ص ٣٤١ ح ٣.

٢٣٢

السمحة السهلة ، والظاهر أن ذلك أيضا هو المستند في العضل ، فإني لم أقف على خبر فيه بخصوصه ، والأشهر عند العامة أن المتولي لتزويجها حينئذ هو الحاكم لأن عبارتها عندهم مسلوبة في النكاح مطلقا ومنهم من جوز لها أن تتولى العقد ، واضطرب كلام العلامة هنا في التذكرة ففي بعض المواضع جوز لها الاستقلال ، ونقله عن جميع علمائنا مصرحا بعدم اشتراط مراجعة الحاكم ، وفي آخر اشترط إذنه وإثبات العضل عنده ، وإلا لم يكن لها التزويج وهو قول العامة.

ولو منعها الولي من غير الكفو لم يكن ذلك عضلا ، قال في المسالك : ولو فرض إرادتها زوجها وإرادة الولي غيره قدمت إرادتها عند القائل بأولويتها مطلقا إذا كان كفوا ، وعند من اعتبر ولاية الأب ولو على بعض الوجوه ففي تقديم مختاره نظرا إلى أن رأيه في الأغلب أكمل ، ولأنه الولي على تقديره ، أو مختارها لأنه أقرب لعفتها؟ وجهان : أجودهما الثاني. انتهى.

أقول : لا أعرف لهذه الأجودية ولا لهذه التعليلات الاعتبارية وجها بعد دلالة النصوص على استقلال الأب ، وأنه ليس لها مع أبيها أمر ، وتخصيصها بخروج هذا الفرد منها يحتاج إلى مخصص ، وليس فليس.

وكأنهم جعلوا مورد تلك الروايات ومحل الخلاف في المسألة إنما هو بالنسبة إلى التزويج وعدمه بأن يريد الأب تزويجها وهي غير مريدة للتزويج ، أو بالعكس دون ما إذا أراد أبوها رجلا ، وأرادت هي آخر.

وفيه أن إطلاق الروايات المذكورة شامل للأمرين كما لا يخفى على من تأملها ، وأن قولهم عليهم‌السلام في جملة من تلك الروايات «لا يستأمر البكر إذا كانت بين أبويها» أعم من أن يكون في أصل التزويج بشخصه لا بعينه وإن أرادت هي غيره ، وكذا قولهم «ليس لها مع الأب أمر» شامل لكل من الفردين المذكورين ، لا سيما مع قوله عليه‌السلام في بعضها «ما لم تثب» الدال على حصر المخالفة لأمر أبيها

٢٣٣

في صورة الثيوبة خاصة ، فلو كان فردا آخر كما يقولونه لاستثني أيضا في الخبر ، وكذا قوله عليه‌السلام «إذا أنكحها جاز نكاحه ولو كانت كارهة» ونحو ذلك من الألفاظ التي اشتملت عليها تلك الأخبار ، فإنها ظاهرة في العموم وتخصيصها يحتاج إلى دليل.

الثالث : اتفق الأصحاب على أنه لا ولاية للأب والجد على الذكر البالغ الرشيد ، والمشهور أنه لا ولاية على الثيب البالغة الرشيدة ، خلافا لابن أبي عقيل حيث أثبت ولاية الأب عليها.

والذي يدل على الأول ـ وان كان اتفاقيا ـ جملة من الأخبار.

منها ما رواه الشيخ عن ابن أبي يعفور (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت : إني أريد أن أتزوج امرأة وإن أبوي أرادا أن يزوجاني غيرها ، قال : تزوج التي هويت ، ودع التي هوى أبواك».

وعن زرارة (٢) في الموثق عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قد تقدم قال فيه «أنه أراد أن يتزوج امرأة قال : فكره ذلك أبي فمضيت فتزوجتها» الحديث.

وعن أبان (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا زوج الرجل ابنه كان ذلك إلى ابنه ، وإذا زوج ابنته جاز ذلك». بحمل الابن على البالغ لما تقدم من ثبوت الولاية على الصغير.

وأما الذي يدل على الثاني فجملة وافرة من الأخبار نذكر بعضها روما للاختصار.

منها ما رواه

في الكافي في الصحيح عن الحلبي (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أنه

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٠١ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٩٢ ح ٤٤ الوسائل ج ١٤ ص ٢٢٠ ح ١.

(٢ و ٣) التهذيب ج ٧ ص ٤٦٦ ح ٧٦ وص ٣٩٣ ح ٥٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٢١ ح ٢ و ٣.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٣٩٢ ح ٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٠٢ ح ٤.

٢٣٤

قال في المرأة الثيب تخطب إلى نفسها ، قال : هي أملك بنفسها تولي أمرها من شاءت إذا كان كفوا بعد أن تكون قد نكحت رجلا قبله».

ورواه في الفقيه عن عبد الحميد بن عواض عن عبد الخالق (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله ، وفي هذا الخبر ونحوه مما دل على اشتراط نكاح رجل قبله إشارة إلى كون الثيبوبة غير موجبة للاستقلال بالولاية إلا أن تكون عن نكاح كما تقدمت الإشارة إليه.

وما رواه الشيخ عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن الثيب تخطب إلى نفسها؟ قال : نعم هي أملك بنفسها تولي أمرها من شاءت إذا كانت قد تزوجت زوجا قبله». إلى غير ذلك من الأخبار التي تقدمت جملة منها في المسألة ، ولم أقف لما نقل عن أبي عقيل على دليل إلا أنه في المسالك نسبه إلى الاستناد إلى رواية عامة عامية ، قال : ورواياتنا خاصة خاصية ، وهي مقدمة عند التعارض. انتهى.

أقول : لا يخفى أنه لا تعارض هنا بالكلية إذ هذه الرواية عندنا في حكم العدم ، وكأنهم (رضوان الله عليهم) يراعون في مثل هذه العبارات التقية حيث إنهم في بلدان المخالفين ، ومع هذا قد وقع عليه وعلى الشهيد الأول (طيب الله مرقديهما) ما وقع من القتل.

الرابع : لا خلاف في ثبوت ولايتهما على المجنون من الأولاد ذكرا كان أو أنثى بكرا كانت أو ثيبا ، هذا مع استمرار الجنون من الصغر إلى ما بعد البلوغ ، أما لو طرء بعد البلوغ والرشد فالمشهور في كلامهم انقطاع ولايتهما لزوالها بالبلوغ والرشد ، فموردها يتوقف على دليل.

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٥١ ح ٦ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٠١ ح ٢.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣٨٤ ح ٢١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٠٤ ح ١٢.

٢٣٥

وقيل بثبوتها أيضا عملا بإطلاق النص بثبوت ولايتهما عليه ، ولم أقف على نص يدل على ما ذكروه ، بل الظاهر من النصوص إنما هو القول الأول.

ومنها قوله عليه‌السلام في رواية هشام بن سالم (١) «وان احتلم ولم يؤنس منه رشد وكان سفيها أو ضعيفا فليمسك عنه وليه ماله».

ونحوه ما رواه في الفقيه (٢) عن الصادق عليه‌السلام «أنه سئل عن قول الله تعالى (٣) (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) ، قال : إيناس الرشد حفظ المال».

ونقل في كتاب مجمع البيان (٤) عن الباقر عليه‌السلام تفسيره بالعقل وإصلاح المال ، والمفهوم من ذلك هو اتصال الجنون أو السفه بعد البلوغ بالصغر ، فالولاية عليه إنما ثبتت في هذه الصورة خاصة ، وهذه الأخبار وإن كان موردها ولاية المال إلا أنه لا فرق بين المال والنكاح في ذلك ، ولا قائل بالفرق فيما أعلم.

وظاهر النصوص الاتحاد ، مثل قول الصادق عليه‌السلام في صحيحة عبد الله بن سنان (٥) «(الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) هو ولي أمرها». يعني المتولي لأمرها في المال بيعا وشراء ، ونحوها غيرها.

وقد تقدم شطر من الكلام في هذه المسألة في كتاب التجارة في المسألة الخامسة من المقام الثاني من مقامات الفصل الأول في البيع وأركانه (٦) ومتى ثبت عدم ولايتهما في هذه الصورة ، فالولاية للحاكم حينئذ ، وحيث ثبت الولاية على المجنون فلا خيار له بعد الإفاقة ، ونقل عليه في المسالك الإجماع ، والله العالم.

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٦٨ ح ٢ ، الفقيه ج ٤ ص ١٦٣ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٣٠ ح ٩.

(٢) الفقيه ج ٤ ص ١٦٤ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٤٣ ح ٤.

(٣) سورة النساء ـ آية ٥.

(٤) ج ٢ ص ٩ طبع صيدا.

(٥) التهذيب ج ٧ ص ٣٩٨ ح ٤٦ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢١٢ ح ٢.

(٦) ج ١٨ ص ٣٧٦.

٢٣٦

المسألة الثالثة : لا خلاف بين الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) في أن من جملة الأولياء المولى والحاكم ، وأما الوصي فالأظهر أنه كذلك ، فالكلام هنا يقع في مقامات ثلاثة :

الأول : المولى ، فأن له أن يزوج مملوكته صغيرة كانت أو كبيرة ، عاقلة أو مجنونة ، ولا خيار لها معه ، وكذا الحكم في العبد ، ولا يجوز ذلك بغير إذنه : ونقل على ذلك الإجماع غير واحد منهم.

والوجه في ذلك أن منافع المملوك مملوكة للمولى (١) «والناس مسلطون على أموالهم». فله نقله إلى من شاء ، ولا فرق في ذلك بين تولي المولى عن المملوك الصيغة أو إجباره بها ، ولا يقدح الإكراه هنا لأنه بحق.

ولو تحرر بعض العبد والأمة امتنع الإجبار لعدم ملكية البعض فلا يتسلط عليه المولى.

الثاني : الحاكم ، والمراد به أصالة الإمام العادل : ومع تعذره فالمأذون من جهته عموما أو خصوصا ، والفقيه الجامع للشرائط مع تعذرهما ، ونائبه في حكمه ، وثبت ولايته على من تجدد جنونه أو سفهه بعد البلوغ من غير إشكال عندهم ولا خلاف ، وتنتفي عن الصغير مطلقا عند الأصحاب ، وعللوه بأنه لا حاجة له إلى النكاح بخلاف البالغ الفاسد العقل ، والأصل عدم ثبوت ولايته فيه وتنظر في ذلك في المسالك ولم يبين وجه النظر ، وقال سبطه السيد السند في شرح النافع ـ بعد أن نقل عبارة المصنف الدالة على أنه ليس للحاكم ولاية إلا على من بلغ فاسد العقل ما لفظه ـ : وهذا التفصيل أعني اختصاص ولايته بمن بلغ فاسد العقل هو المعروف من مذهب الأصحاب ولم نقف لهم في هذا التفصيل على مستند ، والحق أنه إن اعتبرت الإطلاقات والعمومات المتضمنة لثبوت ولاية الحاكم وجب القول بثبوت ولايته في النكاح على الصغير والمجنون مطلقا كما في ولاية المال ، وإلا

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٢ ح ٧.

٢٣٧

وجب نفيها كذلك ، أما التفصيل فلا وجه له ولعلهم نظروا في ذلك إلى أن الصغير لا حاجة له إلى النكاح بخلاف من بلغ فاسد العقل ، وهو غير واضح ، فإن حاجة الكبير وإن كانت أوضح لكنها ليست منتفية في حق الصغير خصوصا الأنثى ، والمسألة محل إشكال ، وللنظر فيها مجال. انتهى.

أقول : مما يدل على عدم ولاية الحاكم في النكاح على الصغيرة ما تقدم في الموضع الثالث من التنبيهات التي في المسألة الأولى من قوله عليه‌السلام في صحيحة محمد بن مسلم (١) «في الصبي يتزوج الصبية يتوارثان؟ قال : إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما ، فنعم».

ونحوها صحيحة عبيد بن زرارة (٢) ، وصحيحة محمد بن مسلم الثانية (٣) وفيها «الصبي يتزوج الصبية؟ قال : إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما ، فنعم جائز».

فإنها دالة بمفهوم الشرط الذي هو حجة عند محققي الأصوليين وعندنا للأخبار الدالة عليه كما تقدمت في مقدمات الكتاب ، على أنه إذا لم يكن أبواهما اللذان زوجاهما فلا توارث لبطلان النكاح وأنه غير جائز ، كما دلت عليه صحيحة محمد بن مسلم الثانية ، وهي شاملة بعمومها للحاكم وغيره ، وهو أظهر ظاهر في رد ما ذكره.

وما ادعاه من الحاجة إلى النكاح في الصغير أيضا خصوصا الأنثى لا أعرف له وجها ، فإن هذه الحاجة إنما هي باعتبار كسر الشهوة الحيوانية ، وهي في الصغيرة والصغير معدومة.

وأما ما ذكره من أنه إن اعتبرت الإطلاقات والعمومات المتضمنة لثبوت ولاية الحاكم. إلى آخره ، فيه إني لم أقف بعد التتبع للأخبار على شي‌ء

__________________

(١ و ٢ و ٣) التهذيب ج ٧ ص ٣٨٨ ح ٣٢ وج ٩ ص ٣٨٢ ح ١ وج ٧ ص ٣٨٢ ح ١٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٢٠ ب ١٢ وج ١٥ ص ٣٢٦ ح ٢ وج ١٤ ص ٢٠٨ ح ٨.

٢٣٨

من هذه العمومات والإطلاقات لا في النكاح ، ولا في المال ، وإن كان ذلك مشهورا في كلامهم ، ومسلما بينهم ومتداولا على رؤوس أقلامهم.

ونقل في المسالك خبرا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) «أنه قال : السلطان ولي من لا ولي له».

وهذا الخبر لم نقف عليه في أخبارنا ، والظاهر أنه عامي ، ومع تسليمه فالحكم مختص بالإمام ، إذ المتبادر من السلطان هو إمام الأصل كما لا يخفى ، وليس هنا مما ربما يتوهم منه ذلك ، إلا الروايات الدالة على الترافع إلى الحاكم الشرعي ، كمقبولة عمر بن حنظلة (٢) ونحوها ، وغاية ما تدل عليه الترافع إليه في الحكم والفتوى ، وأنه منصوب من قبلهم عليهم‌السلام لذلك لا بالنسبة إلى الولاية على مال يتيم أو نكاح بالغ غير رشيد ، أو من تجدد له الجنون أو السفه بعد البلوغ أو نحو ذلك ، فإنه لا أثر لشي‌ء من ذلك في الأخبار وإنما ذلك في كلامهم.

وبالجملة فإن عد الحاكم الشرعي في جملة الأولياء كما ذكروا وإن كان مسلما بينهم ومتفقا عليه عندهم ، إلا أنه خال عن الدليل من الأخبار ، نعم يمكن تخصيص ذلك بالإمام عليه‌السلام من حيث الولاية العامة ، وأنه أولى بالناس من أنفسهم.

وأما من بلغ سفيها فظاهر كلام أكثرهم أن حكمه حكم من تجدد سفهه في أن الولاية فيه للحاكم وهو على إطلاقه لا يخلو من الاشكال.

والأنسب بقواعدهم هو التفصيل بأن يقال : إن من بلغ فاسد العقل لا يخلو إما أن يكون الأب والجد موجودا أم لا؟ فإن كان أحدهما موجودا فإن الأظهر أن الولاية له ، لأن ولايته متحققة قبل البلوغ اتفاقا ، ولا مانع من استصحابها في الصورة المذكورة بخلاف ما لو تجدد السفه أو الجنون بعد البلوغ حيث إن

__________________

(١) الترمذي كتاب النكاح الباب ١٥ ، وأبى داود كتاب النكاح الباب ١٦.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٤١٢ ح ٥ ، الوسائل ج ١٨ ص ٣ ح ٤.

٢٣٩

ولايته زالت بالبلوغ عاقلا فرجوعها يحتاج إلى دليل ، وإن لم يكن أحدهما موجودا فيمكن القول بكونها للحاكم حينئذ.

ولكن ظاهر كلامهم هو الحكم بالولاية للحاكم مطلقا سواء كان أحدهما موجودا أم لا؟ وتخصيص ولاية الأب أو الجد بحال الصغر خاصة.

وبالجملة فالأظهر بالنظر إلى قواعدهم هو التفصيل في أنه مع وجود الأب أو الجد ، فإن بلغ فاسد العقل فالولاية لهما ، وإن تجدد السفه أو الجنون بعد البلوغ فالولاية للحاكم ، وإلى ذلك يميل كلامه في المسالك (١).

ولا خلاف بينهم أيضا في انتفاء ولاية الحاكم على البالغ الرشيد ذكرا كان أو أنثى ، وتدخل في هذا الحكم البكر البالغة الرشيدة فإنه لا ولاية للحاكم عليها ، ولو قلنا بالولاية للأب والجد مع وجودهما ، فإنه مع عدمهما تستقل بالولاية ، وليس للحاكم الشرعي عليها ولاية في هذه الحال أيضا كما نبهوا عليه في مسألة العضل وقد تقدم : والحكم لا خلاف فيه ولا إشكال.

الثالث : اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ولاية الوصي من الأب أو الجد على تزويج الصغيرة ، فقيل بولايته مطلقا ، وقيل بالعدم مطلقا ، وقيل إنما تثبت مع نص الموصي على ذلك ، وقيل إنما تثبت على من بلغ فاسد العقل خاصة إذا كان به ضرورة إلى النكاح.

أقول : القولان الأولان للشيخ في المبسوط فإنه قال في فصل ما يجوز للوصي أن يصنعه في أموال اليتامى في الكتاب المذكور : لا تستفاد ولاية النكاح بالوصية لأصالة العدم ، وللتهمة ، وجزم في موضع آخر كما نقله عنه في المختلف ، وغيره في غيره بأن للوصي ولاية النكاح على الصغيرة.

__________________

(١) حيث قال : والتسوية بينهما في التفصيل باتصال السفه ، وتجدده ، فيكون الولاية في الأول للأب والجد ، وفي الثاني للحاكم مطلقا وسيأتي في كلام المصنف ما يدل على أن الولاية على السفيه مطلقا للحاكم ، حيث جعل الاذن في تزويجه اليه من غير قيد. انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٢٤٠