الحدائق الناضرة - ج ٧

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٦

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المقدمة الخامسة في لباس المصلى

وفيه مطالب (الأول) ـ في ما يجب ستره وما يتعلق به من الأحكام في المقام وفيه مسائل :

(الأولى) ـ أجمع العلماء كافة على وجوب ستر العورة في الصلاة ، ويدل عليه مضافا الى الإجماع المذكور جملة من الاخبار تصريحا في بعض وتلويحا في آخر :

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن الرجل قطع عليه أو غرق متاعه فبقي عريانا وحضرت الصلاة كيف يصلي؟ قال ان أصاب حشيشا يستر به عورته أتم صلاته بالركوع والسجود وان لم يصب شيئا يستر به عورته أومأ وهو قائم».

وما رواه في الكافي في الصحيح عن زرارة (٢) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) رجل خرج من سفينة عريانا أو سلب ثيابه ولم يجد شيئا يصلي فيه؟ فقال يصلي إيماء فإن كانت امرأة جعلت يدها على فرجها وان كان رجلا وضع يده على سوأته ثم يجلسان

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٥٠ من لباس المصلي.

٢

فيومئان إيماء ولا يسجدان ولا يركعان فيبدو ما خلفهما ، تكون صلاتهما إيماء برءوسهما. الحديث». ونحوهما من أحاديث العراة واخبار صلاتهم جماعة وان الامام يجلس وسط الصف ويتقدم بركبتيه.

والتقريب فيها انه لو لم يكن الستر واجبا فيها وشرطا في صحتها لما سقط لأجل فقده جملة من أركان الصلاة المتفق نصا وفتوى بل ضرورة من الدين على وجوبها في الصلاة وهي القيام والركوع والسجود كما عرفت من الخبر المذكور وأمثاله.

وبالجملة فإنه لا اشكال ولا خلاف في الحكم المذكور وانما الخلاف هنا وقع في مقامين آخرين :

(أحدهما) ـ انه هل الستر شرط مع الذكر خاصة أو مطلقا؟ صرح جمع من الأصحاب (رضوان الله عليهم) : منهم ـ المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى بالأول ، قال في المعتبر : لو انكشفت العورة ولم يعلم سترها ولم تبطل صلاته تطاولت المدة قبل علمه أو لم تطل كثيرا كان المنكشف أو قليلا ، لسقوط التكليف مع عدم العلم. انتهى. وقال في المنتهى. لو انكشفت عورته في أثناء الصلاة ولم ، يعلم صحت صلاته لانه مع عدم العلم غير مكلف. والى ذلك مال السيد السند في المدارك ، وهو الظاهر لما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (١) «في الرجل يصلي وفرجه خارج لا يعلم به هل عليه اعادة؟ قال لا اعادة عليه وقد تمت صلاته». ورواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب محمد بن علي بن محبوب (٢).

وقال ابن الجنيد على ما نقله عنه في المختلف : لو صلى وعورتاه مكشوفتان غير عامد أعاد ما كان في الوقت فقط. ونقل عنه الاحتجاج بما حاصله ان الستر شرط للصحة وقد انتفى فوجبت الإعادة لعدم حصول الامتثال ، واما القضاء فغير واجب لأنه بأمر جديد ولم يثبت. واعترض عليه بان الستر شرط للصحة مع التذكر لا مطلقا. وهو

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ـ ٢٧ من لباس المصلي.

٣

جيد للصحيحة المتقدمة إذ مفهومها ذلك ولولاها لكان قوله جيدا لان الخطاب في الوقت متوجه حتى يأتي بصلاة مستكملة الشروط والقضاء يحتاج إلى أمر جديد.

ونقل عن الشيخ في المبسوط انه قال فان انكشفت عورتاه في الصلاة وجب سترهما عليه ولا تبطل صلاته سواء كان ما انكشف عنه قليلا أو كثيرا بعضه أو كله. وكلام الشيخ هنا مطلق ، وقد اختلف كلام العلامة في التذكرة والمختلف في المراد منه فحمله في الأول على إطلاقه وشموله صورة العلم والعمد وحمله في المختلف على الانكشاف بدون العلم والعمد ، وهو الأقرب المنساق الى الذهن منها.

وقال شيخنا الشهيد في الذكرى ـ بعد نقل عبارات الشيخ في المبسوط وابن الجنيد والمحقق في المعتبر وذكر رواية على بن جعفر المتقدمة ونقل احتجاج العلامة في المختلف لابن الجنيد وجوابه عنه ـ ما هذا لفظه : وكلام الشيخ والمحقق ليس فيهما تصريح بأن الإخلال بالستر غير مبطل مع النسيان على الإطلاق لأنه يتضمن ان الستر حصل في بعض الصلاة فلو انتفى في جميع الصلاة لم يتعرضا له بخلاف كلام ابن الجنيد فإنه صريح في الأمرين ، والرواية تضمنت الفرج وجاز كونه للجنس فيشمل الفرجين وللوحدة ، فإن كان للجنس ففيه مخالفة في الظاهر لكلام ابن الجنيد وان كان للوحدة ففيه موافقة في الظاهر لكلام الجماعة ، وليس بين الصحة مع عدم الستر بالكلية وبينها مع عدمه بعض الاعتبارات تلازم بل جاز ان يكون المقتضى للبطلان انكشاف جميع العورة في جميع الصلاة فلا يحصل البطلان بدونه وجاز ان يكون المقتضي للصحة ستر جميعها في جميعها فتبطل بدونه. واما تخصيص ابن الجنيد بالإعادة في الوقت فوجهه ان القضاء انما يجب بأمر جديد ولم يوجد هنا. ولقائل أن يقول إذا كان الستر شرطا على الإطلاق فهو كالطهارة التي لا يفترق الحال فيها بين الوقت وخارجه. ولو قيل بأن المصلي عاريا مع التمكن من الساتر يعيد مطلقا والمصلي مستورا ويعرض له التكشف في الأثناء بغير قصد لا يعيد مطلقا كان قويا ، نعم يجب عليه عند التذكر الستر قطعا فلو أخل به بطلت

٤

حينئذ لا قبله. انتهى. وبمثل ما اختاره هنا صرح في الدروس والبيان.

وكلامه في الذكرى يحتمل أمرين (أحدهما) الفرق بين الانكشاف في جميع الصلاة وبين الانكشاف في البعض. و (ثانيهما) ـ الفرق بين النسيان ابتداء والتكشف في الأثناء. والمعنى الثاني هو الذي فهمه صاحب المدارك فقال : واستقرب الشهيد في الذكرى والبيان الفرق بين نسيان الستر ابتداء وعروض التكشف في الأثناء والصحة في الثاني دون الأول. وهو حسن. انتهى وهو ظاهر عبارة البيان حيث قال : لو تعمد كشف العورة بطلت صلاته ولو نسي فالأقرب ذلك ، ولو انكشفت في الأثناء من غير قصد ولما يعلم صحت وان علم استتر. وقيل تبطل لان الشرط قد فات والوجه عدمه. ونحو ذلك عبارته في الدروس. ورجح بعض الأصحاب حمل كلامه على المعنى الأول استنادا الى قوله كما قدمنا : وليس بين الصحة مع عدم الستر بالكلية. إلى آخر العبارة. والحق ان هذا كلام في البين للرد على كلام من ذكره.

وبالجملة فقد تلخص مما ذكرنا من كلامهم (رضوان الله عليهم) انه لا خلاف ولا إشكال في شرطية الستر مع الإمكان والذكر فلو أخل به والحال كذلك ولو لحظة في أثناء صلاته بطلت ، وانما الخلاف في وقوع ذلك سهوا فظاهر كلام الأكثر انه غير مبطل وقع في جميع الصلاة أو بعضها لما عللوه به من سقوط التكليف مع عدم العلم كما ذكره في المعتبر ونحوه عبارة المنتهى. وما ذكره في الذكرى من ان المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى لم يتعرضا الى الانكشاف في جميع الصلاة مردود بان ذلك وان ظهر من عبارتيهما إلا ان التعليل مؤذن بالعموم. وصحيحة علي بن جعفر التي هي الأصل في هذا الحكم مطلقة في الانكشاف أعم من ان يكون في جميع الصلاة أو بعضها لإطلاق الجواب من غير استفصال وهو قرينة العموم في المقال كما ذكروه في أمثال هذا المجال ، فالاحتجاج بها على القول المذكور متجه سواء حمل الفرج فيها على الجنس أو الوحدة ، وحينئذ فما ذكره شيخنا الشهيد من التفصيل ـ وان تبعه فيه صاحب المدارك كما عرفت ـ

٥

لا اعرف له وجها. واما ما ذهب اليه ابن الجنيد فقد عرفت ما فيه. واما كلام الشيخ في المبسوط فهو موافق لما ذكرنا ايضا بناء على ما فسرناه به. والله العالم.

و (ثانيهما) ـ في العورة التي يجب سترها في الصلاة وعن الناظر المحترم وانها عبارة عما ذا؟ والأشهر الأظهر انها عبارة عن القبل والدبر ، والمراد بالقبل الذكر والبيضتان وبالدبر حلقة الدبر التي هي نفس المخرج. ونقل عن ابن البراج انها ما بين السرة والركبة وجعله المرتضى رواية كما نقله في المنتهى. وعن ابي الصلاح انه جعلها من السرة الى نصف الساق مع ان المحقق في المعتبر نقل الإجماع على ان الركبة ليست من العورة.

ويدل على القول المشهور أخبار عديدة : منها ـ رواية أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابه عن ابي الحسن الماضي (عليه‌السلام) (١) قال : «العورة عورتان : القبل والدبر والدبر مستور بالآلتين فإذا سترت القضيب والبيضتين فقد سترت العورة».

ورواية الميثمي عن محمد بن حكيم (٢) قال : «لا أعلمه إلا قال رأيت أبا عبد الله (عليه‌السلام) أو من رآه متجردا وعلى عورته ثوب فقال ان الفخذ ليست من العورة».

وفيه دلالة صريحة على خلاف القولين المتقدمين. وربما أمكن الاستدلال لما ذهب اليه ابن البراج برواية بشير النبال (٣) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن الحمام قال تريد الحمام؟ قلت نعم. فأمر بإسخان الحمام ثم دخل فاتزر بإزار وغطى ركبتيه وسرته ثم أمر صاحب الحمام فطلى جسده ما كان خارجا من الإزار ثم قال اخرج عني ثم طلى هو ما تحته بيده ، ثم قال هكذا فافعل».

وفيه انه قد روى مثل هذه الحكاية في الفقيه عنه (عليه‌السلام) (٤) وفيها «انه كان يطلي عانته وما يليها ثم يلف إزاره على طرف إحليله ويدعو قيم الحمام فيطلي

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل الباب ـ ٤ من آداب الحمام.

(٣) الوسائل الباب ٥ و ٣١ من آداب الحمام.

(٤) الوسائل الباب ١ و ١٨ من آداب الحمام.

٦

سائر بدنه». وبالجملة فالرواية المذكورة ليس فيها تصريح بكون ما لف عليه الإزار عورة ليمكن الاستدلال به ، وفعله (عليه‌السلام) لا يدل على ذلك لإمكان حمله على استحباب ستر هذا الموضع.

نعم روى في كتاب قرب الاسناد عن الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (١) انه قال : «إذا زوج الرجل أمته فلا ينظرن الى عورتها والعورة ما بين السرة إلى الركبة». وهو صريح في ذلك ، ولعل هذه الرواية هي التي أشار إليها المرتضى في ما تقدم من نسبته هذا القول إلى الرواية ، والأظهر حملها على التقية فإن القول بذلك نسبه في المنتهى الى مالك والشافعي واحمد في إحدى الروايتين وأصحاب الرأي وأكثر الفقهاء (٢) ويعضده ان الراوي وهو الحسين بن علوان عامي. هذا بالنسبة الى الرجل.

واما المرأة فالمشهور في كلام الأصحاب ان بدن المرأة الحرة جميعه عورة عدا الوجه والكفين والقدمين ، ونقل في المختلف والذكرى عن ابن الجنيد انه ساوى بين الرجل والمرأة في أن العورة انما هي القبل والدبر ، وظاهر الشيخ في الاقتصاد وابي الصلاح وابن زهرة أن بدن المرأة كله عورة. قال في الاقتصاد : فأما المرأة الحرة فإن جميعها عورة يجب عليها ستره في الصلاة ولا تكشف عن غير الوجه فقط. وهذا يقتضي منع كشف غير الوجه من الكفين والقدمين باطنا وظاهرا. وقال أبو الصلاح المرأة كلها عورة وأقل ما يجزئ الحرة البالغة درع سابغ الى القدمين وخمار. وهو يرجع الى ما ذكره في الاقتصاد. وقال ابن زهرة : والعورة الواجب سترها من النساء جميع أبدانهن إلا رؤوس المماليك منهن. وقال ابن الجنيد : الذي يجب ستره من البدن العورتان وهما القبل والدبر من الرجل وللمرأة. وقال ايضا لا بأس ان تصلي المرأة الحرة وغيرها وهي مكشوفة الرأس حيث لا يراها غير ذي محرم لها وكذلك الرواية عن

__________________

(١) الوسائل الباب ٤٤ من نكاح العبيد والإماء.

(٢) المغني ١ ج ص ٥٧٨.

٧

أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) انتهى.

واحتج العلامة في المختلف على وجوب ستر البدن للحرة بما رواه زرارة في الصحيح (٢) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن ادنى ما تصلي فيه المرأة قال درع وملحفة فتنشرها على رأسها وتجلل بها».

وكذا استدل بها في المنتهى وزاد التعليل بان النظر الى كل جزء منها متعلق الشهوة فأشبه العورة. وعلى استثناء هذه الثلاثة بان الوجه لا يجب ستره بإجماع علماء الإسلام ادعى ذلك في المنتهى والمختلف ، قال وكذا الكفان عندنا. وظاهره دعوى الإجماع عندنا على ذلك ، وعلل ذلك بأنهما ليستا من العورة إذ الغالب كشفهما دائما إذ الحاجة داعية الى ذلك للأخذ والعطاء وقضاء المهام وكذا الرجلان بل كشفهما أغلب في العادة. ثم احتج بما رواه محمد بن مسلم في الصحيح عن الباقر (عليه‌السلام) (٣) قال : «والمرأة تصلي في الدرع والمقنعة». قال والدرع هو القميص والمقنعة تزاد للرأس ، والظاهر ان القميص لا يستر القدمين. انتهى.

وفي المدارك بعد ان استدل بصحيحة محمد بن مسلم المتقدمة قال : وهذه الرواية كما تدل على وجوب ستر الرأس والجسد تدل على استثناء الوجه والكفين والقدمين لانه (عليه‌السلام) اجتزأ بالدرع وهو القميص والمقنعة وهي للرأس فدل على ان ما عدا ذلك غير واجب والدرع لا يستر اليدين ولا القدمين بل ولا العقبين غالبا. انتهى.

أقول : التحقيق عندي في هذا المقام على ما يظهر من اخبارهم (عليهم‌السلام) ان الوجه لا إشكال في استثنائه لا لما ذكروه بل لما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة (٤) قال : «سألته عن المرأة تصلي متنقبة قال إذا كشفت عن موضع السجود فلا بأس وان أسفرت فهو أفضل».

واما استثناء الكفين والقدمين فلا يخلو من غموض بل ربما كان الظاهر منها

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٩ من لباس المصلي.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٢٨ من لباس المصلي.

(٤) الوسائل الباب ٣٣ من لباس المصلى.

٨

العدم ، وذلك لان مبنى استدلالهم بصحيحة محمد بن مسلم المذكورة على ان الظاهر ان القميص لا يستر ذلك عادة ، وهذا انما يتم لو علم ان ثياب النساء في وقت خروج هذه الاخبار في تلك الديار كانت على ما يدعونه ، ولم لا يجوز ان دروعهن كانت مفضية إلى ستر أيديهن وأقدامهن كما هو المشاهد الآن في نساء أعراب الحجاز بل أكثر بلدان العرب؟ فإنهم يجعلون القميص واسعة الأكمام مع طول زائد فيها بحيث تكون طويلة الذيل تجر على الأرض ، ومن القريب كون ذلك جاريا على الزمان القديم في تلك البلدان فجرت الاخلاف على ما جرت عليه الاسلاف ، ويعضد ذلك ما رواه في الكافي في الموثق عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) «في الرجل يجر ثوبه؟ قال اني لأكره أن يتشبه بالنساء». فان مورد الخبر بالنسبة إلى استحباب تشمير الثياب للرجل وظاهره كما ترى بل صريحه ان النساء يومئذ على خلاف ذلك وانهن يجررنه على الأرض ، وبذلك يظهر لك ما في استدلالهم بصحيحة محمد بن مسلم المذكورة التي هي عمدة أدلتهم المتقدمة وليس بعدها إلا تلك التعليلات العليلة التي لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية.

واما ما عدا هذه الرواية من اخبار الباب فإنه لا يأبى الانطباق على ما ذكره القائلون بشمول وجوب الستر لهذين الموضعين :

فمن الأخبار صحيحة زرارة المتقدمة الدالة على ادنى ما تصح صلاة المرأة فيه وانه درع وملحفة تنشرها على رأسها وتجلل بها ، والملحفة عبارة عن ثوب واسع سابغ شامل للبدن يلبس على الثياب ، وحينئذ فالملحفة المذكورة ان تجللت بها يعني نشرتها على رأسها وعلى جميع بدنها وضمتها على بدنها كما توضحه الأخبار الآتية حصل بذلك ستر الكفين والقدمين. هذا مضافا الى ما عرفت من حصول الستر بالدرع لما عرفت مما هو عليه من السعة طولا وعرضا.

ومنها ـ صحيحة علي بن جعفر المروية في الفقيه (٢) «انه سأل أخاه موسى

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٣ من أحكام الملابس.

(٢) الوسائل الباب ٢٨ من لباس المصلى.

٩

(عليه‌السلام) عن المرأة ليس عليها إلا ملحفة واحدة كيف تصلي؟ قال تلتف بها وتغطي رأسها وتصلي فإن خرجت رجلها وليست تقدر على غير ذلك فلا بأس». والتقريب ما تقدم ، وفي قوله : «فان خرجت رجلها» ما يدل على كون الملحفة شاملة في الغالب للرجلين الى آخرهما ، وانما نفى البأس هنا مع خروج الرجلين من حيث الضرورة بعدم وجود ساتر غيرها وهو مؤذن بحصول البأس مع إمكان غيرها ، وفيه إيماء إلى وجوب ستر القدمين مع الإمكان.

ومنها ـ ما رواه في الصحيح ـ ولكنه مختلف فيه ـ الى المعلى بن خنيس عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن المرأة تصلي في درع وملحفة ليس عليها إزار ولا مقنعة؟ قال لا بأس إذا التفت بها فان لم تكن تكفيها عرضا جعلتها طولا». والظاهر من قوله «فان لم تكن تكفيها عرضا» يعني لأجل الوصول الى القدمين وسترهما استظهارا إذا لم يسترهما الدرع وإلا فستر الرأس حاصل بها البتة.

ومنها ـ ما رواه في الكافي في الموثق عن عبد الله بن ابي يعفور (٢) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) تصلي المرأة في ثلاثة أثواب إزار ودرع وخمار ولا يضرها ان تتقنع بالخمار ، فان لم تجد فثوبين تتزر بأحدهما وتقنع بالآخر. قلت فان كان درع وملحفة ليس عليها مقنعة؟ قال لا بأس إذا تقنعت بالملحفة فان لم تكفها فتلبسها طولا».

أقول : يحتمل ان يكون المراد بالإزار هنا ثوبا شاملا للبدن من شقة واحدة كما ورد في اجزاء الكفن. والأصحاب حملوا الثلاثة هنا على الاستحباب لحصول الستر هنا بالدرع والخمار ولا بأس به. ويمكن حمله على الاستظهار في ستر القدمين والكفين ايضا بناء على ما قلناه. واما قوله : «ولا يضرها ان تتقنع بالخمار» فالظاهر ان المراد به انه لو لم يكن ثمة إزار فإنها تختمر بأحد طرفي الخمار وتتقنع بالطرف الآخر الطويل منه لان الظاهر من الأخبار انه يستحب لها بعد تخمير الرأس وتغطيته القناع فوقه كما

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٢٨ من لباس المصلى.

١٠

يستحب للرجل بعد تغطية الرأس بالقلنسوة ونحوها العمامة. ثم ذكر (عليه‌السلام) انه لو لم تجد هذه الثلاثة ولا الدرع ولا الخمار فإنه يجزئها ثوبان على الوجه المذكور بان يكونا ساترين لجميع ما يجب ستره في الصلاة. وظاهر هذه الاخبار كما ترى لا يأبى الانطباق على ما ذكره الشيخ (قدس‌سره) في الاقتصاد ومن تبعه.

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن جميل بن دراج (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن المرأة تصلي في درع وخمار؟ قال يكون عليها ملحفة تضمها عليها».

وحمل ذكر الملحفة على الاستحباب والفضل. وهو جيد للاستظهار في ستر أطرافها من اليدين والرجلين.

واما ما اعترض به في المدارك على كلام الشيخ (قدس‌سره) في الاقتصاد ـ حيث قال : واما احتجاج الشيخ في الاقتصاد على وجوب الستر بان بدن المرأة كله عورة فإن أراد بكونه عورة وجوب ستره عن الناظر المحترم فمسلم ، وان أراد وجوب ستره في الصلاة فهو مطالب بدليله. انتهى ـ ففيه ان الظاهر من الأخبار وكلام الأصحاب ان وجوب الستر عن الناظر المحترم وكذا في الصلاة أمران متلازمان ، وذلك فان وجوب الستر في الموضعين دائر مدار ثبوت كونه عورة ، ولهذا كما عرفت من كلام العلامة في المنتهى والمختلف انما تمسك في عدم وجوب ستر هذه الأشياء بالخروج عن كونها عورة. ولعل وجه الفرق الذي توهمه انما بناه على ما فهمه من صحيحة محمد بن مسلم ودعوى دلالتها على خروج الكفين والقدمين وقد عرفت ما فيه. وبالجملة فإني لا اعرف لهم دليلا سوى الإجماع المدعى منهم مع وجود المخالف كما عرفت.

واما ما ذهب اليه ابن الجنيد ـ من مساواة المرأة للرجل في ان العورة انما هي القبل والدبر ـ فلم نقف له فيه على دليل ، وصاحب المختلف مع تكلفه نقل الأدلة للأقوال

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢٨ من لباس المصلى.

١١

التي ينقلها فيه لم يتعرض هنا لنقل دليل له مع نقله القول المذكور وهو أظهر ظاهر في ضعفه بعد ما عرفت.

واما ما ذهب اليه من القول الآخر فاحتج عليه واحتجوا له عليه بما رواه عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «لا بأس بالمرأة المسلمة الحرة ان تصلي وهي مكشوفة الرأس». وأجاب عنها الشيخ بالحمل على الصغيرة أو على حال الضرورة. وقال في المعتبر ان هذه الرواية مطرحة لضعف عبد الله بن بكير فلا يترك لخبره الأخبار الصحيحة المتفق على مضمونها.

أقول : والأظهر عندي حمل الرواية على ان المراد بكشف الرأس يعنى من القناع الذي أشرنا سابقا إلى انه يستحب لها التقنع زيادة على ستر الرأس الواجب ، وهو ليس ببعيد في مقام التأويل والجمع بين الاخبار كما لا يخفى على من جاس خلال الديار ، ومما ينفي عنه البعد الرواية الأخرى عن ابن بكير ايضا (٢) قال : «لا بأس ان تصلي المرأة المسلمة وليس على رأسها قناع». فان من الظاهر ان القناع عرفا زيادة على الخمار الذي يلف به الرأس كما لا يخفى.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان ما تقدم كله من الكلام انما هو بالنسبة إلى بدن المرأة وجسدها من وجوب ستره كملا أو ما عدا المواضع الثلاثة المتقدمة.

واما بالنسبة إلى شعرها فلم يتعرض للكلام فيه وقل من تعرض للكلام فيه من أصحابنا (رضوان الله عليهم) قال في المدارك في هذا المقام : واعلم انه ليس في العبارة كغيرها من عبارات أكثر الأصحاب تعرض لوجوب ستر شعر الرأس بل ربما ظهر منها انه غير واجب لعدم دخوله في مسمى الجسد ، ويدل عليه إطلاق الأمر بالصلاة فلا يتقيد إلا بدليل ولم يثبت إذ الاخبار لا تعطي ذلك ، واستقرب الشهيد في الذكرى الوجوب لما رواه ابن بابويه عن الفضيل عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (٣) قال :

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢٩ من لباس المصلي.

(٣) الوسائل الباب ٢٨ من لباس المصلى.

١٢

«صلت فاطمة (عليها‌السلام) في درع وخمار وليس عليها أكثر مما وارت به شعرها وأذنيها». وهي مع تسليم السند لا تدل على الوجوب ، نعم يمكن الاستدلال بها على عدم وجوب ستر العنق وفي رواية زرارة المتقدمة إشعار به ايضا. انتهى. أقول : فيه ان الظاهر من الأخبار المتقدمة ـ باعتبار اشتمالها على الخمار والمقنعة التي هي عبارة عن الخمار ايضا كما ذكره أهل اللغة وغيرهم والملحفة تلتف بها ـ هو ستر شعر الرأس وستر العنق بل ستر الرأس وما انحدر عنه ما عدا الوجه ، اما بالنسبة إلى الملحفة فظاهر لما عرفت من معناها وانها بعد التقنع بها تلفها وتضمها على بدنها ، واما بالنسبة إلى الخمار فان الظاهر بل المعلوم انحداره عن العنق وزيادة لا الاختصاص بالرأس كما يوهمه ظاهر كلامه (قدس‌سره) ومن أظهر الأدلة على ذلك قوله عزوجل «وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ» (١) قال شيخنا أمين الإسلام الطبرسي (قدس‌سره) في تفسير مجمع البيان. والخمر المقانع جمع خمار وهو غطاء رأس المرأة المنسدل على جنبيها ، أمرن بإلقاء المقانع على صدورهن تغطية لنحورهن فقد قيل انهن كن يلقين مقانعهن على ظهورهن فتبدو صدورهن ، وكنى عن الصدور بالجيوب لأنها ملبوسة عليها. وقيل انهن أمرن بذلك ليسترن شعرهن وقرطهن وأعناقهن ، قال ابن عباس تغطي شعرها وصدرها وترائبها وسوالفها. انتهى. وهو صريح ـ كما ترى ـ في كون الخمار منسدلا الى الصدر والظهر موجبا لستر شعر الرأس والعنق كما لا يخفى ، وان حملناه على ما هو المعمول الآن والمتعارف بين نساء هذا الزمان فهو أبلغ وأظهر في ستر الأجزاء المذكورة من ان يحتاج الى بيان.

واما الرواية التي نقلها عن فاطمة (عليها‌السلام) التي هي سبب وقوعه في هذا الوهم فهي ـ مع كونها ظاهرة في كون تلك الحال حال ضرورة ـ ظاهرة في وجوب ستر الشعر فإنه لا يخفى ان شعر الرأس بمقتضى العادة منسدل على العنق والبدن من إمام

__________________

(١) سورة النور الآية ٣١.

١٣

وخلف وهي (صلوات الله عليها) لمكان الضرورة وعدم كون خمارها متسعا كسائر الاخمرة التي أشرنا إليها قد جمعت شعر رأسها ووارته في ذلك الخمار اليسير حيث انه ليس فيه سعة يأتي على شعرها مع انسداله ، فان ظاهر الخبر ان ذلك الخمار لصغره انما وارى ما فوق العنق خاصة فجمعت شعر رأسها فيه ، ولو كانت الصلاة جائزة مع عدم ستر الشعر كما توهمه لما كان لجمعها له في الخمار وجه البتة لما عرفت انه بمقتضى العادة منسدل الى تحت ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه ، وبه يظهر ان ما استقر به في الذكرى من دلالة الخبر على الوجوب في محله وان كلامه عليه ومنعه الدلالة لا وجه له

واما قوله ـ : نعم يمكن الاستدلال بها على عدم وجوب ستر العنق ـ فضعيف بل عجيب من مثله (قدس‌سره) فإنه لا يخفى ان ظاهر الخبر ينادي بأن صلاتها (صلوات الله عليها) في ذلك الخمار بهذه الكيفية انما هي لمكان الضرورة وانه ليس عليها أكثر من ذلك فالحال حال ضرورة والضرورات تبيح المحظورات وانما صلت كذلك حيث لم تجد ساترا يستر ما زاد على ذلك ، فكيف يسوغ منه الاستدلال به على جواز كشف العنق مطلقا؟ وقد عرفت من ظاهر الآية ـ كما ذكره أمين الإسلام المتقدم ذكره ـ الدلالة على كون الخمار المتعارف يومئذ ساترا للجميع وان الله سبحانه قد أوجب ستر هذه المواضع عن الناظر المحترم لكونها عورة فيجب سترها في الصلاة أيضا كما تقدم ، ويجب حمل الخمار في الأخبار المتقدمة على ذلك كما عرفت ، وبه يظهر وجوب ستر العنق ونحوه ايضا.

وأعجب من ذلك قوله : «وفي رواية زرارة المتقدمة إشعار به» وكأنه توهم من نشر الملحفة على رأسها انها ترمي طرفي الملحفة على يمينها ويسارها وتصلي مكشوفة العنق مما يلي صدرها وغفل عن قوله : «وتجلل بها» فان المراد بالتجلل بها ضمها على البدن كما عرفت من الروايات الأخر ، وبه صرح أهل اللغة حيث ذكروا ان الجلال للدابة كالثوب للإنسان يقيه من البرد ونحوه وهو يقتضي ضمه على البدن من جميع جهاته وأطرافه

١٤

وبالجملة فإن كلامه في أمثال هذه المقامات لا يخلو من مجازفة وعدم تأمل ، وأعجب من جميع ذلك متابعة من تأخر عنه له في أمثال هذه المقامات من غير إعطاء النظر حقه في الأخبار وكلام علمائنا الأبرار ولا تحقيق ما هو الحق منها في المقام لحسن الظن بصاحب الكتاب واشتهاره بالفضل والتحقيق في جميع الأبواب والحال كما عرفت في غير موضع مما شرحناه وسنشرحه ان شاء الله تعالى في ما يأتي من الكتاب. والله العالم.

(المسألة الثانية) ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في جواز كشف الرأس للأمة والصبية في الصلاة وقد نقل عليه الفاضلان والشهيد الإجماع من علماء الإسلام إلا الحسن البصري فإنه أوجب على الأمة الخمار إذا تزوجت أو اتخذها الرجل لنفسه (١).

ويدل على الحكم المذكور مضافا الى الإجماع المدعى بالنسبة إلى الأمة عدة روايات : منها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (٢) قال : «ليس على الإماء ان يتقنعن في الصلاة ولا ينبغي للمرأة أن تصلي إلا في ثوبين».

وعن محمد بن مسلم في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «قلت له الأمة تغطي رأسها؟ قال لا ولا على أم الولد ان تغطي رأسها إذا لم يكن لها ولد».

وعن ابي بصير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) انه قال : «على الصبي إذا احتلم الصيام وعلى الجارية إذا حاضت الصيام والخمار إلا ان تكون مملوكة فإنه ليس عليها خمار إلا ان تحب ان تختمر وعليها الصيام».

وما في كتاب قرب الاسناد بسنده عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٥) قال : «سألته عن الأمة هل يصلح لها ان تصلي في قميص واحد؟ قال لا بأس».

__________________

(١) المغني ج ١ ص ٦٠٤.

(٢) الوسائل الباب ٢٨ من لباس المصلي.

(٣ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ٢٩ من لباس المصلي.

١٥

وما رواه في الكافي والفقيه عن محمد بن مسلم في الصحيح (١) قال : «سمعت أبا جعفر (عليه‌السلام) يقول ليس على الأمة قناع في الصلاة ولا على المدبرة ولا على المكاتبة إذا اشترطت عليها قناع في الصلاة وهي مملوكة حتى تؤدي جميع مكاتبتها ويجري عليها ما يجري على المملوك في الحدود كلها». وزاد في الفقيه (٢) قال : «وسألته عن الأمة إذا ولدت عليها الخمار؟ قال لو كان عليها لكان عليها إذا هي حاضت وليس عليها التقنع في الصلاة».

واما ما يدل على ذلك بالنسبة إلى الصبية فاستدل عليه بعضهم بأصالة عدم التكليف. وعندي ان ذكر الصبية في هذا المقام كما ذكره غير واحد منهم لا وجه له لان هذا الحكم انما ذكروه في مقام الاستثناء من القاعدة المتقدمة وهو وجوب ستر البدن كملا على المرأة وانه عورة والصبية مما لا مدخل لها في أصل القاعدة فلا حاجة الى استثنائها.

وإطلاق كلام أكثر الأصحاب وأكثر الأخبار يقتضي عدم الفرق في الأمة بين المملوكة والمدبرة والمكاتبة المشروطة والمطلقة التي لم تؤد من مكاتبتها شيئا وأم الولد سواء كان ولدها حيا أو ميتا ، ويفهم من صحيحة محمد بن مسلم الاولى ان أم الولد انما تكون كذلك بعد موت ولدها وإلا فمع وجوده فهي كالحرة في وجوب الستر ، والى ذلك يميل كلام صاحب المدارك حيث قال بعد ذكر الخبر المذكور : وهو يدل بمفهومه على وجوب تغطية الرأس على أم الولد ومفهوم الشرط حجة كما حقق في محله ، ويمكن حمله على الاستحباب إلا انه يتوقف على وجود المعارض. انتهى. وهو جيد لولا ما يدل عليه ظاهر صحيحة محمد بن مسلم الثانية على رواية الفقيه من قوله : «وسألته عن الأمة إذا ولدت عليها الخمار. الى آخره» فان الظاهر ان المعنى فيها هو ان السائل ظن ان وجوب الخمار على المرأة امة كانت أو حرة دائر مدار الولادة المؤذنة بالبلوغ

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢٩ من لباس المصلي.

١٦

فأجاب (عليه‌السلام) بأنه لو كان كذلك فإنه لا اختصاص له بالولادة بل يجري في الحيض الذي هو أحد أسباب البلوغ ايضا مع انه ليس على الأمة التقنع في الصلاة مطلقا. وفيه إشارة إلى تساوي حالها قبل الولادة وبعدها في عدم التقنع قال في الوافي في ذيل هذا الخبر : كأن الراوي ظن ان حد وجوب التقنع على النساء إذا ولدن فنبه (عليه‌السلام) ان حده إذا حضن وانه ساقط عن الإماء في جميع الأحوال. انتهى وظني بعده عن سياق الخبر إلا انه دال على ما قلناه من عدم وجوب التقنع على أم الولد ولو مع وجود الولد ، وحينئذ فلا يلتفت الى دلالة المفهوم مع وجود المنطوق. واما ما ذكره في الذخيرة ـ من ان هذه الرواية لا تصلح لمعارضة الخبرين الآخرين لانه لو سلم مفهومها لم يكن واضح الدلالة على الوجوب كما لا يخفى ـ فغير متوجه وكيف لا ومفهوم الشرط لا إشكال في حجيته كما اعترف به في مواضع من كتابه وعليه المحققون من الأصوليين معتضدا ذلك بالأخبار المتقدمة في مقدمات الكتاب ، والخبران المشار إليهما في كلامه وهما صحيحتا عبد الرحمن ومحمد بن مسلم الثانية مطلقتان وهذه مقيدة بناء على حجية المفهوم المذكور فلا تعارض إذ المقيد يحكم على المطلق كما هو القاعدة ، فكلام السيد لا يخلو من قوة لو لا دلالة الصحيحة المذكورة كما أوضحناه. وبالجملة فإنك قد عرفت ان مقتضى الأخبار المتقدمة في سابق هذه المسألة ان بدن المرأة كله عورة يجب ستره في الصلاة حرة كانت أو امة استثنى من ذلك ما قام عليه الدليل من الأمة بهذه الاخبار وبقي ما عدا موضع الاستثناء على الوجوب ، وبذلك يظهر لك ضعف قوله : «انه لو سلم مفهومها لم يكن واضح الدلالة في الوجوب» فان الوجوب ثابت بتلك الاخبار المشار إليها لا بهذا الخبر غاية الأمر انه قد استثنى من الوجوب في المرأة مطلقا ما قام عليه الدليل بهذه الاخبار وهي الأمة. وهذا بحمد الله سبحانه واضح لا سترة عليه.

بقي في المقام فوائد يجب التنبيه عليها (الاولى) ـ قال في المعتبر : وهل يستحب لها القناع؟ قال به عطاء ولم يستحب الباقون لما رووه ان عمر كان ينهى الإماء عن التقنع

١٧

وقال انما القناع للحرائر وضرب امة لآل انس رآها متقنعة وقال اكشفي ولا تشبهي بالحرائر (١) وما قاله عطاء حسن لان الستر انسب بالخفر والحياء وهو مراد من الحرة والأمة ، وما ذكروه من فعل عمر جاز ان يكون رأيا رآه. انتهى.

أقول : ظاهر جملة ممن تأخر عنه خلاف ما ذكره واختاره من استحباب القناع للأمة لما رواه احمد بن محمد بن خالد البرقي في كتاب المحاسن بإسناده عن حماد اللحام (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن المملوكة تقنع رأسها إذا صلت؟ قال لا قد كان ابي إذا رأى الخادم تصلي متقنعة ضربها لتعرف الحرة من المملوكة». وروى الصدوق في كتاب العلل هذا الحديث ايضا عن حماد اللحام (٣) وروى فيه أيضا في الصحيح عن حماد اللحام ـ وهو مجهول ـ عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال : «سألته عن الخادم تقنع رأسها في الصلاة؟ قال اضربوها حتى تعرف الحرة من المملوكة». وروى الشهيد في الذكرى عن البزنطي في كتابه بإسناده إلى حماد اللحام عن الصادق (عليه‌السلام) (٥) «في المملوكة تقنع رأسها إذا صلت؟ قال لا. الحديث الأول الى آخره». قال وروى علي بن إسماعيل الميثمي في كتابه عن ابي خالد القماط (٦) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الأمة أتقنع رأسها؟ فقال ان شائت فعلت وان شائت لم تفعل ، سمعت ابي يقول كن يضر بن فيقال لهن لا تشبهن بالحرائر». أقول : لا يخفى ما في هذه الاخبار من الدلالة على خلاف ما صار إليه في المعتبر ولعل العذر له في عدم الوقوف عليها.

وظاهر الصدوق في كتاب العلل القول بتحريم الستر على الأمة حيث قال : «باب العلة التي من أجلها لا يجوز للأمة أن تقنع رأسها» ثم ذكر الاخبار المتقدم نقلها عنه ، ولعل منشأ ذهابه الى التحريم من حيث اشتمال الاخبار على الضرب. وفيه انه

__________________

(١) المغني ج ١ ص ٦٠٤.

(٢ و ٣ و ٤ و ٦) الوسائل الباب ٢٩ من لباس المصلي.

(٥) ص ١٤٠.

١٨

لا يخفى على من تأمل الاخبار انه كثيرا ما يؤكدون (عليهم‌السلام) في المنع من المكروهات بما يكاد يلحقها بالمحرمات كما يؤكدون في المستحبات بما يكاد يلحقها بالواجبات ، ويدل على حمل ذلك على الكراهة قوله (عليه‌السلام) في حديث القماط «ان شائت فعلت وان شائت لم تفعل» وقوله (عليه‌السلام) في رواية أبي بصير المتقدمة «إلا ان تحب ان تختمر» ويؤيده التعبير في كثير من الروايات بأنه ليس عليها. وبالجملة فالأظهر هو الكراهة كما هو المشهور بين الأصحاب ، ويقرب حمل اخبار الضرب الظاهرة في التحريم على التقية كما تقدم نقله عن عمر ويشير اليه قوله (عليه‌السلام) في رواية القماط بعد إفتائه بالتخيير «سمعت ابي يقول كن يضربن» إذ الظاهر كونه إشارة الى ما رواه العامة عن عمر ، ويؤيده إسناد الحكم إلى أبيه في أكثر هذه الاخبار ، وكيف كان فالأظهر الكراهة.

نعم يبقى الإشكال في العنق فان الظاهر من الاخبار المانعة من التقنع جواز كشفه ولا سيما خبر علي بن جعفر المتقدم نقله من كتاب قرب الاسناد الدال على جواز صلاتها في قميص واحد فان القميص لا يستر العنق. وبالجملة فإن إغفاله في هذه الاخبار مع اشتمالها على النهي عن التقنع ظاهر في جواز كشفه وانه من جملة الرأس المرخص في كشفه أو المكروه تغطيته. وبما قلناه من جواز كشفه صرح جملة من أصحابنا المتأخرين ومتأخريهم.

(الثانية) ـ قد صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ الشيخ (قدس‌سره) بأنه يجب على الأمة ستر ما عدا الرأس ، قال في المعتبر بعد ان حكى ذلك عن الشيخ : ويقرب عندي جواز كشف وجهها وكفيها وقدميها لما قلناه في الحرة. انتهى. واستدرك عليه الشهيد في الذكرى ذلك فقال بعد نقله عنه : قلت ليس هذا موضع التوقف لانه من باب كون المسكوت عنه اولى بالحكم من المنطوق به ولا نزاع في مثله. وهو جيد بناء على ما هو المشهور ، إلا ان فيه ما عرفت آنفا في الكفين والقدمين.

(الثالثة) ـ لو انعتق بعض الأمة وجب عليها ستر رأسها لعدم دخولها تحت الأخبار المتقدمة فإن المذكور فيها من كانت امة والمتبادر منها هي المملوكة كملا ، قال في

١٩

الذكرى بعد نقل القول المذكور عن الشيخ والفاضل ونقل صحيحة محمد بن مسلم الثانية : وهو يشعر بما قالوه للتخصيص بالمشروطة. يعني ان تخصيصه (عليه‌السلام) المكاتبة المشروطة بالذكر في هذا المقام ـ وهي التي لا تنعتق حتى تؤدي مال الكتابة كملا دون المطلقة التي ينعتق منها بنسبة ما تؤديه ـ مشعر بأن المطلقة متى أدت بعضها لم تدخل في عداد هؤلاء المذكورين بانعتاق بعضها فيغلب جانب الحرية منها ويلحقها حكم الأحرار.

(الرابعة) ـ قال في المنتهى : الخنثى المشكل يجب عليه ستر فرجيه إجماعا وان كان أحدهما زائدا. وهل يجب عليه ستر جميع جسده كالمرأة؟ فيه تردد ينشأ من أصالة براءة الذمة فيصار إليها ، ومن العمل بالاحتياط في وجوب ستر الجميع. والأقرب الثاني لأن الشرط بدون ستر الجميع لا يتيقن حصوله. والى ما ذكره من اختيار الثاني مال الشهيد في الذكرى فقال : والأقرب إلحاق الخنثى بالمرأة في وجوب الستر أخذا بالمبرئ للذمة. واعترضهما الفاضل الخراساني في الذخيرة بأن الاشتراط انما ثبت في حق المرأة لا مطلقا فههنا كان إطلاق الأمر بالصلاة باقيا على حاله من غير تقييد فمقتضى ذلك عدم الوجوب. انتهى.

أقول : لا يخفى ان اخبار هذا الباب وكلمة الأصحاب (رضوان الله عليهم) قد اتفقت على ان حكم الرجل بالنسبة الى هذه المسألة وجوب ستر العورتين خاصة وجواز كشف ما عداهما والمرأة يجب عليها ستر البدن كملا ما عدا المواضع المستثناة على ما تقدم ولا ريب ان الخنثى المشكل لا يسمى رجلا لتلحقه أحكام الرجل ولا امرأة لتلحقه أحكام المرأة ولم يرد فيه نص بخصوصه فيبقى الحكم فيه مشكلا ، وقد تكاثرت الاخبار بالتثليث (١) «حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك». ولا ريب ان حكم الخنثى هنا من القسم الثالث ، وقد ورد عنهم (عليهم‌السلام) ان الحكم في هذا القسم هو الأخذ بالاحتياط في العمل ، وهو عندنا واجب في هذه الصورة وان كان عند أصحابنا

__________________

(١) الوسائل الباب ١٢ من صفات القاضي وما يقضى به.

٢٠