الحدائق الناضرة - ج ٢٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٦

الثاني : لا خلاف في أنه يجوز نظر الرجل إلى مثله ، ما خلا العورة ، والمرأة إلى مثلها كذلك ، والرجل إلى محارمه ما عدا العورة كل ذلك مقيد بعدم التلذذ والريبة إلا في الزوجين.

قال في المسالك : ولا فرق في ذلك بين الحسن ، والقبيح ، للعموم ، ولا بين الأمرد وغيره عندنا ، وإلا لأمر الشارع الأمرد بالحجاب ، ثم لو خاف الفتنة بالنظر إليه أو تلذذ به ، فلا إشكال في التحريم كغيره.

وقد روي أن وفدا قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيهم غلام حسن الوجه ، فأجلسه من ورائه ، وكان ذلك بمرءى من الحاضرين ، ولم يأمره بالاحتجاب عن الناس فدل على أنه لا يحرم ، وإجلاسه وراءه تنزها منه صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعففا.

ومما يدل على وجوب ستر العورة ، في هذه المواضع فيما عدا الزوجين. ما رواه في الكافي عن أبي عمر والزبيري (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل قال فيه «فقال تبارك وتعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم وأن ينظر المرء إلى فرج أخيه ، ويحفظ فرجه أن ينظر إليه ، وقال «وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ» من أن تنظر إحداهن إلى فرج أختها ، وتحفظ فرجها من أن ينظر إليها ، وقال : كل شي‌ء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا ، إلا في هذه الآية ، فإنها من النظر».

وينبغي أن يعلم أن المملوكة في حكم الزوجة ، مع جواز نكاحها ، فلو كانت مزوجة فالمعروف من كلامهم ، أنها كأمه الغير ، وكذا المكاتبة والمشتركة. ولو كانت مرهونة أو مؤجرة أو مستبرأة ، أو معتدة من وطي شبهة ، فالجواز أقوى كما اختاره في المسالك أيضا.

بقي الكلام في أن المشهور جواز نظر المرأة إلى مثلها ، مسلمة كانت الناظرة ، أو المنظورة أم كافرة ، ونقل عن الشيخ في أحد قوليه أن الذمية لا يجوز أن تنظر

__________________

(١) أصول الكافي ج ٢ ص ٣٦ في ضمن ح ١.

٦١

إلى المسلمة ، حتى الوجه والكفين ، لقوله تعالى (١) «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ إلى قوله. أَوْ نِسائِهِنَّ» والذمية ليست منهن ، ويأتي على قوله (قدس‌سره) أنه ليس للمسلمة أن تدخل مع الذمية الحمام.

قال : في المسالك والأشهر الجواز ، وأن المراد بنسائهن ، التي في خدمتهن ، من الحرائر والإماء ، فيشمل الكافرة ، ولا فرق بين من في خدمتها منهن وغيرها ، انتهى.

أقول : روى الصدوق في الفقيه ، عن حفص بن البختري في الصحيح ، والكليني في الكافي في الصحيح أو الحسن عن حفص (٢) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لا ينبغي للمرأة ، أن تنكشف بين يدي اليهودية والنصرانية ، فإنهن يصفن ذلك لأزواجهن» ، و «لا ينبغي» هنا بمعنى لا يجوز لأن النهي في الآية التحريم.

وقال في كتاب مجمع البيان (٣) «أَوْ نِسائِهِنَّ» يعني النساء المؤمنات ، ولا يحل لها أن تتجرد ليهودية أو نصرانية أو مجوسية ، إلا إذا كانت أمة ، وهو معنى قوله «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ» ، أي من الإماء عن ابن جريح ومجاهد ، والحسن وسعيد بن المسيب ، قالوا : ولا يحل للعبد أن ينظر إلى شعر مولاته ، انتهى.

وبذلك يظهر لك ، ما في المذهب المشهور من القصور ، وأن الحكم في المسألة هو ما ذكره الشيخ (رحمه‌الله عليه) للصحيحة المذكورة ، إلا أن الظاهر أنهم ، لم يقفوا عليها ، وإلا لأجابوا عنها.

الثالث : قد استثنى الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) من تحريم النظر المتقدم ذكره مواضع : منها ـ ما تقدم من إرادة التزويج بالمرأة وشراء الأمة.

__________________

(١) سورة النور ـ آية ٣١.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٣٦٦ ح ٣١ ، الكافي ج ٥ ص ٥١٩ ح ٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ١٣٣ ح ١.

(٣) مجمع البيان ج ٧ ص ١٣٨.

٦٢

ومنها المعالجة ، وما يتوقف عليه ، من فصد وحجامة ، ومعرفة نبض العروق ونحو ذلك ، ويدل على ذلك ما رواه في الكافي عن الثمالي (١) في الصحيح «عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن المرأة المسلمة ، يصيبها البلاء في جسدها إما كسر أو جراح في مكان ، لا يصلح النظر إليه ، ويكون الرجل ، أرفق بعلاجه من النساء ، أيصلح له أن ينظر إليها ، إذا اضطرت إليه قال : إذا اضطرت إليه فليعالجها إن شاءت».

ويدل عليه عموم ما دل على أن ما من شي‌ء حرمة الله ، إلا وقد أباحه للضرورة ولا فرق في ذلك ، بين العورة وغيرها ، ولو أمكن الطبيب ، استنابة من لا يحرم نظره ومسه ، وجب مقدما على نظره ومسه.

ومنها الشهادة عليها تحملا أو أداء ، وللمعاملة ليعرفها ، إذا احتاج إليها ، ويدل على ذلك ، جملة من الأخبار.

منها ما رواه في الفقيه والتهذيب عن علي بن يقطين (٢) «عن أبي الحسن الأول عليه‌السلام قال : لا بأس بالشهادة على إقرار المرأة ، وليست بمسفرة ، إذا عرفت بعينها ، أو حضر من يعرفها ، فأما إن كانت لا تعرف بعينها ، ولا يحضر من يعرفها ، فلا يجوز للشهود ، أن يشهدوا عليها ، وعلى إقرارها ، دون أن تسفر ، وينظرون إليها.

وما رواه في التهذيب عن الصفار (٣) قال : «كتبت إلى الفقيه عليه‌السلام في رجل ـ ورواه في الفقيه قال : كتب الصفار إلى أبي محمد الحسن بن علي عليه‌السلام ـ أراد أن يشهد على امرأة ليس لها بمحرم ، هل يجوز له أن يشهد عليها وهي من وراء الستر ، ويسمع كلامها ، إذا شهد عنده رجلان عدلان ، أنها فلانة بنت فلان التي تشهدك ، وهذا كلامها ، أو لا يجوز له الشهادة عليها حتى تبرزن وتثبتها بعينها؟ فوقع عليه‌السلام تتنقب وتظهر للشهود. قال في الفقيه : وهذا التوقيع عندي ، بخطه عليه‌السلام.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٥٣٤ ح ١.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٤٠ ح ١٣١ ، التهذيب ج ٦ ص ٢٥٥ ح ٧٠.

وهما في الوسائل ج ١٤ ص ١٧٢ ح ١ وج ١٨ ص ٢٩٧ ح ١.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ٤٠ ح ١٣٢ ، التهذيب ج ٦ ص ٢٥٥ ح ٧١.

٦٣

وحمل هذا الخبر في الاستبصار على الاحتياط ، أو أنها تتنقب ، وتظهر للشهود ، الذين يعرفونها أنها فلانة.

وربما أشعر هذان الخبران ، بعدم جواز كشف الوجه ، إلا من حيث ضرورة الإشهاد ، وهو خلاف ما دلت عليه الأخبار المتقدمة ، المتأيدة بعمل الأصحاب ، إلا أن يحملا على اختيار النساء يومئذ التستر ، وإن جاز لهن الاسفار.

ومنها أن تكون المنظورة صغيرة ، ليست مظنة الشهوة ، فإنه يجوز النظر إليها أو عجوزا مسنة ، تكون من جملة (١) «الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً ، فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ» الآية.

ومنها أن يكون الناظر صغيرا غير مميز ، بالنسبة إلى نظر المرأة ، ومرجعه من لم يبلغ مبلغا ، بحيث يصلح لأن يحكى ما يرى وإليه يشير قوله سبحانه (٢) «أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ».

وأما لو كان مميزا ، بحيث يترتب على نظره ، ثوران الشهوة أو التشوق ، فهو عند الأصحاب كالبالغ فيجب على الولي ، منعه من النظر ، وعلى المرأة الأجنبية ، الاستتار منه وإن كان مميزا الا على الوجه المذكور ، فقولان : للجواز ، لأن أمر من لم يبلغ الحلم ، بالاستيذان في تلك الأوقات الثلاثة ، التي هي مظنة التكشف والتبذل ، دون غيرها ، مشعر بالجواز ، فإن ظاهره أن جواز الدخول من غير استيذان في غير تلك الأوقات ، لا يكون إلا مع جواز النظر ، وإلا لو كان النظر محرما ، لأمر بالاستيذان ، ولم يجز له الدخول ، إلا بعده ، ليأخذوا الأهبة في التستر ، فإن المتبادر من الأمر له ، بالاستيذان إنما هو لأجل ذلك.

وللمنع ـ لعموم قوله تعالى «أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ» فيدخل غيره في النهي ، عن إبداء الزينة له ، قال : في المسالك : وهذا أقوى ، ثم

__________________

(١) سورة النور ـ آية ٦٠ و ٣١.

٦٤

قال : والأمر بالاستيذان في تلك الأوقات ، لا يقتضي جواز النظر ، كما لا يخفى ، انتهى.

وفيه ما عرفت ، من أن المتبادر من الاستيذان ، إنما هو لأخذ الأهبة في التستر ، ومن ثم أمر من لم يبلغ الحلم ، بالاستيذان في تلك الأوقات الثلاثة ، من حيث كونها مظنة التكشف كما عرفت.

وبالجملة فالمسألة بالنظر إلى ما ذكره محل إشكال وتوقف ، إلا أنه يمكن أن يرجح الجواز ، بأنه الأوفق بمقتضى الأصل ، حتى يقوم دليل التحريم.

وما رواه الصدوق في الفقيه ، عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أحمد بن محمد بن أبي نصر (١) «عن الرضا عليه‌السلام قال : يؤخذ الغلام بالصلاة ، وهو ابن سبع سنين ، ولا تغطي المرأة شعرها منه حتى يحتلم».

وروى الحميري في كتاب قرب الاسناد عن أحمد بن محمد بن أبي نصر (٢) «عن الرضا عليه‌السلام قال : لا تغطي المرأة رأسها ، من الغلام حتى يبلغ الحلم».

والتقريب فيهما تلازم جواز كشفها ، الرأس له ، وجواز نظره لها ، إذ لو حرم عليه النظر لها ، لحرم عليها. التكشف له ، والخبران مطلقان ، بالنسبة إلى من يحصل منه التلذذ وغيره ، ومع عدم تقييدهما بما ذكروه ، من استثناء النظر الذي يترتب عليه التلذذ فالدلالة على الفرد الآخر ، لا معارض لها ، وبه يظهر صحة القول بالجواز في المسألة.

الرابع : الظاهر أنه لا خلاف في تحريم نظر المرأة إلى الأجنبي أعمى كان أو مبصرا للآية المتقدمة ، وهو قوله عزوجل (٣) «قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ» الآية.

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٧٦ ح ٣.

(٢) قرب الاسناد ص ١٧٠.

وهما في الوسائل ج ١٤ ص ١٦٩ ح ٣ وص ١٦٩ ح ٤.

(٣) سورة النور ـ آية ٣٠.

٦٥

وما رواه في الكافي عن أحمد (١) بن أبي عبد الله «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : استأذن ابن أم مكتوم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعنده عائشة وحفصة فقال لهما : قوما فادخلا البيت فقالتا : إنه أعمى ، فقال : إن لم يركما فإنكما تريانه.

أقول : ورواية أحمد بن خالد البرقي عن الصادق عليه‌السلام لا يخلو عن إشكال ولعله قد سقط الواسطة من السند.

وما رواه الصدوق في كتاب عقاب الأعمال (٢) قال : اشتد غضب الله عزوجل على امرأة ذات بعل ، ملأت عينها من غير زوجها أو غير ذي محرم منها ، فإنها إن فعلت ذلك أحبط الله كل عمل عملته» الحديث.

وروى الطبرسي في كتاب مكارم الأخلاق عن أم سلمة (٣) «قالت كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعنده ميمونة ، فأقبل ابن أم مكتوم ، وذلك بعد أن أمر بالحجاب فقال : احتجبا فقلنا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أليس أعمى لا يبصرنا ، فقال : أفعمياوان أنتما ، ألستما تبصرانه».

الخامس : المشهور بين الأصحاب تحريم سماع صوت المرأة الأجنبية ، مبصرا كان السامع أو أعمى ، وإطلاق كلامهم شامل ، لما أوجب السماع ، التلذذ والفتنة أم لا ، ولا يخلو من إشكال ، لما علم من الأخبار المتكاثرة ، من كلام النساء مع الأئمة عليهم‌السلام ، وسؤالهن عن الأحكام ، بل غير ذلك أيضا ، وسيما كلام فاطمة عليها‌السلام مع الصحابة ، كسلمان وأبي ذر والمقداد ، وخروجها للمطالبة بميراثها في المسجد من أبي بكر ، وحضور جملة من الصحابة يومئذ ، وإتيانها بتلك الخطبة الطويلة (٤) المتفق على نقلها ، بروايات الخاصة والعامة ، أشهر من أن ينكر ، مع أنها معصومة

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٥٣٤ ح ٢.

(٢) عقاب الأعمال ص ٣٣٨.

(٣) مكارم الأخلاق ص ٢٣٣.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٤ ص ١٧١ ب ١٢٩ ح ١ و ٢ وص ١٧٢ ح ٤ ..

(٤) الفقيه ج ٣ ص ٣٧٢ ح ١٠.

٦٦

ومن المعلوم أن خروجها إنما يكون بإذن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهذا كله ، مما يدفع ما ذكروه.

نعم لا بأس بتخصيص الحكم ، بما إذا أوجب التلذذ والفتنة ، وعليه يحمل ما أوهم خلاف ما ذكرناه.

ومنه ما رواه في الفقيه في حديث المناهي (١) «عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ونهى أن تتكلم المرأة عند غير زوجها وغير ذي محرم منها ، أكثر من خمس كلمات ، مما لا بد لها منه».

وروى في الخصال عن مسعدة بن صدقة (٢) «عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أربع يمتن القلب ، الذنب على الذنب ، وكثرة مناقشة النساء يعنى محادثتهن ، ومماراة الأحمق يقول وتقول : ولا يؤل إلى خير الحديث» ، وهو ظاهر في الكراهة.

وبالجملة فإن من تتبع الأخبار ، واطلع على ما تضمنه مما ذكرناه ، فإنه لا يرتاب في الحكم بالجواز ، والله العالم.

الفائدة التاسعة : هل يجوز للخصي النظر إلى المرأة المالكة له ، وكذا إلى الأجنبية أم لا؟ قولان : وتفصيل الكلام في ذلك يقتضي بسطه في مقامين.

الأول : في نظر الخصي إلى مالكته ، وقد اختلف الأصحاب في ذلك ، قال : الشيخ في المبسوط إذا ملكت الامرأة فحلا أو خصيا ، فهل يكون محرما لها ، حتى يجوز له أن يخلو بها ويسافر معها؟ قيل : فيه وجهان :

أحدهما : وهو كالظاهر أنه يكون محرما ، لقوله تعالى (٣) «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ٣ ح المناهي.

(٢) الخصال ص ٢٢٨ ح ٦٥.

وهما في الوسائل ج ١٤ ص ١٤٣ ح ٢ و ٣.

(٣) سورة النور ـ آية ٣٠.

٦٧

إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ ـ إلى قوله ـ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ» فنهاهن عن إظهار زينتهن لأحد ، إلا لمن استثنى ، واستثنى ملك اليمين.

والثاني ـ وهو الأشبه بالمذهب أنه لا يكون محرما ، وهو الذي يقوى في نفسي ، وروى أصحابنا في تفسير الآية ، أن المراد به ، إلا ماء دون الذكر ان ، قال في المختلف ـ بعد نقل ذلك عنه ـ وهذا الكلام يدل على تردده ، ثم نقل عنه أنه قال في الخلاف : إذا ملكت الامرأة ، فحلا أو خصيا أو مجبوبا ، لا يكون محرما لها ، فلا يجوز أن يخلو بها ولا يسافر معها.

واستدل بإجماع الفرقة ، وطريقة الاحتياط ، قال : وأما الآية فقد روى أصحابنا ، أن المراد بها الإماء دون العبيد الذكران ، وهو اختيار ابن إدريس ، ثم قال في المختلف : والحق عندي أن الفحل ، لا يجوز النظر إلى مالكته ، أما الخصي ففيه احتمال ، أقربه الجواز على كراهية للآية ، والتخصيص بالإماء لا وجه له ، لاشتراك الإماء والحرائر في الحكم ، انتهى.

أقول : فيه أن ظاهره أن اختياره الجواز في الخصي ، إنما هو للآية ، لمنعه تخصيصها بالإماء ، والآية بناء على ذلك شاملة بإطلاقها ، للفحل والخصي ، فمنعه الجواز في الفحل ، لا يظهر له وجه ، إلا أن يدعى إجماعا على خروجه ، مع أن ظاهر عبارة الشيخ المتقدمة ، شمول الخلاف للفحل أيضا ، والقول بجواز نظره.

وممن صرح بعدم جواز نظر الخصي المحقق في الشرائع ، قال : لعموم المنع وملك اليمين المستثنى في الآية ، المراد به الإماء ، وهو موافق لما اختاره الشيخ في الخلاف وابن إدريس ، وهو المنقول عن العلامة في التذكرة أيضا ، واقتصر الشهيد في اللمعة ، على نقل الخلاف ، فقال : وفي جواز نظر المرأة إلى الخصي ، المملوك لها ، وبالعكس ، خلاف ، ولم يرجح شيئا.

والواجب نقل ما وصل إلينا ، من الأخبار المتعلقة بالمسألة ، والكلام بما يسر الله سبحانه بتوفيقه فهمه منها.

٦٨

فمن ذلك ما رواه في الكافي ، في الموثق عن يونس بن عمار ويونس بن يعقوب (١) جميعا «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لا يحل للمرأة أن ينظر عبدها إلى شي‌ء من جسدها ، إلا شعرها ، غير متعمد لذلك».

قال الكليني : وفي رواية أخرى «لا بأس أن ينظر إلى شعرها ، إذا كان مأمونا».

وعن معاوية بن عمار (٢) بسندين أحدهما صحيح والآخر حسن في قوة الصحيح ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : المملوك يرى شعر مولاته وساقها؟ قال : لا بأس».

وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله (٣) في الصحيح والموثق ، بأبان بن عثمان قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المملوك يرى شعر مولاته؟ قال : لا بأس». وعن معاوية بن عمار (٤) في الصحيح ، قال : «كنا عند أبي عبد الله عليه‌السلام نحوا من ثلاثين رجلا. إذ دخل أبي ، فرحب به أبو عبد الله عليه‌السلام وأجلسه إلى جنبه ، فأقبل إليه طويلا ، ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن لأبي معاوية حاجة ، فلو خففتم ، فقمنا جميعا ، فقال لي أبي : ارجع يا معاوية فرجعت ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : هذا ابنك قال : نعم وهو يزعم أن أهل المدينة يصنعون شيئا لا يحل لهم ، قال : وما هو؟

قلت : إن المرأة القرشية والهاشمية تركب وتضع يدها على رأس الأسود وذراعيها على عنقه ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا بني أما تقرأ القرآن؟ قلت : بلى ، قال : اقرأ هذه الآية (٥) «لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ. حتى بلغ. وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ» ثم قال : يا بني ، لا بأس أن يرى المملوك الشعر والساق».

وما رواه الصدوق عن إسحاق بن عمار في الموثق (٦) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أينظر المملوك إلى شعر مولاته؟ قال نعم وإلى ساقها».

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الكافي ج ٥ ص ٥٣١ ح ٤ و ٣ و ١ و ٢، الوسائل ج ١٤ ص ١٦٤ ح ١ وص ١٦٥ ح ٣ و ٤ و ٥.

(٥) سورة الأحزاب ـ آية ٥٥.

(٦) الفقيه ج ٣ ص ٣٠٠ ح ١٦ ، الوسائل ج ١٤ ص ١٦٥ ح ٦.

٦٩

وما رواه الشيخ عن القاسم الصيقل (١) قال : «كتبت إليه أم علي تسأل عن كشف الرأس بين يدي الخادم؟ وقالت له ، إن شيعتك ، اختلفوا علي في ذلك ، فقال بعضهم : لا بأس ، وقال بعضهم : لا يحل ، فكتب عليه‌السلام : سألت عن كشف الرأس ، بين يدي الخادم ، لا تكشفي رأسك بين يديه ، فإن ذلك مكروه».

وما رواه في كتاب قرب الاسناد عن الحسين بن علوان (٢) «عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام أنه كان يقول : لا ينظر العبد إلى شعر سيدته».

وروى الشيخ في المبسوط (٣) وغيره «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أتى فاطمة صلوات الله عليها بعبد وهبة لها ، وعلى فاطمة عليها‌السلام ثوب إذا قنعت رأسها ، لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت به رجليها ، لم يبلغ رأسها ، فلما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما تلقى قال : إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك».

أقول : لم أقف على هذا الخبر في كتب أخبارنا ، ويقرب عندي أنه من أخبار العامة التي يستلقونها أصحابنا في كتبهم الفروعية.

وقد تقدم في عبارتي المبسوط والخلاف ، أنه روى أصحابنا أن المراد بما ملكت أيمانهن ، الإماء ، دون الذكران ، وفي كتاب مجمع البيان في تتمة الكلام المتقدم نقله عنه ، في التنبيه الثاني بعد نقل تفسير الآية بالإماء قال : وقيل معناه العبيد والإماء ، وروى ذلك عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

وأنت خبير بأنه لم يصل إلينا في الأخبار المتعلقة بتفسير الآية المذكورة إلا رواية معاوية بن عمار (٤) في حكاية دخول أبيه على أبي عبد الله عليه‌السلام ، والظاهر

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٤٥٧ ح ٣٦.

(٢) قرب الاسناد ص ٥٠.

وهما في الوسائل ج ١٤ ص ١٦٦ ح ٧ و ٨.

(٣) المبسوط ج ٤ ص ١٦١ الطبع الجديد.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٥٣١ ح ٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ١٦٥ ح ٥.

٧٠

أنها هي التي أشار إليها في كتاب مجمع البيان ، وإن لم تتضمن الإماء ، كما ذكره في المجمع ، إلا أنه مفهوم بطريق أولى.

وأنت خبير بأن أكثر أخبار المسألة وأصحها ظاهرة في الجواز من غير تقييد بالخصي الذي جعله أصحابنا محل الخلاف إيذانا بالاتفاق على تحريم نظر الفحل ، مع أن هذه الروايات التي ذكرناها وهي جميع روايات المسألة ، إنما تضمنت المملوك والعبد والخادم ، وهي عامة شاملة للفحل والخصي ، وليس فيها إشارة ـ فضلا عن التصريح ـ إلى التخصيص بالخصي ، وبذلك يعظم الإشكال في هذا المجال.

وجملة من أصحابنا قد حملوا الأخبار الدالة على الجواز على التقية ، وما يستأنس به لذلك صحيحة معاوية بن عمار الدالة على دخول أبيه على أبي عبد الله عليه‌السلام ، فإن أباه كان من كبار العامة ، (١) وأعاظمهم ، وتعظيم الامام عليه‌السلام له ـ كما تضمنه الخبر ـ إنما كان لذلك.

ومما يومي إلى التقية في الرواية ، إيماء ظاهرا أن عمارا نقل عن أبيه معاوية أن وضع المرأة يدها على رأس العبد وذراعها على عنقه ، لا يحل لهم.

وظاهر سياق كلامه عليه‌السلام تقرير عمار على ذلك ، ولم يرد عليه فيه ، وإنما جوز في آخر الخبر نظر الشعر والساق ، وجعل هذا هو معنى الآية ، وعدم تصريحه عليه‌السلام بالتحريم في الأول إنما كان تقية.

وبالجملة فإن غاية ما يدل عليه الخبر هو الجواز بالنسبة إلى الشعر والساق ، كما تضمنه غيره من الأخبار المذكورة ، وسيأتي نقل كلام الشيخ في المقام الآتي ، وحمله الأخبار على التقية ، فاعترض على ذلك في المسالك فقال بعد كلام في المقام :

__________________

(١) قال النجاشي في ترجمة معاوية بن عمار المذكور : كان وجها في أصحابنا متقدما ، كبير الشأن ، عظيم المحل ، ثقة ، وكان عمار ثقة في العامة ، وجها الى آخر ما ذكره. (منه ـ رحمه‌الله ـ).

٧١

وكونه للتقية غير جيد ، لأنها مسألة اجتهادية.

والمخالفون مختلفون فيها ، فمنهم من جوز له النظر وجعله محرما ، ومنهم من منعه مطلقا ، ومنهم من فصل فحرم نظره ، إلا أن يكبر ويهرم وتذهب شهوته ـ إلى أن قال ـ : وحينئذ فحمل هذا على التقية غير واضح ، ولا ينبغي التعلق بها ، إلا في المسائل التي اتفق عليها من خالفهم ، وإلا فلهم أسوة بمن وافق ، فينبغي التفطن لذلك في نظائر هذه المسألة ، فإنها كثيرة ، تراهم يحملون الحكم فيها على التقية مع اختلاف المخالفين فيها ، ومثل هذا لا يجوز العدول عن مدلول اللفظ بمجرد الاحتمال البعيد ، انتهى.

أقول : لا يخفى أن تخصيص الحمل على التقية باتفاق العامة على الحكم خلاف ما دلت عليه مقبولة عمر بن حنظلة (١) لقول السائل فيها بعد أمره عليه‌السلام بعرض الخبرين على مذهبهم : فإن وافقهما الخبران جميعا؟ قال : «ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر». ولا ريب أن الخبرين هنا موافقان لهما ، فإن لكل منهما قائلا منهم ، وحينئذ فينبغي بمقتضى القاعدة المذكورة النظر إلى ما كان قضاتهم وسلاطينهم إليه أميل.

ومقتضى كلام الشيخ الآتي إن شاء الله في المقام الثاني ، أن القول بالجواز مذهب سلاطين الوقت ، وبموجب ذلك يترجح الحمل على التقية ، هذا.

ولا يخفى عليك أن المفهوم ، من كلام الأصحاب القائلين بالجواز ، هو جواز النظر مطلقا من غير تقييد بعضو مخصوص ، وظاهره جواز النظر إلى ما يجوز للمحارم نظره ، وهو ما عدا العورة.

والأخبار الدالة على الجواز لا دلالة فيها على أزيد من النظر إلى الشعر والساق ، مقيدا النظر إلى الشعور في بعضها بكونه مأمونا وفي آخر بعدم التعمد.

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٤١٢ ح ٥ ، التهذيب ج ٦ ص ٣٠١ ح ٥٢ ، الوسائل ج ١٨ ص ٧٥ ح ١.

٧٢

وما أجمل في الرواية المرسلة في كتاب مجمع البيان يمكن حمله على المفصل ، وحينئذ فما يدعونه من جواز النظر مطلقا ، لا دليل عليه ، وهذا مما يوهن الاستدلال بها.

ثم إن المفهوم من رواية القاسم الصيقل وقوع الخلاف في المسألة ، في أيامهم عليهم‌السلام ، ويشير إليه حكم معاوية بن عمار في حكايته مع أبيه ، أنه كان يعيب على أهل المدينة بذلك ، ومن المعلوم من جلالة قدر الرجل المذكور أنه لا يحكم بذلك إلا بعد السماع منهم عليهم‌السلام.

ثم إنه يمكن ترجيح القول بالتحريم بالقاعدة التي ذكرها في التقية واعتمد عليها في غير موضع ، وهو أنه إذا ورد عنهم عليهم‌السلام خبران مختلفان ، أحدهما عن الامام السابق ، والآخر عن الامام اللاحق ، فإنه يؤخذ بالأخير ، فيكون العمل هنا على رواية القاسم الصيقل ، فإن الرواية هنا عن الهادي عليه‌السلام ، حيث إن الراوي المذكور من رجاله عليه‌السلام ، والروايات الأخر عن الصادق عليه‌السلام ، وقد عرضت عليه المرأة القولين ، فمنعها عن ذلك.

والمراد بالكراهة في كلامه ، التحريم بلا إشكال ، لأن محل الخلاف هو الحل والتحريم ، كما ينادي به صدر الخبر المذكور.

ومما يؤيد التحريم ، أنه الأوفق بالاحتياط في الدين ، وهو أحد المرجحات في مقام اختلاف الأخبار ، كما تضمنته رواية زرارة (١) الواردة في طريق الترجيح سيما مع دلالة الأخبار ، كما تقدم الإشارة إليه ، على ما هو أعم من الخصي والفحل ، وإن خصوا موضع الخلاف بالأول.

وبالجملة فالمسألة لما عرفت بمحل من الاشكال ، والاحتياط فيها مطلوب على كل حال ، والله العالم :

__________________

(١) مستدرك الوسائل ج ٣ ص ١٨٥ ب ٩ ح ٢.

٧٣

المقام الثاني : في نظر الخصي إلى غير مالكته من الأجانب ، وفيه أيضا قولان والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذا المقام ما رواه

في الكافي عن عبد الملك بن عتبة النخعي (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أم الولد هل يصلح أن ينظر إليها خصي مولاها وهي تغتسل؟ قال : لا يحل ذلك».

وعن محمد بن إسحاق (٢) قال : «سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام قلت : يكون للرجل الخصي ، يدخل على نسائه ، فيناولهن الوضوء ، فيرى شعورهن؟ قال لا».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن إسماعيل بن بزيع (٣) في الصحيح : قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن قناع الحرائر من الخصيان ، فقال : كانوا يدخلون على بنات أبي الحسن عليه‌السلام ولا يتقنعن ـ وزاد في الكافي ـ قلت : فكانوا أحرارا؟ قال : لا ، قلت : فالأحرار يتقنع منهم؟ قال : لا». وهذا الخبر حمله الشيخ في التهذيبين ، على التقية ، قال : والعمل على الخبر الأول أولى وأحوط في الدين.

وفي حديث آخر (٤) أنه لما سئل عن هذه المسألة قال «أمسك عن هذا ولم يجبه». فعلم بإمساكه عن الجواب أنه لضرب من التقية ، لم يقل ما عنده في ذلك ، لاستعمال سلاطين الوقت ذلك.

وما رواه الحميري (٥) عن صالح بن عبد الله الخثعمي عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «وكتبت إليه أسأله عن خصي لي ، في سن رجل مدرك ، يحل للمرأة أن يراها وتنكشف بين يديه؟ قال : فلم يجنبي فيها».

وما رواه الحسن بن الفضل الطبرسي (٦) في كتاب مكارم الأخلاق قال : «قال

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٥٣٢ ح ١ و ٢.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٥٣٢ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ٤٨٠ ح ١٣٤.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ٤٨٠ ح ١٣٥.

(٥) قرب الاسناد ص ١٢٦.

(٦) مكارم الأخلاق ص ٢٣٢.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٤ ص ١٦٦ ح ١ و ٢ وص ١٦٧ ح ٣ و ٦ وص ١٦٨ ح ٨ و ٩.

٧٤

عليه‌السلام : لا تجلس المرأة بين يدي الخصي مكشوفة الرأس».

ونقل أصحابنا (رضوان الله تعالى عليهم) عن ابن الجنيد (١) أنه قال في كتابه الأحمدي : روي عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما‌السلام «كراهية رؤية الخصيان الحرة من النساء حرا كان أو مملوكا».

وأنت خبير بأن أكثر هذه الأخبار ظاهرة في التحريم ، والمنافاة الظاهرة في صحيحة محمد بن إسماعيل المذكورة. والأظهر حملها على ما ذكره الشيخ من التقية ، ويومي إلى ذلك إعراضه عليه‌السلام في رواية الحميري عن الجواب ، وكذا الأمر بالإمساك في الرواية التي أشار إليها الشيخ في كلامه ، فإنه لا وجه لذلك سوى التقية.

وأما لفظ الكراهة في عبارة ابن الجنيد فمن الجائز حملها على التحريم ، فإن المتقدمين كثيرا ما يجرون على الأخبار في التعبير ، والكراهة بمعنى التحريم في الأخبار أكثر كثير ، والتخصيص بهذا المعنى المشهور ، اصطلاح حادث من الأصوليين ، وقد نبه على ذلك جملة من الأصحاب في حمل كلام الشيخ ونحوه من المتقدمين على ذلك ، ويعضده أنه الأحوط في الدين ، وبذلك يظهر أن ما يفهم من المسالك من الميل إلى الجواز في كلا المقامين ليس بجيد ، وإن تبعه في الكفاية على ذلك ، وما ذكره في المسالك من التعليلات معلول ، وليس في التعرض لذكره كثير فائدة.

قال في المسالك : واعلم أن إطلاق الخصي يشمل من قطع خصيتاه وإن بقي ذكره ، والأولى تخصيص محل الخلاف بمن قطع ذكره وخصيتاه معا ، كما قطع به في التذكرة ، أما الخصي الذي بقي ذكره ، والمجبوب الذي بقي أنثياه فكالفحل ، انتهى.

أقول : ظاهر كلامه أن الخصي يطلق على هذه الأنواع المذكورة في كلامه

__________________

(١) الوسائل ج ١٤ ص ١٦٨ ح ١٠.

٧٥

والمفهوم من كلام أهل اللغة أن الخصي هو من سلت خصيتاه.

قال في كتاب المصباح المنير : وخصيت العبد ، أخصيته خصاء ـ بالمد والكسر ـ سللت خصيته ، فهو خصي فعيل ، بمعني مفعول ، ونحوه في كتاب مجمع البحرين.

وقال في القاموس : وخصاه خصاء سل خصيته ، فهو خصي ومخصي ، وقال في كتاب شمس العلوم : خصا الفحل خصاء ، إذا سل خصيته ، ومقتضى ذلك أن من قطع ذكره وبقي خصيتاه لا يسمى خصيا ، فيكون الحكم فيه ما ذكره من أنه كالفحل.

وأما المجبوب الذي قطع ذكره وبقيت أنثياه فهو الخصي ، كما عرفت من كلام أهل اللغة ، فحكمه بأنه كالفحل محل إشكال ، إلا أن يثبت ما ادعاه من التخصيص الذي نقله عن التذكرة ، بكونه مقطوع الذكر والأنثيين ، ولا أعرف له وجها ، ولا عليه دليلا ، فإن الروايات تضمنت الخصي بقول مطلق ، والخصي لغة هو ما عرفت ، وليس هنا معنى آخر شرعا ولا عرفا يوجب الاشتراك أو الخروج عن المعنى المذكور ، فليتأمل ، والله العالم.

العاشر : (١) قد دلت الآية على استثناء (٢) «التّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ» من تحريم النظر إلى الأجنبية ، فيجوز لهم النظر حينئذ.

قال في كتاب مجمع البيان (٣) : واختلف في معناه ، فقيل : التابع الذي يتبعك ليسأل من طعامك ، ولا حاجة له في النساء ، وهو الأبله المولى عليه ، عن ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير ، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

وقيل : هو العنين الذي لا أرب له في النساء لعجزه ، عن عكرمة والشعبي.

__________________

(١) هكذا في الأصل ولم نعرف وجه عنوان العاشر هنا.

(٢) سورة النور ـ آية ٣١.

(٣) مجمع البيان ج ٧ طبع صيدا ص ١٣٨.

٧٦

وقيل : إنه الخصي المجبوب الذي لا رغبة له في النساء ، عن الشافعي ، ولم يسبق إلى هذا القول.

وقيل : إنه الشيخ الهرم لذهاب إربه ، عن يزيد بن أبي حبيب.

وقيل : هو العبد الصغير ، عن أبي حنيفة وأصحابه. انتهى.

أقول : والذي وقفت عليه في أخبارنا ، ما رواه في الكافي عن زرارة (١) في الصحيح قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزوجل «أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ ـ إلى آخر الآية» قال : الأحمق الذي لا يأتي النساء».

قال في كتاب الوافي : الإربة : العقل وجودة الرأي.

أقول : لم أقف لهذا المعنى الذي ذكره على مستند ، من لغة أو غيرها ، والموجود في كلام أهل اللغة إنما هو تفسير الإربة بالحاجة ، وهو الذي فسر به في كتاب مجمع البيان.

قال الفيومي في كتاب المصباح المنير : الأرب بفتحتين ، والإربة بالكسر والماربة بفتح الراء وضمها : الحاجة ، والجمع : المآرب ، والأرب في الأصل مصدر من باب تعب ، يقال أرب الرجل إلى الشي‌ء ، إذا احتاج إليه ، فهو آرب على فاعل. انتهى.

وما رواه في الكافي عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عليه‌السلام (٢) في الموثق قال : «سألته عن أولي الإربة من الرجال ، قال : هو الأحمق المولى عليه ، الذي لا يأتي النساء».

وما رواه في التهذيب عن زرارة (٣) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن اولي الإربة من الرجال قال : هو الأحمق الذي لا يأتي النساء».

أقول : قد اشتركت هذه الروايات في تفسير بالأحمق الذي لا يأتي النساء ،

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٥٢٣ ح ١ و ٢، الوسائل ج ١٤ ص ١٤٨ ح ١ و ٢.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٤٦٨ ح ٨١.

٧٧

والحمق نقصان في العقل ، وهو يرجع إلى المعنى الأول الذي نقله في كتاب مجمع البيان عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

وإنما قيده بكونه مولى عليه ، لنقصان عقله ، ولكن لا بد من تقييده بمن ذكر في هذه الروايات بأنه لا يأتي النساء ، أي ليس له شهوة ، توجب إتيانه النساء ، وإلا فمجرد كونه ناقص العقل وأبلها مع حبه لإتيان النساء وتلذذه بذلك فإنه لا يكون داخلا في الفرد المستثنى ، والغالب فيمن لا يشتهي إتيان النساء ، إنما هو الخصي والعنين ، والمراد هنا ما هو أعم منهما ،

بقي الإشكال هنا في أن الخبر الأول من الأخبار التي نقلناها قد تضمن جعل الأحمق الذي لا يأتي النساء ، تفسيرا للتابعين غير اولي الإربة وهو الظاهر الذي بنى عليه الحكم المذكور.

والخبران الآخران قد تضمنا جعله تفسيرا لاولي الإربة ، وهو غير مستقيم على ظاهره ، لأنهما قد تضمنا السؤال عن اولي الإربة ، واولى الإربة كما عرفت يعني أصحاب الحاجة إلى النكاح ، والجواب قد وقع بأنه الأحمق الذي لا يأتي النساء وهذا إنما هو غير اولي الإربة ، لا اولي الإربة.

اللهمّ إلا أن يكون الجواب وقع تنبيها على أن الأولى هو السؤال عن غير اولي الإربة ، فإنه هو المحتاج إلى التفسير والبيان ، فأجيب بناء على ذلك ، ومثله في القرآن كثير (١).

ومنها ما رواه في الكافي عن عبد الله بن ميمون القداح عن أبي عبد الله عن أبيه

__________________

(١) ومنه قوله عزوجل «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ» فإنهم سألوا عن السبب في اختلاف القمر في زيادة النور ونقصانه ، حيث قالوا : ما بال الهلال يبدو رقيقا مثل الخيط ثم يتزايد قليلا قليلا حتى ينجلي بمثل ويستوى ثم لا يزال ينقض من بعده كما بدء ، فأجيبوا بالغرض من هذا الاختلاف ، وهو ان الأهلة حسب ذلك الاختلاف معالم يوقت بها الناس أمورهم من المزارع والمتاجر والديون والصوم ونحو ذلك ، فقد سألوا عن السبب وأجيبوا بالغرض من ذلك ، فإنه هو الأنسب بالسؤال عنه ، ومن ذلك قوله تعالى

٧٨

عن آبائه عليهم‌السلام قال : «كان بالمدينة رجلان يسمى أحدهما هيت (١) والآخر مانع ، فقالا لرجل ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمع : إذا افتتحتم الطائف ، إن شاء الله ، فعليك بابنة غيلان الثقفية ، فإنها شموع نجلاء مبتلة هيفاء شنباء ، إذا جلست تثنت ، وإذا تكلمت غنت ، تقبل بأربع ، وتدبر بثمان ، بين رجليها مثل القدح ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا أريكما من اولي الإربة من الرجال فأمر بهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فغرب بهما إلى مكان يقال له : العريا ، وكانا يتسوقان في كل جمعة» (٢).

قيل : والشموع كصبور : المرأة الكثيرة المزاح ، والنجلاء الواسعة العين ، ومبتلة بتقديم الباء الموحدة وتشديد التاء المثناة من فوق على وزن معظمة : الجميلة التامة الخلق ، المقطع حسنها على أعضائها ، والتي لم يركب بعض لحمها بعضا ، ولا يوصف به الرجل ، والهيف بالتحريك : صغر البطن والخاصرة ، والشنب محركة : عذوبة في الأسنان أو نقط بيض فيها ، والتتنن بالمثناتين الفوقانيتين والنونين : ترك الأصدقاء ومصاحبة غيرهم ، وقيل : هو بالباء الموحدة ثم النون ، والتبني : تباعد ما بين القدمين أو معناه صارت كأنها بنيان مرصوص من عظمها ، ولعل المراد بالأربع اليدان والرجلان وبالثمان هي مع الكتفين والأليتين ، وبالتشبيه بالقدح عظم فرجها ، وقيل : بل كانت في بطنها عكن أربع تقبل بها ، وتدبر بأطرافها التي في جنبيها لكل عكنة طرفان ، لأن العكنة تحيط بالطرفين والجنبين ،

__________________

«يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ» فإنهم سألوا عن بيان ما ينفقونه ، فأجيبوا ببيان المصارف ، تنبيها على أن المهم من السؤال انما هو ذلك منه رحمه‌الله.

(١) هيت ضبطه أهل الحديث بالمثناة التحتانية أولا ، والفوقانية ثانيا ، وقيل بل هو بالنون والباء الموحدة ، وكانا مخنثين بالمدينة.

أقول : والظاهر أنه لذلك حصل الظن بكونهما ليسا من ذوي الإربة ، فلما تبين أنهما ليسا كذلك نفوا من المدينة. (منه ـ رحمه‌الله ـ).

(٢) الكافي ج ٥ ص ٥٢٣ ح ٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ١٤٨ ح ٤.

٧٩

حتى يلحق بالثنتين من مؤخر الامرأة ، كذا نقل عن كتاب مجمع الأمثال.

والظاهر أن المراد بقوله في آخر الخبر «وكانا يتسوقان في كل جمعة» أي يأتيان السوق ، والظاهر أن السوق العامة كانت في المدينة في يوم الجمعة كما هو في سائر البلدان ، من جعل سوق عامة يحضرها أهل القرايا والخارجون عن المصرفي ذلك اليوم بخصوصه.

الفائدة العاشرة : المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) كراهية الوطي في الدبر كراهة مؤكدة ، ونقل في المختلف عن ابن حمزة القول بالتحريم ، ونقل هذا القول في المسالك أيضا ، عن جماعة من علمائنا منهم القميون وابن حمزة.

والذي وقفت عليه من أخبار المسألة ، ما رواه في الكافي عن أبان (١) عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن إتيان النساء في أعجازهن؟ فقال : هي لعبتك لا تؤذها».

وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن علي بن الحكم (٢) قال : «سمعت صفوان بن يحيى يقول : قلت للرضا عليه‌السلام : إن رجلا من مواليك أمرني أن أسألك عن مسألة هابك ، واستحى منك أن يسألك ، قال : وما هي؟ قلت الرجل يأتي امرأته في دبرها؟ قال : نعم ذلك له ، قلت له : فأنت تفعل ذلك؟ قال : إنا لا نفعل ذلك».

وما رواه في التهذيب عن ابن أبي يعفور (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يأتي المرأة في دبرها؟ قال : لا بأس إذا رضيت ، قلت : فأين قول الله عزوجل (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) قال : هذا في طلب الولد ، فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله إن الله تعالى يقول (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ).

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٥٤٠ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٥٤٠ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٤١٥ ح ٣٥.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٤١٤ ح ٢٩.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٤ ص ١٠١ ح ٤ وص ١٠٢ ح ١ وص ١٠٣ ح ٢.

٨٠