من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

(وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)

ان المؤمنين الذين لم يلحقوا بالشهداء ، هم أداة البشارة للشهداء ، لعلم الشهداء بأن أولئك سوف يقدمون على حياة فاضلة ، حياة لا خوف فيها ولا حزن ، ولذلك فهم يفرحون بالمؤمنين.

[١٧١] وللشهداء عند الله سبب آخر للبشارة ، هي نعمة الله التي تزيد عن القدر الذي يتصور الإنسان أنه جزاء العمل. ويستبشرون حين يجدون ثمار أعمالهم التي ما ضاعت عند الله ، وكم يكون فرح الإنسان كبيرا حين يجد ثمرة جهوده ، فيرى إنها كاملة غير منقوصه.

(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)

[١٧٢] هؤلاء فريق من المؤمنين استشهدوا في سبيل الله ، أما الفريق الآخر فهم الصامدون ، الذين لم ينهزموا بالرغم من إصابتهم بالقرح ، فحين دعاهم الرسول لاعادة تنظيم صفوفهم ، والقيام بهجوم مضاد ، استجابوا للرسول وألحقوا الهزيمة بالعدو.

ان هؤلاء كانوا يتمتعون بعدة صفات :

أ) إن قدرة الإنسان على تحمل الصعاب كبيرة ، ولكن المؤمنين فقط هم الذين يستثمرون هذه القدرة ، بفضل إيمانهم بالله وابتغائهم مرضاته.

(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ)

والقرح : هي الآلام الجسدية والنفسية.

٧٠١

ب) ثم إنهمّ كانوا يضاعفون جهودهم بسبب ظروف الهزيمة.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ)

ج) ويزدادون التزاما ببنود الشريعة ، وانضباطا في تنفيذ الأوامر.

(وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ)

[١٧٣] ثم إنّهم يزدادون صلابة في الحق ، وشجاعة في مواجهة العدو بسبب إيمانهم وإحسانهم وتقواهم.

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)

انهم ازدادوا إيمانا بسبب تصميمهم المسبق على مواجهة العدو في كل الظروف ، فلم يزدهم التحدي إلّا صلابة ـ ثم ومن جهة ثانية ـ كان التوكل على الله ، والثقة بنصره زادا كافيا لهم في معركتهم مع العدو ، ومع وسوسة الشيطان في قلوبهم.

[١٧٤] بسبب الاستجابة في ظروف الهزيمة (بالإحسان والتقوى والشجاعة) الحق هذا الفريق من المؤمنين الهزيمة بالعدو ، وانتصروا عليه ، وحصلوا منه على مغانم ، ولم يصبهم أذى في معركتهم الجديدة. وحصلوا على أهم جائزة وهي رضوان الله.

(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)

إن وجود العزم الراسخ لدى هذا الفريق على مجابهة العدو ، هو الذي قلل من خساراتهم في المعركة. بل جعلهم يربحون المعركة من دون خسارة ، ولو أنهم جبنوا لاستطاع العدو ان يهجم عليهم كرة أخرى ، فيذيقهم العذاب الأليم.

٧٠٢

[١٧٥] من أين يكتسب الإنسان الشجاعة الكافية لمواجهة ظروف الهزيمة؟

يجيب القرآن على ذلك : بأنّ مصدر الهزيمة النفسية ، هو الخوف ، والخوف فطرة في البشر ، ولكن على المؤمن ان يوجّه خوفه الى المصدر الحقيقي للخوف وهو الله ، وليس الى أعدائه من البشر. لان الله ـ وليس البشر ـ هو القادر على إنزال أشد العقوبات في الدنيا والآخرة على الإنسان فعليه أن يخشاه.

أما البشر فالخوف منهم ، مجرد وسواس شيطاني ، لأن كل ما يملكه البشر ، يمكن أن أملكه أنا أو أملك ما يواجهه ، ولكن هل بامكاني أن أملك ما يملكه الله؟

(إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

والايمان بالله وبأنّه الضار النافع ، وأنه بصير بعباده ، هو الذي يجعلنا نخافه ، فلا نخاف أحدا سواه. أما الايمان بالشيطان ، بماله ، وشهرته ، واغراءاته ، فهو الذي يجعلنا نخافه ، ونخاف الناس الذين يملكون المال ، والسلطة ، والإغراء .. إذا : دعنا نطرد حب زينة الحياة الدنيا من قلوبنا حتى نتمتع بالشجاعة.

٧٠٣

وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨) ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً

____________________

١٧٨ [نملي] : الاملاء إطالة المدة.

٧٠٤

لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)

٧٠٥

الرسالة الإلهية

والمواقف الاجتماعية

هدى من الآيات :

بعد الهزيمة انقسم المسلمون الى فريقين : فريق المؤمنين منهم والصامدين ، وفريق المنافقين ، وهم ـ بدورهم ـ كانوا فئات : فئة تجبّن الناس عن القتال ، تحدث عنهم القرآن في الدرس السابق ، وفئة أسرعت الى الكفر وانضمت عمليا الى الجبهة المضادة للرسالة ، وفئة كان عليهم ان يدعموا صمود الامة بأموالهم ، فبخلوا بها في ساعة العسرة.

هؤلاء انما فعلوا ذلك لما رأوا ما عند الكفار من مظاهر الانتصار والعزة. ولم يعرفوا أنّ هذه المظاهر خداع وباطل ، وأنّ الله يمهلهم فيها ، حتى يزدادوا إثما ، وإنّ مصيرهم الى النار.

ويكرر القرآن القول : بأنّ الهزيمة كشفت هذه الفئة المنافقة ، التي أسرعت في الكفر ، كما كشفت تلك الفئة التي بخلت بحقوق الله ، ولم تجاهد بأموالها.

٧٠٦

وبمناسبة الحديث عن الأغنياء البخلاء ، يتحدث القرآن عن اليهود في الدرس القادم ، ليبين لنا : كيف أنهم ابتلوا بغضب الله ، بسبب تركهم واجب العطاء والإنفاق.

[١٧٦] فئة من المسلمين الذين لم يترسخ الايمان في قلوبهم ، أسرعوا في الكفر حين وجدوا انتصار الكفار ، هؤلاء لم يضعفوا الجبهة الداخلية للمسلمين ، لأنهم كانوا لا ينفعون المسلمين أساسا ، وذلك بسبب ضعف إيمانهم ، ثم إنهم لا ينفعون الجبهة المضادة ، لأنهم انهزاميون بطبيعتهم ، وضعفاء القلوب.

ولكن الخاسر الوحيد بعملهم هم أنفسهم ، الذين خسروا مكاسبهم السابقة ، التي ربما كانت تؤهلهم للجنة ، أما الآن فليس لهم نصيب منها ، بل لهم عذاب عظيم بنقضهم الميثاق ومخالفتهم أمر ربهم.

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)

والتعبير القرآني يقول : في الكفر ، للدلالة على انّ الكفر عمل وليس نهاية حدية يسارعون إليها ، فلم يقل إلى الكفر. كأنّ القرآن يقول : يسارعون في أعمال الكفر ، أو في درجاته.

[١٧٧] هؤلاء بدّلوا الايمان بالكفر ، فهل خسر الله شيئا؟ كلا ، لأن الله واسع القدرة ، غني عن العالمين ، وتقدم الأمة الاسلامية لا يعتمد على هذا الشخص أو ذاك ، بقدر ما يعتمد على نوع الأشخاص ، ومدى تفاعلهم مع الايمان.

وهؤلاء اشتروا بعملهم عذابا أليما.

(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

٧٠٧

ويبدو أنّ الفئة الاولى سارعوا في أعمال الكفر ، أمّا هؤلاء فقد أعلنوا تمردهم علنا وربما لذلك كان عذاب الفئة الاولى عظيما (من الناحية الكمية) ، وعذاب هؤلاء أليما (من الناحية الكيفية).

[١٧٨] ويعتقد هؤلاء بأن مكاسب الكفار دليل على تفوقهم في الدنيا ، أو حتى قربهم الى الله. ولا يعرفون ان زيادة الثروة ، أو الانتصار ، أو ما أشبه ، من مكاسب الدنيا ، قد تكون طريق النهاية ، إذ يسبب الطغيان ، والطغيان يسبب الانفلات والفوضى ، وبالتالي التوغل في الذنوب ، ونهاية الذنوب معروفة. إذا فقد يمكن ان يزيد الله الكفار بعض النعم ، بهدف تحطيمهم وأبادتهم.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)

ان النعمة سلاح ذو حدين ، وان الايمان بالله ، هو الذي يمنع تحول النعمة الى سبب للخسارة. فاذا فقد الإنسان الايمان ، فان النعم تضره بدل ان تنفعه.

ولنتصور طفلا ، أو مجنونا تعطى له قيادة السيارة ، فكلما زاد وقود السيارة واندفاعها ، كلما كانت أقرب الى الهلاك والدمار.

والطغيان الذي يتشبع به الكفار ، نتيجة النعم يقابل عند الله ، بالمهانة لأن الطغيان يدعو إلى الاستكبار.

[١٧٩] تمييز الخبيث من الناس ، عن الطيب نتيجة طبيعية للهزيمة ، حيث يتعرض الجميع للضغوط فينهار المنافقون ، ويصمد المؤمنون الصادقون ، السؤال : لماذا لم يميز الله الخبيث من الطيب غيبيا ، بأن ينزل قائمة بأسماء هؤلاء وهؤلاء؟

الجواب : ان الحياة الدنيا هي حياة المسؤولية. ولا يتدخل الغيب فيها إلّا

٧٠٨

جزئيا ، فمثلا : عن طريق الأنبياء يهدي الله الى مناهج العلم ، وعلى الناس ان يتفكروا ، وان يكتشفوا الحقائق من خلال تجارب الحياة ، (مثل اكتشاف حقيقة الإفراد من خلال الهزيمة).

فعلينا إتباع الرسول فيما يشرعه لنا من مناهج ، ولا ننتظر بعدئذ أن يطلعنا الله على كل صغيرة وكبيرة من حياتنا ، الا بالطرق العادية.

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) الخبيث هو الذي اختار طريق النفاق. والطيب هو الذي آمن بالله إيمانا صادقا.

(وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)

[١٨٠] وكما الجهاد بالنفس : يصبح الجهاد بالمال دليلا على مدى تفاعل الايمان مع النفس كما ان البخل بالمال خصوصا في ظروف الهزيمة دليل الخبث والنفاق.

وما ذا يجني البخيل؟ انه يكدس الثروة ـ التي أعطاه الله ـ لأي يوم؟ هل يكدسها ليوم القيامة ، حيث تتحول ثرواته المغتصبة الى حزام من النار يحيط به ويأخذه الى جهنم؟

أما في الدنيا : فانه سيموت ، ويورث الله ثرواته لمن يشاء ، أو ينتصر الرساليون على أخذ ثرواته شاء أم أبى ، ولا ينفعه التعليل والتبرير ، لأن الله خبير بما يعمل العباد ، ويجازي الناس حسب خبرته لا حسب أقوالهم وادعائاتهم.

٧٠٩

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)

٧١٠

لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ

____________________

١٨٤ [الزبر] : جمع زبور وكل كتاب فيه حكمة فهو زبور.

٧١١

عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)

٧١٢

صفات عبدة العجل

هدى من الآيات :

بمناسبة الحديث عن المتقاعسين عن الجهاد بأموالهم ، وختما لسورة آل عمران التي أعطتنا رؤية متكاملة عن أهل الكتاب ، يحدثنا الدرس هذا عن بعض صفات اليهود ، الذين عبدوا العجل وكان أكثر خلق الله بخلا.

إنهم كانوا يتهامسون بان الله فقير لذلك نجد المؤمنين به هم الفقراء أما نحن فأغنياء ويهددهم القرآن ويقول أن كلامهم هذا مسجل عليهم كما سجلنا سائر أعمالهم السيئة كقتل الأنبياء ـ ان قولهم بأن الله فقير ما هو إلّا تبرير لكفرهم وبخلهم ـ وذلك مثل إنهم برروا سابقا عدم إيمانهم بالرسول ، بأنه يفقد آية الرسالة التي كانت في زعمهم قربانا تأكله النار والدليل على ذلك أنهم قتلوا الأنبياء الذين جاءوا بهذه الآية ذاتها.

إنّ تكذيب اليهود للرسول ليس جديدا عليهم ، بل أنّهم كذبوا الأنبياء من

٧١٣

قبله ، بسبب تشبثهم بالماديات ، تلك الزخارف التي لا بد ان يرحل عنها الإنسان في يوم ، فكل بشر محكوم عليه بالموت ، وانما الفائزون هم الذين يكتسبون الجنة بعد الموت.

ثم يبين القرآن الحكيم : بأنّ مواجهة اليهود ـ وكذلك طبقة الأغنياء البخلاء ـ تتطلب جهودا مضنية ، حيث لا بد أن يسمع المسلمون من الذين أوتوا الكتاب من قبلهم ، ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ، ومن ذلك الأذى أنهم يكذبون بالرسالة ، بالرغم من ميثاق الله والرسول عليهم في الكتاب ، بان يؤيدوها ويصدقوا بها. ان طبقة الأحبار تتحد مع طبقة الأغنياء البخلاء في محاربة الرسالة الجديدة وانّ الأغنياء يحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا.

والله غني عن أموالهم لان له ما في السماوات والأرض.

بينات من الآيات :

[١٨١] الطبقة الغنية ، قد تكون متحالفة مع أولياء الرسالة ، فتكون مجاهدة بمالها في سبيل انتصارها ، ومتعاونة مع الضعفاء من الناس ، وقد تكون متحالفة مع أعداء الرسالة ، وهذه هي السنّة الغالبة.

وعن هذه الطبقة يتحدث القرآن هنا ، ولكن بالرغم من تجسدها في أشخاص اليهود ، لا يذكر القرآن اسم اليهود ، لكي لا يقتصر عليهم الحديث ، بل يبقى شاملا لكل الأغنياء الذين يعادون الرسالة.

إنّ هؤلاء يزعمون أنّ مقياس الحق والباطل هو الثروة ، ويتهكمون على المؤمنين ، ويقولون ان الله فقير ، ولذلك يقبل الفقراء.

وهم يعادون الرسالة الى درجة حمل السلاح في وجه الأنبياء ، واقتراف جريمة

٧١٤

القتل بحقهم ، وكل هذه الأعمال دليل على أنّ الثروة ليست مقياس التقرب الى الله بل أعد الله لهؤلاء عذابا يحرقهم.

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ)

[١٨٢] عذاب الحريق الذي يصيب هؤلاء الأغنياء البخلاء ليس لأنهم أغنياء بل لأنهم بخلوا بحقوق الله.

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)

[١٨٣] ومن أكاذيب هؤلاء التي يبررون بها كفرهم بالإسلام ، وموقفهم العدائي من الرسالة الجديدة ، أنهم يقولون ان العلامة الضرورية لصدق الرسالة غير موجودة في هذه الرسالة وهي : نزول قربان تأكله النار ، ولكن الله يفند هذا القول ، ويبين أنّ تكذيب الرسول ليس جديدا عليهم ، بل هو ناشئ عن موقفهم العام من الرسل. ولذلك حين جاءهم رسل مزودون بتلك العلامة كذبّوا بهم ، وفوق ذلك قتلوهم.

(الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ)

حيث كانت من العادة : ان تنزل النار من السماء ، فتأكل ما يتقرب به الى الله من الذبائح ، للدلالة على تقبّل الله لهذا القربان ، وبالتالي للدلالة على سلامة نية الرسول.

(قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ)

حيث لم تكن العلامة الفارقة بين الرسل وغيرهم ، مجرد قربان ، بل بينات

٧١٥

كثيرة أخرى جاءت بها الرسل.

(وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

إنما أنتم تبررون كفركم عبر هذه الأكاذيب ، وهكذا يبرر طبقة الأغنياء المترفين ، كفرهم بالرسالات وبالحركات التقدمية ، بأكاذيب باطلة حيث يلصقون بها أبشع التهم.

[١٨٤] والتكذيب بالرسالة الجديدة ، إنما هو ناشئ من موقف هؤلاء المبدئي ، من كل رسالة وكل رسول.

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ)

إذن لا داعي للخوف من هذه الطبقة ، إذ ان رسالات السماء كلها انتصرت بالرغم من تكذيب هؤلاء لها ، كما لا ينبغي أن يتزلزل الناس من تكذيب هؤلاء ، ويشكون في صدق الرسالة ، كلا لأنهم مصلحيون يتبعون أهواءهم ، وليس أي شيء آخر.

البيّنات : المعاجز الظاهرة كعصى موسى وإحياء عيسى للموتى.

والزبر : الكتب المنزلة.

وربما يكون الكتاب المنير : هو الآيات المحكمة من الزبر ، وهي تلك التي تنير درب الضالين ، وهو يساوي في المعنى كلمة الفرقان.

[١٨٥] وعلينا إلّا نركع لهذه الطبقة ، ولا نتأثر بما لديها من زينة الحياة الدنيا. إذ أنها ستزول ، أو يزول عنها أصحابها. وإن العظمة الحقيقية ليست لمن يملك بضعة

٧١٦

دنانير أكثر ، إنما لمن يستطيع أن يخلص نفسه من نار جهنم ، ويدخل الجنة.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ)

ان الحياة الدنيا سلعة تغر الإنسان ، أو إنها رأسمال المغترين. أما الواعي فانه يعرف أنها حياة زائلة ، فلا يغتر بها ، ولا يتخذها لنفسه متاعا ، ولا رأسمالا ، ولا رصيدا يعتمد عليه.

[١٨٦] وعلى الامة أن تتسلح بالصبر في مقاومة الطبقة الغنية ، وتعرف بأن مقاومتها ليست بالهينة بل تحتاج الى التضحية بالمال ، والنفس ، وتحمّل الاشاعات الكاذبة ، حتى تستطيع الرسالة من الانتصار عليها ، وعلى أمثالها من الكفار والمشركين. وسلاح الصبر النافذ يصنعه الايمان الصادق بان الحياة الدنيا زائلة وان الدار الآخرة لهي الحياة.

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)

اي أن الله يختبركم ويمتحنكم بإصابتكم في الأموال ، والأنفس.

(وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)

وعلى الامة إلّا تقتصر على الصبر فحسب ، بل وتتسلح ـ أيضا ـ بالتقوى ، وهي الالتزام بواجبات ، ومحرمات الدين بالضبط ، وإذا فعلت ذلك فانها استطاعت ان تمتلك أزمة الأمور بيدها ، لأنّ عزم الأمور ولبابها يتمثل في الصبر والتقوى ، في الصمود والالتزام.

٧١٧

[١٨٧] ومن مفاسد أهل الكتاب التي يجب مواجهتها ، دعايتهم السلبية تجاه الرسالة الجديدة ، هذه الدعاية التي تدخل في إطار ما حذر منه القرآن في الآية السابقة ، حيث أكد بأن الامة سوف تسمع من الّذين كفروا أذى كثيرا.

وان هذه الدعاية مخالفة صارخة لعهد الله معهم ، ومع كل صاحب ثقافة ، ذلك العهد يقضي بأنّ عليه ان يبيّنها للناس ولا يكتمها.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ)

ويؤكد القرآن ان وراء دعايات هؤلاء ثمنا قليلا من متاع الدنيا.

[١٨٨] وكما أنّ على من يملك العلم ، ان يتخمل مسئولية نشره من دون خوف ولا رغبة ، فكذلك على من يملك مالا أن يبذله في سبيل الله ، من دون أي طمع مادي (كأن يحب أن يمدح أمام الناس) ولا حتى عجب بما أتاه في الله (بأن يفرح وكأنه قد أدى ما عليه بالكامل).

إنّ القرآن الحكيم يقصد بالآية السابقة ، طرد طبقة الأحبار عن إطار التأثير في المجتمع ، حيث يقول انهم كانوا قد خانوا أمانة الله في العلم.

وهنا يريد ضرب طبقة الأغنياء البخلاء ، الذين لا يبذلون مالهم إلّا من أجل الإطراء ، أو يزعمون بانّ قليلا من المال يخصلهم من مسئولياتهم الرسالية.

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

[١٨٩] والله لا يحتاج الى مال هؤلاء ، لأنه مالك السماوات والأرض ، وهو قادر

٧١٨

على كل شيء من دون اموال هؤلاء.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

ولان الله ملك السماوات والأرض ، فانّ على أصحاب الرسالة ان يتسلحوا بالتوكل على الله ، في مقاومة هذه الطبقة ، والطبقة الحليفة لها ، وهي طبقة تجار الدين الذين يركعون للأغنياء ، لبضعة دراهم ويخونون دينهم.

٧١٩

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤)

____________________

١٩٣ [الأبرار] : جمع بر وهو الذي بر الله بطاعته إياه حتى أرضاه.

٧٢٠