من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ

____________________

١٢١ [تبوئ] : يتخذ مواضع للغير. يقال بوأت القوم منازلهم وبوأت لهم أي أسكنتهم إياها.

١٢٢ [تفشلا] : تجبنا. والفشل الجبن.

١٢٣ [بدر] : ماء بين مكة والمدينة.

[يكفيكم] : حسبكم.

[يمددكم] : يعطيكم حالا بعد حال. ومنه المد في السير اي الاستمرار.

٦٤١

مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)

____________________

[فورهم] : اي على الابتداء وقيل الفور القصد الى الشيء بحدة.

١٢٧ [يكبتهم] : يخزيهم ويذلهم وأصل الكبت شدة الوهن الذي يقع في القلب.

١٢٩ [ما] : ذكر لفظ لأنها أمم من من فانها تتناول ما يعقل وما لا يعقل لأنها تفيد الجنس.

٦٤٢

الموقف المبدئي من الكفار

هدى من الآيات :

هؤلاء الكفار من أهل الكتاب كيف يجب أن يكون موقف المسلمين منهم؟

انه يجب ان يكون موقفا متصلبا ، يعتمد على المبدأ ، وليس على المصالح ، أو الصداقات الشخصية.

ان بعض المسلمين كان يحب أهل الكتاب ، باعتبارهم أقرب من الناحية الثقافية ، الى المسلمين من المشركين. ولكن القرآن نهاهم عن ذلك ، وبيّن ان مجرد كفر أهل الكتاب برسالتكم ، واتخاذهم موقفا سلبيا منكم. يدعوهم الى اعتبار أي انتصار لكم موجها ضدهم ، وبالتالي فهم يتميزون غيضا من أي تقدم لكم ، ويفرحون كلما أصابتكم سيئة.

وعليكم ألا تهنوا وتدعوا الى الوحدة مع هؤلاء خوفا من مجابهتهم ، بل عليكم ان تلتزموا بالصبر ، والتقوى حتى تدفعوا شرهم. وكدليل تاريخي على أن الصبر والتقوى

٦٤٣

كفيلان بإحراز النصر ، يضرب القرآن مثلا من واقع الامة في حرب بدر ، كيف نصرهم الله وهم أذلة ، وبالتالي كيف يمدد الله المسلمين بالملائكة ، لتطمئن قلوبهم ، فيحاربوا العدو ، وينصرهم الله عليه.

وهناك ثلاث نهايات تنتظر العدو : فاما يكسر الله جناحا من أجنحتهم بالحرب ، وبذلك يحطم جانبا من قوتهم العسكرية. وأما أن يصيبهم الله بنكسة نفسية ، فيعودوا من ساحة القتال ، وهم مصابون بخيبة أمل ، انهم لم يحققوا أهدافهم بالرغم من التضحيات التي قدموها ، أو انهم يعودون الى رشدهم ويستقبلون الرسالة فيتوب الله عليهم ، ذلك ان التوبة لا تخص الرسول ، أو أحدا من المسلمين ان الله هو الذي يقرر من يتوب عليه من عباده ، ومن يعذبهم ، ذلك لان له ما في السماوات والأرض.

بينات من الآيات :

مبدئية الوحدة الإسلامية :

[١١٨] الوحدة القائمة بين المسلمين ، هي وحدة مبدئية ، ولذلك لا يجوز ان تلعب فيها الأهواء والمصالح الخاصة ، فيفضل أحد المسلمين واحدا من الكفار ، ويجعله لمصلحة أو لهوى ، أقرب الناس اليه ، ومن حاشيته وجهاز عمله ، بل عليه ان يختار رجاله من المسلمين أنفسهم ، بالرغم من الحساسية ، أو من الضرر الذي قد يلحق به مؤقتا من جراء ذلك ، إذ ان الضرر البسيط يعوض ، ولكن نفاق الكافر ، وعدم إخلاصه ، وتحينه الفرص بالمسلم ، حتى يوجه إليه ضربة قاضية ، كيف يعوض ..

انهم لا يمنعون عنكم أي ضرر ، قليلا أو كثيرا ، لأنهم غير مخلصين ، وفي الواقع يفرحون ، كلما ارهقكم شيء ، والدليل واضح من ألسنتهم ، حيث انهم يقولون كلاما يحمل في تضاعيفه ما يخفونه في صدورهم ، ذلك ان الإنسان مهما حاول

٦٤٤

إخفاء شيء ، فانه يظهر في فلتات كلامه ، وشوارده ، وسقطاته ، وبالتالي في لحن قوله. وأنتم قادرون لو تدبرتم قليلا ، أن تكتشفوا هذه الحقيقة من خلال كلامهم ..

أما صدورهم فقد ملئت غيظا وضيقا عليكم. هذه هي الآيات الواضحة التي بينها الله لكم ، يبقى عليكم أن تثيروا عقولكم ، ولتفهموا الحقيقة بأنفسكم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً)

البطانة : أقرب الناس الى الفرد والخبال : الضرر.

(وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ)

يحبون عنتكم وارهاقكم وما يؤذيكم.

ولم يقل من كلامهم ، لان ظاهر كلامهم لا تبدو منه البغضاء. ولكن ما يصدر من أفواههم من الغلط ، أو أسلوب الكلام ، أو حتى ملامحهم أثناء الكلام ، هي التي تدل على حقيقة ما في قلوبهم ..

(وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)

[١١٩] الامة الاسلامية تعمل من أجل الناس جميعا. وضمنهم بالطبع الكفار وبصفة خاصة المحرومين منهم والمضطهدين. ولهذا فان المسلمين يكنون الحب للناس جميعا ، بيد ان الكفار الذين اتخذوا موقفا سلبيا من المؤمنين ، واعتبروهم خارجين عن الشرعية ، يختلف الوضع عندهم. انهم ينافقون ظاهرا ، ويكنون أشد البغض للمؤمنين ، ويعتبرون أي تقدم يصيب المسلمين ضررا عليهم ، فيشتد غيظهم. وضيقهم. وتصرفاتهم الانفعالية ، وغير الحكمية نابعة كلها من هذه النفسية المعقدة ، والمتميزة غيظا.

٦٤٥

(ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ)

بينما هم لا يؤمنون بكتابكم ، وهذا هو الفرق ، أنتم لا تحملون حقدا على رسولهم أو كتابهم ، بينما هم يحملون هذا الحقد وينعكس عليهم.

(وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ)

إذ ان صاحب الغيظ الشديد يعض أنامله ، للتخفيف عن غيظه الذي يثقل صدره.

(قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)

ولذلك لا ينظلي عليه النفاق ، ثم انه لا ينصركم ايها المنافقون على المسلمين ، لأنكم أنتم الحاقدون بالباطل عليهم ، ونصر الله يصيب أصحاب القلوب الطيبة والنيات الصافية.

[١٢٠] ومن طبيعة هذه الفئة ، الحسد الشديد ، الى درجة انهم ينتظرون أي نوع من الأذى بكم ، ويستاءون إذا أنعم الله عليكم بأي خير.

(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)

الصبر هو التفكير في المستقبل ، وبعد النظر ، وعدم حساب بعض الخسارات البسيطة إلّا بالقياس الى الأرباح الكبيرة ، التي تأتي في المستقبل ، أما التقوى ، فهي الالتزام بخط الإسلام ، وعدم الانحراف تحت ضغط المشاكل ، أو بعض الخسارات أو حتى النكسات. والتقوى تعني هنا أيضا العمل. حتى لا يكون الصبر انتظارا سلبيا محضا ، انما انتظارا ايجابيا ، يرافقه العمل الجاد من أجل تعويض الخسارة ،

٦٤٦

والضرر وتحويل النكسة الى انتصار.

والكيد يعني : الخطط التي يتبعها العدو ، وهي لا تضر الامة التي تصبر وتتقي. الامة المستعدة للتضحيات ، والواعية الملتزمة بالواجبات.

ثم ان قدرة الله الهائلة ، تقف وراء المؤمنين ، فهو محيط بما يعمل الكافرون ، وعلينا ألّا نستسلم نفسيا لهم ، بمجرد انهم اصابونا بنكسة أو هزيمة ، أو حتى عدة هزائم.

دروس من معركة بدر :

[١٢١] وللمثل على هذه الحقيقة يكفينا أن ننظر الى حرب بدر. وما فيها من دروس وعبر للامة ، وهي الحرب غير المتكافئة ، والاولى من نوعها في مواجهة الامة لاعدائها ، ولقد كانت ذات دروس تلخصها الآيات التالية :

ألف : ان الرسول وهو القائد الأعلى لقوات المسلمين المسلحة ، لم يكتف بأنه على حق ، وانه رسول من الله ، وان الله سينصره. انما قام بالاعداد العسكري ، وبنفسه في ميدان المعركة.

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ)

فأولا : سبقت القوم بالغدو ، وهو الذهاب صباحا مبكرا ، ثانيا : ابتعدت عن أهلك ، ووضعت نفسك في المعركة ، وهذه صفة هامة في القيادة أن تستعد هي للتضحية أيضا .. ثالثا : أخذت تحدد مواقع المؤمنين القتالية ، استعدادا للهجوم ..

(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

يسمع أوامرك ، ووقع نشاطاتك الظاهرة ، ويعلم بما تكن صدور المؤمنين وهو

٦٤٧

يحدد نتائج المعركة ، بما يسمع ، وما يعلم من أعمال ظاهرة ، وقلوب طاهرة.

[١٢٢] باء : ان الرسول واجه مشكلة حرجة جدا ، هي مشكلة الخلاف بين طائفتين من رجاله (المهاجرين ، والأنصار) بسبب توزع ولائهما بين الله ، وبين الأرض ، والعشيرة ، وما أشبه. ولكن الرسول (والإسلام عموما) عالج هذه المشكلة معالجة جذرية ، عند ما ذوب الكيانات الطائفية في بوتقة الايمان بالله ، دون أن يعتمد على طائفة دون اخرى ، وبذلك ضمن جيشا عقائديا ، يحارب من أجل المبدأ ، وليس من أجل الرياء ، والتنافس الطائفي.

(إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)

مع ان الله ولي الطائفتين ، فإنهما كادتا تفشلان بالخلاف ، وهذا الخلاف كان نابعا من الاحساس بالضعف ، حيث كان أهل المدينة منهزمين نفسيا امام أهل مكة ، ويتصورون ان الرسول حملهم أكثر من طاقتهم ، حين أخرجهم لقتال أهل مكة ، ولكن الله بين لهم انه لا داعي للخوف ، ما دام المؤمن يتوكل على الله.

[١٢٣] ونتيجة للاعداد الاستراتيجي ، والاعداد الايديولوجي ، والإخلاص لله ، نصر الله الامة.

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

فلا داعي للخوف كما لا داعي للخلاف ، انما يجب التقوى لله سبحانه بالتزام أوامره كاملة ، وإذا التزم الإنسان أوامر الله فهو شكر نعمه السابقة ، وعموما الشكر يعني ـ فيما يعني ـ : التفكير في أسباب النعمة ، بهدف المحافظة على تلك الأسباب ، وبالتالي المحافظة على النعمة ذاتها ، بينما كفر النعمة يعني العكس

٦٤٨

تماما. وذلك بالتفكير بان النعمة ابدية ، وبالتالي إهمال المحافظة عليها ، وعلى العوامل التي أدت إليها ، حتى تزول النعمة تماما.

كمثل النصر ، لا يجوز لنا ان نركن اليه ، ونترك الاستعداد للمعركة القادمة ، إذ ان النصر نعمة ، ولها عواملها. ومن أبرز عوامل النصر الاستعداد. وعلينا الاحتفاظ بتلك العوامل. والاحتفاظ بعوامل النصر ، يسميه القرآن هنا بالتقوى ، حسبما يبدو.

[١٢٤] جيم : التعبئة المعنوية ذات أثر كبير في الحروب ، والإسلام يوليها اهتماما كبيرا وأهم عنصر فيها ، الإيمان بالنصر (بعد الإيمان بالقيم التي يحارب من أجلها الجندي).

(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ)

[١٢٥] والملائكة وقفوا بجانبكم ، ولكن دون أن يعني ذلك انهم حاربوا بديلا عنكم انما هبطوا بعد تحقق أمرين : أولا : لم يأتوا إلّا بعد ان عملتم أنتم بكافة واجبات الحرب (الصبر والتقوى بالتفسير السابق للكلمتين) ، ولم تبق لديكم حيلة لسرعة مداهمة العدو لكم.

(بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ)

أيّ يقتلون العدو ويخلفون فيه علامة.

[١٢٦] ثانيا : ان أهم خدمة أداها الملائكة لكم ، هي اعادة الثقة بأنفسكم ، واطمئنان قلوبكم بالنصر.

٦٤٩

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ)

أما النصر الحقيقي فهو من الله وليس من الملائكة ، والله قادر على ان ينزل نصره بألف سبب وسبب ، ولكنه لا ينزله من دون كفاءة من ينزله عليه.

(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)

فهو عزيز (قادر ويستخدم قدرته) ، وهو حكيم لا ينصر من ينصره عبثا ، وبدون أن يوفر هو أولا مؤهلات النصر في ذاته.

[١٢٧] دال : أهداف القتال الاستراتيجية ثلاثة : فاما شل القدرة العسكرية للعدو ، أو تحطيم الروح المعنوية له ، أو تحييده موقتا ، ويكون أمره الى الله في المستقبل ..

(لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)

حتى يكسر جناحهم ويشل قدرتهم العسكرية ..

(أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ)

ويفكروا في أنفسهم هؤلاء أقوياء ، ولا نستطيع أن نقاومهم فتحصل عندهم خيبة أمل تكبت طاقاتهم في المستقبل ..

[١٢٨] (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ)

فيدفع شرهم عنك ، ثم ماذا يفعل بهم الله ، فهذا أمر آخر ليس للامة ان تبحث عنه ، فاما يتوب عليهم إذا تابوا ، أو يأخذهم الله بظلمهم بطريقة اخرى غير هزيمتهم

٦٥٠

على أيديهم ، ذلك لان الظلم نار تلتهم صاحبه ، سواء وجدت قوة اجتماعية تعجل في ضرب الظالم ، أم لا ..

[١٢٩] والله قادر على أن يتوب ، كما هو قادر على ان يعذب الظالمين بطريق أو بآخر ..

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

٦٥١

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا

____________________

١٣٤ [الكاظمين] : اي لا ينقمون إذا امتلأوا غضبا. أو غيظا.

١٣٥ [فاحشة] : أصلها الفحش وهو الخروج الى عظيم القبح.

[يصروا] : يقيموا على الذنب. وقيل أصله الثبات على الشيء.

٦٥٢

لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦)

٦٥٣

السلوك الإيماني حصن الأمة

هدى من الآيات :

يبين القرآن في الدروس السابقة : موقف الأمة من أهل الكتاب الكفار ، برسالة محمد (ص) ، وبعد هذا الدرس يستمر السياق في الحديث عن المواجهة المسلحة بين المؤمنين والكفار ، ولكن هنا نجد ان الحديث توجه الى طائفة من السلوكيات الايمانية داخل المجتمع الاسلامي ، لماذا وما هي مناسبة ذلك؟

لدى التدبر في الآيات السبع من هذا الدرس ، نجد عدة نواهي وأوامر تجمعها فكرة واحدة هي : ضرورة تمتين الجبهة الداخلية ، عند المواجهة مع العدو ، وبناء إنسان رسالي ذا شخصية صادقة ، ومجتمع المساواة ، والمواساة ، والمطيع لله وللرسول بدافع الضمير الايماني.

من هنا نجد الحديث عن القضايا التالية :

١ ـ حرمة الربا : باعتباره أكبر خطر لوحدة الامة ، ومثاليتها الرسالية ، وهو

٦٥٤

ثغرة اقتصادية كبيرة.

٢ ـ ضرورة تقوى الله وطاعة رسول الله ، باعتبارهما دعامتين للمجتمع الاسلامي.

٣ ـ المسارعة في الخير ، ووجود دافع ذاتي لدى المسلم في القيام بالواجبات.

٤ ـ الإنفاق في سبيل الله ، وكظم الغيظ ، والعفو ، والإحسان باعتبارها سلوكيات اجتماعية تمتن علاقة الامة ببعضها ، كما تربي صاحبها على التضحية من أجل الله ، بكل شيء بالمال بعزة الذات وغرورة.

٥ ـ الاستغفار بعد الذنب ، باعتباره أكبر وازع نفسي يمنع من الذنب.

ان بناء الإنسان ، والمجتمع ذي المواصفات السابقة ، هو الاعداد الحقيقي للمعركة مع العدو ، والا فان الحرب تصبح خاسرة ، وبلا محتوى رسالي صالح.

بينات من الآيات :

خطر الربا :

[١٣٠] الربا : أو الفائدة على المال ، التي تتضاعف بصورة طبيعية كلما ازدادت السنين كلما ازداد الفقير مسكنة ، والغني شبعا وجشعا انه ـ خطر كبير على وحدة الامة الاسلامية ـ وبالتالي خطر على الشخصية الرسالية المثالية ، التي يقدمها المجتمع الاسلامي نموذجا للحياة السعيدة ، وخطر في المواجهة مع العدو.

ان «الربا» قد يبدأ بذرة صغيرة ، ولكنه ينمو في نفس الغني ، حتى يصبح شجرة خبيثة للجشع ، وينمو في نفس الفقير حتى يصبح جدارا ضخما من الكراهية. وينمو داخل المجتمع حتى يصبح طبقية مقيتة ، وتصل درجة الطبقية الى حد تعاون

٦٥٥

المرابي مع العدو الخارجي ضد أمته وشعبه.

والإسلام حرم الربا ، ولوح بان عذاب المتعاطين له كعذاب الكفار ، وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

[١٣١] (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ)

ولا يمنع الربا الا بتقوى دفينة في النفوس ، ذلك ان الربا هو رمز الاستغلال البشع والإسلام لم يحرم الرمز فقط ، بل وحرم الاستغلال بكل أنواعه وصوره ، حرم الاحتكار ، وحرم الغش ، وحرم الاسترسال في الربح ، وحرم السرقة ظاهرة وباطنة ، وحرم الرشوة ، وحرم تحديد حرية التجارة ، والصناعة ، والزراعة لمصلحة الأغنياء.

لذلك يجب ان يكون المجتمع المسلم ضمير حي يتمثل في تقوى الله ، حتى يكف عن الاستغلال ، ويتطهر من الجشع المؤدي اليه ، وآنئذ فقط تتحقق السعادة والفلاح للمجتمع (لعلكم تفلحون) ..

[١٣٢] حين يتطهر المجتمع من الاستغلال ، يتطهر من أكبر أسباب التمرد والنفاق ، ويستعد للطاعة للرسول ، خصوصا في تحكيم الرسول في الخلافات العرقية والقومية ، والمصلحية ، بين فئات المجتمع ، لذلك ذكّر القرآن ..

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)

وطاعة الرسول تستدرج الرحمة والرفاه ، لأنها تقضي على نوازع الشر ، وأسباب الخلاف والتمرد ، وتوجه الامة كلها باتجاه البناء ، في ظل اطمئنان وارف يشعر الجميع بان جهودهم لن تذهب سدى.

٦٥٦

[١٣٣] وإذا شعر الجميع بالاطمئنان ، جاء دور التوجيه الى تفجير الطاقات ، والتسارع الى الخيرات ، والى مغفرة الله ، كهدف سام لا بد لجميع أبناء الامة أن يبادروا اليه ، أو حتى يتنافسوا من أجله.

(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)

والمغفرة من الله ، تتبع إصلاح الفساد الاجتماعي والسلوكي ، فلا يغفر الله لمجتمع مكب على أصنام له ، أو مصر على الظلم والاستغلال ، والمنكر والفحشاء ، كما لا يغفر لفرد لم يترك المحرمات ، انما يغفر لهما بعد ان يتركا الذنب ، ويصلحا ما أفسده الذنب فيهما ، فيعيد الظالم حقوق المظلوم اليه. والمستغل يكف عن استغلاله ويسترضي ضحاياه بالمبرات ، وتارك الصلاة يقضي صلواته وهكذا ..

أما الجنة فانها تأتي بالمسارعة في الخيرات ، فبعد عملية الإصلاح تبدأ عملية البناء بالعمل الصالح النشيط والمستمر ذي الهدف الخيّر. إن هذا من أبرز معالم المجتمع المسلم ومن أقوى دعائمه التي يعتمد عليها في مواجهة العدو.

كيف نفوز الجنة؟

[١٣٤] ما هي الأعمال الصالحة التي يجب التسارع فيها للوصول الى الجنة؟! انها كالآتي :

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)

وبتعبير آخر : الصفة الاولى : هي العطاء سواء في حالة اليسر أو العسر ، وبالتالي التضحية بالمال ، والإيثار به.

٦٥٧

الصفة الثانية : عدم الاندفاع مع شهوات الذات ، وبالتالي التضحية بغرور الذات وانانيته وطغيانه وجفوته في سبيل الله ، وذلك بكظم الغيظ ومن ثم العفو عن الناس ، ان كثيرا من الخلافات الاجتماعية الحادة تنشأ في البدء من حساسية بسيطة بين شخصين ، تشتد حتى تصبح خلافا عقائديا مزعوما. وفي المجتمع الاسلامي يجب قتل الحساسية وهي في المهد حتى لا تكبر وتصبح مشكله كبيرة.

الصفة الثالثة : الإحسان الى الناس وخدمتهم بالمجان لأنه الرابطة القوية التي تشد المجتمع ببعضه.

[١٣٥] والصفة الرابعة : للمتقين ـ وجود وازع نفسي يردهم عن ارتكاب الذنوب أو على الأقل التمادي فيها.

(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً)

ذنبا كبيرا يعود ضرره على الناس.

(أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)

بذنوب بسيطة يقتصر ضررها على الذات فقط.

(ذَكَرُوا اللهَ)

وعرفوا : ان الله يراقبهم ويحاسبهم ويجازيهم.

(فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)

أما في حالة الغفلة والنسيان ، أو طغيان الشهوة ، فقد يقعون في الذنب ثانية ،

٦٥٨

ولكنهم يستغفرون فورا ، لأنهم لم يتعمدوا ذلك بوعي كامل.

[١٣٦] (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ)

هذه هي صفات المجتمع الاسلامي ، والشخصية الإيمانية التي يعدها الإسلام نموذجا للحياة السعيدة ، وقوة يحارب بها الكفار ، وانك لترى ان الصفة الأساسية في هذا المجتمع هي تقوى الله.

٦٥٩

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ

____________________

١٣٧ [سنن] : السنة الطريقة المجعولة ليقتدي بها ومن ذلك سنة رسول الله (ص) وأصل السنة الاستمرار.

[موعظة] : ما يلين القلب ويدعو الى التمسك بما فيه من الزجر عن القبيح والدعاء الى الجميل وقيل الموعظة هو ما يدعو بالرغبة والرهبة الى الحسنة بدلا عن السيئة.

١٣٩ [تهنوا] : الوهن ـ الضعف.

١٤٠ [قرح] : جراحات.

[نداولها] : الدولة الكرة لفريق بنيل المراد.

٦٦٠