من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

ونلاحظ وجود منعطف صارخ في سياق بعض الآيات ـ الهدف منه ـ بيان حقيقة علمية ترتبط بواقع التزكية التي يهدفها ظاهر السياق.

فمثلا يقول الله سبحانه :

«وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ* وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ* وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ* وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ» (الشورى ـ ٢٨).

نرى في السياق منعطفا صارخا عند قوله سبحانه :

«وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ».

حيث لا يرتبط ظاهرا بما قبله من قوله تعالى :

«وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ».

وبما بعده من قوله سبحانه :

«وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا».

ووضع هذا المنعطف إنما هو لبيان سنّة فطرية تجري في العباد هي فقدهم للتوازن إذا ثقلت عليهم النعم ـ باعتبار ان النعمة بحاجة الى قدر من التحمل والضبط ، ربما بقدر أو أكثر مما تحتاج النقمة إليها.

ان إبداع هذا المنعطف في سياق الآية الذي يبدو مستقيما بدونه ـ إنما هو لهدف بيان الحقيقة العلمية ، في ثنايا التوجيه النفسي ليس فقط من أجل توظيفها في خدمة

٤١

التزكية ، بل وأيضا من أجل بيانها للناس.

(ب) : والأسلوب التربوي الذي يتبعه القرآن الحكيم ـ في تزكية النفس ـ أسلوب علمي بذاته. إنه أسلوب مرحلي يتابع مراحل التزكية ، بما يتناسب معها من الأثارة العاطفية ، والتوجيه الفكري والزخم الايماني إنه أسلوب يربط ـ بحكمة بالغة ـ بين الفكرة الموظفة والهدف المنشود.

وبكلمة إن البشرية تسعى منذ قرون في سبيل وضع مناهج علمية للتربية. والقرآن سبق البشرية جميعا في استخدام كل هذه المناهج وغيرها مما يطول بيانها تفصيلا.

وهذا يهدينا الى حقيقتين :

١ ـ ان يوسعنا معرفة المناهج العلمية الأصوب عن طريق تتبع المناهج القرآنية آية بآية ، وموضوعا بموضوع.

٢ ـ ان بوسعنا الانطلاق من نقطة واحدة في دراسة هذه المناهج إلى قاعدة شاملة عند ملاحظتنا للقرآن الحكيم تماما ، مثل انطلاق المهندس القدير من النظر إلى عمارة واحدة إلى معرفة القاعدة الهندسية التي قامت وفقها هذه العمارة. ومثل تفهم الطبيب الحاذق من وصفة طبية القاعدة العلمية التي استند إليها ذلك الذي كتبها ـ وهكذا ..

فمعرفة المناهج قد تهدينا الى السنن الفطرية التي روعيت عند وضع هذه المناهج وبالتالي نستطيع فهم السنن هذه.

٤٢

القرآن الحكيم بين الظاهر والباطن

بعد ان تعرفنا على خطي القرآن المتشابكين خط التزكية وخط التعليم ، وعرفنا ان الهدف الأهم الذي يبدو من سياق آيات القرآن هي التزكية ، بعد ذلك نستطيع أن نهتدي إلى الظاهر والباطن.

فالظاهر هي التزكية ، بينما الباطن هو التعليم.

وقد جاء في حديث مأثور : «ان ظاهر القرآن حكم وباطنه علم» والحكم هي الشريعة مع موجبات تنفيذها من ترغيب وترهيب وقصص وأمثال. بينما العلم ـ هي السنن الفطرية التي بيّنها القرآن المجيد. والقوانين العلمية التي أشار إليها.

وجاء في حديث آخر : «ظهر القرآن الذي نزل فيهم وبطنه الذين عملوا بمثل أعمالهم» (١).

__________________

(١) تفسير الصافي الجزء الاول ص ١٧

٤٣

ومن المعروف ان قصة الذين نزل فيهم القرآن تعتبر الجانب التربوي منه ، ولكنه حينما ينتزع القرآن من القصص سننا عامة تشمل الذين نزل فيهم وتسع الذين عملوا بمثل أعمالهم. تعتبر ـ آنئذ ـ تلك السنن علما بالتاريخ أو الاجتماع أو ما أشبه.

وجاء في حديث آخر : ان رجلا قال : سألت الامام عما يعني بقوله : للقرآن ظهر وبطن؟ قال : «ظهره تنزيله وبطنه تأويله ، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد يجري كما يجري الشمس والقمر ، كلما جاء منه شيء وقع»

وهذا الحديث يؤكد معنى الحديث الأول ـ ويتظافران على ان تنزيل القرآن هو الظاهر الذي يدل على اللفظ بينما التأويل وهو أيضا بطن القرآن ـ إنما هو الواقع العلمي الذي يهدي إليه الظاهر وينطبق على كل من يشارك مع أولئك في أعمالهم.

وقد عبرت بعض الأحاديث عن علوم القرآن ب (البطن) لأنها تخفى على الناس ، ثم تظهر بالتدبر ، وحسب اختلاف الناس ـ من النواحي العقلية والعلمية تختلف درجات الخفاء ـ حتى يعتبر الواقع الواحد ، ظهرا بالنسبة إلى فريق ، وبطنا بالنسبة إلى فريق آخر. لذلك تعددت البطون والأظهر بقدر تعدد درجات الناس في العقل والعلم. وجاء في حديث : ان رجلا قال : سألت أبا جعفر (ع) ، عن شيء من تفسير القرآن ، فأجابني. ثم سألته ثانية فأجابني بجوانب آخر فقلت : جعلت فداك ، كنت أجبت في هذه المسألة بجواب آخر غير هذا قبل اليوم. فقال لي : «يا جابر ، ان للقرآن بطنا وللبطن بطنا وظهرا وللظهر ظهرا»

وهكذا فسّر الامام (ع) آية واحدة عدة تفاسير حسب درجات السائل ـ إذ أنه حينما عرف تفسيرا يشرح ظاهر القرآن استعد علميا ، لمعرفة تفسير يشرح بطنه.

بهذا نعرف معنى عدة أحاديث مأثورة تقول ان للقرآن سبعة ابطن أو سبعون بطنا. وبهذا أيضا نعرف قيمة التدبر باعتباره الكاشف لبطون القرآن كلما تدبرت كلما ازددت علما.

٤٤

القرآن الحكيم

بين المحكم والمتشابه

لأن القرآن المجيد خطاب مباشر من الله خالق كل إنسان وإلى كل إنسان فلا بد أن يكون مفهوما لهم جميعا. بقدر ما يكون مهيمنا عليهم يكون مفهوما ، لأنه خطاب ويكون مهيمنا لأنه من الله.

ولأن الناس درجات في العلم والايمان ، فلا بد ان تكون آيات القرآن درجات فتنشأ المشكلة ، حيث تكون الدرجة العالية غير مفهومة لمن هم في الدرجات الدنيا.

وهنا يتدخل القرآن ذاته لحل هذه المشكلة بأن يوقف هؤلاء الناس عند حدّهم ويأمرهم بترك الآية غير المفهومة لهم. تركها لمن يفهمونها ممن تتناسب درجاتهم معها بينما يكون عليهم ان يستوحوا من تلك الآيات التي تنالها افكارهم وتتفق مع مستوى نضجهم ، والقرآن الحكيم. يسمى الآية المفهومة ب (المحكم) بينما يدعوا الآية التي هي أعلى من مستوى فهم القارئ ب (المتشابه) ويأمر الناس باتباع المحكم وترك المتشابه.

٤٥

ومن هنا نعرف أن ليس الناس سواء في المحكم والمتشابه. إذ ان المحكم الذي يبدو واضحا عند فرد ـ لأنه في مستوى فهمه ـ يكون متشابها عند فرد آخر ، لأنه أعلى من مستواه.

من هنا جاء في الحديث في تفسير المتشابه بأنه : «ما أشبه على جاهة» وعليه يجب على من لم يؤت فهم آية عليه أمران :

١ ـ أن يقف عند الآية. ولا يصيبه الغرور فيزعم انه قادر على فهم الآية ، فيفسّرها برأيه فيضل ويضل الآخرين.

٢ ـ ان يلتمس من هو أعلى درجة منه لعله يتعلم منه معنى الآية. ولو لم يفهم ـ حتى مع التعليم ـ فعليه ان يدع علمه إلى أهله.

هذه الحقائق هي التي تذكر بها الآية الكريمة التي تقول :

«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ ـ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ ـ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ـ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ» (٧).

وجاء في الحديث : عن الامام الصادق (ع): «أن القرآن فيه محكم ومتشابه ، فأما المحكم فنؤمن به ونعمل به وندين به ، وأما المتشابه فنؤمن به ولا نعمل به» (١).

__________________

(١) تفسير الصافي ج ٢ ص ١٨

٤٦

القرآن الحكيم والأحرف السبعة

جاء في حديث شريف : «نزل القرآن على سبعة أحرف أمر ، وزجر ، وترغيب ، وترهيب ، وجدل ، وقصص ، ومثل» (١).

وجاء في حديث آخر : «ان الله تبارك وتعالى انزل القرآن على سبعة أقسام كل قسم منها كاف شاف وهي : أمر ، وزجر ، وترغيب ، وترهيب ، وجدل ، ومثل ، وقصص» (٢) ..

وقد تظافرت الأحاديث ، التي تقول ان القرآن نزل على سبعة أحرف. وذهب فريق من المسلمين إلى تفاسير بعيدة لهذه الكلمة فقد قال بعضهم : ان الله اوحى سبع مرات ، سبع كتب كلها قرآن.

بيد ان الجانب التربوي الذي يهدفه سياق ظاهر القرآن بحاجة إلى هذه

__________________

(١) تفسير الصافي ج ١ ص ٣٩

(٢) نفس المصدر

٤٧

الأحرف ـ السبعة ـ فقسم منه امر بالخير وقسم نهي عن شر. وقسمان منه ترغيب لمن عمل بالخير ووعد له بالجنة ـ والفلاح ـ وترهيب لمن اقترف الشر ووعيد له بالنار والشقاء. كل ذلك ليكون قوّة تنفيذية ـ نابعة من ذات الآية.

يبقى الجدل ، وهو ضروري في كتاب يحمل سمة العقيدة لأن هناك شبهات راسخة في قلوب البسطاء يجب تصفيتها قبل البدء بتزكية النفس ـ وطريقة التصفية الجدل ـ والمناقشة الهادفة.

وللقرآن سمة هامة تطبع جميع مناحيها. وهي سمة الحيوية التي تجعل من الفكرة ـ واقعا يتحرك أمام أعين الناس وتتحقق هذه السمة بواحدة من اثنتين : إما القصص التاريخية التي لها حقيقة مضت ، وإما الأمثال التي لا حقيقة خارجية لها.

وهذا التقسيم في القرآن الحكيم ـ سيعطينا فرصة لفهم كتاب الله إذ أن مجرد تقسيم نص ـ اي نص كان يعطي الفرد قدرة هائلة على اكتشاف خفاياه!

٤٨

القرآن الحكيم وإثباتات معانيه

ما هي الاثباتات اللغوية التي يمكننا الاعتماد عليها في فهم القرآن الحكيم؟ نرى ثلاثة إثباتات رئيسية لمعنى القرآن : اللغة ، والسياق ، والتفسير المضمون.

(أ) اللغة :

بالرغم من أن اللغة العربية ، أشمل وأدق وأجمل اللغات في انها تعطي لكل حقيقة لفظا قريبا يتناسب معها تماما ، وبالرغم من أن العرب اختاروا لكل تطور ينشأ في شيء ـ لفظا يخصه ـ ويوحي إلى تلك الحقيقة متلبسة بذلك التطور.

بالرغم من هذا وذاك فان الكلمات العربية اكتنفها الغموض ، مما أفقد إيحاء اللفظ وظلاله. فلم نعد ـ نحن العرب ـ نملك رهافة الحس التي كانت تكشف الفرق ما بين لفظتي «قرب ـ اقترب» أو «فكر ـ افتكر» حتى لم نعد نعرف الفرق بين كلمتي سار وسارب و «دلك وأولج» وما أشبه.

ويعود ذلك الى :

٤٩

ـ أولا : كثرة استعمال الألفاظ في غير معانيها الأدبية ، فحينما يستعمل العربي كلمة قرب في المجال المحدد ل «اقترب» أو حتى كلمة سار في موضع كلمة سارب ، يختلط ظلال الكلمتين مع بعضهما ـ وتضيع الإيحاءات الخاصة.

ـ ثانيا : تعلقت أذهاننا بمعاني جامدة ومحددة لألفاظ عربية ، وفقدنا الشعور بمحور شعاع الكلمة ، نحن حينما نستعمل كلمة «جن» يتبادر الى أذهاننا المخلوق الغريب ، دون ان نفكر ولا لحظة حول ارتباط كلمة «ج ن ن» مع هذا المخلوق ونستعمل كلمة جنين دون أن نعرف أن هناك علاقة تناسب مع معنى الولد في بطن أمه ـ (جنين) ومعنى المخلوق الغريب (جن) وهي أن كليهما مستور عن أعين الناس.

وكذلك نطلق لفظة الخمر للدلالة على السائل المسكر ، ونطلق لفظة الخمار ـ للدلالة على الساتر لوجه المرأة ، ولا نلاحظ ان علاقة اللفظين ببعضهما إنما هي من ناحية الستر ، فهذا يستر الوجه ، وتلك تستر العقل.

وهكذا تتداخل ايحاءات اللفظ العربي ببعضها ونفقد بذلك فهم أهم سمة من سمات اللغة العربية التي لو فهمناها يسهل علينا فهم القرآن كثيرا.

من هنا يتوجب علينا الخروج من الفهم التقليدي للألفاظ العربية ـ نحو أفق اسمى ، يستشم المعنى الايحائي العام منها.

وهذا الخروج ضروري لفهم القرآن الحكيم إذ أنه في قمة البلاغة التي تتلخص في رعاية التناسب الشامل بين الموضوع ـ واللفظ وبين الواقع والتعبير. فيكون كشف المنحنيات التعبيرية والإيحاءات اللفظية ذات أهمية خاصة في القرآن أكثر من أي كتاب آخر لأنها معنية فيه بشكل لا يوصف.

٥٠

يبقى السؤال عن كيفية الخروج؟

والجواب : على الفرد :

١ ـ أن يتجرد أولا عن موحيات المناخ الفكري الذي يصور له ـ معنى جامدا للفظ.

٢ ـ ثم الرجوع الى المادة الأساسية التي تجمع كل التصريفات للكلمة ، والتفكير في المعنى المناسب لربط هذه المجموعة باللفظ ، فمثلا : يجمع معاني يعرشون ، عرشا ، معروشات ونعود الى تصريفات اللفظ الاخرى ، عريش ، وعرش وما أشبه لنستنبط منها جميعا معنى البناء الفوقي لأنه يجمع معاني سرير الملك والبناء ، والمرفوع ، وسيباط الكرم ، والخيمة من الخشب هذه المعاني التي ذكرتها العرب لهذه الألفاظ.

٣ ـ قياس موارد استعمال اللفظ ببعضها ـ ليعرف المعنى المشترك ـ الذي يمكن أن يتصور معنى جامعا بين هذه الموارد. ومن الطبيعي أن يعتبر في الاستعمال ان يكون على لسان أهل اللغة المعتنين بالبلاغة.

والأدباء اليوم يكتشفون ظلال الكلمات وإيحاءاتها من موارد الاستعمال في منطق البلغاء أكثر مما يكتشفونها في بطون الكتب اللغوية.

وذلك لأن ما في كتب اللغة لا يعدو ان يكون تسجيلا ميتا لموارد الاستعمال ، أو استنباطا لمعنى مشترك منها قد قام به مؤلفوا الكتب ، ومن هنا يكون تعرف الشخص ذاتيا بهذه الموارد واستنباطه بنفسه المعنى الجامع بينها ، أفضل من تقليد كتب اللغة.

وبكثرة النظر في موارد الاستعمال يؤتى الفرد حسا أدبيا مرهفا يجعله يميز بين كلمتين مترادفتين بشكل دقيق ، بالرغم من أنه قد لا يستطيع الإفصاح عما يعرفه

٥١

بدقة وتحديد. وإذا كان قياس موارد الاستعمال ببعضها أفضل السبل لمعرفة المعنى الحقيقي للفظ ما ، فان أفضل قياس من هذا النوع هو قياس موارد استعمال الكلمة في القرآن ذاته ، إذ أنه ـ ولا ريب ـ ذروة البلاغة العربية ، التي عجز عن تحديه أبلغ فصحاء العرب.

من هنا يجدر بالذي يريد التدبر في القرآن ذاته ، أن يبحث عن المعنى المحدد للكلمة في آيات القرآن ذاته ، ليجد ـ بقياس بعض المواقع المستعملة فيها الكلمة ببعضها ـ ليجد بذلك المعنى الدقيق الذي يقصده القرآن.

(ب) السياق :

لو بحثنا عن أول يوم تعلمنا فيه اللغة لعرفنا أن السياق كان أول سبيل لهذا التعليم. فالوالد استعمل لفظ العصى عند ما ما كان يتكلم عن الضرب فعرفنا أنه وسيلة الضرب والوالدة أطلقت لفظة الولاعة حينما تكلمت عن الطبخ فعرفنا أنها وسيلة النار. و.. و.

ولا ريب أن وجود اللفظ في اطاره المتناسب يوحي بمعناه ربما أكثر من تفسير اللفظ بدون سياق يحده.

والقرآن الحكيم ، ذلك الكتاب البليغ الذي يناسب بين المفردات في اطار السياق بحيث يصعب عليك تبديل لفظه بأخرى دون ان تضر بتناسب الكلمات.

لذلك يهدينا السايق ذاته الى المعاني الدقيقة للكلمات لأنها وضعت في موقع متناسب جدا مع تلك المعاني ، فاذا أردنا أن نعرف بالدقة معنى اللفظ كان علينا مراجعة ما قبلها وما بعدها ، لمعرفة ما يتناسب معهما من معنى لهذه الكلمة ، فمثلا لو أردنا ، أن نكتشف معنى «قصد» في هذه الآية.

٥٢

«وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» (٩ / النحل)

لو أردنا ذلك قارنا بين القصد ، والجائر ، والهداية ، نعرف معنى القصد. لأنه جاء في مقابل الجائر الذي يعني المائل ، فالقصد هو المستقيم ، والجائر هو الظالم فالقصد هو العادل.

أو إذا أردنا التعرف على معنى «نفش» في هذه الآية :

«وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ، وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ» (٧٨ / الأنبياء)

لو أردنا ذلك لم يكن علينا الا قياس كلمة نفشت بالحرث والغنم والحكم. مما نعرف انه إتلاف الحرث ، وهكذا.

وقد جاء رجل الى صحابي فسأله عن معنى «الأبّ» الذي جاء في الآية الكريمة ، وفاكهة وأبا ، فلم يعرفه. وجاء علي عليه السلام وقال : ما مفاده إن معنى اللفظ موجود في الآية ذاتها لأن الله سبحانه يقول :

«وَفاكِهَةً وَأَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ» (٣١ ـ ٣٢)

فالفاكهة لكم والأب لأنعامكم.

(ج) التفسير :

معرفة الإطار التاريخي الذي شاهد نزول الوحي ومعرفة المورد الخاص الذي نزلت فيه والموقف الاجتماعي الذي وجهته الآية. ذو أثر كبير في تفهم المعنى الدقيق. للآية.

ومعرفة تفاسير أئمة الوحي (ع) للآية قاطعة في معانيها. بيد أن تفاسير الأئمة (ع)

٥٣

قد تختلف بينها أو تبين تطبيقا واحدا للآية. وهنا لا بد أن نتخذ منها سبيلا لفهم المعنى العام الذي يحل مشكلة الاختلاف ـ من جهة ـ ويعطي الآية تطبيقات أشمل من جهة ثانية. ولذلك يجب أن لا نجمد في النصوص الواردة في تفسير الآيات على انها المعاني الوحيدة التي تحملها بل نتخذ منها وسيلة لفهم المعنى الأشمل للآية. وندرس كيف ولماذا انطبقت الآية على المورد الذي يعينه التفسير لنعرف انه هل يمكن تطبيق الآية أيضا على مورد متشابه أم لا؟

فمثلا جاء في بعض النصوص التفسيرية أن الآية الكريمة :

«إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» (١٠٦)

نزلت في حق عمار بن ياسر حسنا فهل من الممكن تجميد الآية في عمار؟ كلا. بل يجب أن نفكر كيف جاءت الآية تطبيقا على حالة عمار أليس لأنه كان قد أكره على الشرك فأعطاهم بلسانه ما أحبوه أو ليس ذات الموقف لو تكرر لرجل اليوم وصنع مثل ما صنعه عمار تنطبق عليه.

إن هذا الأسلوب من التفكير يجعل القرآن حيا في أذهاننا أبدا. وقد أمر به الدين ـ

فجاء في الحديث : «لو أن القرآن كان يذهب بموت من نزل فيهم لذهب القرآن كله ، وإنما مثله كمثل الشمس كل يوم جديد»

بهذا نعرف ضرورة الاستفادة من التفسير الصحيح بالفهم الواعي لحدود تطبيق التفسير لعموم الآية.

٥٤

الفصل الثالث :

منهج التدبر في القرآن

ـ التدبر والصفات النفسية

ـ التدبر والصفات العقلية

ـ التدبر والسياق القرآني

ـ التدبر والواقع الخارجي

ـ التدبر والتطبيق القرآني

ـ موجز لمنهج التدبر في القرآن

٥٥
٥٦

التدبر والصفات النفسية

عدة صفات نفسية ينبغي ان يتحلى بها المتدبر في القرآن ليستطيع فهم آياته المجيدة حتى يتسنى له بعد تطبيق طرق التدبر على نفسه ـ معرفة الحقائق التي تنطوي عليها الآيات ، وإليك بعض هذه الصفات :

١ ـ الايمان بالقرآن على أنه كتاب أوحى به الله رب السموات ليكون لعباده مبشرا ونذيرا ، وهاديا الى الحق باذنه وسراجا منيرا.

لا بد أن نقرأ القرآن بوصفه خطابا موجها إلينا من الله العظيم ، فقد جاء في الحديث : «أن في القرآن المناجاة مع الرب بلا واسطة فانظر كيف تقرأ كتاب ربك ومنشور ولايتك ، وكيف تجيب أوامره ونواهيه وكيف تمثل حدوده» (١) إنه وثيقة ارتباطنا بالمبدإ المعيد ، بالله.

__________________

(١) تفسير الصافي ج ١ ص ٤٧

٥٧

إنه المنقذ من كل ضلال وشقاء. جاء في الحديث : «القرآن عهد الله الى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم ان ينظر إلى عهده»

إن القرآن قد يخاطب رسوله في نصوصه ولكنه لا يعنيه فقط : بل ويعني معه كل شخص تال له ـ جاء في حديث مأثور عن الامام الصادق عليه السلام ان القرآن نزل على لغة : «إياك أعني واسمعي يا جارة» أي إنه خطاب موجه الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه شامل أيضا لك ولي ولكل التابعين له.

حينما يقول القرآن :

«فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» (١٩)

يجب أن أبادر بالاستغفار لأنه خاطبني شخصيا بذلك.

وحينما يقول الله :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا»

يجب أن استعد لتلبية أمره. وأقول : لبيك ـ اللهم ـ لبيك ماذا تأمرني؟.

وحينما يقول :

«يا أَيُّهَا النَّاسُ»

أقول نعم. ماذا نعمل؟ وهكذا.

لقد كان أولياء الله العارفين يتلون القرآن بهذه الصفة ـ فكانت جلودهم تقشعر وقلوبهم ترتجف حين يقرءون اية ، بل كانوا يصعقون لعظمة وقع الآية في نفوسهم.

٥٨

لقد تلى الامام الصادق عليه السلام آية في صلاته وردّدها مرات. فصعق صعقة ووقع مغشيا عليه. فلما أفاق سئل عن ذلك منه قال : «لقد رددتها حتى كأني سمعتها من المتكلم بها فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته» (١).

٢ ـ وتنشأ من صفة الايمان بالقرآن ـ صفة كريمة أخرى هي الاستعداد لتطبيق آياته. ان هذه الصفة شرط هام في فهم آيات الله إذ أن التسليم المسبق لنتائج البحث عن الحق يساعد النفس على البحث المجرد ، كما ان الاستكبار والتردد في قبول نتائج البحث العلمي يقلل من قيمة هذا البحث عند الإنسان وبالتالي يصرفه عنه.

من هنا كان على الإنسان ان يجعل القرآن أمامه ويسلم إليه زمام أمره. قبل أن يبدأ بتلاوة آياته حسبما يصف الامام علي عليه السلام المؤمن الصادق فيقول : «قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده وإمامه يحل حيث حل ثقله وينزل حيث كان منزله»

وان فريقا من الناس يتلون القرآن فيؤولون آياته حسب أهوائهم ابتعادا عن العمل بها إن هؤلاء لا يؤتون فهم القرآن أبدا. بل ان تلاوة القرآن ستزيدهم وزرا ووبالا.

إنما يؤتى علم القرآن من تواضع للحق وسلم لله وفتش عن الواقع. واستعد سلفا لاتباع الحقيقة لو انكشفت له.

__________________

(١) الصافي ج ١ ص ٤٧

٥٩

التدّبر والصفات العقلية

وان أهم الصفات العقلية الضرورية للتدبر هي التركيز والشجاعة.

١ ـ ان تركيز شعاع الشمس عبر زجاجة مقعرة هو الذي يسبب في تحويل هذا الشعاع الى طاقة جبارة. كذلك تركيز شعاع الفكر عبر نقطة واحدة سوف يضاعف من فاعلية الفكر ويكشف الحقائق بوضوح.

وبمدى أهمية التركيز يكون مدى صعوبته إذ أن النفس تقاوم التفكر في أمر واحد ولكن على الذي يريد الفهم أن يروض نفسه على صفة التركيز فيظل يوجه اهتمامه الى شيء واحد عدة لحظات حتى يعرفه.

ولهذا جاء في الأحاديث الأمر بترتيل القرآن لأنه أقرب إلى التركيز من التهامه.

فجاء في حديث : قال أمير المؤمنين عليه السلام ، في تفسير قول الله تعالى :

«وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً»

٦٠