من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

ثانيا : عن خلق الله للحياة وللعالم. وخلق الله للإنسان تزويده بالعلم وتحميله مسئولية الاختيار بعد ان زوده بالإرادة أيضا. ثم قصة الخطيئة الاولى حيث يوجزها القرآن هنا والعوامل المؤدية إليها ..

ثالثا : عن ان الإنسان اليوم مزود أيضا بالعلم والارادة وعليه ان يتحمل مسئولية اعماله ..

وهذه بالطبع عبرة القصة السابقة. وخلال عرض القرآن هذه المراحل ، يكشف لنا عن حقائق كبيرة اخرى.

بينات من الآيات :

[٢٦] اخطر شيء يهدد قدرة الإنسان على التفكير السليم هو الاستياء وهو حالة نفسية. تسجن العقل في زنزانة الذات وتصور له ان الفكر الصحيح والرأي السليم هو ما يصنعه خيال الإنسان نفسه ، وان الحياة لا عبرة فيها ولا معرفة. وهناك يستكبر الإنسان على تعلم التجارب الجديدة وعلى الاستفادة من تجارب الآخرين أو الانفتاح على معارفهم وعلومهم. ولكي يصور لنا هذه الحالة وأثرها السلبي في قدرة الإنسان على التفكر السليم ، يحدثنا عن قصة البعوضة انها صغيرة ومتواضعة ولكنها قد تعلمنا أشياء كثيرة.

فاذا استكبرنا وقلنا ما قيمة البعوضة حتى نتعلم منها ، فإننا سوف لا نفهم شيئا الى الأبد وإذا طرحنا المسألة بشكل آخر وقلنا نحن جهلاء والعلم ينفعنا وما يضرنا لو أخذنا العلم من هذه البعوضة.

ولكن كيف ولماذا يستكبر البعض فيضلون وينحرفون؟

الجواب .. ان سبب الضلال ، هو الفسق ، فالفاسق الذي لا يراعي حقوق

١٢١

الآخرين بل يحاول عبادة ذاته ، والتطواف حول مصالحه يدور معها أينما دارت ، هذا الفاسق هو الوحيد الذي يستكبر ، لأنه لا يستطيع ان يرى الآخرين. لا يرى الّا نفسه فقط وكأنها الوحيدة في العالم. فكيف يقدر على الانتفاع بتجارب الآخرين وهو لا يؤمن أساسا بوجودهم.

من هنا يربط منهج القرآن في العلم بين طائفة من الأخلاق وبين العلم ـ حسبما نشرحها في الآية التالية.

اما هذه الاية فتقول :

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها)

فما دام الله يحترم البعوضة ولا يستحي ان يضرب مثلا بها ، لأنها تمثل جانبا من الحق ، والله لا يستحي من الحق. فما دام الله ربنا لا يستحي ، فلما ذا نستكبر ـ نحن البشر ـ على الاستفادة من البعوضة فما فوقها.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)

لأنهم آمنوا ، ولأنهم يقدّسون الحق انّى وجدوه حتى لو وجدوه في البعوضة الصغيرة.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً)

وكأنّهم يستهزءون بالبعوضة ويستصغرون شأنها ، يقول الله : كلا ان هذه البعوضة يمكن ان تكون موضع ابتلاء فتشكل خطا فاصلا بين طائفتين كبيرتين من الناس

(يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً)

١٢٢

الذين يؤمنون يستفيدون من البعوضة لأنهم يقدرون الحق ويقدسونه. وامّا الكافرون فيستكبرون فيتوغلون في الكفر.

(وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ)

من هم الفاسقون؟ في الآية التالية شرح لذلك.

[٢٧] للفاسقين صفة نفسية واحدة. هي عبادة الذات. ولها مظاهر عملية كثيرة أبرزها ثلاثة :

الف : نقض العهد :

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ)

فهم لا يحترمون عهد الله ويضعون أنفسهم فوق العهد المقدس.

باء : (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ)

فلا يؤدون حقوق الناس من القربى واليتامى والمساكين وغيرهم ، ولا يحترمون حرمات الناس التي يجب ان تراعى ، بل يدوسون عليها سعيا وراء مصالح ذواتهم وشهوات أنفسهم.

جيم : (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ)

فلا يحترمون الحياة أبدا. فقد يحرق حقلا كاملا لكي يتمتع لحظة واحدة بمنظر النار تلتهم رزق الملايين. ان هذه الفئة لا تحترم الله ولا الإنسان ولا الطبيعة. لأنها لا ترى قدرا يغير ذاتها. وهؤلاء هم الذين يضلهم الله ، لأنهم وضعوا أنفسهم في معتقل أنفسهم فلم يبصروا الّا مصالحها. فكيف يمكن ان يفهموا الحياة ، هل

١٢٣

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠)

______________________

٣٠ [الملائكة] جمع الملك واختلف في اشتقاقه فذهب أكثر العلماء الى انه من الآلوكة وهي الرسالة وقال الخليل الآلوك الرسالة وهي المألكة والمألكة على مفعله وقال غيره انما سميت الرسالة الوكا لأنها تمضغ في الفم.

[جاعل] الجعل والخلق والفعل والاحداث نظائر وحقيقة الجعل تغيير الشيء عما كان عليه وحقيقة الفعل والاحداث الإيجاد.

[الخليفة] الخليفة والامام واحد في الاستعمال الا أن بينهما فرقا فالخليفة من استخلف في الأمر مكان من كان قلبه والامام مأخوذ من التقدم فهو المتقدم فيما يقتضي وجوب الاقتداء به وفرض طاعته.

[السفك] حب الدم.

[نسبح] التسبيح التنزيه لله تعالى عما لا يليق به.

[نقدس] التقديس التطهير ونقيضه التنجيس.

١٢٤

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦)

______________________

٣٦ [أزلهما] الزلة والخطيئة والمعصية والسيئة بمعنى واحد وضد الخطيئة الاصابة يقال زلت قدمه زلا وزلّ في مقالته زلة والمزلة المكان الدحض والأصل في ذلك الزوال والزلة زوال عن الحق وأزلة الشيطان أزاله عن الحق.

١٢٥

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)

______________________

[اهبطوا] الهبوط والنزول والوقوع نظائر وهو التحرك من علو الى أسفل وقد يستعمل الهبوط بمعنى الحلول في المكان والنزول به قال تعالى «اهْبِطُوا مِصْراً».

[مستقر] القرار الثبات والمستقر يحتمل أن يكون بمعنى الاستقرار ويحتمل أن يكون بمعنى المكان الذي يستقر فيه.

[متاع] المتاع والتمتع والمتعة والتلذذ متقاربة المعنى وكل شيء تمتعت به فهو متاع.

١٢٦

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦)

______________________

٣٦ [أزلهما] الزلة والخطيئة والمعصية والسيئة بمعنى واحد وضد الخطيئة الاصابة يقال زلت قدمه زلا وزلّ في مقالته زلة والمزلة المكان الدحض والأصل في ذلك الزوال والزلة زوال عن الحق وأزلة الشيطان أزاله عن الحق.

١٢٧

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))

______________________

[اهبطوا] الهبوط والنزول والوقوع نظائر وهو التحرك من علو الى أسفل وقد يستعمل الهبوط بمعنى الحلول في المكان والنزول به قال تعالى «اهْبِطُوا مِصْراً».

[مستقر] القرار الثبات والمستقر يحتمل أن يكون بمعنى الاستقرار ويحتمل أن يكون بمعنى المكان الذي يستقر فيه.

[متاع] المتاع والتمتع والمتعة والتلذذ متقاربة المعنى وكل شيء تمتعت به فهو متاع.

١٢٨

كيف خضعت الطبيعة للإنسان؟

هدى من الآيات :

في حوار جرى بين الله وبين ملائكته ، نجد ان الملائكة اعترضوا على الله وتساءلوا لماذا يخلق الإنسان ، وقالوا انه سوف يقوم بالخطيئة فعرّفهم الله الحقيقة وكيف يحمّل الإنسان العلم والقدرة ، وهما ميزتان كافيتان حكمة وهدفا لخلق الإنسان.

بينات من الآيات :

[٣٠] لنستمع الى ذلك الحوار الملهم :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ).

ما ذا تعني كلمة الخليفة؟ يبدو أن الأرض كانت مسكونة فابيد سكانها فأراد الله ان يجعل فيها من يسكنها من خلفهم ، اي من بعدهم وكذلك فان الكلمة لا

١٢٩

تعني ان الإنسان خليفة الله اي نائب الله ووكيله في الأرض ، إذ ان الله لم يمت حتى يخلفه أحد.

ولكن كيف عرف الملائكة : ان الإنسان سيفسد في الأرض ، هل عرفوا ذلك بالقياس الى سكان الأرض من قبل الإنسان؟ أم لأنهم اكتشفوا ذلك بعد ان عرفوا طبيعة الإنسان المزودة بالعقل والشهوات ، لا ندري المهم انهم اعترضوا على الله ، لأنهم زعموا ان الله لا يخلق الخلق الا لكي يقدسوه ويسبحوا بحمده. فقال لهم الله : كلا.

(قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).

[٣١] (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

[٣٢] (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [٣٣]

(قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)

خلق الله آدم وحملّه علما ، فعرف الملائكة ان حكمة الخلق ليست هنا الطاعة وحدها ، بل الطاعة بعلم ووعي فسحبوا اعتراضهم.

ولكن ما هي الأسماء التي علّمها الله لآدم؟ هل هي أسماء مجموعة من الناس ، أم مجموعة من الأشياء؟ ربما تكون الأسماء في التعبير القرآني هي العلوم ، لان العلم لا يصل الى حقيقة الأشياء بل يكشف خصائصها وعلائمها (أسمائها) فقط لذلك عبر القرآن عن العلوم بالأسماء. ولكن لماذا قال الله أسماء هؤلاء ولم يقل أسمائها أو أسماء هذه ، اشارة الى أشياء الطبيعة؟ في بعض النصوص : ان كلمة

١٣٠

هؤلاء اشارة إلى النبي محمد وآله ، عليه وعليهم صلوات الله وسلامه ، باعتبار ان الرسول وخلفاءه هم الصفوة المختارة من أبناء آدم (ع) وبالتالي موضع تجلي حكمة الله من الخلق. أو ليس رسولنا الأكرم آية عظمة الله وهكذا خلفاؤه المعصومون وهناك رأي آخر هو ان الآية تشير الى الملائكة أنفسهم ـ والملائكة بدورها مهيمنة على قوى الطبيعة ـ ومعرفة أسماء الملائكة تعني العلم بخصائص الأشياء وعلامات قوى الطبيعة.

وحين قال الملائكة سبحانك ، عبّروا عن مدى تقديسهم لله وانه وحده الكامل اما هم فضعفاء ولا علم لهم.

ولعل في الآية الاخيرة دلالة على ان الملائكة كانوا قد أضمروا شيئا أخر وراء اعتراضهم. ربما أضمروا نوعا من الحسد ـ تجسد بعدئذ في إبليس حين استكبر عن السجود ـ ولذلك قال الله سبحانه :

(وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)

وفي القصة كلها رمز أخر لا بد ان نفصل القول فيه :

ان الملائكة هي المخلوقات الموكلة بالحياة. فهناك ملائكة الرحمة وهناك ملائكة الغضب وملائكة المطر والبحر والسحاب. وسجودهم لآدم (عليه السلام) هو رمز تسخير الطبيعة له.

وهناك أحاديث تدل على وجود ملائكة موكلين بالطبيعة نذكر فيما يلي طائفة منها :

١ ـ في المناقب وتفسير القمي يروي صاحب تفسير الصافي عنهما (في تفسير هذه الآية «لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ» فيقول : من أن

١٣١

يقع في ركّي (ركّي : البئر وجمعه ركايا) أو يقع عليه حائط ، أو يصيبه شيء حتى إذا جاء القدر خلّوا بينه وبينه يدفعونه الى المقادير ، وهما ملكان يحفظانه بالليل وملكان بالنهار يتعقبانه (١).

٢ ـ في قوله : «وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ» (١٣ / الرعد) روي عن النبي (ص) انه سئل عن الرعد ، فقال : «ملك موكل بالسحاب» (٢).

٣ ـ القمي عن الصادق (ع): «ان أمير المؤمنين (ع) سئل عن : الذاريات ذروا ، قال : الريح ، وعن الحاملات وقرا ، قال : السحاب ، وعن الجاريات يسرا ، قال : هي السفن ، وعن المقسمات أمرا ، قال : الملائكة» (٣).

٤ ـ عن الرضا (ع) في قوله فالمقسمات أمرا ، قال : «الملائكة تقسم أرزاق العباد بين بني آدم ، ما بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس ، فمن نام فيما بينهما نام عن رزقه» (٤).

٥ ـ عن أمير المؤمنين (ع) في حديث طويل يصف الملائكة ويعدد الحجب قال : «كل حجاب منها سبعون الف ملك ، قوة كل ملك قوّة الثقلين ، منها ظلمة ، ومنها نور ، ومنها نار ومنها دخان ، ومنها سحاب ، ومنها برق ، ومنها مطر ، ومنها رعد ، ومنها ضوء ، ومنها رمل ، ومنها جبل ، ومنها عجاج ، ومنها ماء ، ومنها أنهار ..» (٥).

وهناك أحاديث كثيرة تتحدث عن الحفظة ، ملائكة الليل والنهار ، ملك الموت ،

__________________

(١) تفسير الصافي ج ٣ ص ٦١

(٢) نفس المصدر ج ٥ ص ٦٧

(٣) المصدر ج ٥ ص ٦٧

(٤) المصدر ـ

(٥) المصدر

١٣٢

الرسل الذين يرسلون لنصرة المؤمنين ، وإنزال السكينة عليهم. وهي تدل على ان الطبيعة وكلّ بها الملائكة. وهكذا سخر الله الطبيعة للبشر بعد ان زوّده بالعلم واسجد الملائكة لآدم عليه السلام بسببه

[٣٤] (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ)

السجود هنا رمز الخضوع كما كانت الملائكة موكلة بالقوى الطبيعية في الحياة. وامر الطبيعة ان تسخّر للإنسان فاستجابت كلها ، ولكن بعضها لم يستجب فما هو ذلك البعض يقول الله سبحانه :

(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ)

من هو إبليس ، ولماذا لم يسجد ، ولماذا استكبر؟ في الآيات التالية اجابة لهذه الأسئلة ولكننا نستبق السياق لنقول : ان لكل جانب من قوى الطبيعة ملكا موكلا به ، والملائكة كلهم سجدوا لآدم ، ومن خلالهم سخّرت قوى الطبيعة كلها للإنسان (بالعلم) ، ولكن هنالك ما وكل بقوة طبيعية لم يسجد للإنسان ، وعلى الإنسان ان يخضعه وليضمن سجوده فمن هو؟ وماذا يمثل من الطبيعة؟

انه إبليس ، الموكل بطبيعة الإنسان ذاته (النفس الامارة بالسوء).

فاذا اخضع الإنسان طبيعته التي وكلّ بها إبليس ، وجعلها تسجد له انئذ استطاع ان يسخر الحياة كلها.

بيد ان أكثر الناس يغفلون عن هذه الحقيقة فتصرعهم طبيعتهم ، ومنهم بالطبع أبونا آدم في قصة الخطيئة الاولى فلننظر كيف صرعته طبيعته ، وخدعه ابليسه؟

[٣٥] (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما

١٣٣

وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ)

[٣٦] (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ)

ان إبليس أزل أبانا آدم وزوجه ، ولكن بماذا ، بتلك الطبيعة الموجودة عندهما ، فاخرجا من الجنة وابعدا عن الطبيعة المسخرة لهما. وهكذا سوف يزل إبليس أبناء آدم ، ويبعدهم عن الجنة في الآخرة ، وعمّا سخر الله للإنسان في الحياة من النعم. إذا أطاعوه.

ما هي هذه الشجرة التي نهى الله آدم عن الاقتراب إليها ، هل كانت شجرة التفاح ، أم العنب ، أم كانت الحنطة ، أم ماذا؟ ليس المهم ان نفهم ذلك بل المهم ان نعرف العبرة من وراء القصة ، وهي : ان في الطبيعة أشياء تضر الإنسان وقد نهى الله عنها ، وعلى الإنسان ان يبتعد عنها حتى يتمكن من الاستمرار في تسخير الحياة. ولكن إبليس يثير النفس الامارة بالسوء ، ولا يدع الإنسان حتى يدفعه الى تلك الأشياء المنهي عنها الضارة. وهنا يطرح هذا السؤال :

كيف يخرج الإنسان من جنة النعم حين يرتكب الخطيئة ويتبع الشيطان والنفس الامارة بالسوء؟

الجواب هناك طرق شتى : ولكن أبرزها هبوط الإنسان الى مستنقع الخلافات البشرية حيث يبدأ الناس بظلم بعضهم البعض.

(وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)

[٣٧] وفي مواجهة الصراع بين البشر بعضه مع البعض ، وفي مواجهة الطبيعة الشريرة المدعومة بإبليس في داخل النفس البشرية ، يصاب الإنسان بالضعف

١٣٤

والجهل. وهنا تسعفه رسالات الله بالهدى ، فمن تمسّك بهذا الهدى نجّى ، ومن لم يتمسك ضل ضلالا مبينا.

اما أبونا آدم ـ عليه السلام ـ فقد تمسّك به جيّدا مما يبشّر بأن المطاف سينتهي بانتصار الإنسان على طبيعته الشريرة بفضل هدى الرب سبحانه.

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)

ماذا كانت تلك الكلمات لعلّها كانت رسالة الله الى آدم حسب حاجاته وحاجات مجتمعة الناشئ ، وفي النصوص المأثورة : انها كانت أسماء النبي محمد (ص) وآله حيث دعا بهم آدم ربه فاستجاب له دعاءه.

[٣٨] وأصبحت تلك سنة الله تعالى انه يبعث رسالته الى الناس لينقذهم من طبيعتهم الشريرة ومن صراعهم مع بعضهم ..

(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً)

فعلى الجميع اتباع ذلك الهدى.

(فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)

من المستقبل.

(وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)

للماضي.

[٣٩] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ

١٣٥

وهذه هي عبرة القصة كلها .. ان الله سخّر للإنسان ما في الأرض بالعلم ، ثم سلّط عليه إبليس ، والمنقذ من إبليس هو هدى ، الله فمن تبعه نجّى ، ومن كفر وكذب به فان مصيره الى النار خالدا فيها. إلّا ان يتوب الى الله قبل فوات الآوان.

١٣٦

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤)

__________________

٤٤ [البر] البر في اللغة والإحسان والصلة نظائر يقال فلان بار وصول محسن وضد البر العقوق.

[تنسون] النسيان والسهو والغفلة نظائر وضد النسيان الذكر وحقيقته غروب الشيء عن النفس بعد حضوره وقد يكون النسيان بمعنى الترك نحو قوله تعالى «نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ» أي تركوا ذكر الله فخذلهم.

[تعقلون] العقل والفهم واللب والمعرفة نظائر وضد العقل الحمق

١٣٧

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨))

__________________

والعقال الرباط يقال عقلت البعير أعقله عقلا إذا شددت يده بالعقال والعقل مجموع علوم لأجلها يمتنع الحر من كثير من المقبحات ويفعل كثيرا من الواجبات.

٤٥ [الصبر] منع النفس عن محابها وكفها عن هواها ومنه الصبر على المصيبة لكف الصابر نفسه عن الجزع ومنه جاء في الحديث وهو شهر الصبر لشهر رمضان لان الصائم يصير نفسه ويكفها عما يفسد الصيام.

[الخاشعين] الخشوع والخضوع والإخبات والتذلل نظائر وضد الخشوع الاستكبار. إلا أن الخضوع في البدن والإقرار بالاستخدام والخشوع في الصدق والبعد.

١٣٨

هل نكون من الشاكرين؟

هدى من الآيات :

كان بنو إسرائيل امة مؤمنة تشبه الى حد بعيد الامة الاسلامية وكان من الطبيعي ان يطرح القرآن الحكيم قضيتهم امام المسلمين ، ليعتبروا بكل صغيرة وكبيرة منها. وعلى لغة : إياك اعني واسمعي يا جارة ضمّن القرآن نصائح قيّمة للمسلمين من خلال حديثه عن بني إسرائيل ، وقد يصرّح بتلك النصائح تصريحا.

وتبدأ هذه القصة ، التي تروي حياة بني إسرائيل ، بالتذكير باهمية نعمة الهداية ، ذلك لأنّ الله سخّر ما في الأرض للبشر ، واعطى الإنسان الأدوات الكافية

لاستغلالها ، ولكنّ المشكلة التي تكمن في الإنسان هي (الضلالة) الفكرية التي لا تدعه يستثمر طاقاته ليسخر الحياة بها ، ولذلك يعتبر إنقاذ الإنسان من ضلالته مفتاحا لاستخدام الحياة وتسخير طاقاتها في خدمته. لقد عاش الإنسان على الأرض دهرا طويلا ولكنه لم يتقدم عمليا نحو تسخير الحياة كما تقدم اليوم لماذا؟ لأنه لم يستثمر من قبل عقله وإرادته وقدرته.

١٣٩

ولكن يبقى السؤال لما ذا لم يفعل ذلك؟ والجواب لأنّه (ضل) وانشغل بالتوافه والجدليات الفارغة.

بينات من الآيات :

[٤٠] إذا كان لا بد من إنقاذ الإنسان من ضلاله قبل توجيه طاقاته الى الحياة ، وهذا الانقاذ هو أكبر نعمة لله عليه. من هنا قال الله لبني إسرائيل :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ)

انها نعمة الهدى التي تؤدي بالطبع الى سائر نعم الحياة ، ولكن نعمة الهدى ومن ثم سائر النعم لا تبقى الا بعد التمسك بها ، والوفاء بالتزاماتها. من هنا قال ربنا لبني إسرائيل

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)

اي تمسكوا بالهدى ، أعطيكم سائر النعم.

ولكن الإنسان قد يتنازل عن نعمة الهدى تحت طائلة الخوف من الطبيعة ، الخوف من الطواغيت. الخشية من ضياع الشهوات وهكذا ..

ولكنه لا يعلم ان ابتعاده عن الهدى سوف يجره الى مصاعب أكبر مما يخشى منه ، ولذلك يذكّرهم القرآن بالقول :

(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)

لا تخشوا الطبيعة أو الناس أو الشهوات بل اخشون وحدي ، وإذا زالت الخشية من الناس وتحرر الإنسان من الخوف ، زالت العقبة الاساسية التي تعترض طريق

١٤٠