من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

سورة آل عمران

وآياتها ٢٠٠

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦))

____________________

٦ [يصوركم] : التصوير جعل الشيء على صورة لم يكن عليها.

[الأرحام] : جمع رحم وأصله الرحمة. وذلك لأنها مما يتراحم به ويتعاطف يقولون وصلتك رحم.

[يشاء] : المشيئة هي الارادة.

٥٠١

رسالات الله

بين الوحدة والعنصرية

هدى من الآيات :

بعد ان يذكرنا الدرس الأول من سورة آل عمران بربنا الذي لا اله الا هو الحي القيوم ، يبصّرنا بأن الكتاب الذي نزّله الله على قلب الرسول حق. وانه يصّدق ما مضى من كتب. وان منزّله هو الذي انزل من قبل التوراة والإنجيل ، مما يوحي بوحدة رسالات الله. أو ليست جميعا هدى للناس. وانّه لقرآن كريم يفرق بين الحق والباطل ، وينذر الكافرين به بعذاب شديد نازل من عند عزيز منتقم.

والذي انزل الفرقان حكيم خبير بمصالح عباده. لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. وهو الذي يحيط علما بطبائع البشر. أو ليس قد صوّرهم في الأرحام كيف يشاء. سبحانه لا شريك له وهو العزيز الحكيم.

بينات من الآيات :

[١] (الم).

كلمات مضيئات ، معجزات لا يعرف مداها الّا الله والنبيّ (ص) والراسخون

٥٠٢

في العلم.

[٢] (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

كلمة التوحيد هي النقطة الاساسية التي تتمحور حولها الامة الاسلامية. فهي خلاصة قيمها (لان القيم مستوحاة من الله) ، وهي رمز وحدتها. وهي قاعدة قيادتها ، لذلك بدأت السورة بهذه الكلمة : أمّا «الْحَيُّ الْقَيُّومُ» فهما اسمان من أسماء الله تعالى ، يرمز كل واحد منهما الى جانب من فكرة السورة.

(الْحَيُ)

اسم يرمز الى أهم الصفات الذاتية لله ، صفة القدرة والارادة والعلم ، إذا العاجز والمجبور ، والجاهل ، يفقد من حياته بقدر عجزه وجبره وجهله. وتعالى الله عن الموت بكل اشكاله وصوره ، انه الحي مطلق الحياة.

ما هو القيوم؟

الحياة التي لعيشها ليست موجودة فقط ، وانما هي منظمة أيضا تنظيما دقيقا ، وكل نظام بحاجة الى من يقوم به ،ويهيمن عليه. فمن هو قائم بتنظيم هذه الحياة الواسعة؟

إنه الله الذي يشمل قيامه بالحياة على كل مرافقها ، انه يقوم بنظام حركة المجرّة ، لكي لا تصطدم نجومها مع سائر المجردات كما يقوم في ذات الوقت بنظام الذرة ، لكي تبقى الكترونات والبروتونات تدور حول بعضها.

وكما في الكون كذلك في المجتمع ، يجب ان يسود نظام الإسلام ، ذلك النظام الذي أوحى به الله سبحانه ، الذي لا يعلم فقط نظام الطبيعة ـ وبينها طبيعة الإنسان ـ وإنما يقوم أيضا بتسيير هذا النظام.

٥٠٣

(الْقَيُّومُ)

هو صيغة الكثرة من القيام ، والقيام استخدم في آيات الكتاب في معنى النظام أكثر من مرة واحدة ولأن الله حي وقيوم ، فهو الذي يجدر ان ينظم حياتنا الاجتماعية ويقوم عليها قياما ، وهذه بالذات هي فكرة هذه السورة من بدايتها الى نهايتها. إذا السورة ما هي الا ترسيخ لاسمي الحي والقيوم. وتبسيط لهما وربطهما بسائر مرافق الطبيعة والحياة.

[٣] (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ).

لأن الله حي وقيوم فانه نزّل الكتاب تنزيلا متدرجا حسب الحاجة اليه ، والكتاب لم يهبط على جبل ، بل على بشر كسائر البشر. إلا انّه بشر يتميز باتباعه للحق وتجسيده له.

والحق الذي نزل به القرآن على النبي ، هو التعبير الموجز عن التوافق بين الطبيعة وحياة الإنسان. وإنّ التشريع السليم للحياة ينبغي ان يكون متناسبا مع الطبيعية ، وخالق الطبيعة العليم بها ، ومدبر شؤونها ، والقيوم عليها ، أجدر بأن يشرّع للحياة وينظمها ، ويقوم على تسيير هذا النظام.

والتشريع الموحى في الكتاب (القرآن) قديم قدم الإنسان ذاته وقدم حاجته الى النظام ، وعلم الله هو الأخر قديم. لذلك كان كتاب الله الأخير مصدقا لكتبه الاولى. لان المشكاة التي أضاءت الحياة بالقرآن ، هي التي أعطتهم الإنجيل والتوراة. فكل هذه الأنوار آتية من مصباح واحد.

[٤] (مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ

٥٠٤

عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ).

والقرآن والإنجيل والتوراة ، وكل رسالات السماء نور واحد يستهدف غاية واحدة هي توفير الهدى للناس. ولماذا الهدى ، لان في الحياة خير وشر ، صحيح وسقيم ، صالح وطالح ، فكيف يميّز الإنسان الخير عن الشر. أو ليس بمقياس؟ وبميزان وبقيم وبالتالي بفرقان يفرق بين الحق والباطل. ومن هنا أنزل الله «الفرقان».

الذين يهتدون بالرسالات السماوية ويتمسكون بالفرقان ، يميزون به الحق عن الباطل ، والخير عن الشر ، فطوبى لهم ، أولئك لا خوف عليهم. أما «الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ» فما ذا تنتظر لهم ، هل تنتظر كفاية الدرب وبلوغ الهدف؟

كلا بل «لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» واي عذاب أشد من الضلال ، ومن الانفلات في فوضى الحياة والوقوع في المهالك.

والله سبحانه لا يتركهم يعانون من عذاب شديد في الدنيا فحسب ، بل يقف لهم بالمرصاد لياخذهم في الحياة الآخرة أيضا. «وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ» وحين يكون العزيز (القوي المقتدر) ذو انتقام فيا للمأساة ، ويا للنهاية المروعة.

والكتاب هدى وفرقان لسبب بسيط ، هو ان الله باعث الكتاب حي وقيوم فهو حي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

[٥] (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ)

وقيوم ، يهيمن على نظام الحياة من أكبر الأشياء الى ابسط شيء.

[٦] (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ)

هناك حيث لا تمد اليه يد الأبوين ولا يمتد اليه علمهما ، هناك الله اللطيف يقوم

٥٠٥

بفعل التصوير حسب ما يشاء. لأنه مطلق المشيئة واسع المشيئة ، لا تخضع مشيئته سبحانه لضغوط أو حتميات ، كما هي مشيئة الإنسان ، تخضع لضغوط الشهوة وحتميات العجز والجهل و.. و..

وإذا كان كل شيء ضمن عرض علم الله حيث لا يخفى منه شيء ، وكل شيء في رحاب قدرة الله ـ حتى في الأرحام يصورنا ـ كيف يشاء فانه الرب الأحد.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

واسمي «الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» هما معا مظهر المنظم الحقيقي. فالقائم بالنظام ينبغي ان يتمتع بالقدرة «العزة» و «العلم اي الحكمة» ونجد هذين الاسمين في القرآن كلما ذكرت انظمة وتشريعات.

والعزة هي المظهر الاجتماعي للقدرة ، كما ان الحكمة هي الجانب العملي من العلم. ولذلك جاءتا عند الحديث عن التشريع دون اسمي القدير العليم.

٥٠٦

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ

____________________

٧ [محكمات] : المحكم مأخوذ من قولك أحكمت الشيء إذا ثقفته وأتقنته.

[أم الكتاب] : أصله.

[متشبهات] : اي يشبه بعضها بعضا فيغمض الأخذ من الشبه لأنه يشتبه به المراد.

[زيغ] : ميل. [الراسخون] : الثابتون ٨ [هب] : الهبة تمليك الشيء من غير ثمن والهبة والصلة والنحلة نظائر.

٥٠٧

لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣)

____________________

١١ [كدأب] : الدأب العادة. يقال دأب يدأب إذا اعتاد الشيء وتمرن عليه.

١٢ [تحشرون] : الحشر الجمع مع سوق. [جهنم] اسم من أسماء النار وقيل أخذ من الجهنام وهي البئر البعيدة. [المهاد] : القرار وهي الموضع الذي يتمهد فيه أي ينام فيه مثل الفراش. [لعبرة] : آية

٥٠٨

حقائق القرآن

بين حق التأويل وفتنة الباطل

هدى من الآيات :

أرأيت كيف تتوحد حبات المسبحة؟ إنها تنخرط جميعا في خيط واحد أو رأيت كيف تتوحد أوراق الشجرة الكثيفة؟ إنها تلتف حول الفروع التي تتمسك ـ هي بدورها ـ حول الساق الغليظة الضاربة بجذورها في الأرض.

كذلك أبناء آدم لا يمكن ان يتحدوا من دون حبل يعتصمون جميعا به ، أو أصل راسخ يلتفون حوله. فما هو ذلك الحبل في رؤية الإسلام؟

انه كتاب الله المتجسد في رسول الله ، أو في من هو امتداد حقيقي لشخصية رسول الله (ص).

ولأن سورة «آل عمران» تتحدث لنا عن التوحيد والوحدة. سواء على صعيد المؤمنين برسالات السماء جميعا أو على صعيد المسلمين فقط ، فإن القسم الأول من هذه السورة تتحدث عن كتاب الله ثم عن رسله إلى الناس.

٥٠٩

ما هو كتاب الله ، لماذا لا يؤمن به الناس وما هو مصير الكافرين به؟ حول هذه الاسئلة تبحث آيات هذا الدرس :

بينات من الآيات :

كيف تكون الرسالة عامة؟

[٧] (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)

الناس مستويات مختلفة ، وكتاب الله جاء للناس جميعا ، فكيف يمكن ان يرسل الله رسالة واحدة لجميع الناس على اختلاف مستوياتهم؟

الجواب : إن الله جعل كتابه على درجات أيضا. ليست كل آياته لكل الناس انما فيها آيات عامة يفهمها الجميع ، وهي بمثابة قاعدة راسخة تبنى عليها سائر الأفكار والأحكام. وفيها آيات خاصة لا يفهمها الا الراسخون في العلم ، أولئك الذين أوتوا نصيبا كبيرا من العقل والمعرفة. وبالطبع الراسخون في العلم بدورهم متفاضلون بينهم في درجات ، فقد تكون الآية الواحدة عند بعضهم واضحة ، ولا تكون واضحة عند من هو أقل منه علما.

القسم الاول من الآيات تسمى «المحكمات» والقسم الثاني «متشابهات» وعلى الإنسان ان ينظر الى الآيات ، فاذا فهمها وتبصر ما فيها من رؤي وأفكار أخذ بها. وإذا لم يفهمها فليس له ان يضيف إليها من آرائه شيئا ، ويفسرها على هواه ، انما يجب عليه أن يسأل أهل الذكر ، الراسخين في العلم. فعسى أن يأخذ مما لديهم ذكرا وعلما في ذلك. وقبلئذ يكتفي بالآيات المحكمات اللاتي هن أم الكتاب.

ان التفسير الخاطئ لنصوص الكتاب يسبب الاختلاف في الدين ، وإنما جاء

٥١٠

الدين ليجمع الناس فحين يتخذ أداة للتفرقة لا يكون هناك دين حقيقي. وبذلك يكون التفسير الخاطئ وسيلة لهدم الدين أساسا.

بين المحكم والمتشابه :

ومن هنا ركّز القرآن الحكيم على تفسير هذه الناحية ، واعطى في بداية حديثه عن القرآن «القاعدة العامة» التي تصلح ان تكون طريقا لفهم القرآن الحكيم ، وهي قاعدة «المحكم والمتشابه» حيث يجب على الإنسان الّا يأخذ من آيات القرآن إلّا الآيات التي يفهمها جيدا ، وتكون واضحة امامه وضوحا تاما.

ولو اكتفى كل إنسان بالأفكار الواضحة جدا ، ولم يقل شيئا لا يعلمه ، لم يخلط العلم بالجهل ، ولم يأخذ الفرد غرور العلم. بينما لو عكس فاشبع نهم روحه الى العلم بأفكار خاطئة لاختلط عنده العلم بالجهل ، وانتشر بغرور العلم ، وركن الى الجهل وتبلّد فكره ، ولم ينفعه علمه.

والوقوف عند الآيات المحكمات دون تجاوزها الى المتشابهات ، يعني أيضا تربية العقل عند الإنسان ، وتنمية قدرته على كشف الحق عن الباطل ، والعلم عن الجهل.

لماذا الاختلاف في الدين؟

وبعد بيان قاعدة المتشابه والمحكم ، بيّن القرآن بوضوح ، وبتفصيل سبب الاختلاف في الكتاب ، وبالتالي في الدين.

وبالرغم من أنّ السبب واحد ، إلّا انه يتدرج في مراحل ابتداء من الزيغ في القلب وانتهاء بالكفر ومرورا بالتكذيب.

الف : اما عن الزيغ فقال ربنا :

٥١١

(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ)

ما هو الزيغ؟ :

الزيغ هو الانحراف والانصراف عن الحق. ويعتقد ان القرآن يفسر الخطأ الانساني تفسيرا نفسيا فلا يخطأ الإنسان إلّا بسبب انحراف في نفسه من عقدة الضعة ، أو ترسب الأفكار الوراثية ، أو الاستسلام لأفكار المجتمع أو الجماعة التي ينتمي إليها ، أو الخضوع لضغوط الشهوة ، أو التسرع في إصدار الحكم بهدف الراحة أو بسبب توتر النفس.

وحين تنتهي مشكلة الإنسان النفسية بتنمية إرادته ومقاومة الضغوط ، فان العقل ينطلق للبحث السليم وسيصل ـ بالطبع ـ الى المعرفة.

وقد يطرح سؤال : كيف تكون المشكلة العقلية مرتبطة بالمشكلة النفسية ، علما بأن وعي الإنسان قادر على ان يكون حاجزا يقف أمام خلط أحكام النفس وأمانيها ، مع بصائر العقل وأفكاره.

الجواب : إن محيط النفس والعقل هو محيط واحد ، وحين تهوى النفس شيئا فانها تقوم بالتسويل للعقل ، والتزيين له ، حتى تحجبه عن الرؤية تماما ، خصوصا إذا استجابت ارادة الإنسان (وهي القوة الحاسمة عند الإنسان ، التي تختار العقل أو الهوى) للنفس ، فانها تحاول القيام بعملية خداع ذاتي ، وأكثر ما يقع الناس في الخطأ هو بسبب الخداع الذاتي. حيث يصعب عليهم أو يستحيل في بعض المراحل تمييز بصائر العقل وأفكاره عن أهواء النفس وامنياتها.

من هنا تكون التربية النفسية طريقا لتحرير العقل من أغلالها. اما إذا انحرفت النفس فان العقل سيتاثر سلبيا.

٥١٢

من هنا اعتبرت الآية الكريمة زيغ النفس وانحرافها سببا للتأويل الباطل وحذّر من أيّ نوع من الزيغ.

التأويل :

بعد وجود الزيغ في القلب نبدأ عملية التأويل ، وهي تطبيق القيم العقلية والرسالية على أهواء الذات ، فمثلا : يتم تطبيق قيم العدالة والمساواة على هوى الذات كيف؟ يقول من ابتلي بانحراف في نفسه : إنه ليس من العدالة ان أكون فقيرا والناس أغنياء ، فعليّ ان أسرق من الناس لجبر فقري. أو يقول الديكتاتور ان ضرورة النظام تفرض علينا كبت حريات الناس ، وهكذا يتم تحريف القيم باتجاه الهوى. أو بتعبير القرآن تأويلها بما يتناسب والأهواء الذاتية.

الفتنة :

والتأويل يأتي بعد الفتنة ، إذ الفتنة هدف التأويل وهي ظلم الناس ، إذ لا ينحرف البشر الا استجابة لضغوط شهوات الذات ، التي تدعو بالطبع إلى اغتصاب حقوق الآخرين ، مما يسمى بالفتنة في منطق القرآن.

ان علامة الانحراف هي التأويل غير العلمي ، وعلامة التأويل غير العلمي هي استهداف الفتنة. وباستطاعتنا ان نكشف الانحراف العقلي من المظاهر الاجتماعية (الظلم الاجتماعي). فالنتائج السلبية للفكرة تكون ابسط دليل على خطأ الفكرة ذاتها. من هنا نبّه القرآن الى ان الفكرة الخاطئة هي التي تستهدف نتائج ظالمة. وقال :

(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ)

يعني إنّ المنحرفين نفسيا هم الذين يتركون الآيات الواضحة الى الآيات

٥١٣

الغامضة لتأويلها حسب أهوائهم وبهدف ظلم الناس وغصبهم حقوقهم.

من يعلم التأويل؟

(وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)

ولا يوجد التأويل الصحيح اي : التطبيق الصحيح لقيم الوحي ، أو العقل على الموضوعات الخارجية ، الّا عند الله وعند الراسخين في العلم. فمن هم هؤلاء الراسخون في العلم؟

انهم أولئك الذين لم يكتفوا بالعلم بالأشياء فقط ، انما يركزون أيضا في العلم ، ويكثرون النظر فيه حتى تترسخ أقدامهم في ارض العلم ، وهناك يعرفون كيف يطبقون العلم على الواقع.

إن تطبيق القيم الرسالية على الواقع الموضوعي ، لا يتم سليما إلّا إذا توافرت شروط ثلاثة تشير إليها الآية الكريمة وهي :

١ ـ سلامة النية.

٢ ـ العلم بالقيم علما راسخا.

٣ ـ العلم بالواقع علما راسخا.

وكلمة اخيرة : ان هذه الآية لتدل على ان أهم مسئوليات رجل العلم تطبيق القيم على الواقع تطبيقا نزيها.

الايمان قبل المعرفة

ثم تتحدث الآية عن علاقة الايمان بالمعرفة ، وتؤكد ان المعرفة هي وليدة الايمان ،

٥١٤

وليس العكس .. والسبب ان الشرط المسبق للمعرفة هو الاستعداد النفسي لتقبلها والتسليم لها متى ما ظهرت له.

ان الفرد الذي يتكبر ـ سلفا ـ على الحق ، ويستبطن في نفسه رفض الحق أن جاءه فسوف لن يصل الى المعرفة وإنما يعرف الراسخون في العلم التأويل الصحيح للقرآن ، لأنهم يؤمنون به سلفا ولا يريدون تكييف القرآن حسب أهوائهم ، انما يبتغون الاتباع والتسليم.

(يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ)

هناك قضايا واضحة كالقضايا التي تحدثت الآيات الماضية عنها ، ولكنها تحتاج الى التنبه إليها ، فمن يتنبه انما الذي يمتلك اللب يتذكر ومن لا يمتلك كيف لا يتذكر وبما ذا يتذكر انما باللب فما هو اللب؟

هل هو العقل باعتباره جوهر الإنسان ولبه ، أم ان أولي الألباب هم الذين لا يهتمون بالقشور والظواهر ، وانما بالحقائق التي تكشف الظواهر عنها.

[٨] من الذي يكشف انحراف النفس (زيغ القلب) غير الإنسان ذاته. وبالرغم من ان الآخرين قد يساعدونه في التنبيه الى زيغه وانحرافه ، الا انهم لا يقدرون على إصلاحه الّا إذا أراد هو.

الوعي الذاتي لا يصلح القلب بعد الزيغ فحسب ، انما يمنع عنه الزيغ في المستقبل أيضا. لذلك تجد الراسخين في العلم يتوسلون إلى الله من أجل الا تزيغ قلوبهم. وبهذا الدعاء يخلق الله في أنفسهم مناعة عن الزيغ ووعي ذاتي لاكتشافه متى تسرب إلى قلوبهم ، فهم يكررون أبدا :

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ

٥١٥

الْوَهَّابُ)

إن الرحمة الهابطة من الله أقسام. ولكن أهمها هي المعرفة التي يمن بها الله على البشر سواء وحيا بالقرآن ، أم إلهاما.

وينمّي الدعاء تطلع المؤمنين الراسخين في العلم الى المعرفة ولذلك فهم يرددون هذا الدعاء ويطلبون الرحمة (المعرفة) من الله.

وأساسا الروح العلمية بحاجة الى تربية وتنمية ، وبهذا الدعاء ينمّي المؤمنون هذه الروح.

الايمان باليوم الآخر .. حجر الزاوية في المعرفة :

[٩] كما الجبال الراسيات تحفظ الأرض من ان تميد ، وكما القواعد تحفظ البناء من الزلزلة والانهيار ، كذلك الايمان باليوم الاخر حجر الزاوية في البناء الذهني للمؤمن ، فمن دونه يتوتر القلب ولا يستقر على اتجاه ، كيف ذلك ..؟

إن القلب البشري كسفينة تتقاذفه الأهواء ، فمن ضرورات الحياة ، الى مطامع الشهوات ، الى ضغوط المجتمع ، الى حتميات الطبيعة. تعصف جميعها بالنفس وتحدث فيها طوفانا عاتيا. والعقل كسكّان متين ، يحاول توجيه السفينة في خط مستقيم ، ولكنه يعجز عن التحكم بالسفينة من دون الاستعانة بالثقل الذي يرسيها به. وثقل النفس هو الايمان بالحياة الاخرة ، إذ عن طريق هذا الايمان تطمئن النفس ، ويحدث فيها نوع من التوازن.

فاذا عصفت شهوة الجنس بالنفس وأرادت ان تستبد بتوجيهها ، جاء الايمان بالحياة الاخرة ليخفف من ضغط هذه الشهوة ، ويقول لصاحبها كلا .. ليست هذه الشهوة هي كل شيء في الحياة إذ هذه الحياة بالذات ليست كل الحياة ، انما الدار

٥١٦

الآخرة هي الحياة الحقيقة ، وبهذا تطمئن النفس ويستطيع ان يحكم توجيهها العقل.

وقبل ان يذكرنا القرآن فيما يلي من الآيات بالعوامل النفسية التي تسبب زيغ القلب ، وبالتالي انحراف البشر ، انطلاقا من مبدأ القرآن الآنف الذكر.

ان مشكلة الإنسان في العلم مشكلة نفسية ، وقبلئذ ذكرنا القرآن باليوم الآخر باعتباره حجر الزاوية في توجيه النفس البشرية.

وقال على لسان الراسخين في العلم.

(رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ)

وما دام الإنسان يتمثل غدا امام الله فعليه ان يفكّر ويتذكر ولا يسترسل مع رياح الهوى. عليه ان يعي ذاته.

ان فلسفة القرآن تقول : «حب الدنيا رأس كل خطيئة» وبالتالي «التجرد عن حب الدنيا رأس كل فضيلة» ومن هنا كلما تذكر الإنسان «المعاد» كلما اطمأنت نفسه وكان اقدر على توجيه شهواته.

الاعتماد على الله فقط

[١٠] اعتمادا على المال أو الولد يتكبر المرء على الله وعلى رسالاته ويحسب أن ماله يخلده وان أبناءه سينصرونه من دون الله.

ولكن متى ما عرف الإنسان نهايته الحتمية وانّه حين يقف أمام الله سيحاسب حسابا عسيرا ، فلا بد انه يسلم للحق.

يقول القرآن بصراحة :

٥١٧

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ)

وحين يذكرهم بمصيرهم الأسود حين يتحولون الى مجرد وقود للنار ، فلا بد ان ذلك يرغم أنوفهم ويحطم كبرياءهم.

[١١] وكمثل من التاريخ :

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ)

إن «آل فرعون» وصلوا قمة التقدم المادي فهل انتصر لهم تقدمهم من الله ، وهل نفعتهم أموالهم وأولادهم وأعطتهم مبررا لتكبرهم أو لمقاومتهم الحق.

[١٢] وباختصار فان الاستكبار عن الحق ، لا ينفع الإنسان لا في الاخرة ولا في الدنيا ، فاما الآخرة :

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ)

[١٣] واما في الدنيا فان شواهد التاريخ تتوالى لتدل على أن أهل الحق هم الغالبون في الدنيا ، ولهم النصر والمجد.

(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) ـ واضحة وعلامة اكيدة ـ (فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) ـ والحق ـ (وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) ـ وكل وسائل النصر المادية من نصيب الكفار ـ (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ)

فلما ذا التكبر عن الحق ما دام الباطل ذلك في الدنيا وعذاب في الآخرة. ان التكبر عن الحق والاحساس بالتعالي والمجد ، يشكل نسبة ٥٠ خ من أسباب الكفر ،

٥١٨

ويجب معالجة هذه الشذوذ في النفس بتذكيرها بعاقبة المتكبرين في الدنيا والآخرة حتى تخشع النفس وتقنت للحق. ثم ذكّرت الآية أن في هذه الحقائق عبرة لأولي الأبصار .. فما هي العبرة؟ وكيف يستفيد منها الإنسان؟

العبرة هي ـ مثلا ـ الانتقال من الدليل الى معناه ، ومن رؤية ظاهرة الفقر الى سببها الاجتماعي.

الذين لا يملكون الأبصار يجمدون على الظواهر ولا ينتقلون منها الى الحقائق ، فاذا رأى ظاهرة الفقر في المجتمع جمد عندها ولم يستدل بها على وجود الطبقية في المجتمع ، أو وجود التخلف الفكري والصناعي و.. و..

اما الذين يملكون الأبصار فإنهم لا ينظرون الى الظاهرة فحسب بل الى أسبابها التي يرونها من خلالها ، والعملية تسمى عبور أو «عبرة» اي انتقالا من على جسر الظاهرة الى شاطئ الحقيقة.

وظاهرة انتصار المؤمنين بالحق أبدا تكشف عن السبب وراءه وهو ان التكبر عن الحق ذل حاضر في الدنيا. انما هذا الكشف يختص بمن يبصر أما من يغض طرفه عن الحقيقة فحتى الشمس يمكن ان تخفي عليه.

٥١٩

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ

____________________

١٤ [الشهوات] : جمع شهوة وهي توقان النفس الى المشتهى.

[القناطير] : جمع قنطار وهو المال الكثير العظيم.

[المسومة] : من قولهم أسحت الماشية وسومتها إذا رعيتها.

١٧ [القانتين] : المطيعين.

٥٢٠