من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ)

لنظرتهم الجامدة ، فهم يقدسون الشمس ـ مثلا ـ بدلا من ان يعبدوا الذي خلق الشمس ونظّم سيرها ، وهو الله. لماذا؟

لأنهم ينظرون الى ظاهر الشمس دون ان يستدلوا بها على ربها ، كذلك فهم يرتبطون بأصحاب المال والجاه والعلم ، دون ان يفكروا ان هؤلاء جميعا عباد لله ، وأنّ الله هو الذي أعطاهم هذه النعم ، فاولى بهم وأجدر ان يتصلوا بالله مباشرة ، ولا يسمحوا لأنفسهم بأن يستعبدها هؤلاء الوسطاء.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)

فبالرغم من إنشاء علاقة بينهم وبين أصحاب المال والجاه والعلم ، فهم لا يسمحون لأنفسهم بالعبودية لهؤلاء ، بل يبقون أبدا مرتبطين بالله ارتباطا أشد.

(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)

أنفسهم ، باتباعهم الأنداد ، وتفضيل الأنداد على الله حين خالفوا أوامر الله ابتغاء مرضاة الأنداد ، من أصحاب الثروة والسلطة. والمعرفة لو يرى هؤلاء الحقيقة فإنهم يكفون عن غيهم وذلك.

(إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ)

فان كان حب الأنداد طلبا للقوة فان القوة لله جميعا ، وان كان خشية العذاب فان الله شديد العذاب.

[١٦٦] هؤلاء الذين يتّبعون من دون الله ويتخّذون أندادا مع الله ، هؤلاء

٣٠١

ضعفاء وخونه ، إذ انهم سوف يتبرءون من التابعين دون اي وازع من ضمير .. ولو يرى تابعوهم تلك الحالة.

(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا)

جميعا التابعون والمتبوعون.

(الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ)

فلم يجدوا حبلا يعتصمون به ولا ملجأ يأوون اليه.

[١٦٧] (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً)

الى الحياة الدنيا أو الى الوراء.

(فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا).

هذه عاقبة الذي يتخذ من دون الله أندادا يحبهم كحبه الله ، ويتبعهم من دون امر الله ، العاقبة هي الندم. حيث يقول يا ليت الزمان يعود بي الى الوراء فارفض اتباعهم ولكن هيهات ..

(كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ)

إذ انهم عملوا أعمالا كثيرة ولكنها كانت أعمالا باطلة بسبب اتباعهم فيها للأنداد ، فيتحسرون عليها ولكن الحسرة لا تنفعهم ولا تخفف عنهم عذاب ربهم.

(وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ)

ان الأمة الإسلامية لا بد ان تنعدم فيها مراكز القوى (الأنداد) ، وتتجه في خط

٣٠٢

واحد الى الله ، في صراط مستقيم ، ولا يتبع أحد فيها أحدا الا بإذن الله ، ويكون حبه لله أشد من حبه لمن حوله من الناس الأقوياء والضعفاء على حد سواء. انه مجتمع حر بكل ما في الحرية من معنى. وفي الدروس التالية تفصيل لهذه الحقيقة.

٣٠٣

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ

_________________

١٦٨ [خطوات] الخطوة بعد ما بين القدمين للماشي وخطوات الشيطان آثاره.

١٦٩ [السوء] كل فعل قبيح يزجر عنه العقل أو الشرع وانما سمي القبيح سوءا لسوء عاقبته.

[الفحشاء] والفاحشة والقبيحة والسيئة نظائر وكل من تجاوز قدره فهو فاحش ، وكل ما لا يوافق الحق فهو فاحشة.

١٧٠ [ألفينا] اي صادفنا ووجدنا.

١٧١ [ينعق] نعق صاح زاجرا ونعق الغراب إذا صوت.

٣٠٤

بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ

_________________

١٧٣ [اهلّ] الإهلال في الذبيحة رفع الصوت بالتسمية وكان المشركون يسمون الأوثان والمسلمون يسمون الله.

[اضطر] الاضطرار كل فعل لا يمكن المفعول به الامتناع منه وذلك كالجوع الذي يحدث للإنسان فلا يمكنه الامتناع منه.

٣٠٥

بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ

_________________

١٧٧ [البر] العطف والإحسان ، والبر الصدق ، والبر الايمان والتقوى وأصله الاتساع ومنه البرّ.

[المسكين] من لا شيء له من المال.

[الفقير] الذي له ما لا يكفيه من المال.

[ابن السبيل] هو المنقطع به إذا كان في سفره محتاجا وان كان في بلده ذا يسار وهو من أهل الزكاة وقيل أنه الضيف.

[الرقاب] جمع رقبة وهي أصل العنق ويعبر عنه عن جميع البدن يقال أعتق الله رقبته ومنه قوله فتحرير رقبة.

[البأساء] والبؤس : الفقر.

[الضراء] السقم والوجع.

٣٠٦

صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧))

٣٠٧

كيف نحطم أصنام الكفر؟

هدى من الآيات :

مجتمع الحرية هو مجتمع التقدم الرفاه ، ويربط القرآن الحكيم بين التحرر من اتباع شياطين الثروة والسلطة والدين ، وبين الانتفاع التام بما في الحياة من نعم طيبة.

هؤلاء الشياطين ، يحرمون على الناس الطيبات من الرزق ، لجهلهم أو لأنهم يريدون ان يستأثروا بها ، أو لأنهم يحاولون إبقاء الناس ضعفاء مقهورين ، ولكن الله خلق الأشياء لنا ، وعلينا ان نعمل من أجل الحصول عليها ونتجاوز العقبات من أجلها.

ان الآية الأولى تدعو الناس صراحة الى الاستفادة مما في الأرض وهي دعوة ضمنية لكسر حواجز العبودية التي يرتبط في القرآن بأمر الشيطان الذي يأمر بالسوء والفحشاء ، ويضرب في الآيات التالية ، مثلين لاتباع الشيطان : الأول اتباع

٣٠٨

الآباء ، والثاني : اتباع رجال الدين المحرّفين لكتاب الله ، وفي الآية الأخيرة يتحدث القرآن عن النظرة القشرية التي أوصى بها هؤلاء العلماء المزيفون ، فجردوا الدين من روحه ونوره وهداه.

ان الأمة الاسلامية اليوم تعاني من التخلف ، الذي ليس في واقعه ، سوى صورة مبسطة لعدم الاستفادة من نعم الله. بسبب التقاليد البالية ، والنظريات السخيفة في تفسير الدين ، وعليها ان تتقدّم حتى تتمتع بنعم الله ، وتكسر حواجز التقليد ، وما يسمى بالدين وهو ابعد ما يكون عنه.

بينات من الآيات :

[١٦٨] أولا : وقبل كل شيء ، لا بد ان نضع للحرية هدفا ساميا. والحرية في المجتمع الاسلامي والتي دعت إليها آيات الدرس السابق (رفض الأنداد) ذات هدف هو : الانتفاع بنعم الله وبكل صراحة يوجه الله خطابه الى الناس كل الناس المؤمنين والكافرين قائلا :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً)

وبذلك يقرر الأصل في الأشياء الحليّة حتى يثبت انها حرام والتعبير ب (مما في الأرض) تعبير يدل على الإطلاق ، مما يعكس لنا نظرة القرآن الايجابية الى الحياة.

إن الله يريد ان نتمتع بالحياة ، ولكن الشيطان يمنعنا ، انه يوجد الحواجز بين الإنسان وبين نعم الله ، وعلى الإنسان الّا يتبع الشيطان ، وان يقاومه. كما أن الشيطان يزيّن للناس الغايات الخبيثة والإسراف والطمع وكلها تمنع من الانتفاع السليم والتام من خيرات الأرض.

(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)

٣٠٩

إنه لا يريدكم أن تنعموا بالحياة فلما ذا تتبعوه؟ الذين يمنعون زراعة الأرض بحجة انها لفلان هم أعداء الإنسان ، والذين يمنعون التجارة ويضعون حواجز في طريق الله هم أعداء الإنسان ، والذين يمنعون عمارة الأرض هم أعداء الإنسان ، وعلى الإنسان الا يتبع أعداءه.

القوانين الشيطانية :

[١٦٩] وعند تبسيط القوانين والتقاليد التي يضعها الشيطان ، نجد أنها تنقسم الى ثلاث فئات ، فبعضها (سوء) يمنع من الانتفاع بالحياة مثل : أكثر القوانين الزراعية والتجارية الحديثة التي وضعت للحد من نشاط الناس ، وللإبقاء على سيطرة مراكز القوى (شياطين الأرض) على مقدرات الناس.

وكمثل بسيط كان رؤساء العشائر الذين كانوا يتمتعون بقوة البطش يقتطعون لأنفسهم أرضا يسمونها بالحمى ، ويحرمون على الناس رعي اغنامهم فيها ، ثم تطورت وأصبحت تلك الاراضي ملكا لا قرب الناس الى السلاطين (الاقطاعات السلطانية) ثم تطورت وأصبحت أراض اميرية مرتبطة بالبلاط الملكي ، ثم تطورت وأصبحت ملكا لأصحاب رؤوس الأموال الضخمة أو ما أشبه.

ترى ان كل هذه القوانين منعت من زراعة الأرض ، وبالتالي من انتفاع الإنسان بها ، والسؤال كيف استطاع هؤلاء الشياطين منع الناس من الانتفاع بما جعل الله لهم حلالا؟

الجواب : إنما فعلوا ذلك في ظل القوانين والأعراف والتقاليد الباطلة ، فاذا ايمان الناس واتباعهم لتلك القوانين والأعراف والتقاليد هو السبب غير المباشر لعدم انتفاعهم ، إذا فلنكفر بالشيطان وبانظمته الجائرة.

٣١٠

و «السوء» يتطور الى «الفحشاء» إذ انه يكرس السلطة والثروة بيد طائفة من الناس يستغلونهما في الظلم.

والفحشاء تلبسّ بثياب الدين ، بفعل تعاون الانتفاعيين (المستثمرين) مع بعض من يسمى ب (رجال الدين) الذين يحرفون كلام الله ، ويكتمون الكتاب.

(إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)

أحد مظاهر «السوء» الانظمة الباطلة ، وكما أنّ ابرز مظاهر «الفحشاء» الظلم الاجتماعي الذي يقع ـ عادة ـ بسبب تلك الأنظمة والتبرير الديني لتلك الانظمة وذلك الظلم.

عبدة الاباء :

[١٧٠] وكمثل لذلك اتباع الاباء المنحرفين.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ)

وفيه رفاه للجميع ، وتحرر للطاقات ، واستفادة من نعم الحياة.

(قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا)

اي ما تعودنا عليه من حياة آبائنا.

(أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)

[١٧١] ومثل هؤلاء مثل الببغاء حيث يرددون ما يقوله الآخرون دون ان يفهموا منه شيئا ، إنهم فقدوا قدرتهم على التفكير والاستقلال الثقافي.

٣١١

(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ)

اي يصيح مقلدا لصياح الآخرين.

(بِما لا يَسْمَعُ)

اي بصياح لا يفهمه هو.

(إِلَّا دُعاءً وَنِداءً)

مبهما وغير معروف لديه ، وهؤلاء في الواقع

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)

لان الفائدة من الاذن ، واللسان ، والعين هي المعرفة والعقل ، وحيث لا عقل فلا احساس.

(فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)

إن هذا مثل واحد لهؤلاء الناس الذين لا يتمتعون بالاستقلال ، ولا يتحررون من عبادة الأنداد من دون الله ، وبالتالي لا يستغلون موهبة العقل عندهم.

[١٧٢] ومثل آخر يضر به القرآن من واقع اتباع رجال الدين المحرّفين لكلام الله ، وهم صورة اخرى للتخلف الاجتماعي حيث يبررون الانظمة الفاسدة ، وقبل ان يضرب القرآن هذا المثل يعود ليأمرنا بالانتفاع من نعم الله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ)

وربما توجه الخطاب للمؤمنين هذه المرة ، بينما كان الخطاب عاما في الاية

٣١٢

السابقة ، ربما كان ذلك ليدحض القرآن فكرة ان الدين تخلف ورجعية ومنع للطيبات ، كما كان يوهم تصرف رجال الدين المحرّفين ، وليثبت العكس وان الدين يأمر بالتقدم ، والتطور ، والطيبات.

(وَاشْكُرُوا لِلَّهِ)

على هذه النعم ، وذلك بان تكرموا هذه النعم ، وتقدروها ، وتحترموها.

(إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)

[١٧٣] ولا تقولوا لكل نعمة من أنعم الله هذا حرام بدون علم.

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ)

ما ذبح على الأصنام تقربا لها ومع ان هذه أمور محرمة إلا انها سوف تحلل في ظروف معينة.

(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

أن من يصيبه ضرر كبير بامتناعه عن أكل هذه المحرمات لا اثم عليه ، بشرط : أن يبقى ملتزما نفسيا بحرمتها ، فلا يحب أكلها (ولا يبغيها) ، وبشرط : ألا يتجاوز اكله لها حدود الاضطرار ، فيأكل بقدر ما يدفع عن نفسه الضرر الكبير فقط.

جزاء كتمان الحق :

[١٧٤] هذه هي محرمات الدين في الأكل .. انظر كيف وسعها اليهود حتى كادوا أن يحرموا كل شيء ، ثم كتموا حكم الله في الأكل بغيا واتباعا لمصالحهم.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما

٣١٣

يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ)

إذ سوف يكتشفون غدا (بعد الموت أو حتى قبله) ان اللقيمات القليلة التي أكلوها تحولت الى نار ملتهبه ، ذلك ان الأعمال السيئة تتجسد بعد الموت.

(وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ)

استهانة بهم ، وتصغيرا لقدرهم ، وهم الذين حرموا على الناس الطيبات تأييدا للسلطات ، وطلبا للجاه عندها ، وإذا لا جاه هم عند الله أبدا.

(وَلا يُزَكِّيهِمْ)

بالرغم من انهم يحسبون أنفسهم من رجال الله ، ويزكون أنفسهم حتى يجعلونها أقرب الناس الى الله ، بينما الله لا يعتبرهم أزكياء ، ولا يقبل منهم دعواهم بأنهم عباده الصالحون.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

في الدنيا والاخرة.

لماذا هذا العذاب؟

[١٧٥] كل تلك العقوبات كانت جزاء أعمالهم لماذا؟

السبب واضح.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى)

باعوا الهدى في مقابل بعض المكاسب المادية التي سببت ضلالتهم عن الحق ، وتورطهم في المهالك.

٣١٤

(وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)

حيث اشتروها لأنفسهم بعد علم بالدين.

صفات علماء السوء

[١٧٦] إن لهؤلاء علامتين :

الاولى : انهم حرفوا الكتاب حتى جعلوه متوافقا مع مصالحهم ، ولأن مصالحهم مختلفة ، ولان كل طائفة فسروا الكتاب حسب مصالحهم ، فقد اختلفوا في الكتاب ذاته ، وتحول الكتاب عندهم الى اداة تفريق وكان سبيلا للتوحيد ، كان كتاب حق فأصبح عندهم كتاب هوى.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ)

وأوجب على الناس ان يقيسوا الأشياء والأشخاص به وان يحددوا أهواءهم وفق مبادئه ، اما هؤلاء العلماء المنحرفون فقد أضلوا الناس عن الكتاب واختلفوا فيه.

(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ)

إنهم متمردون على الحق.

إن الله سبحانه وعد هؤلاء الضالين المضلين من أهل الكتاب بأشد العذاب لماذا؟

لأنهم سلبوا من الناس أفضل ما كانوا يملكون ، سلبوهم ايمانهم ، وهداهم ، وعقولهم ، ودفعوا بالناس الى هاوية بعيدة ، كل ذلك لقاء بعض المكاسب المادية ، وعلى الأمة ان تستيقظ حتى تكتشف هؤلاء السراق ، وتقطع أيديهم ، وتعود الى وعيها وهداها.

٣١٥

[١٧٧] العلامة الثانية : النظرة القشرية الى الدين ، وتعميق هذه القشرية في النفوس ، وتضخيم الأمور القشرية الى حد تغطية القضايا الجوهرية.

والسبب في ذلك هو خلافاتهم العائلية من جهة ، ومن جهة ثانية تعويض تقاعسهم عن الواجبات الاساسية ، والاهتمام البالغ بالقضايا الثانوية أو القشرية يقول الله :

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)

حتى تختلفوا في القبلة مع بعضكم ، وتضخموا هذا الخلاف.

(وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ).

وهؤلاء المحرومون هم الذين يجب ان تتوجه إليهم رسالة السماء وحملة الرسالة ، لا السلاطين والوجهاء. وحدهم.

(وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ)

حيث تقوم الحرب مع العدو.

(وَالضَّرَّاءِ)

حيث تصاب الأمة بأزمة اقتصادية أو كارثة طبيعية أو ما أشبه.

(وَحِينَ الْبَأْسِ)

٣١٦

حين الحرب.

(أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا).

مع الله ومع الناس.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)

٣١٧

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ

_________________

١٧٨ [كتب] فرض وأصل الكتابة الخط الدال على معنى فسمي به ما دلّ على الفرض.

[القصاص] والمقاصة والمعاوضة والمبادلة نظائر ، يقال قص الأثر أي تلاه شيئا بعد شيء ومنه القصاص لأنه يتلو أصل الجناية ويتبعه ، وقيل هو ان يفعل بالثاني ما فعله هو بالأول مع مراعاة المماثلة. ومنه أخذ القصص كأنه يتبع آثارهم شيئا بعد شيء.

[الحر] نقيض العبد والحر من كل شيء أكرمه.

[عفى] العفو الترك وعفت الدار اي تركت حتى درست والعفو عن المعصية ترك العقاب عليها وقيل معنى العفو هنا ترك القود بقبول الدية من أخيه. [أداء] الأداء تبليغ الغاية يقال أدى فلان ما عليه وفلان أدى للامانة وغيره.

٣١٨

يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢))

_________________

١٧٩ [الألباب] العقول وأحدها لب مأخوذ من لبّ النخلة واللب البال.

١٨٠ [بالمعروف] المعروف هو العدل الذي لا يجوز ان ينكر ولا حيف فيه.

[حضر] الحضور وجود الشيء بحيث يمكن أن يدرك.

[حقا] الحق هو الفعل الذي لا يجوز إنكاره وقيل ما علم صحته سواء كان قولا أو فعلا أو اعتقادا.

١٨٢ [جنفا] الجنف الجور وهو الميل عن الحق ، وقيل هو الميل في الكلام وفي الأمور كلها ، يقال جنف علينا فلان وأجنف في حكمه وهو مثل الحيف الا ان الحيف في الحكم خاصة والجنف عام.

٣١٩

فلسفة القصاص

هدى من الآيات :

بعد الحديث عن جوانب من شخصية الامة الاسلامية ، تحدثنا هذه الآيات وتلك التي تليها ، عن مجموعة من واجبات الامة وطقوسها الدينية. ويبدأ الحديث بالقصاص باعتباره واجبا اجتماعيا ، يتصل بالمحافظة على حرمة النفس. وبعدئذ يتحدث عن الوصية كواجب اجتماعي يتصل بحرمة المال. وسواء الدم أو المال ، فان احترامهما يعني احترام الإنسان كإنسان. إذ ليس المال سوى جهد مكثف للإنسان ، والذي يعتدي على المال ، حتى ولو كان ذلك بعد حياة الشخص ، فهو يلغي حياة صاحبه وجهوده.

وبعدئذ يتحدث القرآن : عن الصوم والجهاد والحج كواجبات اجتماعية دينية ولكن يبقى السؤال : ما هو سبب وضع القصاص والوصية في سياق الصوم والجهاد والحج؟

الجواب : ان القصاص أو الوصية هما الآخران واجبات اجتماعية يكلف بها

٣٢٠