من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)

_________________

١٠٤ [راعنا] المراعاة التفقد للشيء في نفسه أو أحواله ونقيض المراعاة الاغفال ورعى الله فلانا أي حفظه. وكان اليهود يقصدون بكلمة راعنا معنا آخر وهو الرعونة.

[انظرنا] النظر تقليب البصر والبصيرة لادراك الشيء ورؤيته ، وقد يراد به التأمل والفحص وقد تأتي بمعنى انتظرنا نفهم ونتبين ما علمنا.

[أسمعوا] يحتمل أحد أمرين : (أحدهما) أن معناه أقبلوا ما يأمركم به و (الثاني) أن معناه استمعوا ما يأتيكم به الرسول.

٢٢١

ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

_________________

١٠٦ [ننسخ] النسخ في اللغة إبطال الشيء واقامة آخر مقامه يقال نسخت الشمس الظل أي أذهبته وحلت محله وأصل الباب الإبدال من الشيء غيره.

١٠٩ [حسدا] الحسد إرادة زوال نعمة المحسود اليه أو كراهة النعمة التي هو فيها وإرادة أن تصير تلك النعمة كلها له. وأشد الحسد التعرض للاغتمام بكون الخير لأحد.

[اصفحوا] الصفح بمعنى العفو والتجاوز عن الذنب.

٢٢٢

(١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠))

٢٢٣

نحن والثقافات الدخيلة

هدى من الآيات :

لا زلنا في اطار الحديث عن بني إسرائيل ، فبعد ان رافقناهم في مراحل تطورهم. نقف الآن برهة نعتبر دروسا من حياتهم ، وأهم ما يبين لنا القرآن في هذه الآيات ان يحذرنا من التأثر بالأفكار الغريبة والدخيلة.

ويعطينا القرآن أول درس من حياتهم من خلال النهي عن تكرار مقالتهم (راعنا) بتبديلها بأخرى أفضل منها وهي (انظرنا).

ثم يؤكد للامة الاسلامية شخصيتها المتميزة عن الأمم الاخرى يقول لهم ان أولئك يحسدونكم على فضل الله لكم ويقول : انكم تملكون أفضل مما يملكون أو لا أقل مثل ما يملكون من الهدى.

كما ينهى الامة الاسلامية ان تتورط في مشكلة تجسيم الله كما فعل بنو إسرائيل ، ويؤكد لنا ضرورة الحذر من التأثر بثقافتهم ، ويأمرنا بالصلاة والزكاة

٢٢٤

كقوة اساسية للأمة ، ويحذرنا من استيراد انظمة الآخرين ، والاعتماد على ثقافتهم.

بينات من الآيات :

راعنا وانظرنا :

أولا : دعنا نستمع الى المفسّرين يذكرون لنا معنى راعنا وانظرنا ، يقول الشيخ الطبرسي (ره) : المراعاة ، والمحافظة ، والمراقبة ، نظائر. وعكس المراعاة : الإغفال ، ورعى الله فلانا أيّ حفظه ورعيت له حقه وعهده فيمن خلف ، وأرعيته سمعي إذا أصغيت اليه ، وراعيته يعني إذا لاحظته ، وجمع الراعي رعاء ، ورعاة ، ورعيان. وكلّ من ولي قوما فهو راعيهم وهم رعيته ، والمرعي من الناس المسوس ، والراعي السائس واسترعاه الله استخلفه ، أي ولاه أمرهم يرعاهم ، والإرعاء الإبقاء على أخيك والاسم الرعوي والرعيا ، وراعني سمعك أيّ استمع. (١)

أقول : ويبدو من استخدامات الكلمة انها أشد من الحفظ اهتماما ، وألين من الرقابة جانبا ، فالراعي للغنم ، ليس يحفظه فقط بل ويهتم بشؤونه ، وهكذا السائس لبلده يهتم بشؤون رعيته أيّما اهتمام. وبينما (الحفظ) هو منع الخطر عن الشيء أو الشخص المحفوظ ، فان الرعاية تنطوي على معنى جلب المنفعة أيضا ، بل توحي لفظة المراعاة والرعاية إذا استخدمت في العلاقة بين الأمير والمأمور ، والحاكم والمحكوم ، تخفيف القانون وتيسيره. أما كلمة انظرنا : فقال الشيخ الطبرسي عنها : ونظرت الرجل أنظره نظرة بمعنى انتظرته وارتقبته. (٢)

وقال الفخر الرازي : وأما قول وانظرنا ففيه وجوه ، أحدها : انه من نظره

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ١٧٨

(٢) مجمع البيان المصدر

٢٢٥

أي انتظره. قال تعالى : «انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ» فأوهم تعالى بان يسألوه الإمهال ينقلوا عنه فلا يحتاجون الى الاستفادة «وأضاف» وثانيها : انظرنا معناه انظر إلينا ، إلّا انه حذف حرف الى ، ثم قال : وثالثها : قرأ أبي بن كعب «انظرنا» (أيّ بهمزة القطع) من النظرة أيّ أمهلنا. (١)

ثانيا : آراء المفسرين في معنى هذه الآية اختلفت اختلافا كبيرا ، واذكر فيما يلي :

١ ـ ان هذه الكلمة كانت تستخدم عند اليهود ، فنهي المسلمون عن استخدامها. وسواء كانت تعتبر سبا عندهم إذ انهم كانوا يقصدون بها الرعونة أو راعي الأغنام أو لمجرد شياعها لديهم. إذ ان هذه الكلمة هي الشائعة سواء هذا أو ذاك فان نهي القرآن عن استخدامها كان بسبب اليهود وقد جاء في حديث مأثور عن الامام الباقر عليه السلام ان هذه الكلمة سبّ بالعبرانية. (٢)

وروي ان سعد بن معاذ سمعها منهم فقال : يا أعداء الله عليكم لعنة الله ، والذي نفسي بيده لان سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله لأضربنّ عنقه. فقالوا : أو لستم تقولونها؟ فنزلت هذه الآية. (٣)

وجاء في حديث مأثور عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام وأنزل :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا» فانها لفظة يتوصل بها أعداؤكم من اليهود الى سب رسول الله وشنئكم «وَقُولُوا انْظُرْنا» أيّ قولوا بهذه اللفظة لا بلفظة

__________________

(١) الفخر الرازي ج ٢ ص ٢٢٤

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ١٧٨

(٣) الفخر الرازي ج ٢ ص ٢٢٤

٢٢٦

«راعنا» فانه ليس فيها ما في قولكم راعنا ولا يمكنهم ان يتوصلوا بها الى الشتم كما يمكنهم بقولهم راعنا واسمعوا إذا قال لكم رسول الله قولا وأطيعوا «وللكافرين» يعني اليهود الشاتمين لرسول الله «عَذابٌ أَلِيمٌ» إن عادوا لشتمهم ، وفي الآخرة بالخلود في النار) (١)

وانطلاقا من هذا التفسير فان النهي عن استخدام كلمات متشابهة ، ربما يهدف الاستقلال الثقافي عنهم ، وكما يهدف عدم إعطاء ذريعة لهم للنيل من شخصيّة الرسول صلّى الله عليه وآله.

٢ ـ ان هذه الكلمة كانت تستخدم عند قريش في الاستهزاء أو لا أقل عند تساوي المتخاطبين ، فجاء النهي عند استخدام مثل هذه الكلمات في حضرة الرسول كما يقول القرآن «لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً».

٣ ـ بالرغم من ان هذه التفاسير تبدو قريبة وربما كانت بعض أبعاد الآية إلا ان هناك احتمالا آخرا هو أن يكون معنى المراعاة تخفيف الأحكام ، بينما يكون معنى «انظرنا» الإمهال.

وبناء على ذلك فإن المنهي عنه هو البحث عن تخفيف الأحكام الشرعية المأثورية ـ بدلا من ذلك ـ طلب المهلة وفرق كبير بينهما لما يلي :

لأنّه تختلف ..

[١٠٤] تختلف المجتمعات القوية عن الضعيفة في انّ الاولى طموحه ، يتطلع أبناؤها لتحقيق المزيد من الانجازات ، ولان طاقاتها محدودة فهي تبرمج اهدافها

__________________

(١) البرهان ج ١ ص ١٣٩

٢٢٧

لتحقيقها شيئا فشيئا ، بينما المجتمعات الضعيفة تحاول تحقيق واجباتها قدر الإمكان ودون برمجة لأنها تفقد تطلعاتها البعيدة.

ويبدو ان بني إسرائيل كانوا في أخريات حياتهم كامة ، يطالبون بتخفيف واجباتهم ، ويكررون هذه الكلمة (راعنا) فهم يقولون : راعنا في الصلاة .. في الزكاة .. في الجهاد .. وفي كل شيء يأمرهم به انبياؤهم وقادتهم وهذه الكلمة تشبه كلمة اعفني من هذا.

ولعلّ الله أرادنا الا نكون ضعيفي الارادة ، فأمرنا بأن نتطلب التدرج في تحقيق الواجبات لا إلغاءها رأسا ، واختار لنا كلمة انظرنا (اي أمهلنا) بدل كلمة راعنا حتى نطبق الواجب وقال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا)

ثم أمرنا بأن نسمع ونؤمن لان الله أعد للكافرين عذابا أليما.

(وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ)

[١٠٥] الامة الاسلامية متصلة بالله مباشرة ، وعليها ان تستقي قيمها وثقافتها من رسالة الله التي أوحيت الى محمد (ص) ، والمشركون وأهل الكتاب ليسوا بأفضل من الامة الاسلامية ثقافة ، وليس هذا سبب ابتعادهم عن الثقافة الاسلامية .. بل السبب الوحيد هو انهم عنصريون وجهلاء ابتعدوا عن الإسلام لأنه نزل على غيرهم ، ولو نزل في بيوتهم ـ فرضا ـ إذا لاحتضنوه.

(ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ)

٢٢٨

وهم يعتبرون الرسالة خيرا. فضلّ غيرهم به ، لذلك يتميّزون غضبا وقال الله لهم ببساطة : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ).

(وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ)

والرسالة كأية رحمة اخرى ينزّلها الله حسب ما يشاء لا حسبما يشاء الناس.

(وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)

يمكنه ان يعم الناس كلهم بفضله لو لم يتحاسدوا ، وإذا أخلصوا لله عملهم فبامكان المشرك أو اليهودي ان يصبح مسلما صادقا يتقدم على كثير من المؤمنين السابقين ذلك ان المجال مفتوح امام الجميع ، ورحمة الله واسعة تشمل الجميع.

رسالات الله وتطور الزمن :

[١٠٦] ليست الثقافة الاسلامية أردى (حاشا لله) من ثقافة الآخرين ، وإذا كان للآخرين كتاب فللمسلمين كتاب كريم أيضا. لان ينبوع فضل الله الذي انزل ذلك الكتاب انزل كتابا أفضل من ذلك الكتاب لأنه كتاب جديد فيه ما ينفع الحياة الحاضرة والمستقبل.

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

النسخ هو : تطوير أسلوب الحكم بما يتناسب مع تطور الحياة بالرغم من وجود ذات الحكم ، مثل حكم الصلاة ، كانت الى المسجد الأقصى في الشرائع السابقة ، فتحولت القبلة الى الكعبة. فالصلاة هي الصلاة ولكن تغيّرت قبلتها. وقد يكون النسخ : هو : بإلغاء الحكم رأسا مثل المحرمات التي كانت على بني إسرائيل في

٢٢٩

الأكل فألغيت في الشريعة الاسلامية.

والله حين ينسخ شريعة ينسخ قيادة تلك الشريعة ، أو ذلك الشخص الذي يجسد تلك الشريعة أيضا. فموسى وعيسى (عليهما السلام) نسخت شرائعهما وانتهت فترة قيادتهما للناس ، والآية بهذا المعنى تشمل الإنسان القائد الذي يجسد آيات الله عمليا. إذا كلام الله يدل على ان لكل عصر قادته الذين يستمدون من الدين الأحكام المتصلة بظروفهم ، والله قادر على إبداع آيات جديدة. وبعث قادة جدد. وقد جاء في النصوص تفسير هذه الآية بوفاة امام عادل وقيام إمام أخر مقامه.

[١٠٧] ويجب ان لا يخشى الإنسان من سلطة من يمثلون الأفكار السابقة المنسوخة بفعل تطور الحياة ، بل يخشى الله سبحانه لأنه هو المالك للسماوات والأرض ، وهو الولي النصير ، وولي العالمين وحده.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)

وهذه الآيات والتي سبقت ، تأمر الامة بالتفكير جديا في التقدم المستمر ، وعدم الخوف من الجديد لمجرد ان الفكر الجديد قد لا يكون أفضل من السابق ، وعدم الخشية من الناس المرتبطين بالأشياء القديمة ، بل الخشية من الله وحده.

ولقد وقعت هاتان الآيتان في محيط الجزيرة العربية المحافظة والراكدة وقع الصواعق. حيث استطاع الرسول ان يزلزل الأوضاع القديمة من الأساس ، ويبني مكانها كيانا جديدا بل صنع مجتمعا تقدميا يبحث عن الإبداع والتطوير ، حتى احتاج هذا المجتمع الى ضوابط كابحة كالتي قالها الرسول (كل بدعة ضلالة).

[١٠٨] ويأتي القرآن بمثل على طبيعة الثقافة القديمة ، كيف كانت ثقافة

٢٣٠

مشوبة بالشرك ، ويقول : ان اتباعكم أو حتى استماعكم الى هذه الثقافات سوف يبعدكم عن الحق.

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ)

إذ قالوا له (أرنا الله جهرة) ، هل تريدون ان تصبحوا كفارا بعد الايمان ، ومشركين بعد ان أصبحتم حنفاء.

(وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ)

[١٠٩] واهتمام الكفار بكم ليس بهدف توجيهكم الى ما هو أفضل لكم ، بل لاستلاب ما تملكون من هدى وخير ، وبالتالي من أجل تضعيفكم ، وخلخلة كيانكم ذلك لأنهم أعداء لكم يحسدونكم على ايمانكم ، ويعرفون ان قوتكم كامنة في دينكم الجديد ، فيريدون القضاء على هذا الدين بكل وسيلة.

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ)

تلك الأنفس التي لا تحب الخير للآخرين أبدا.

(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ)

وعرفوا انه بجانبكم ، وهنا أمامكم موقف واحد هو تجاوز حسد هؤلاء ، وعدم الاعتناء به ، وعدم التفكير فيه لأنه جدل.

(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا)

لأن الجدل الفكري مع هذا الطراز من الناس لا يجديكم نفعا ، فابتعدوا عن

٢٣١

الجدل معهم.

(حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ)

ويظهركم عليهم وينصركم.

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

[١١٠] وخلال الفترة من الآن وحتى يوم الانتصار ، يجب عليكم الاستعانة بنظامكم الصائب لأنه خير ضمانة للمستقبل.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)

واعملوا الخير الكثير ..

(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)

وهذا الدرس ـ يجب ان نضعه امام أعيننا في تعاملنا مع الثقافات الشرقية والغربية اليوم ، ومحاولات انصارهما من أجل اضلالنا عن ديننا بدافع حسدهم من قوتنا لو تمسكنا بديننا.

٢٣٢

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ

_________________

١١١ [هودا] هو جمع هائد كعائد والهائد التائب الراجع الى الحق. [برهانكم] البرهان والبيان والحجة بمعنى واحد وهو ما أمكن الاستدلال به على ما هو دلالة عليه مع قصد فاعلة الى ذلك.

١١٢ [أسلم] يستعمل في شيئين (أحدهما) أسلمه كذا أي صرفه اليه تقول أسلمت الثوب اليه و (الثاني) أسلم له بمعنى أخلص له ومنه قوله ورجلا سلما لرجل أي خالصا.

[وجهه] الوجه مستقبل كل شيء ووجه الإنسان محياه.

٢٣٣

الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥) وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ

_________________

١١٣ [القيامة] مصدر إلا أنه صار كالعلم على وقت بعينه وهو الوقت الذي يبعث الله عز وجل فيه الخلق فيقومون من قبورهم الى محشرهم.

١١٤ [منع] صد.

[خرابها] الخراب الهدم والنقض.

١١٥ [المشرق] والشرق اسمان لمطلع الشمس والقمر.

[المغرب] والمغيب بمعنى وهو موضع الغروب يقال غربت الشمس تغرب إذا غابت.

[واسع] الواسع الغنى سمى به لسعة مقدوراته وقيل هو الكثير الرحمة.

٢٣٤

وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ

_________________

١١٧ [قانتون] الأصل في القنوت الدوام وتأتي بمعنى الطاعة كما تأتي بمعنى الدعاء ومنه القنوت في الصلاة.

١١٨ [يوقنون] يعلمون.

١١٩ [الجحيم] النار بعينها إذا شب وقودها وصار كالعلم على جهنم.

١٢٠ [ملتهم] الملة والنحلة والديانة نظائر وملة رسول الله (ص) الأمر الذي أوضحه.

٢٣٥

الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣))

٢٣٦

التسليم لله هو الميزان

هدى من الآيات :

ما هو موقف الامة الاسلامية من ثقافة اليهود والنصارى؟

بيّن القرآن جانبا من هذا الموقف وفي هذه الآيات يبين البقية :

لكي يدعم ايمان الامة بشخصيتها المتميزة يكرر القرآن القول بان المقياس عند الله ليس اسم اليهود أو النصارى بل المقياس هو التسليم المطلق لله وتنفيذ أوامره.

وتوضيحات لهذه الفكرة يبين القرآن مدى التناقض الموجود والقائم بين اليهود والنصارى ، وكيف انهم اتخذوا دينهم وسيلة لتكريس تناقضاتهم ، حتى انهم أخذوا يوجهون عداءهم للدين ذاته ويحاربون مساجد الله. فهل هم مسلمون؟

ثم انهم يتخذون لله ولدا فهل هم مؤمنون بالله أم مشركون؟

وهم يجادلون الله في رسالاته فهل لهم الحق في ذلك؟

٢٣٧

اليهود والنصارى يريدون وبصراحة تصفية الرسالة الجديدة وعلى الامة ان تعرف انها تملك العلم والهدى وعليها ان تدافع عنهما بقوة.

لان المؤمن الحقيقي هو الذي لا يحرف كتابه بل يتلوه حق تلاوته اما أولئك الذين يقرءون كتبهم ليحرفوها فهم الخاسرون.

وأخر الدرس يعيد القرآن ذات الآيتين اللتين بدأ بهما الحديث عن بني إسرائيل وفيهما ترغيب وترهيب وخلاصة لحكمة تفضيل بني إسرائيل على العالمين في العصور السابقة.

بينات من الآيات :

[١١١] هل ينخدع ربنا بالألفاظ؟ وهل كل من قال انا مسلم ، أو انا يهودي ، أو نصراني يتقبله فورا ويدخله الجنة؟ كلا انه يريد العمل الصالح.

ولكن لماذا يتصور بعض الناس ان الإسلام وحده كاف لربط أحد الناس بالله؟

الجواب : لان هؤلاء يتخذون الدين مجموعة اماني وأحلام ، ويفسرون كلماته واحكامه بحيث تتمشى مع أحلامهم الجميلة ، وأمانيهم الطيبة ، إنهم اتخذوا الدين مادة تخديرية تنسيهم لوقت ما مشاكلهم المعقدة ، وتؤملهم في حياة أفضل ، تأتيهم بلا عمل ، بلا تضحية وبلا عطاء .. اما الواقع فان هذا الدين موجود فقط في أذهانهم.

اما عند الله فان الدين يتمثل في غير ذلك .. بل فيما يتناقض معه كليا لنستمع الى الله :

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ)

التي يخدعون أنفسهم بها ، وليس هذا دينا من عند الله إذ فور ما تتعرض هذه

٢٣٨

الاماني الطفولية لوهج العقل تذوب.

(قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

[١١٢] هل تريدون ان تعرفوا الدين الصادق؟

(بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ).

فلم يعبد في قلبه ولا في عمله غير الله ، هذا الشرط الاول ، والشرط الثاني ان يعمل عملا صالحا.

(وَهُوَ مُحْسِنٌ).

هذا الإنسان قد تمسك بالدين الصحيح.

(فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

اما من تمسك بالاماني فعله أن يخاف من المستقبل وسوف يحزن على أيّامه التي قضاها في الدنيا عاطلا عن العمل معتمدا على هذه الاماني الباطلة.

[١١٣] ومثل هؤلاء مثل اليهود والنصارى الذين اتخذوا الدين اماني ، وطبقوه على أحلامهم ، وكرسوا به تناقضاتهم التي ركبوها على دينهم الباطل.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ).

بينما تجد ان كلا منهما يقرأ نفس الكتاب ويطبق ذات التعاليم.

(وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ).

٢٣٩

فلا بدّ أن يوحدهم هذا الكتاب ، وهل من كتاب لله يفرق بين الناس أم انّهم حرفوا معاني الكتاب وفسروه حسب أهوائهم؟ وهذا يعني انهم لم يستفيدوا من كتابهم شيئا حيث ان الذين لا كتاب لهم أيضا يختلفون بعضهم على بعض.

(كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

[١١٤] لان هؤلاء يختلفون مع بعضهم في الدين فإنهم يمنعون رفاقهم من دخول معابد أعدائهم ، ويشنون حربا دعائية ضدها ، ولكن السؤال الموجه لهم : أنتم تخالفون بعضكم في قضايا مادية ، فلما ذا تمدون هذا الخلاف الى الدين والى عبادة الله؟!

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها).

وبهذه الطريقة يشيعون حول المساجد جوا من الخوف والريبة ، إذ يتهم كل فريق معبد الفريق الاخر مما يجعلون المساجد موضع التهم والخلاف ولذلك :

(أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

الخزي في الدنيا لطغيانهم على بعضهم ، والعذاب في الاخرة لتغييرهم الدين ، وتحريفهم مبادئ الوحدة والتضحية فيه.

تضخيم الاختلافات :

[١١٥] الخلافات القائمة بين الأديان ليست كبيرة ، وانما ضخّمها أصحاب المصالح المادية من أجل الاكتساب منها. مثلا اختلاف القبلة. فالله هو الا له في

٢٤٠