من هدى القرآن - ج ١٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-20-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٨٤

١
٢

سورة المزمل

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

فضل السورة

عن أبي عبد الله الصادق ـ عليه السلام ـ قال : «من قرأ سورة المزّمل في العشاء الآخرة في آخر الليل كان له الليل والنهار شاهدين مع سورة المزّمّل ، وأحياه الله حياة طيّبة ، وأماته ميتة طيّبة».

تفسير نور الثقلين / ج ٥ ص ٤٤٥

٥

الإطار العام

التوحيد هو قاعدة الانطلاق والهدف الرئيسي لكل رسالات الله ، ويتمثل عمقه الأصيل في علاقة الإنسان المخلوق بر به الخالق ، ولقد تمحورت كثير من الآيات القرآنية فيما تمحورت حول منهجة هذه العلاقة ، بالتأكيد عليها كأصل من أصول الإسلام ، وبيان خلفياتها ومعطياتها وتفاصيل برنامجها ، والمتدبر في سورة (المزّمّل) يجدها تعالج هذا الموضوع من زاوية قيام الليل ، وأقول : قيام الليل لأنّ هذا التعبير أوسع من قولنا : صلاة الليل ، وأقرب لما يعنيه السياق ويندب إليه.

١ ـ ففي البداية يخاطب الله رسوله المزّمل فارضا عليه قيام الليل فرضا كالصلاة والصيام والجهاد ، حيث قالوا : بأنّه ـ صلّى الله عليه وآله ـ قد خصّ بوجوب قيامه الليل دون أمته ، ويبيّن أنّ الليل عنده وبالتالي عند عباده الصالحين ليس كما يزعم الناس : فرصة لاسترخاء النوم ، لأنّها هزيع من عمر الإنسان ينبغي أن يكون مثل النهار ساحة سعي نحو الفلاح والسعادة ، ومن ثمّ فإنّ الأصل في حياة الفرد الرسالي أنّه يقوم الليل إلّا قليلا نصفه أو ينقص منه قليلا ، أو يزيد عليه ، إلّا

٦

أن تعترضه الأسباب والأعذار الشرعية من مرض وضرب في الأرض وقتال في سبيل الله وما أشبه ، كما تبيّن الآية الأخيرة من السورة (الآيات ١).

٢ ـ ويعتبر الربّ ـ عز وجل ـ ترتيل القرآن (قراءته بصوت حسن وتدبّر) من أهم البرامج في قيام الليل ، إلى حد يمكن اعتباره كافيا عن سائر برامج الليل ، ذلك لأنّ القرآن هو الوسيلة العظمى للاتصال بربّ العزة ، ولأنّه تعالى لا يريد منّا قياما روحيّا مجرّدا ، بل يريد علاقة تنعكس على كل أبعاد الحياة ، حتى تتحول إلى نهج حياة من خلال تدبر القرآن والعمل بآياته (الآيات ٤).

٣ ـ ومع أنّ المؤمن يواجه مصاعب من هذا التكليف الإلهي حيث تحديات النفس وحب النوم إلّا أنّ ناشئة الليل في مقابل ذلك أنفذ إلى أغوار النفس «أشدّ وطأ» وأصدق حينما ينبعث الإنسان من النفس لإصلاح الآخرين «أقوم قيلا» أقوم لقول الإنسان وسلوكه على طريق الحق والسعادة ، وبالذات إذا أخذنا بعين الإعتبار معادلة الزمن اليومي المنشطرة إلى وقتين : الليل والنهار ، فإنّ البشر بحاجة ماسّة وهو يكابد مشاكل الحياة وتحدّياتها بالنهار إلى إرادة التحدي والاستقامة على الطريقة المثلى دون تأثّر بالطبيعة أو بعواملها تأثّرا سلبيّا ، وذلك يعرج إليه ويستلهمه المؤمنون من قيام الليل ، فلا يشطّون في سبح النهار الطويل عن الحق والصواب قيد أنملة (الآيات ٥).

٤ ـ وإذا كان الجميع معنيّون بقيام الليل فإنّ الرساليين بالذات مخصوصون بهذا الفرض الإلهي ، ويتركز الأمر عند القيادة الرسالية إلى حدّ الوجوب بالنسبة للإمام المعصوم ، وإلى قريب من ذلك عند سواه. والسبب أنهم المستأمنون على رسالة الله وجنوده الذين يخوضون الصراع المبدئي الحضاري ضد الباطل ، ويعلم الله كم هي التحديات والضغوط والمشاكل التي يواجهها من يركب هذا الطريق ، وبالتالي

٧

كم هم بحاجة إلى زاد الإيمان ووقود التقوى.

ولن يفلح الرساليون في صراعهم حتى يعرجوا إلى قمّة التوحيد ، والتوكل على ربّ العزة ، والصبر على الأذى والحق في سبيل الله ، ومن هذا المنطلق تأتي أهمية قيام الليل ، ويتضح دوره الأصيل في المسيرة الرسالية ، باعتباره معراجا رئيسيا إلى تلك القمّة السامقة.

٥ ـ وبعد أنّ يحذّر الله المكذبين أولي النعمة نفسه مذّكرا بالآخرة وعذابه الشديد فيها يذكّرنا تعالى بأنّ بعثه حبيبه الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ إلينا مظهر لسنته الجارية في الحياة ، حيث يبعث الرسل شهداء على الأمم (مبشرين ومنذرين) محذرا إيّانا من معصية أوليائه لأنّها تؤدي إلى الأخذ الوبيل في الدنيا ، كما انتهت بفرعون وملئه وجنوده ، وأعظم من تلك العاقبة عذاب يوم القيامة «يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً* السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ» لا ريب فيه ، وإنّها لمن عظيم تذكرة الله إلى خلقه «فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً».

٦ ـ وفي الخاتمة يبيّن لنا القرآن اهتمام الرعيل الأول بقيام الليل (وفي طليعتهم النبي الأعظم) الذين كانوا يقومون أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه حسب الظروف ، ويقدّمهم أسوة للأجيال بعد الأجيال ، معالجا في الأثناء موضوع الظروف الاستثنائية والأعذار الشرعية التي تمنع من قيام الليل ، وموجّها إيّانا إلى بعض التكاليف المفروضة ، وداعيا إلى الاستغفار «إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

٨

سورة المزّمّل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢)

___________________

٧ [سبحا] : السبح : المنقلب والمنصرف ، وأصل السبح من التقلّب ومنه السابح في الماء لتقلّبه فيه.

٨ [تبتّل] : انقطع إلى الله ، وأصله من تبلت الشيء قطعته.

٩

وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ

___________________

١٤ [كثيبا] : الكثيب الرمل المجتمع الكثير.

[مهيلا] : هلت الرمل أهيله هيلا فهو مهيل إذا حرّك أسفله فسال أعلاه.

١٦ [وبيلا] : كلّ ثقيل وبيل ، ومنه كلأ مستوبل أي مستوخم لا يستمرأ لثقله ، ومنه الوبل والوابل وهو المطر العظيم القطر ، ومنه الوبال وهو ما يغلظ على النفس ، والوبيل الغليظ من العصي.

١٠

يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))

١١

قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً

بينات من الآيات :

[١] (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)

لقد وقف المفسرون طويلا عند هذه الآية ، واختلفوا في معنى المتزمل ، فقال بعضهم : المتزمل بعباءة النبوة ، والمتحمل لأثقالها (١) ، وعلّق العلامة الطباطبائي على هذا الرأي قائلا : ولا شاهد عليه (٢). وفي الكشّاف : كان رسول الله (ص) نائما بالليل متزملا في قطيفته فنبّه بما يهجّن إليه الحالة التي كان عليها من التزمل في قطيفته واستعداده للنوم ، كما يفعل من لا يهمّه أمر ولا يعنيه شأن (٣) ، وروي في الدر المنثور عن جابر قال : اجتمعت قريش في دار الندوة ، فقالوا : سمّوا هذا الرجل اسما نصدر الناس عنه ، فقالوا : كاهن ، قالوا : ليس بكاهن ، قالوا : مجنون ، قالوا : ليس بمجنون ، قالوا : ساحر ، قالوا : ليس بساحر ، قالوا : يفرّق بين الحبيب وحبيبه ،

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٧٧ عن عكرمة.

(٢) تفسير الميزان ج ٢٠ ص ٦٠.

(٣) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٤٤.

١٢

فتفرّق المشركون على ذلك ، فبلغ ذلك النبي (ص) فتزمّل في ثيابه وتدثّر فيها (١) ، وقيل كان يتزمّل بالثياب أول ما جاء به جبرئيل خوفا حتى أنس به ، وإنّما خوطب بهذا في بدء الوحي ولم يكن قد بلّغ شيئا ، ثم خوطب (ص) بعد ذلك بالنبي والرسول (٢).

وقبل أن نبيّن رأينا في هذه الآية الكريمة نسجّل بعض الملاحظات حول بعض من الآراء ، فإنّ ما علّق به الزمخشري من حيث العبارة (يهجّن ... لا يهمّه أمر .. لا يعنيه شأن) ومن حيث المعنى لا يليق بمقام حبيب الله وصفوة أنبيائه ورسله وهو المعصوم ، والمهتم بأمر الرسالة إلى حدّ كاد يهلك نفسه من أجلها ، وتحمّل من الأذى لها حتى خاطبه ربّه سبحانه : «طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى» (٣).

وكذلك لا يليق بمقامه (ص) ما روي في الدر المنثور من أنّه تأثّر بإعلام الجاهليين سلبيا فتزمّل وتدثّر في ثيابه! أمّا ما قيل من أنّ النبي (ص) كان يتزمل خوفا أو ذهب إلى خديجة قائلا : (زمّلوني زمّلوني .. دثّروني دثّروني) أوّل ما اتصل بالله عبر أمينه جبرئيل حتى أنس به .. هذا الرأي الذي تبنّاه بعض المفسرين ، فإنّه أبعد ما يكون عن طبيعة الأنبياء وشخصية سيدّهم الأعظم صلوات الله عليهم.

والسبب أنّ فيه شيئا من نسبة الشك في صحة الرسالة والاتصال بالله عنده (ص) ، وهذا نقيض قول الله عنه : «وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ* وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ* وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ» (٤)

__________________

(١) تفسير الدر المنثور ج ٦ ص ٢٧٦.

(٢) تفسير مجمع البيان / ج ٥ ص ٣٧٧.

(٣) طه / ١ / ٣.

(٤) التكوير ٢٣ / ٢٥.

١٣

والذي يبدو لي أنّ كلمة «المزمل» تحتمل معنيين :

الأول : ما أشار إليه عكرمة بأنّه المحتمل لأعباء النبوة ، فإنّ المتصدي لأمر الرسالة ومسئولية التغيير بها أحوج ما يكون إلى قيام الليل ، يستمد منه روح الإيمان وإرادة الاستقامة على الصراط المليء بالمصاعب والتحديات. جاء في المنجد : زمل زملا الشيء : حمله ، ازدمل الحمل : حمله بمرّة واحدة ، الزمل : الحمل (١).

الثاني : الذي لّف عليه ثيابه أو غطاءه على وجه الوصف لحال النبي حين نزل الوحي عليه بهذه الآيات ، وهو ظاهر اللفظ وفي الخطاب بهذه الكلمة فائدتان :

أولا : تلطّف وتعطّف ودلالة على قرب الرسول من ربه حتى يخاطبه بمثل هذا التعبير الذي يجري بين الأحبّة.

وثانيا : التوسّع إلى كلّ من يتزمل للنوم ، فإن الحديث يشمله انطلاقا من قاعدة : (إيّاك أعني واسمعي يا جارة) التي نزلت بها آيات الذكر الحكيم.

على أنّ المعنى الأول هو الآخر يتسع لكلّ من تحمّل أعباء الدعاء إلى الله ، وليس في هذا التعبير أدنى مساس بعظمة الرسول (ص) ـ كما زعم البعض ـ فإنّه بشر مثلنا يحتاج إلى الراحة والنوم. ولعل الرسول كان ينام أول الليل ليقوم في منتصفه وآخره ، موصلا قيامه بالليل بصلاة الصبح كما نقل عنه ، ويقوّي هذا الاحتمال اللّغة حيث جاء فيها : زمل الشيء بثوبه أو فيه : لفّه (٢).

[٢] وحيث ينتفض كلّ مزّمّل على نداء الوحي الإلهي المتوجه إليه يجد نفسه

__________________

(١) المنجد : مادة زمل.

(٢) المصدر.

١٤

أمام أمر هامّ.

[قم الليل]

ولم يقل : (صلّ) لأنّ التعبير بالقيام أشمل من الصلاة ، فالقيام يشمل الصلاة المخصوصة وغيرها ، وكذلك الدعاء وقراءة القرآن والتفكر والاستغفار ، والذي يستتبع محاكمة الماضي بالمحاسبة الذاتية والتفكير المنهجي في المستقبل. إذن فالليل ليس لمجرد النوم والراحة ، كلّا .. إنّما هو فرصة المؤمنين الذهبية للعروج نحو الكمال الروحي والعقلي ، والاتصال بربّ العالمين .. ومن ثمّ التخطيط السليم للمستقبل ، سواء مستقبل الآخرة البعيد ، أو مستقبل الغد القريب في الدنيا ، حيث السبح الطويل كلّ نهار. ويتميّز الليل عن النهار بهدوئه وصفائه ، وكون الإنسان فيه بعيدا عن كثير من المؤثرات التي تواجهه في النهار ، ولذلك جعله الله ميعاد لقائه بعباده الصالحين.

إنّ الإسلام يريد لأتباعه أن يقودوا البشرية ، ويشيّدوا على هداه سعادتها الخالدة ، وذلك بحاجة إلى العزيمة العالية ، والإرادة الصلبة ، ومناجاة الله الذي من عنده كلّ خير وسعادة .. وقيام الليل يؤمّن لهم كلّ ذلك ، كما أنّ بلوغ ذلك الهدف رهين السعي المستمر نحوه والذي لا يكفيه النهار ممّا يدعو المؤمنين إلى مواصلة السعي في النهار بقيام الليل ، بقيام الليل ، فلا ينامون إلّا قليلا ، بلى : إنّ الهدف عظيم ، والفرصة قصيرة ، فلا بدّ إذن من سعي مضاعف ، يسخّرون فيه ما يمكنهم من طاقاتهم ، وينتهزون لأجله ما يمكن من الوقت.

(إِلَّا قَلِيلاً)

من عمرهم يخصصونه لراحة أبدانهم كحاجة طبيعية تفرض نفسها على كلّ

١٥

مخلوق ، وحيث يستريحون بالنوم فليس لذاته ، بل لينهضوا من بعده إلى عمل دؤوب وإنجازات عظيمة ، فإذا بك تدرس حياة أحدهم لتقسم إنجازاته على أيّام عمره تجده أحيانا يسبق الزمان بإنجازاته الكبيرة ، وعلى عكسهم أولئك الذين يستسلمون لحب النوم والراحة ، فإنّ واحدهم يعيش ثمانين عاما في ظاهر الأمر ولكنّك حينما تقيّم حياته على أساس الأعمال والمنجزات تجده لم يعش أكثر من عشرين أو ثلاثين سنة ، لأنّه كان ينام ساعات طويلة في اليوم ، أمّا أوقات يقظته فإنّها تضيع بين غفلة ولهو ولعب.

بلى. إنّ الله يريد لنا أن نقوم النصف الآخر من أعمارنا ، والذي عادة ما يخسره الناس ، قياما نعمره بالعمل الصالح ، وأيّ عمل صالح أفضل من التقرب إليه تعالى ، والتدبر في كتابه ، واستثارة العقل بايآته فيه وفي الطبيعة؟

وإذا كان الأمر القرآني «قم» ظاهر في الوجوب بالنسبة إلى النبي والمعصومين ـ عليه وعليهم الصلاة والسلام ـ ومحمول على الاستحباب لمن سواهم فإنّ المتقين يتلقّونه على وجه الفرض عمليّا ، بحيث يلتزمون قيام الليل كالتزامهم بالصلوات اليومية ، انطلاقا من تحسس أهمية هذا الأمر ودوره في حياتهم وشخصيتهم وحركتهم ، وإيمانا بأنّ القرآن موجّهة آياته إلى كلّ فرد فرد ، وإليهم بصورة أخص من العالمين.

[٣] وبعد أن أمر الله تعالى نبيّه (ص) ومن خلاله كلّ مؤمن بقيام الليل إلّا قليلا كأعلى وأفضل نسبة للقيام ، يضعنا أمام ثلاثة خيارات أخرى :

(نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ)

وقد اختلف في الضمير المتصل بكلمة النصف هل هو عائد على الليل أو على القليل ، وبالتالي اختلف نحويّا في كون «نصفه» بدلا عن أيّهما؟ فقال البعض

١٦

ومن بينهم شيخ الطائفة : نصفه بدل من الليل ، كقولك : ضرب زيدا رأسه (١) ، وقيل : أنه بدل من القليل ، فيكون بيانا للمستثنى ، ويؤيد هذا القول ما روي عن الصادق (ع) قال : «القليل النصف ، أو انقص من القليل قليلا ، أو زد على القليل قليلا» (٢) ، والأقرب ـ كما يبدو لي ـ أنّ الضمير في «نصفه» عائد إلى الليل فيكون المعنى : قم كلّ الليل إلّا قليلا ، أو نصفه ، أو أقل من النصف بالانقاص منه قليلا ، أو أكثر من النصف بالزيادة عليه.

ونستطيع أن نقول : بأنّ المقصود من الليل في قوله : «قم الليل» هو الجنس ، وأنّ المستثنى بعضه ، فيكون المعنى : قم كلّ الليالي إلّا قليلها وبعضها ، وهي ـ كما عبّر صاحب المجمع ـ ليالي العذر كالمرض وغلبة النوم وعلّة العين ونحوها (٣) ، ويؤيد ذلك ما رواه محمد بن مسلم عن الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ قال : سألته عن قول الله تعالى : «الآية» قال : «أمره الله أن يصلّي كلّ ليلة إلّا أن تأتي عليه ليلة من الليالي لا يصلّي فيها شيئا» (٤) لعذر من الأعذار.

والسؤال : لما ذا أمر الله بالقيام على شبه من التردّد بين أربعة خيارات دون تحديد؟ لعله للأسباب التالية :

١ ـ لأنّ الفرض المحدّد أمر مستحيل في بعض الظروف حتى بالنسبة إلى الرسول والمعصومين الذين يجب عليهم قيام الليل وجوبا شرعيّا عينيّا ، ذلك أنّ الإنسان من الزاوية الواقعية عرضة للظروف المتغيرة التي لا يمكنه مقاومتها ، كالمرض والحرب والظروف الأمنية ، قال عليّ بن أبي طالب : «خير الله نبيّه (ص) في هذه

__________________

(١) التبيان ج ١٠ ص ١٦٢.

(٢) تفسير مجمع البيان / ج ١٠ ص ٣٧٧.

(٣) المصدر.

(٤) تفسير الميزان ج ٢٠ ص ٧١ عن كتاب التهذيب.

١٧

الساعات القيام بالليل ، وجعله موكولا إلى رأيه ، وكان النبي (ص) وطائفة من المؤمنين معه يقومون على هذه المقادير ، وشقّ ذلك عليهم ، فكان الرجل منهم لا يدري كم صلّى ، وكم بقي من الليل ، فكان يقوم الليل كلّه مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب حتى خفّف الله عنهم بآخر السورة» (١) الذي يشير القرآن فيه إشارة واضحة لواحد من أسباب تعدّد الخيارات.

٢ ـ ثم أنّ وضع المكلّف أمام خيارات متعدّدة تختلف في ثقلها على النفس وفضلها عند الله ، لا فرق بين درجة التكليف هل هي الوجوب أو الندب والاستحباب ، يكشف عن مدى إيمانه وإرادته حين يختار بنفسه أيّها شاء ، وفي ذلك نوع من الامتحان الإلهي للمؤمنين.

٣ ـ كما نهتدي من ذلك بالنسبة لغير النبي (ص) إلى استحباب قيام الليل لا وجوبه كحكم شرعي ، وقد اعتبر الفقهاء الاختلاف في النصوص ضيقا وسعة ، وكثرة وقلّة ، دليلا على الاستحباب ، وذلك أنّ الفرض الواجب يكون محدّدا.

وقيام الليل ـ كما تقدّمت الإشارة ـ لا ينحصر في عدد من الركعات والأذكار وحسب ، بل هو برنامج متكامل للجسم والروح والعقل ، وذلك بما يتضمّنه من صلاة ومناجاة وتلاوة للقرآن ، يعرج من خلالها القائمون بالليل إلى آفاق الإيمان والمعرفة ، وبالذات منها ترتيل القرآن الذي يحقّق تسامي الروح وانفتاح العقل معا ، ممّا يسبّب في آن واحد عروج الإنسان إلى مراتب الكمال.

وإنّ قراءة القرآن وتدبّر معانيه روح قيام الليل ، فهو عهد الله للإنسان ، وحبلة الممدود من السماء إلى الأرض ، ونهجه الذي يداوي به أدواءه ويصل إلى السعادة عبره ، فمنه يستمدّ روح التوحيد والتوكل والصبر ، ومن آياته يستلهم بصائر الهدى

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٧٧.

١٨

والحق في كلّ ميدان من الحياة ، لينطلق بالنهار على هدى من ربه ، وبين يديه بلسم لكلّ داء ، وحلّ لكلّ مشكلة ، ورؤية صائبة في كلّ قضية وحركة في الحياة ، فردية أو اجتماعية ، وفي أيّ حقل من حقولها ، بلى. إنّ قراءة القرآن بذاتها بركة وحسنة عظيمة ، ولكنّ هدف القرآن أعظم من مجرد التبرك ، بل إنّ خيره الأكبر لا يحصل إلّا باستثارة العقل به ، وتدبّر معانيه. أولم تسمع قول الله عزّ وجلّ : «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ»؟ والتدبّر فيه ليس لمجرد الفهم وإنّما للعمل والتطبيق أيضا ، ولهذا يربط القرآن نفسه بين ترتيله بالليل والسبح الطويل بالنهار. ولأنّ القراءة بذاتها ليست هدفا يأمرنا الله بقراءة آياته على وجه مخصوص هو الترتيل.

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً)

والترتيل هي القراءة الحسنة والمتأنّية المصحوبة بالتفكر والتدبر ، فعن عبد الله بن سليمان قال : سألت أبا عبد الله (الإمام الصادق عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ : «الآية» ، قال «قال أمير المؤمنين (ع) : بيّنه بيانا ، ولا تهذّه هذّ الشعر ، ولا تنثره نثر الرمل ، ولكن أفزعوا قلوبكم القاسية ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة» (١) ، وقال الإمام الصادق (ع) : «إنّ القرآن لا يقرأ هذرمة (بسرعة) ولكن يرتّل ترتيلا ، فإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها ، واسأل الله ـ عزّ وجلّ ـ الجنة ، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها ، وتعوّذ بالله من النار» (٢) ، وقال ـ عليه السلام ـ : «هو أن تتمكّث فيه ، وتحسّن به صوتك» (٣) ، وعن أمّ سلمة : كان رسول الله يقطّع قراءته آية آية (٤) ، وعن أنس

__________________

(١) تفسير نور الثقلين / ج ٥ ص ٤٤٦.

(٢) المصدر.

(٣) المصدر ص ٤٤٧.

(٤) المصدر.

١٩

قال : كان يمدّ صوته مدّا (١) ، ويصف الإمام علي ـ عليه السلام ـ المتقين كيف يتعاملون مع القرآن عند قيام الليل فيقول : «أمّا الليل فصافّون أقدامهم ، تالين لأجزاء القرآن يرتّلونها ترتيلا ، يحزّنون به أنفسهم ، ويستثيرون به دواء دائهم ، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقا ، وظنّوا أنّها نصب أعينهم ، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم ، فهم حانون على أوساطهم ، مفترشون لجباههم وأكفّهم وركبهم ، وأطراف أقدامهم ، يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم» وهذا ينعكس بالنهار على شخصياتهم ماديا ومعنويا ، حيث يضيف الإمام ـ عليه السلام ـ قائلا : «وأمّا النهار فحلماء علماء ، أبرار أتقياء» (٢).

والمعنى اللغوي للترتيل يلتقي مع ما تقدّم ، يقال : رتل الشيء : تناسق وانتظم انتظاما حسنا ، فهو رتل ، ورتّل الكلام : أحسن تأليفه إلى بعضه ، والقرآن تأنّق في تلاوته ، والرتل في المصطلح العسكري صفّ الجنود أو الآليات المتراص ، وقيل : خفض الصوت عند القراءة (٣).

[٥] ويبيّن الله واحدة من الخلفيات الأساسية التي تكشف أهمية قيام الليل ، وذلك ببيان دوره الأساسي في بناء الشخصية الرسالية القادرة على تحمّل مسئولية الوحي ، فالأمانة الإلهية ثقيلة لأنّها تخالف أهواء الإنسان وحبّه للراحة والاسترسال ، والموقف السليم منها ليس الهروب من حملها ، وإنّما العروج بالنفس إلى مستوى حملها بالتزكية والتربية والتعليم من خلال البرامج المختلفة ، ومن بينها واهمّها قيام الليل على الوجه الذي أشارت إليه الآيات الآنفة.

__________________

(١) المصدر.

(٢) نهج البلاغة خ ١٩٣ ص ٣٠٤.

(٣) المنجد / مادة رتل بإضافة وتصرف.

٢٠